وضع داكن
18-04-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 002 - حديث احفظ الله يحفظك -2- كيف يحفظ الله لك دينك
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

 

احفظ الله يحفظك .


أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا في حديث رسول الله الذي يعد من أصول الدين، هذا الحديث الشريف .

(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: يَا غُلَامُ, إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ, إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ, وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ ))

[ أخرجه الترمذي في سننه ]

وفي روايةٍ غير الترمذي ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: 

(( يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ, أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ؟ فَقُلْتُ: بَلَى, فَقَالَ: احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ, تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ, وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ, وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ, قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ, فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا, أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ, لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ, لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ, وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا, وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ, وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ, وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ))

[ أخرجه أحمد في مسنده ]

لا أبالغ إذا قلت: إن هذا الحديث من أهم الأحاديث التي تتعلق بأصول الدين، وبأصول الإيمان . 

 

الحفظ نوعان :


في الدرس الماضي شرحت بعض أجزاء هذا الحديث، هو: (( احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ )) وبقي أن حفظ الله عزَّ وجل على نوعين: 

1- حفظٌ دنيوي .

2- وحفظٌ أخروي . 

فالحفظ الدنيوي : هو أن يحفظ الله لك بدنك من السقم، ومن الأمراض العضالة، وأن يحفظ لك أهلك وأولادك من كل مكروهٍ وأذى، وأن يحفظ لك مالك، هذا حفظ الدنيا، وحفظ الدنيا ثمنه أن تحفظ الله، وحفظ العبد لله عزَّ وجل أن يحفظ الأمر بالتطبيق، والنهي بالترك، والحدود بالوقوف عندها ، وشُرح هذا بالتفصيل في درس سابق .

اليوم :

 

كيف يحفظ الله لك دينك؟


إذا حفظته أنت, فطبقت الأمر، وتركت النهي، ووقفت عند حدود الله عزَّ وجل، كيف يحفظ الله لك دينك؟ .

أولاً: يحفظك من الشبهات المهلكة، ومن الشهوات المحرمة، هناك في العقل شيء، وفي النفس شيء، يحفظ عقلك من الشبهات، فالذي يكون عند الأمر والنهي، وعند حدود الله عز وجل, لا يمكن أن تتسرب إلى عقله عقيدةٌ فاسدة، كم من أناسٍ اعتنقوا عقائد فاسدة في ظل الدين؟ أية عقيدة فاسدة تشل حركة الإنسان في الدنيا، فمن دخل على عقله شبهات فاسدة تعطل عمله، بل ساء عمله، ومن وقع في شهوات محرمة, وقع في حجاب عن الله عز وجل، فمن وقف عند حدود الله فلم يتجاوزها، ومن وقف عند الأمر فطبّقه، وعند النهي فاجتنبه، فأغلب الظن والرجاء بالله تعالى أن يحميه من آفتين خطيرتين مهلكتين؛ شبهاتٌ مضلَّة، وشهواتٌ مهلكة .

قال بعض السلف: إذا حضر الرجلَ الموتُ, يقال للملَك: شمَّ رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال له: شمّ قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شمّ قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقول الملك: حفظ نفسه، فحفظه الله عز وجل .

لا أعتقد أن إنسانا على وجه الأرض, إلا ويتمنى من أعماق أعماقه, أن يكون في حفظ الله، أن يحيا حياة خالية من المتاعب، من المشوشات، من المهلكات، من المفاجآت، من المصائب، حفظ الله لك ثمنه: أن تحفظ أمره, ونهيه, وحدوده .

النبي من أدعيته؛ أنه كان يقول قبل نومه:

(( بِاسْمِكَ رَبِّ وَضَعْتُ جَنْبِي, وَبِكَ أَرْفَعُهُ, إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ))

[ أخرجه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ]

والحقيقة: أن الإنسان قبل أن ينام قد لا يستيقظ، فإذا قبضه الله عز وجل, فالمرجو أن يرحم الله هذه النفس، وإذا سمح له أن يعيش يوما آخر, فالمرجو من الله عز وجل, أن يحفظ نفسه من كل شبهة، ومن كل معصية .

