وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة القلم - تفسير الآيات 1-3
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 قيمة العلم وخطورة الجهل
 الحمد لله رب العلمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام.... مع الدرس الأول من سورة القلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾

 إن آخر آيةٍ في هذه السورة:

﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾

 فقد ختمت هذه السورة بوصف الكفَّار للنبي بأنه مجنون، و الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾

 من العاقل ؟؟
 أيها الإخوة الكرام... تروي كُتُب السيرة أن النبي صلى الله عليه وسَّلم رأى مع أصحابه في الطريق مجنوناً، فسألهم سؤال العارف قال: من هذا ؟ قالوا: مجنون، قال:

((لا بل هذا مبتلى، المجنون من عصى الله. " ابن آدم أطع ربك تسمَّ عاقلاً ولا تعصه فتسمَّ جاهلاً "، " و كفى بالمرء علماً أن يخشى الله، وكفى به جهلاً أن يعصيه ))

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾

﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾

( سورة هود )

 أيها الإخوة الكرام... يقول عليه الصلاة والسلام:

 

((أرجحكم عقلاً أشدَّكم لله حبَّاً))

 لقد مرَّةً ضربت هذا المثل: لو وضعنا أمام إنسان (قطرميز) من البلور ثمنه عشرون ليرة، وكأس كريستال ثمنها ألف ليرة، وقطعة ألماس ثمنها مليون ليرة، وقلنا له: خذ أياً شئت، فأخذ القطرميز لأنه كبير، ألا تحكمون على عقله من نوع اختياره ؟
أيها الإخوة... كل الناس يبحث عن سعادته، يبحث عن سلامته، يبحث عن علوه، وكبر شأنه وتفوقه، فكلَّنا يحب التفوّق والفلاح، والنجاح، والفوز، والرُقي، ولكن المؤمن وحده هو الذي عرف كيف يختار ؛ إنه يختار الباقية على الفانية، يختار أصل الجمال وهو ربُّ العالمين، أما غير المؤمن فيختار من آتاه الله مسحةً من جمال فانية تنقلب وبالاً عمَّا قريبٍ.
 لذلك -أيها الإخوة – كان هناك علاقةٌ بين العقل و القلب ( أرجحكم عقلاً أشدَّكم لله حبَّا) ً إن المؤمن وغير المؤمن على جبلة واحدة، لكن المؤمن عرف كيف يختار، فكل مخلوقٍ يبحث عن سلامته وسعادته، ويتمنّى التفوّق في كل مجال، أما المؤمن فإنه قد عرف أصل الجمال، وعرف أصل الكمال، وعرف أصل النوال فأحبَّ الله، لذلك:

 

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾

( سورة البقرة: آية " 165 " )

 المؤمن اختار الأصل

(( ابن آدم اطلبني تجدني فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتُّك فاتك كل شيء، وأنا أحبُّ إليك من كل شيء ))

 فالمؤمن جعل الهموم همَّاً واحداً فكفاه الله الهمّوم كلَّها، المؤمن عمل لوجهٍ واحد فكفاه الله الوجوه كلَّها..

 

(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أُعطي السائلين ))

 

 والعاقل هو الذي يعرف الله، ويعرف منهج الله، ويتقرَّب إلى الله، والمجنون هو الذي غَرَّته الحياة الدنيا وأضرَّته " فالدنيا تغرّ وتضُر وتمر ". و الدنيا فانية.. " الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ ولها يسعى من لا عقل له ".

((الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ ))

( مسند أحمد: عن السيدة عائشة)

 الدنيا مطيَّة.. نفق.. ممر، فهي وشيكة الزوال، سريعة الانتقال، هي دار بلاءٍ وانقطاع، و الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، و هي دار الجزاء والخلود، فالمجنون هو الذي يعصي الله، والعاقل هو الذي يطيع الله، وكفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله..

 

﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾

( سورة الأحزاب )

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾

 

 جواب القسَم:

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾

 

 أيها الإخوة الكرام... لو أنَّ كل من في الأرض كفروا، وانحرفوا، وفسقوا، فالمؤمن الصادق موقن أنَّه على حقّ ولا يتأثَّر ولا يغيّر ولا يبدِّل، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:

((لا يكن أحدكم إمَّعة ))

 من هو الإمَّعة ؟ هو الذي إذا أحسن الناس أحسنَ وإذا أساؤوا أساء، وطّن نفسك على أن تكون متيقّناً من الحق الذي تعتنقه ولا تبالي بأحد ولا تأخذك بالله لومة لائم.
 المدرس أحياناً يمتحن الطالب فيسأله سؤالاً فيُعطي إجابةً صحيحة، فيقول المدرس: لا هذا خطأ، فعندما يكون الطالب غير المتأكد من علمه يتراجع فوراً، أما الواثق يقول له: لا يا أستاذ هذا هو الصواب، فالعبرة أن أصحاب النبي عليهم رضوان الله حينما عاهدوا الله عزَّ وجل عاهدوه على السمع والطاعة، متى ؟ قال: في السَّراء والضراء، في المنشط والمكره، في الغنى والفقر، في الصحة والمرض، في إقبال الدنيا وفي إدبارها، فأنت عندما تعاهد الله عزَّ وجل فينبغي أن لا تغيّر، وأن لا تبدّل..

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾

( سورة الأحزاب )

﴿ ن ﴾

 هذا الحرف الذي هو أحد حروف اللغة العربية..

﴿ وَالْقَلَمِ ﴾

 أهمية العلم:
الواو واو القسَم، والله سبحانه وتعالى أقسَم بالقلم، والقسم بالقلم له معنيان..
فالمعنى الأول: أن الله عزَّ وجل يلفت نظرنا إلى عظمة القلم، و المعنى الثاني للقلم: هو العلم المكتوب الذي ينتقل من إنسان إلى إنسان، ومن بلد إلى بلد، ومن جيلٍ إلى جيل، ومن قارّةٍ إلى قارة، فلولا الكتابة لما انتقل العلم من إنسانٍ إلى آخر، ولا من جيلٍ إلى جيل، ولا من بلدٍ إلى بلد، ولا من قارَّةٍ إلى قارّة، أي كأن الله سبحانه وتعالى يقول: العلم قِوام حياة الإنسان لأن الله جلَّ جلاله في سورة الرحمن يقول:

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾

 جاء تعليم القُرآن قبل خلق الإنسان، هذا الترتيب رُتَبي بمعنى أن وجود الإنسان من دون منهجٍ لا معنى له، ولا قيمة له إطلاقاً، فبربِّكم لو أن أحدكم اشترى آلةً غالية الثمن عظيمة النفع ومعقَّدةً جداً، استقدمها من بلد المنشأ ولم يُرْسَل إليه تعليمات التشغيل والصيانة، فإن أعملها بلا علمٍ أتلفها، وإن لم يُعملها جَمَّد ثمنها، ففي مثل هذه الحالة النادرة أليست تعليمات الصانع أهمّ من هذه الآلة ؟ فماذا يفعل بها ؟ إنها ستكون عبئاً عليه، فإن شغَّلها بلا علمٍ أتلفها، و إن خاف على سلامتها عطَّلها، لذلك كتاب التعليمات يعدّ أهمّ من الآلة نفسها، و من هنا قال الله عزًَّ وجل:

 

﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) ﴾

 

 فربنا سبحانه وتعالى يُقسِم بالقلم ليلْفت نظرنا إلى قيمة العلم، و الإنسان له قوةٍ إدراكية هي سمعه، وبصره، وعقله..

﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ﴾

( سورة الإسراء: آية " 36 " )

 الفؤاد مع السمع والبصر هو العقل..

﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً﴾

 و الإنسان إذا لم يُعمل هذه القوى الإدراكية يكون دون الحيوان في المرتبة، فما من حيوانٍ إلا ويتفوَّق على الإنسان ؛ إن في وزنه، أو في حجمه، أو في سرعة جريانه، أو في طيرانه، أو في قوة إبصاره، أو في قوة شمّة، أو في قوة سمعه، أو في حسن تملّصه، أو في قوة دفاعه، فلا يوجد إنسان إذا قُطِعَت يده تنمو له يدٌ جديدة، و هناك حيواناتٌ كثيرة إذا قطعت لها أحد أطرافها نما له طرفٌ جديد من دون جهد، فالنسر مثلاً يرى ثمانية أمثال الإنسان، و الكلب يشم مليون ضعف شمّ الإنسان، و هناك حيواناتُ تدرك الزلازل قبل أن تقع، و الإنسان إذا عطَّل قِواه الإدراكية ولم يعملها في طاعة الله صار الحيوان أفضل منه، لذلك ربنا عزَّ وجل أقسَم بالقلم لأنه أداة العلم ( أداة العلم المنقول ) و اللسان أداة العلم المسموع المشافه.
 فمثلاً الإمام الغزالي على علو قدره كان يحضر درسه أربعمائة عمامة، وقد عاش حياته، فلمَّا انتهت هذه الحياة انتهى درسه، فما الذي بقي من الغزالي ؟ لقد بقي إحياؤه، بقي ألف عام، و الإمام القرطبي كذلك كان له درسٌ في حياته ثم مات القرطبي وانتهى درسه، فماذا بقي ؟ تفسيره، و الإمام الشافعي مات فماذا بقي ؟ فقهه، إذاً ربنا عزَّ وجل يلفت نظرنا إلى العلم المكتوب الذي ينتقل من جيلٍ إلى جيل، ومن أمّةٍ إلى أمّة، ومن قارّةٍ إلى قارّة، العلم.. فأول آية نزلت في كتاب الله:

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾

( سورة العلق )

 يقول عليه الصلاة والسلام:

 

((إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّم ))

 

( صحيح البخاري )

 فلذلك والله لا أبالغ إن قلت: إنَّ أقدس أوقاتك هو وقتٌ تمضيه في طلب العلم لأن أعلى مرتبةٍ عند الله هي مرتبة العلم، و رتبة العلم أعلى الرُتَب، الله عالمٌ يحب كل عالم..

 

((لعالمٌ واحد أشدّ على الشيطان من ألف عابد))

 

(( إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ))

(سنن أبي داود)

(( فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُم))

( سنن الترمذي )

 هكذا قال عليه الصلاة والسلام، فلا يليق بالإنسان إلا أن يكون عالماً أة متعلماً..
 قَالَ:

((النَّاسُ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَلا خَيْرَ فِيمَا بَعْدَ ذَلِكَ ))

( سنن الترمذي رواه: أبي الدرداء)

(( يا بني الناس رجلان عالمٌ ربّاني ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيؤوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيق فاحذر يا كُمَيْل أن تكون منهم ))

 فالإنسان إذا لم يطلب العلم، ولا حدّثته نفسه بطلب العلم، ولم يكن عالماً، ولا متعلّماً، ولا مستمعاً، ولا محبّاً فهو هالكٌ لا محالةَ، ( كن عالماً، أو متعلماً، أو مستمعاً، أو محبَّاً ولا تكن الخامسة فتهلك )، و أبشع شيءٍ في حياة الإنسان أن يكون جاهلاً، وليس هُناك أبشع من الجهل لأن الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوّه أن يفعله به، فالجهل أعدى أعداء الإنسان.
 أيها الإخوة... والله لا أبالغ إن قلت: إنَّ تسعين في المائة من مصائب الناس بسبب الجهل، وهذه فكرة دقيقة جداً سأضعها بين أيديكم: قوانين الله واقعةٌ لا محالة، إنك إن لم تؤمن بها، أو لم تعبأ بها، أو لم تتفهّمها، أو لم تحترمها فهي نافذةٌ فيك شئت أم أبيت، أي إن عدم إيمانك بقانون الله عزَّ وجل و عدم احترامك له، عدم تقديسك إيَّاه و عدم تفهّمك له لا يحول بينك وبين وقوعه، فهو واقعٌ لا محالة..

 

(( إن لكل حسنةٍ ثواباً، ولكل سيئةً عقاباً ))

 و منهج الله هو تعليمات الصانع، فالذي ينطلق من حبّه لذاته يطبّق تعليمات الصانع لأن العلاقة بين المقدّمات والنتائج في هذا المنهج علاقةٌ علمية، فكل سبب له نتيجة.
 أيها الإخوة... لقد ورد في الأثر القُدسي أن الله عندما خلق العقل قال له:

 

 

(( أقبل فأقبَل، ثم قال: أدبِر فأدبَر، قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحَبَّ إليّ منك، بك أعطي وبك آخذ))

 فالإنسان في لحظة تفكير مقدارها ثوان ينقذ نفسه من النار.
 قصة واقعية:
 مرَّة سمعت قصةًَ قديمة جداً تقول: إن شاباً افتتح مكتبةً في بعض أحياء دمشق، و قد أُتيح له أن يحُج بيت الله الحرام في وقتٍ مبكِّر، عاد من الحَج وله دكاَّنٌ صغيرة يبيع فيه بعض الكتب والقرطاسية، جاءته فتاةٌ غمزت ولمزت، وألانت القول وكأنها تغريه أن يتبعها، وهو شابٌ في مقتبل الحياة، فأغلق محلَّه وتبعها، و في منتصف الطريق فكَّر.. أنا حججت بيت الله الحرام فإلى أين أنا ذاهب ؟ فعاد، عاد واستغفر الله و أقلع عن هذه النية، وهذا الرجل الحي يُرزق.. في اليوم التالي جاءه أحد وجهاء الحي، وقد ألقى الله في روعه، وسأله: يا بني هل أنت متزوج ؟ فقال: لا، قال: عندي فتاةٌ مناسبةٌ لك، أرسل أهلك إلى بيتها، فظنَّ هذا الشاب أنَّ في هذه الفتاة علَّةً منعت زواجها، فلمَّا أخبرته أمّه بأنها من أفضل الفتيات وافق على الزواج منها، وجعله عمُّه شريكاً له في تجارة الزيت، وصار من التجَّار المرموقين الذين عاشوا حياةً سعيدةً راقية، و كل هذا العطاء بسبب أنه فكَّر لحظةً وعاد واستغفر الله عزَّ وجل.
 لما خلق الله العقل قال:

 

(( أقبل فأقبَل، ثم قال: أدبِر فأدبَر، قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحَبَّ إليّ منك، بك أعطي وبك آخذ ))

 سيدنا نعيم بن مسعود كان في معسكر المشركين في الخندق، فكَّر لماذا أنا هنا ؟ لماذا أحارب هذا الرجل ؟ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه رجل يدعو إلى الله، يأمر بالمعروف، ينهى عن المنكر، فكيف أحاربه ؟ و يوجد حديث في السيرة رائع جداً عما دار بينه وبين نفسه من حوار ؟ أيُعقل أن أحارب رجل يقول: ربي الله ؟ يدعو إلى الخير ؟ يأمر بصلة الرحم ؟ فتسلل في جنح الظلام إلى رسول الله وأعلن إسلامه، وقال: يا رسول الله مرني ماذا أفعل ؟ قال:

(( أنت واحد ماذا تفعل ؟ خذِّل عنَّا ما استطعت ))

 هذا الرجل الصحابي الذي مضى على إسلامه ربع ساعة ذهب إلى قريش ولم يعلموا بإسلامه، وقال لهم كلاماً ذكياً جداً، وذهب إلى اليهود ولم يعلموا بإسلامه وقال كلاماً ذكياً جداً، ووقع الشقاق بين قريشٍ و اليهود..

﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾

( سورة الأحزاب: آية " 25 " )

 وتفرَّق الجمع، وولوا الدبر، و كان النصر في هذه المعارك على يد هذا الرجل الذي فكَّر في دقائق معدودة، لماذا أنا أحارب هذا الرجل ؟ هذا رجل يدعو إلى الله.
 أيها الإخوة... لو أن كلاً واحد منَّا فكَّر أنا لماذا أفعل هذا ؟ هذه معصية والأمر بيد الله، صحَّتي بيده، أولادي بيده، زوجتي بيده، عملي بيده، رزقي بيده، مكانتي بيده، فكيف أعصيه ؟ كيف أعصيه وأطلب رحمته ؟ فكّرْ فقط، فإن لحظة تفكير تغنيك عن عملٍ كثير.
أيها الإخوة الكرام... قِوام حياتنا العلم، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلّك، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً. " يا بني العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تُنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق ".
 وقصة أخرى...
سائق سيارة أشارت إليه امرأةٌ فوقف لها، فصعدت مركبته، فقال لها: إلى أين يا أختي ؟ قالت: إلى أين تحِب، إلى أين تريد أذهب معك، فَهِم وظنَّ أن هذه غنيمة وفرصةٌ لا تتكرر، حقق مطلبه منها، وأعطته فوق ذلك رسالةً وظَرْفاً فيه خمسة آلاف دولار، بتعبير الجهلة.. شاف ليلة القدر.. هو (شاف) جهنم الحمراء، فتح الرسالة مكتوب عليها سطر واحد وهو: مرحباً بك في نادي الإيدز، وكان المبلغ مزوّراً فوُضع في السجن.
 فلو كان لهذا درس علم، و لو أنه طلب العلم، فإنه لو قالت له:خذني إلى أين تريد فإنه يفتح الباب ويركلها بقدمه، ويحفظه الله عندئذٍ، فالعلم سلاح، و الوقت الذي تمضيه في طلب العلم هو استثمارٌ للوقت وليس هدراً له، أنا يشتدّ عجبي من إنسان تدعوه إلى مجلس علم فيقول لك: ليس عندي وقت فراغ، الجواب: عندك وقتٌ لأي شيء ؟ إذا لم يكن لديك وقت فراغٍ تعرف أصل دينك، وتعرف كلام ربك، وتعرف منهج رسولك، وتعرف سرّ وجودك وغاية وجودك، إذا لم يكن لديك وقتٌ تعرف الحلال والحرام، ما ينبغي وما لا ينبغي فماذا تفعل إذاً (( أم ماذا كنتم تعملون )) فمثلاً لو أن طبيباً أخذ بورد، وجاء لبلده وأسس عيادة، والعيادة بالدَّين، وهو مختص، وكتب (المُراجعة بين الخامسة والثامنة مساءً)، وجاءه إنسان مريض فقال له: والله أنا مشغول، إنني أقرأ جريدة، فإنه يكون مجنوناً حينئذ، فهذا وقت العيادة وأنت عليك دَين، وأنت مختص وهذا عملك، فأعظم عملٍ تفعله في الدنيا أن تطلب العلم لأن العلم أساس صحة العمل، فلا يصح عملك إلا إذا صحَّ علمك، يصح العلم فيصح العمل، و العمل أساس السعادة والشقاء.. فلذلك أقسَم الله بالقلم وبنتائج القلم..

﴿ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾

 الملائكة، العلماء، هذا القلم هو أداة العلم، وهذا الكتاب هو مصدر العلم، القلم أداة والكتاب مصدر..

﴿ ن﴾

 من هذا الحرف، من هذه الحروف نُظِّم القرآن، فهو كلام الله، فالحروف بين أيديكم فمثلاً البقرة تأكل الحشيش فتُعطي الحليب، والدجاجة تأكل كل شيء فتعطي بيضاً فيه زلال، و دسم و بروتين، و فيه أربعة عشر فيتاميناً و معادن و أشباه معادن، فهل تستطيع أنت أن تحوِّل الذي تأكله الدجاجة إلى بيض ؟ هل بإمكانك أن تحول هذا الحشيش إلى حليب ؟ إلى لبن سائغ للشاربين ؟ هذه الحروف بين يديك ؛ ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء.. إلخ، الحروف بين أيدينا فهل يستطيع الإنسان أن يصوغ كلاماً ككلام الله عزَّ وجل ؟

﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾

 جواب القسَم:

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾

 قد يبدو الإنسان أحياناً أبله عند البلهاء، أما عند العقلاء فهو عاقل، لذلك لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له، فصاحِب المؤمن الصادق،المخلص، الطالب للعلم، و لا تجالس الأغنياء الجاهلين لأن هؤلاء لا يقيمون لعلمك وزناً، ولا يعبئون إلا بالدِرهم والدينار، إنهم مادّيّون، يقيمون الناس في حجمهم المالي فقط، فصاحب العلماء، أو طلاب العلم، صاحب الأتقياء الأنقياء، صاحب المتواضعين، صاحب الذي يدلُّك على الله حاله، ويدلك على الله مقاله، صاحب المؤمنين لتقتبس من علمهم وأخلاقهم و أحوالهم، لذلك فإن طالب العلم عند المجانين مجنون، أما عند العقلاء فهو عاقل، الآن يوجد سؤال: هؤلاء الذين اتهموا النبي عليه الصلاة والسلام بالجنون، اتهموه في حياته، فلماذا أثبت ربنا جلَّ جلاله هذه التهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة ؟ فلو أن واحداً تكلَّم معك كلاماً لا يليق بك، فإنه يكون قد تكلّم وانتهت القضية وطويت، فلماذا أثبتها الله في كتابٍ يُتلى إلى يوم القيامة ؟؟

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾

 ((يا أيها الذي نزِّل عليك القرآن إنك لمجنون ))، لماذ أثبت الله هذه التهَم في قرآنه الكريم الذي يُتلى إلى يوم الدين ؟ لأن النبي عله الصلاة والسلام أُسوتنا وقدوتنا، فكل من جاء بعد النبي ملتزماً الحق فعارضه أقرب الناس إليه و عارضه من حوله، و اتهموه بالسفه والجنون فإن له في رسول الله أسوةً حسنة، فيقول له: لا تستوحش، و لا تقلق، لأن سيِّد الخلق وحبيب الحق، سيد ولد آدم قد اتُّهم بالجنون، فلا تعبأ، فمن عرف نفسه ما غرَّته مقاله الناس به..

﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ﴾

( سورة الإنعام )

 المؤمن واثق من نفسه، واثق من الحق الذي هو عليه، و واثق من أحقية منهجه، وحتمية النصر، و أن الله عزَّ وجل لن يتخلّى عن المؤمنين، فمن ظن أو توهّم أن الله لا ينصر دينه، ولا ينصر رسله، ولا ينصر المؤمنين أبداً، وأنه يقوي الكفرة والفجَّار تقويةً دائمةً فهو لا يعرفه، فمن المستحيل أن يبدو إنسان منحرف قوياً جداً ثم ينجح إلى ما لا نهاية فلا بدَّ من أن يُظهِر الله آياته في الحياة الدنيا، فماذا يقول الله عزَّ وجل ؟

﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

( سورة غافر: آية " 51 " )

 كلام ربُّ العالمين، فأي إنسان قام إلى الله ليدعو إليه، يجب عليه أن يفرّ إلى الله..

﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾

( سورة الذاريات: آية " 50 " )

 فاتجه إلى الله بإخلاص، وبعزيمة، وبصبر، وبيقين من نصر الله، فإن فعلت ذلك فلابدَّ لك عندئذ من أن ترى نتائج عملك في الدنيا والآخرة...

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ﴾

 لا تعبأ بكلام الناس، فالناس الآن يقولون.. متزمّت، متقوقع، بعيد عن واقع الحياة لا يعرف عن مباهج الدنيا شيئاً، من بيته إلى مسجده، همّه الكتاب والعلم، لا تعبأ بكلام الناس، فلو أنك تأكل أطيب طعام عرفته في حياتك وأحدهم يقول لك: هذا الطعام غير طِّيب، فمن تصدّق ؟ إنك أنت من يأكل ويتذوق ويتنعم، فالإنسان الذي يسعد بقربه من الله لو عارضه كل الناس لا يعبأ بكلامهم لأنه يذوق طعم القُرب من الله عزَّ وجل..

﴿ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) ﴾

 غير منقطع بل هو مستمر..

(( يا علي لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من الدنيا وما فيها ))

 والله أيها الإخوة... لو كُشِفَ لنا الغطاء لوجدت أقوى الناس في الدنيا يتمنَّى أن يلقي كلمة حقٍ في أذن إنسان، كلمة حق واحدة، ((ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً )) فالدعوة إلى الله صنعة الأنبياء، (( الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً غير الله )) هؤلاء في أعلى مرتبةٍ عند الله عزَّ وجل، لذلك لا تكن قنوعاً في شأن الآخرة، كن قنوعاً في الدنيا ولا تكن قنوعاً في الآخرة، اطلب الجنة في أعلى مراتبها..لقد قالت السيدة عائشة عن عبد الرحمن بن عوف: " أخشى أن يدخل الجنة حبواً، فقال: والله لأدخلنّها خبباً، وما عليّ إن كنت أنفق مائةً في الصباح فيؤتيني الله ألفاً في المساء ". لذلك إذا عرف الإنسان الله، وعرف سر الحياة كما قال سيدنا علي (ودققوا في هذه الكلمة ) قال: " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي"،. إنه منطلق بأقصى سرعة، هذا الوقت هو أثمن شيء تملكه، فبالوقت تطلب العلم، وبالوقت تصلي، وبالوقت تقرأ القرآن، وبالوقت تعلّم القرآن، وبالوقت تأمُر بالمعروف، وبالوقت تنهى عن المنكر، وبالوقت تربِّي أولادك، وبالوقت تهدي الناس، وبالوقت تعمل وتكسب قوت يومك، وبالوقت تسعد، فالوقت وعاء العمل، و الوقت رأس مالك الوحيد فاحرص عليه، لقد هلك المسوِّفون، فلا تقل: غداً أتوب، غداً أفعل، افعل هذا اليوم..

﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾

 أجر مستمر..

((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))

( صحيح مسلم: عن أبي هريرة )

 مرَّة قرأت آيةً في تفسيرٍ وقد تأثَّرت من تفسيرها تأثّراً كبيراً فجعلتها موضوعاً للخطبة وكانت الخطبة ناجحةً جداً، و بعد يومين فكَّرت فقلت: هذا الذي ألّف التفسير قبل ألف عام هو الآن تحت أطباق الثرى، لكن الخير الذي فعله انتقل من إنسان إلى آخر، إلى آخر، إلى مجموعة كبيرة، فاترك أثراً قبل أن تموت..

 

((إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))

 

( صحيح مسلم رواه: أبي هريرة )

 حدَّثني أخ قال لي: في بعض الأماكن أسس أحدهم مسجداً على نفقته الخاصَّة من أرض، وبناء وأثاث، قال لي: في أول جمعة فُتِحَ فيها المسجد اجتمع الناس فيه، وأُلقيت خطبةٌ، فجلس الشخص الذي أسسه على كرسيٍّ في نهاية المسجد وبكى بكاءً لا يوصَف من شدة فرحه أنَّ كل من يصلي في هذا المسجد في صحيفته إلى يوم القيامة، فاترك أثراً قبل رحيلك، اعمل مثلاً عملاً في مسجد، أو عملاً في العلم، أو اترك أثراً علمياً، اترك دار عبادة، اترك دار أيتام، اعمل مشروعاً خيرياً، سُنَّ سُنَّةً حسنة ليكون لك أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، فما قيمة الحياة الدنيا ؟
 انظر إلى هؤلاء الذين يموتون فجأةً على غير استعدادٍ للموت، هناك إنسان ترك ثلاثة آلاف مليون وهو من كبار التجَّار، فمات بحادث، ففقد كل هذه الثروة في ثانيةٍ واحدة وسيُحَاسب عن أعماله كلّها خيرها وشرّها، فالإنسان أيها الإخوة حياته محدودة، و السيدة رابعة العدوية سئلت ما الإنسان؟ قالت: هو بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه.. " ما من يومٍ ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة "..

﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾

 والله أيها الإخوة لو نعلم ماذا أعدَّ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين من أجرٍ كبير لاستحيا الإنسان منا أن ينام، ورد في بعض الأحاديث:

(( ما من يومٍ إلا وملك الموت يقف في البيت خمس مرَّات فإذا رأى أن العبد قد انقضى أجله وانقطع رزقه ألقى عليه غمَّ الموت فغشيته سكراته، فمن أهل البيت الضاربة وجهها، والصارخة لويلها، والممزقة ثوبها، يقول ملك الموت: فيم الفرع ؟ ومم الجزع ؟ ما أذهبت لواحدٍ منكم رزقاً ولا قرَّبت له أجلاً، وإن لي فيكم لعودةٌ ثم عودة حتى لا أُبقي منكم أحداً، فوالذي نفس محمدٍ بيده لو يرون مكانه ويسمعون كلامه لذهلوا عن ميِّتهم ولبكوا على أنفسهم ))

 ثم يقول عليه الصلاة والسلام:

(( لو تعلمون ما أنتم عليه بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوةٍ، ولا دخلتم بيتاً تستظلون فيه، ولذهبتم إلى الصُعُدات تبكون على أنفسكم))

 الانتقال إلى الدار الآخرة سهل ؟ كل شيء في الدنيا إلى لا شيء، إلى قبر صغير ؟ هل هذا معقول ؟ فأعقل عقلاء الأرض هو الذي يعمل لساعة فراق الدنيا. كنت مرة في تعزيةٍ فألقيت كلمة فضربت هذا المثل: إنسان يسكن في بيت مستأجر، ونظام الإيجار في البلد الذي يسكنه أن مالك البيت يستطيع إخراجه من البيت بلا سبب، وبلا إنذار مُسبق، وكان لهذا المستأجر بيتٌ آخر على الهيكل، وله دخلٌ كبير، فهذا الدخل الكبير أين ينفقه ؟ في تزيين البيت المستأجر أم في إكساء البيت الذي على الهيكل الذي سينتهي مصيره إليه ؟ القضية تحتاج إلى عقل، فمعظم الناس كل دخلهم ينفقونه على هذا البيت الموقَّت، والدليل: اقرؤوا كل النعوات (وسيشيع إلى مثواه الأخير)، معنى هذا أن المثوى الحاضر هو مثوى مؤقت، فلا نعرف في أي لحظة يصدُر الأمر بمغادرة البيت، سيخرج الإنسان عندها مكرها ً، وهذا الخروج من دون عودة، ففي الساعة الثانية عشرة مساء مثلاً لا يتساءل الأهل: أين فلان ؟ لم َ لم يحضر إلى الآن لقد تأخَّر، لا يوجد تأخّر عندئذ إنه لن يرجع، انتهى إنه ذهب ولن يعود، فلا بدَّ من أن ندخل المسجد أفقياً ليُصلَّى علينا.
 كنت مرَّةً في بلدٍ في المغرب فرأيت لوحة صغيرة مكتوب عليها: صلَّ قبل أن يُصلَّى عليك.
 أيها الإخوة...

﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾

 لذلك كان العقل في طاعة الله و في معرفة الله، فالعقل يقتضي أن تفهم كلام الله، و أن تعمل بكلام الله و أن تفهم سُنَّة رسول الله، و أن تعمل بسُنَّة رسول الله، و العقل يقتضي أن تفهم سيرة رسول الله فتتأسَّى برسول الله، و العقل يقتضي أن تفهم أحكام الفِقه و أن تطبِّقها، و العقل يقتضي أن تهب حياتك لله..

﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ﴾

( سورة الواقعة )

 العقل يقتضي أن تفكِّر في ملكوت الله، أن تعظِّم الله..

(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبَّه بحبّك ؟ قال: أحبّ عبادي إليّ تقي القلب، نقيّ اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبَّني وأحبَّ من أحبَّني وحبَّبني إلى خَلْقي، قال: يا ربِ إنك تعلم أنني أحبّك وأحب من يحبك، فكيف أحبّبك إلى خلقك ؟ قال: ذكِّرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي ))

 لابدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن تعظيمٌ لله من خلال النظر في آيات الله، ولابدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن محبَّةٌ لله من خلال التفكّر في نِعَمِ الله، ولا بدَّ من أن يجتمع في قلب المؤمن خوفٌ من الله من خلال التفكّر في بلاء الله.
 امرأة أصيبت بمرضٍ خبيث في معيها الغليظ فاستؤصل،وكان هناك فتحةٌ خارجية، والكيس ثمنه ثلاثمائة ليرة وكلَّما امتلأ بولاً وغائطاَ كان لابدَّ لها من أن تستبدله بآخر، إنسان يغسل كل أسبوع مرّتين كليتيه، إنسان لابدَّ له من إجراء عملية تكلّف الملايين، وإنسان معافى..

 

((أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ ))

 

( سنن الترمذي: عن ابن عباس )

 كان للنبي عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ صباحاً لصلاة الفجر أدعيةٌ رائعة، يقول:

(( الحمد لله الذي ردَّ إليّ روحي ))

 لأنه قبل أن ينام قال:

(( يا رب إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين ))

 و عندما استيقظ قال:

((الحمد لله الذي ردّ إليّ روحي))

 فقد وقف بجاهزية تامة، حركته جيدة، سمعه وبصره، عقله في رأسه،

(( الحمد لله الذي عافاني في بدني))

 وصلّى الفجر

(( الحمد لله الذي أذن لي بذكره ))

 هذا دعاء النبي يومياً..

﴿ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾

 هذه إن شاء الله نشْرحُها في الدرس القادم إن أراد الله

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور