- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
تمهيد :
أيها الإخوة الكرام؛ عقد الإمام النووي رحمه الله تعالى في كتابه المبارك، كتاب رياض الصالحين, من كلام سيد المرسلين عليه أتم الصلاة والتسليم، عقد باباً سماه:
باب الأمر بأداء الأمانة، لأن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿
وجاءت كلمة (الأمانة) جمعاً، لأن هناك عشرات، بل مئات، بل آلاف الأمانات التي في أعناق كل مسلم.
فإذا أردنا أن نفصّل, فنفسه التي بين جنبيه أمانة في عنقه، فإما أن يزكيها، وإما أن يدسيها، وقد قال الله عز وجل:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
إن عرّفتها بربها، وحملتها على طاعته، ودفعتها إلى التقرب منه، فانعقدت صلاتها بالله عز وجل زكت، فإذا زكت سعدت في الدنيا والآخرة، فنفسك التي بين جنبيك أمانة في عنقك، وأشد أنواع الظلم أن تظلم نفسك، ظلم النفس أشد أنواع الظلم، إنك تظلم نفسك حينما تؤثر الدنيا على الآخرة، حينما تبيع آخرة بدنيا محدودة، حينما تبيع آجلاً بعاجل، حينما تبيع جنة عرضها السموات والأرض بدنيا كلها متاعب، حينما تبيع رضا الله عز وجل بشهوة طارئة، فنفسك التي بين جنبيك أمانة في عنقك:
قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)﴾
بالمناسبة: لم ترد كلمة (أفلح) في القرآن إلا في مواطن، منها:
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
قد يحترق محل إنسان، يخسر كل البضاعة، يخسر كل التزيينات، هذه خسارة ولا شك، والإنسان قد يفلس، قد يخسر كل رأس ماله، وعليه ديون، قد يخسر بعض أهله، يموت ابنه في حادث، لكن لو سألتني: ما أشد أنواع الخسارة؟ قال تعالى:
﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ
خسرت الآخرة، خسرت الجنة، خسرت الأبد، حصلت الدنيا، لذلك ورد بالأثر:
ألا يا رب نفس طاعمة, ناعمة في الدنيا, جائعة عارية يوم القيامة، ألا يا رب نفس جائعة, عارية في الدنيا, طاعمة ناعمة يوم القيامة، ألا يا رب مكرم نفس, وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه, وهو لها مكرم
ما هي أخطر أمانة كلف بها الإنسان؟.
إخواننا الكرام؛ أخطر شيء أمانة النفس.
نفسك التي بين جنبيك، قبل أن تفكر في أحد ، قبل أن تفكر في زوجتك، وأولادك، وجيرانك، وأمك, وأبيك، قبل أن تفكر في كل من حولك.
نفسك التي بين جنبيك، هل أديت أمانتها؟.
أمانتها: أن تعرفها بالله عز وجل.
الإنسان تجده في دوام محله ثماني ساعات، وأحياناً ليس هناك بيع، ولكنه ملتزم بالدوام، أحياناً السهرة عشر ساعات، ننام الثانية صباحاً، ويضن بدرس علم مدته ربع ساعة، يقول لك: ليس عندي وقت، وقت حرج.
هناك شيء مؤلم، لا أقوله إلا للتوضيح:
حضر درس علم، ولكنه يقوم في نصف الدرس، والدرس كله ربع ساعة، ضاقت عليك نفسك بخمس دقائق لله عز وجل، تجلس ساعات في كلام فارغ، ساعات تجلسها في المحل، لا بيع ولا شراء، وفي بيت من بيوت الله، والدرس ربع ساعة، أو ثلث ساعة، طبعاً لك ألاّ تحضر، لكن حضرت، تقف أمام الناس وتمشي، لها معنى غير لائق، كلام لم يعجبك، كلام الله عز وجل، كلام النبي، إذا لم يكن لك وقت تعرف فيه الله.
وهنا كلمة دقيقة: إذا جاء أحدهم من أمريكا معه (بورد)، اشترى عيادة بالدَّين، واشترى أجهزة بالدَّين، واختصاصه هضمية، ووضع لافتة وكتب عليها: الدوام من الخامسة إلى السابعة مساء، جاء أحدهم الساعة السادسة، قال له: واللهِ ليس عندي وقت، أنت معك شهادة، معك طب، وعندك عيادة، والوقت نظامي، وعليك ديون، وجاء في الوقت النظامي، لماذا لست متفرغاً له؟ أنت متفرغ لأي شيء.
فإذا قال الواحد: أنا ليس لي وقت أحضر مجلس علم، أو أقرأ القرآن، نقول له: وقتك لأي شيء.
أخطر شيء في حياتك:
أن تعرف سر وجودك، غاية وجودك، الهدف الكبير الذي خُلقت لأجله، إذا لم يكن لك وقت لهذه الأهداف الكبيرة, فوقتك لأي شيء.
قال لي أحدهم ببراءة: الحمد لله, الله أعطانا الصحة والمال، لا ينقصنا شيء، ولي أصدقاء نسهر سويا كل أسبوع، نلعب النرد تسلية، ببراءة، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( مَنْ لَعِبَ بالنرد شير ، فكأنمَّا صبَغَ يده في دم خنزير - وفي رواية - غمسَ يدَه في لحم خنزيز ودمه ))
محرم تحريماً قطعياً أن تلعب بالنرد، النصوص أمامك، النرد لعبة فارسية، معروفة على عهد النبي الكريم، فالوقت ثمين.
مر أحد العلماء أمام مقهى، وهو الشيخ بدر الدين الحسني -رحمه الله تعالى- قال:
المؤمن ليس معه دقيقة فراغ، هدفه كبير، الإنسان تعرف إلى الله، وسلك طريق الجنة، ليس عنده وقت يضيعه في اللغو إطلاقاً. قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)﴾
قال تعالى:
قال تعالى:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72)﴾
قال: يا رب أنا لها، حملها، فإذا أدى الأمانة سعد إلى أبد الآبدين، وكان فوق الملائكة المقربين، أما إن خان الأمانة كان في أسفل سافلين، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)﴾
شر: اسم تفضيل، أي شر ما برأ الله عز وجل، فالإنسان بين أن يكون خير البرية, أفضل من الملائكة المقربين، وبين أن يكون شر البرية.
آيَةُ الْمُنَافِقِ: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.
أيها الإخوة؛ في الحديث الصحيح المتفق عليه:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ, وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ, وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ))
ففي موضوع عدم أداء الأمانة:
مرض الغفلة عن الله عز وجل.
قال لي أخ: الدنيا تأخذنا.
إذا غفل الإنسان عن الله؛ أخطر مرض يصيبه مرض الغفلة عن الله.
إذا غفل عن الله: يمكن أن يمضي ساعات طويلة ممتعة في سهرات، في لقاءات، في نزهات، في عَشاء, في فنادق، في سهرات مع أصدقاء، في سهرات مختلطة، في أفلام، في أجهزة، محطات فضائية، رأينا في الجزيرة كذا، والمحطة الفلانية كذا، (أم بي س) كذا، ممكن أن تقضي وقتك كله في غفلة، لكن المشكلة التي لا تحتمل: عندما يأتي ملك الموت، ماذا أعددت لهذه الساعة؟.
قال تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً
يجيب الكفار:
﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
فلذلك:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)﴾
كل إنسان حبيس عمله، إذا ارتكب الإنسان جريمة لم يعد حراً، خسر حريته، وصار في السجن، قال تعالى:
أيها الإخوة؛ قال تعالى:
لو راقبت إنساناً لا تجد أنه يعمل للآخرة أبداً، كل همه الدنيا، استقامته ضعيفة جداً، كسبه للمال فيه شبهات، وإنفاقه للمال فيه شبهات، بيته غير منضبط، بناته غير منضبطات، فالذي يقول: أنا مؤمن بالآخرة يعمل لها، فهذا دعوى، كالطبيب مثلاً حكّم، وكتب وصفة، أنت لا تصدق علمه، واعتبره جاهلاً، وهو معه اختصاص، قد تكون ذكياً، فتثني عليه ثناء طيباً، وتمدحه، جزاك الله خيراً يا طبيب، أكرمتنا، وتعطيه أجرته، لكن عدم شراء الوصفة: دليل على أنك لم تصدقه.
أنا لا أريد اللسان، أريد الواقع، حينما لم تشتر الدواء الذي وصفه لك هذا الطبيب, فأنت كذبته تكذيباً عملياً، فإذا لم يعمل الإنسان العمل الصالح, معنى ذلك: أن الآخرة لم يدخلها في حسابه، فهو مكذب، فما كل تكذيب بالقول، التكذيب بالعمل، وهو أخطر بكثير، كم من إنسان يصف لك أكلة معينة، أو يقول: ائت بورق الصبارة واغلِها؟ تقول: شكراً سأفعل، ولكنك لا تفعلها، لأنك لست مقتنعاً بها، فالمحك هو الفعل، وليس الكلام، إذا لم تكن مقتنعا فلن تفعلها، فكل إنسان يرتكب الحرام، ويعتدي على أموال الآخرين, فلم يدخل الآخرة في حسابه إطلاقاً، مع أنه إنسان عادي جداً جداً، ولكن ينتمي إلى جهة معينة، قال لك: تعال يوم الخميس الساعة الواحدة، تكون هناك الواحدة بالضبط، وثلاثة أيام لا تنام الليل، لأنك تعرف معنى هذا الاستدعاء، عليك مشكلة، فإذا آمنت بالله الإيمان الذي يليق به، وأعطاك نهياً وأمراً تنفذه فوراً.
الخلاصة:
إخواننا الكرام؛ أخطر شيء: أمانة النفس، نفسك التي بين جنبيك. قال تعالى:
وضع عندك أحدهم خمسة آلاف ليرة، بعد سنة قال لك: أعطني إياها، فأعطيته، هذا معنى ضيق وصغير جداً من معاني الأمانة، نفسك أمانة، أنت علمك الله شيئا، وفي الحديث:
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو, أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً ))
العلم الذي تحمله أمانة في عنقك، ينبغي أن تؤديه لأصحابه، الله جعلك غنياً، المال الذي عندك أمانة في رقبتك، يجب أن تنفقه في حقه، يجب أن تعطيه للفقير والمسكين، أعطاك علماً، أعطاك جاهاً، كل واحد مظلوم هو رقبة في رقبتك، ما دمت قادراً على أن تنصفه فيجب أن تنصفه، معنى الأمانة واسع جداً، الدليل: أن الله قال:
ابْدَأْ بِنَفْسِك فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْك إذَا فَعَلْت عَظِيمُ
و الحمد لله رب العالمين