ومن أدعيته عليه الصلاة والسلام:

اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، احفظني بالإسلام راقدا

عندنا رقَدَ، وركض، وركد، راقدا أي نائما، أما ركد فبمعنى سكَن، وركض بمعنى أسرَع، ورقد بمعنى استراح ونام، قال: (( اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا، احفظني بالإسلام راقدا، ولا تطع فيّ عدوا ولا حاسدا )) كان النبي إذا أراد أن يودع مسافرا يقول له:

(( أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ ))

[ أخرجه الترمذي عن ابن عمر في سننه ]

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ:

(( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا اسْتُوْدِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ ))

[ أخرجه أحمد في مسنده ]

يعني إذا سافر، ودعا الله عزوجل دعاء صادقا مخلصا من أعماق قلبه, فقال:

(( اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ, وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ, اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ, وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ))

[ أخرجه الترمذي والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ في سننهما ]

ما دمت قد استودعت الله, وأنت مسافر، فالله سبحانه وتعالى لن يضيّع ودائعك .

الآن عندنا شيء مهم جدا في هذا الحديث: 

ما دام الله عزوجل وعد المؤمن الذي يحفظ حدود الله عز وجل أن يحفظه، كيف يحفظه؟ قبل قليل قلت لكم: يحفظه من الشبهات المضلة، ومن الشهوات المهلكة .

قال بعض العلماء: الله سبحانه وتعالى يحفظ عبده المؤمن مما يفسد دينه بأنواع من الحفظ، أهم شيء دينك، فربنا عزوجل يحفظك بأنواع منوعة كثيرة عديدة من الحفظ, يحفظ لك دينك، بعضها لا تشعر بها، وبعضها تكرهها، كيف؟ أنت قلت لله عز وجل: يا رب احفظ ديني .

(( إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا, وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا ))

أنت حينما حفظت حدود الله عزوجل, ترجو من أعماقك أن يحفظك الله، وأخطر حفظ الله لك؛ أن يحفظ لك دينك، لأنه هو الأصل، قد يحفظك وأنت لا تدري، قد يحفظ الله لك دينك, وأنت لا تدري، أما الذي يزعجك في حفظ دينك, قد تشتهي عملا معينا في الدنيا، فتقوم العقبات أمام هذا العمل، قد تزمع سفرا إلى بلاد الغرب مثلا, لتحقيق حلم كبير، أو لنيل درجات علمية عالية، أو لكسب رزق وفير، فتأتي عقبات مزعجة جدا, تحول بينك و بين ما تطلب، أنت تنزعج، وقد تتميز غيظا، وقد تضيق نفسك، وقد تعاتب ربك، وما هذا التعسير, وما هذه العقبات, إلا نوع من أنواع الحفظ الذي يكرهه المؤمن، إنه حينما حال بينك وبين هذه التجارة العريضة, حفظ لك دينك .

أذكر أن أحد الأشخاص, كان يطمح أن يكون طيارا، وتعلمون أن هذه الحرفة ممتعة، ولها دخل وفير، ولكن أكثر أيام الطيار في بلاد الغرب، وفي عواصم الغرب، وفي فنادق، ومع الفنادق المفاسد، وما إلى ذلك، فأصابه مرض حال بينه وبين متابعة هذه الحرفة، فعاد إلى عمله الأصلي في التدريس، ثم ارتقى في درجات الإيمان, إلى أن شعر بأن حفظ الله له, كان في هذا المرض الذي حال بينه وبين الحرفة التي يطمح إليها .

هناك حرف فيها شبهات، هناك حرف فيها ضلالات، هناك حرف فيها معاص، هناك حرف فيها تودي بصاحبها إلى الظلمات، فحينما يكون المؤمن صادقا في دعائه, قد يحفظ الله دين العبد المؤمن بما يكره، حينما يضع له بعض العراقيل في طريقه إلى ما يبتغي من عرض الدنيا، فلذلك من علامة المؤمن الصادق المحب؛ أنه إذا رأى عقبة, تلو عقبة, تلو عقبة, في طريق حريص عليه، مهتم به، يعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى, يحفظ عليه بهذه التعقيدات, دينه الذي هو أثمن شيء، وكلكم يعلم: كيف أن سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أصابته مصيبةٌ, قال: (( الحمد لله ثلاثا؛ الحمد لله إذ لم تكن في ديني )) أحيانا السفر، هذا السفر في ألف مسافر المقيم في بلاد ترتكب فيها المعاصي على قارعة الطريق، ترتكب فيها أبشع المعاصي، السفر إلى هذه البلاد، لو سافر ألف شخص لعاد منهم عدد لا يزيد على أصابع اليد, قد حفظوا أمر الله عز وجل، الزلة ميسرة، والانحراف مرغوب فيه هناك، فحينما لا ييسر الله لك سفرا, تضيع فيه دينك وآخرتك، فهذا التعسير من حفظ الله لك .

لذلك الحفظ الأولي: 

أن يحفظ الله لك بدنك من مرض عضال، من داء وبيل، من متاعب، وأن يحفظ الله لك أهلك، وأولادك، كل هذا حفظ الدنيا .

وأما حفظ الآخرة: 

فأن يحفظ الله لك دينك من الشبهات المضلة، والشهوات المهلكة، وقد يحفظك بطرق كثيرة لا تشعر بها، وقد يحفظك بأساليب تكرهها, وأنت لا تدري، هذا يؤكده قول النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إن الله ليحمي صفيّه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام ))

فالمؤمن يعلم علم اليقين: أن الفعل كله بيد الله، وأنه راض بقضاء الله وقدره، وأنه صابر عن الشهوات, وعلى الطاعات، وعلى الأمر التكويني، صابر على الأمر التشريعي من أمر ونهي، وعلى الأمر التكويني من قضاء و قدر، هذا المؤمن، والإيمان نصف صبر، ونصف شكر، لكن لو صبرت على أمر تكويني, دون أن تعلم الحكمة، صبرت تعبدا, واستسلاما, وثقة بحكمة الله, وعلمه, وعدله، لو صبرت تعبدا, لكشف الله لك سر هذا الشيء الذي ساقه الله لك، فلذلك من طبق الأمر تعبدا, كشف الله له إكراما حكمة هذا الأمر .

لا أعتقد أن مؤمنا صادقا إلا ويقول لك: جاءتني مشكلة، ضقت بها ذرعا، ضاقت نفسي بها، ثم تبين لي بعد حين, أن هذا الشيء الذي أصابني, كان محض فضل, ومحض خير, ومحض فلاح, ومحض نجاح .

لذلك يمكن أن أقول: الشيء الذي يسوقه الله للإنسان, حينما يكشف الله يوم القيامة, عن الحكمة التي ساق بها هذا الشيء, لذاب الإنسان كما تذوب الشمعة, حينما تشعلها، لذاب الإنسان شكرا لله على نعمة هذا المصاب, الذي هو في الحقيقة نعمة باطنة، وليست نعمة ظاهرة . سيدنا يوسف حينما دخل السجن، الغريب أن الله قال:

﴿ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)﴾

[ سورة يوسف ]

أين هو؟ في السجن، لو بقي خارج السجن، وزلت قدمه، وسقط من عين الله عز وجل، وأصبح رجلا عاصيا، أيهما أفضل؟ فهذا من حفظ الله الذي قد يكرهه الإنسان، والأمور بخواتيمها .

أعرف رجلا, ساق الله له شدة, حينما صرفها الله عنه بعد عام ونصف, زرته في البيت، فقال لي: واللهِ لو عشت ألف عام, ما كنت لأحقق هذا الإنجاز في إيماني, كما حقِّق بهذه المصيبة .

لذلك اعلم علم اليقين: أن الله حكيم، وأن الله سبحانه وتعالى عليم، وأن الله قدير، وأن الله كريم، هذا هو الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يقول: يا رب, أنا راض، يا رب, أنا راض بقضائك .

﴿ اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ, وَابْنُ عَبْدِكَ, وَابْنُ أَمَتِكَ, نَاصِيَتِي بِيَدِكَ, مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ, عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ﴾

بعضهم قال: حينما قال الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)﴾

[ سورة الأنفال ]

كيف يحول؟ قال ابن عباس: يحول بين المرء وقلبه, بأن الله عز وجل يبعد قلبه عن معصيته، ولاحظوا إذا مشى الإنسان في طريق المعصية، لكن بشرط ألاّ يكون مصرا عليها، لو أصر عليها, لساقه الله إليها، لو أصر عليها, لأطلقه الله إليها، لكن إذا سار في طريق معصية لا ترضي الله, واللهُ يعلم أنه ليس مصرا عليها، وأنه يرضى بقضاء الله, يسوق له من الشدائد ما تبعده عن هذه المعصية، عندئذ يكشف حكمة الله عز وجل ورحمته، هذا معنى قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ) الإمام الحسن رضي الله عنه يقول: (( هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم )) كيف؟ أي حينما رآهم تافهين، شهوانيين، دنيويين، حينما رآهم, وقد هان الله عليهم, هانوا عليه, فأطلقهم إلى المعصية، أما لو أنهم عزوا عليه، لو أن الله كان عزيزا عليهم، فعزوا عليه, لعصمهم، الله عزوجل يعصمك إذا كنت عزيزا عليه، ويطلقك إلى المعصية إذا هنت عليه، هان الله عليهم، فهانوا عليه، فعصوه، ولو كان الله عظيما عندهم, لكانوا أعزة عنده, فعصمهم .

قال ابن مسعود:

إن العبد ليهمّ بالأمر من التجارة والإمارة، حتى ييسر له ذلك، فينظر الله إليه, فيقول لملائكته: اصرفوه عنه، فإنه إن يسرته له, أدخلته النار .

صدقوني أيها الإخوة؛ أن بعض المهن, والحرف, والأعمال, والسياحات, قد تنقل الإنسان من الجنة إلى النار، وهناك مهن, دخلها كبير جدا، ولكن فيها معصية كبيرة لله، وهناك مهن, أساس علاقتها بالنساء، فقد يضبط الإنسان نفسه إلى حين، ثم يتداعى إيمانه، و يميل إلى شهواته، وكما تعلمون:

إن إبليس طلاّع رصّاد, وما هو من فخوخه بأوثق لصيده في الأتقياء من النساء، فاتقوا الله، واتقوا النساء، فإن فتنة بني إسرائيل, كانت في النساء

أنا أقول لكم بالمناسبة، هناك ثغرتان كبيرتان خطيرتان, يمكن أن يؤتى منهما المؤمن : 

المال والنساء . 

فمهما بالغت في غض بصرك, فأنت في حصن حصين، ومهما بالغت في كسبك، والآية الكريمة:

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (34)﴾

[ سورة الإسراء ]

أنتم تعرفون معنى:

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (32) ﴾

[ سورة الإسراء ]

لم يقل: ولا تزنوا، بل قال: ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ) لأن الزنا شهوة جاذبة, لها إغراء, فلا بد من أن تدع بينك وبينها هامش أمان، أنا أشبه تماما أرضا مستوية جافة، بعدها أرض مائلة, كلها حشائش وماء، والحشائش زلقة، وبعدها نهر عميق خطير، فالنهر العميق المهلك, الذي إذا وقع فيه الإنسان أهلك, هو المعصية، وهذه المنطقة التي بعد النهر المائلة, التي عليها حشائش متفسخة بفعل الرطوبة، وعليها مواد زلقة, هي ما قبل المعصية، وأما المنطقة الجافة المستوية, فهي منطقة الأمان، فالمؤمن دائما, يجعل بينه وبين المعصية هامش أمان، قال تعالى: ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ) لا تصاحب زانيا، لا تسر في طريق موبوء، فيه نساء كاسيات عاريات، أيّ شيء يقربك من الزنا, ابتعد عنه، حتى يعصمك الله منه، قال تعالى: ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ) يعني هذا مال اليتيم، ما قال لك: لا تأكل مال اليتيم، لا تقربه، لو خلطته بمالك، و الحكم هو الحسابات، أحيانا الإنسان يُكلَّف بعمل، يعطونه مبلغا من المال، معه مال شخصي، ومعه مال لهذا العمل، فيا ترى ما هو الحكم؟ الحسابات, لعلك أنفقت من هذا المال شيئا، و نسيت أن تسجله، أو بالعكس، أنفقت من حسابك الخاص نفقة، ونسيت أن تسجلها، فلما جمعت مصروفك الشخصي، ومصروف المهمة، بقي عندك زيادة، فأنت مخطئ، ووضعت قسما من مال المهمة في جيبك، لا، لا تجعل الحساب هو الحكم، اجعل المال هو الحكم، اجعل هذا المال في مكان خاص، وله حساب، تطابق الحساب مع الرصيد, دائما يطمئنك، فلا تجعل الحساب هو الحكم، اجعل المال نفسه هو الحكَم، قال تعالى: ( وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ ) أي لا تخلط مالك بماله، فإذا خلطت مالك بماله, فهي شبهة, أن تأكل من ماله, وأنت لا تدري، هذا معنى قول الله عز وجل:

﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)﴾

[ سورة البقرة ]

اجعل بينك وبينها هامش أمان . 

قال: فيصرفه الله عنه، فيظل يتطير، ويقول: سبني فلان، وأهانني فلان، ولما هو إلا فضل الله عز وجل ، وقفنا خمس ساعات, ولم يعطونا الفيزا، وضربونا، ما هذا الكلام؟ أنت إلى أين ذاهب؟ إلى مكان لا يرضي الله عز وجل، فهذا الذي أهانك ودفعك, هذا من فضل الله عليك، منع عليك فساد دينك مثلا، أنا أضرب بعض الأمثلة .

هناك مزلات كثيرة جدا، هناك وظائف كلها شبهات، قائمة على إيقاع الأذى بالناس، فإذًا: لم تتح لك أن تكون في عداد هذا السلك، هذا من فضل الله عليك ، لذلك جاء في الحديث القدسي:

(( إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقرُ، فإذا بسطت عليه, أفسدت دينه، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته, أفسدت دينه، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الصحة, ولو أسقمته لأفسدت ذلك، وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا السقم، ولو أصححته لأفسدت دينه، وإن من عبادي, من يطلب بابا من العبادة, فأكفه عنه– حريص على قيام الليل، لم يوقظوه، يا رب ما السر؟ عنده شيء من العجب- لكي لا يخله العجب، إني أدبِّر أمر عبادي بما في قلوبهم، إني عليم خبير ))

حديث دقيق، الصحة لمصلحة إيمانك، والمرض لمصلحة إيمانك، والغنى لمصلحة إيمانك، والفقر لمصلحة إيمانك، وحتى أبواب العبادة إن يسِّرت لك, فلمصلحة إيمانك، وإن لم تيسر لك, فلمصلحة إيمانك، الله عليم، إني عليم بأمر عبادي .

إني أدبِّر أمر عبادي بما في قلوبهم، إني عليم خبير

 هذا الموضوع كله: (( احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ )) أي يحفظ لك أمر دينك ودنياك، حفظ الله عز وجل؛ أن تكون عند الأمر والنهي، أمر الله افعله، والنهي لا تفعله، وقف عند حدود الله, لا تتعداها, تستحق حفظ الله لك في الدنيا والآخرة .

أعتقد أن الموضوع أصبح واضحا، هذا الحديث من أصول الدين، (( احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ )) .

الآن: 

 

اِحْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ .


معنى تجاهك أي أمامك، قيل: من أقام حدود الله، وطبّق أمره، واجتنب نهيه، كان اللهُ معه في كل أحواله، مع المحسن، مع أيّ عبد، قال تعالى:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد ]

ولكن إذا قال الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ﴾

[ سورة العنكبوت ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) ﴾

[ سورة البقرة  ]

هذه معية خاصة، يعني معهم بالحفظ, والتأييد, والنصر, والتوفيق .

(( احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ, احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )) الله معك دائما، هناك كلمات يقولها العامة، لكن واللهِ بتَردادها, فقدت مدلولها، أنا ذاهب، الله معك، هل هذه قليلة: أن يكون الله معك؟ وإذا كان الله معك فمن عليك, وإذا كان عليك فمن معك, وإذا وجدته ماذا فقدت؟ وإذا فقدته ماذا وجدت؟ صدق القائل:

فليتك تحلو والحياة مـريرةٌ                  وليتك ترضى والأنام غضابُ

وليت الذي بيني وبينك عامر                    وبينـــــي وبيــــــن العالمين خرابُ

هذا كلام بليغ، لما تقرأ: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) ، ( إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ) تشعر بذلك ، مرة قرأت حديثا لرسول الله ، الذي رواه عن ربه عز وجل:

(( يا داود, مرضـت فلم تعدني، قال: كيف أعودك, وأنت رب العالمين؟ قال: مرض عبدي فلان, فلم تعده، أمَا علمتَ أنك لو عدته, لوجدتني عنده ))

الله عز وجل, أخذ منك بعض الصحة، لكن عوّضك بأن آنسك بوجوده معك، فالمريض تجده رقيق المشاعر، المريض أحاسيسه رقيقة، المريض قريب من الله عز وجل، سلبه الصحة، وأعطوه معلومات مخيفة، وجاء التحليل غير جيد، والطبيب حذّر، وقال له : مرضك ليس سهلا، يئس، رأى نفسه ضعيفا، فقال: يا رب ما لي سواك، تقرب، وأقبل، فتجلى الله عليه، شعر بسرور، الله عز وجل في أية لحظة, يصرف عنه المرض، ويعود صحيحا في نفسه, وفي جسده، فلذلك: (( احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )) قال قتادة:

من يتق الله, يكن الله معه، ومن يكن معه, فمعه الفئة التي لا تُغلَب، والحارس الذي لا ينام، والهادي الذي لا يضل إذا كنت مع الله, كان الله معك، وإذا كان الله, فهو الهادي الذي لا يضل، والحارس الذي لا ينام، والقوي الذي لا يُغلَب، أنت معه أقوى الناس، أنت معه أهدى الناس، وأنت معه في حصن حصين، اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، وانصرني بركنك الذي لا يضامّ.

كتب بعض السلف إلى أخ له:

أما بعد، فإذا كان الله معك, فمن تخاف؟ وإذا كان عليك, فمن ترجو؟

هذه المعية الخاصة التي وردت في القرآن الكريم، في أماكن متعددة, قال تعالى :

﴿ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) ﴾

[ سورة طه ]

معية الله عز وجل، قال تعالى:

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) ﴾

[ سورة الشعراء  ]

القضية خطيرة جدا، فرعون وما أدراك ما فرعون؟ بقوته, وجبروته, وطغيانه وجنوده، هم وراء فئة قليلة جدا، سيدنا موسى وأصحابه، قال تعالى: ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)) فرعون وراءنا، والبحر أمامنا، والأمل صفر، قال تعالى:

﴿ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) ﴾

[ سورة الشعراء ]

إنسان وقع من طائرة على ارتفاع أربعين ألف قدم، فوق جبال الألب، تحمل هذه الطائرة ثلاثمئة راكب، ماتوا جميعا عدا واحد، كان مقعده في المكان الذي انشقت منه الطائرة، فوقع، ظل يهوي ثلاثا وأربعين ألف قدم، إلى أن وصل إلى غابات كثيفة مغطاة بخمسة أمتار من الثلج، فكان هذا الثلج, وهذه الأغصان, امتصت هذه الصدمة، ونزل واقفا، إذا كان الله معك, لو وقعت من طائرة على ارتفاع أربعين ألف قدم يحفظك، وسيدنا يونس أكبر دليل، لا ييأس الواحد .

لا أعتقد أن هناك مصيبة, تفوق ما أصاب سيدنا يونس، إذا كان الرجل في مركب في البحر، في الليل، وفي ظلام دامس، وقع من هذا المركب، فجاء حوت فالتقمه، هو في ظلام الليل، وفي ظلام البحر، البحر مظلم، بعد أمتار ظلام دامس، أعتقد بعد مئة متر، أو أقل, أو أكثر, ظلام دامس، قال في ظلمات ثلاث، في ظلام الليل، وفي ظلام البحر، في ظلام بطن الحوت، والأمل صفر، قال تعالى:

﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)﴾

[ سورة الأنبياء ]

هذه ليست لسيدنا يونس وحده، ولكل مؤمن، ضعها مثالا، ضعها مسطرة، لا أعتقد أن ثمة مصيبة تفوق ما أصاب سيدنا يونس، ومع ذلك : ( وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) هذا معنى: (( تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )) .

حدثني أخ أجرى عملية جراحية في بلاد الغرب، وكلفته مبالغ طائلة, تفوق كل توقعاته، فقال لي: ينقصني خمسة وعشرين ألف مارك ألماني، وكنت واقعا في همّ شديد، بعد ربع ساعة يُطرق بابي، أقسم بالله وهو صادق, جاءه صديق مقيم في ألمانيا، علم بمقدمه، فجاء لزيارته، من مئة وثمانين كيلو مترا، بعد أن زاره قال له: أنا معي خمسة وعشرون ألف مارك زائدة عن حاجتي، خذها واستعملها، كأن ملَكا ألهمه، هذا معنى: (( احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )) هناك قصص كثيرة جدا، أنت واقع في أزمة، شخص ينقذك من مشكلة، من ورطة كبيرة، كيف وُجد في هذا الوقت الصعب؟ هذه معية الله لك، إذا كان الله معك فمن عليك, فلا تظن إذا خطبت ود الله عز وجل، خطبت وده بطاعته، خطبت وده بترك نواهيه، خطبت وده بخدمة خلقه، خطبت وده بنصح خلقه، خطبت وده بإكرام خلقه، خطبت وده بالتزام أمره، الله ودود، مثلما تخطب وده, لا بد من أن يشعرك بأنه يحبك، ومحبته لك, بأن يكون معك في كل أزمة، وأوضح شيء: ( فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) ببساطة: ( إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) إذا كان الرجل ضعيف الإيمان يقول: ماذا يفعل الله لك؟ المشككون أحيانا يقولون: هل سيمد الله لك من السماء قفةً؟ هذا كلام لا معنى، لما يكرم ربنا إنسانا, يخلق له من الضعف قوة، ومن العسر يسرا، ومن الضيق فرجا، هذا معنى: (( تَجِدْهُ تُجَاهَكَ )) سيدنا رسول الله قال له أبو بكر:

والله لو نظر أحدهم إلى موطئ قدمه لرآنا، قال: يا أبا بكر, ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟

نحن نريد مثل هذا الإيمان، تشعر أن الله معك، الله أقوى الأقوياء، تشعر أنه إذا كان الله معك, لا يستطيع مخلوق على وجه الأرض, أن ينال منك بسوء، إذا كان لرجل والد, له شان كبير جدا، لو فرضنا أن جنديا, دخل الخدمة الإلزامية, ووالده قائد الجيش، هل يرتعد خوفا من الرتب العالية؟ لا، والده هو الأصل، وهو يأمرهم جميعا، فتجد الطمأنينة .

فأنا أقول لكم: لا يجتمع خوف مع إيمان، أنت غال على الله، وأنت تطلب ود الله عز وجل، واللهُ لا يتخلى عنك، ولن يسلمك إلى عدوك، كثير من القصص, أتمنى أن أتذكر أبرزها.

قال أحدهم: ذهبت إلى مكان، المظنون ألاّ أخرج منه في سنوات، وأنا قاعد, والهم كاد يأكل قلبي، دخل شخص فقال له: أنت هنا؟ فقال: نعم، وهو يعرف من بيده الأمر، كان من الممكن أن يبقى أشهرا وسنوات، فبقي ساعات، إذا كان الله معك فمن عليك, تجد الله يدافع عنك، طبعا الله عز وجل لما يدافع عنك بأسباب أرضية، الله عز وجل يبعث شخصا في الوقت المناسب يجتمع بك، ويكون الشخص الذي تخافه صديقه، انتهت العملية، وذابت مثل الثلج، قبل قليل كان في همٍّ, لا يعلمه إلا الله، كان في همّ ساحق، جاء شخص لك عنده قيمة، ولك عند من تخشاه قيمة، توسط وأنهى الأمر، فأنت كن معه ولا تبالِ، لذلك قال صاحب هذا المقام:

إِذا كنت في كلِّ حال مَعي

فعن حمل زادي أنا في غِنى

فأنْتمْ هُمْ الحقّ لا غَيركُمْ

فَيالَيْتَ شِعْري أنا مَنْ أنا

أنت لا شيء, إذا ظننت أنك شيء، وأنت كل شيء, إذا ظننت أنك لا شيء، إذا افتقرت إلى الله، صدق القائل: 

ما لي سوى فقري اليك وسيلة       وبالافتقار اليك فقري أدفع

ما لي سوى قرعي لبابك حيلة       فلئن طردت فأي باب أقرع

دققوا في هذا الحديث:

(( أفضل الإيمان: أن يعلم العبد أن الله معه حيث كان ))

[ رواه أبو داود والطبراني في الأوسط والبيهقي ]

أعلى درجات الإيمان, أن تعلم أن الله معك حيث كنت ، والحديث الآخر 

(( عَنْ أَبِي ذَرٍّ, قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ, وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا, وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ))

[ أخرجه الترمذي في سننه ]

والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والدعاء:

اللهم اجعلني أخشاك حتى كأني أراك

أحد رجال الله, دخل البرية وحده, من طريق تبوك, فاستوحش، فهتف به هاتف: لمَ تستوحش؟ أليس حبيبك معك؟ .

قال:

يا موسى, أتحب أن أكون جليسك؟ قال: وكيف ذلك؟ قال: أما علمت أنني جليس من ذكرني، وحيثما التمسني عبدي وجدني

 قيل لبعضهم:

ألا تستوحش وحدك؟ قال: كيف أستوحش, وهو يقول: أنا جليس من ذكرني؟

وقيل لآخر:

نراك وحدك، قال: من يكن الله معه, كيف يكون وحده؟

وقيل لآخر:

أما معك مؤنس؟ قال: بلى، قيل: أين هو؟ قال: أمامي، ومعي، و خلفي، وعن يميني، وعن شمالي، وفوقي

والاستئناس بالناس من علامات الإفلاس .

الحقيقة: هذا الحديث مرة ثانية من أصول الدين، ليس هناك رجل إلا ويتمنى من أعماق أعماقه, أن يكون محفوظا في دنياه, وفي آخرته، في صحته, وفي أولاده, وفي أهله، وفي ماله، وفي دينه, من الشبهات المضلة، والشهوات المهلكة، ومن كل شيء مباح, يمكن أن يكون طريقا إلى محرم، السفر مباح، لكن السفر قد ينتهي بك إلى معصية، التجارة مباحة، ولكن قد تنتهي بك إلى الطغيان، فلذلك إذا كنت مع الله عز وجل, تولى الله حفظ دينك ودنياك، والدعاء الشهير:

(( اللهم نسألك العفو, والعافية, والمعافاة الدائمة في الدين, والدنيا, والآخرة ))

بقي علينا:

 

تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ .


الحقيقة: معرفة الله نوعان: 

1- معرفة عوام المؤمنين .

2- ومعرفة خواصه .

معرفة عوام المؤمنين؛ أن تعرف أن الله موجود، وأنه الحي القيوم، وأنه الخالق، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الصراط حق، والميزان حق، و....إلخ .

هذه الأشياء إذا عرفتها, ولم تكن في مستواها, فهذه معرفة ناقصة، أما معرفة خواص المؤمنين؛ أن تعرف الله حتى تميل إليه، وحتى تشتاق إليه، وحتى تكون في مصافّ الطائعين, المخلصين، المخبتين، القانتين، إذا كنت كذلك, هذه معرفة خاصة . (( تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ )) أي وأنت في بحبوحة .

الحقيقة: أن الإنسان لما تأتيه المصيبة, وتسوقه إلى الله عز وجل, هذا شيء طيب وجيد، ولكن الأكمل أن تكون في رخاء، جسمك صحيح، ليس فيه مشكلة، لا في القلب، ولا في الكليتين، ولا في الدماغ، ولا في العضلات، ولا في العظام، ولا في الغدد الصماء، ولا رمل في الصفراء، ليس فيها شيء أبدا، صحيح كامل، وفي مهنتك مستواك جيد، وأولادك بخير، وزوجتك بخير، وبيتك بخير، وكلكم بخير، وأنت في هذه البحبوحة, وهذا الرخاء, وهذا الأمن الذي تنعم به, تبحث عن الله، تتمنى رضاه، تركض إلى بابه، تمرغ وجهك عند أعتابه، أنت الآن تتعرف إليه في الرخاء، فإذا جاءت شدة عارمة، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) ﴾

[ سورة الحج ]

 أعرف أخا مقيما في لبنان، له معمل، ولبنان قبل 1975 فيه رخاء، كان بعضهم يقول: هي جنة الله في الأرض، أسعار رخيصة جدا، مواد متوافرة، جمال الطبيعة، كل شيء موجود هناك، فقال لي هذا الصديق: وأنا في وضع طبيعي جدا, شعرت بضيق لا يحتمل، هو في لبنان, وأبواب المعاصي مفتحة على مصاريعها، النوادي, والملاهي, وبؤر الفساد, والسواحل, والسباحة، هو من معمله إلى بيته، يخشى الله عز وجل، على مجلس علم، ضاقت نفسه، وسئم الحياة في هذا البلد الذي يتمناه أي إنسان، هذا الضيق اشتد عليه, إلا أن حمله إلى أن يأتي إلى الشام، وأن ينقل معمله إلى الشام، قبل أن تقع أحداث لبنان، وبعد شهرين أو ثلاث وقع ما وقع، وكل من بقي هناك, دمر ماله، ودمر معمله، وأصابه الخوف والرعب، وغير ذلك .

 قصص كثيرة جدا، رجل مقيم ببلد عربي نفطي، قبل الاجتياح بأيام, ذهب إلى الشام, وجد مكانا, يشتريه محلا أو بيتا, و حوّل أمواله قبل أن تنهار العملة التي كان في بلدها، تجد أن الله إذا كان معك، الله يعلم ما سيكون، فما دمت أنت في طاعته, فلك معاملة خاصة، ينجيك ويخلصك .

فإذا كان الشخص في الرخاء, مقيما على معصية الله عز وجل، في بحبوحة ورخاء، وهو غارق في المعاصي, تأتي الشدة فلا ينجو منها، (( تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ )) 

قال بعضهم:

مساكين أهل الدنيا، خرجوا منها, وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له: وما هو؟ قال: معرفة الله عز وجل

قال بعضهم:

أحب ألا أموت حتى أعرف مولاي، ليس معرفة الإقرار، بل معرفة الاستحياء

 المعرفة العامة معرفة الإقرار، المعرفة الخاصة معرفة الاستحياء .

وأيضا: (( تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ, يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ )) معرفة الله في الشدة: أن يكرمك، ويحفظك، وينصرك، ويؤيِّدك، هذه المعرفة الخاصة، إذا عرفته معرفةً خاصة؛ بأن استحييت منه، عرفك معرفةً خاصة؛ بأن حفظك، ونصرك، وأيدك.

 و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور