- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠09برنامج موسوعة الأخلاق الإسلامية - قناة إقرأ
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أيها الأخوة المستمعون ، والأخوات المستمعات ، يسرنا أن نلتقي بكم في حلقة جديدة من برنامجكم : "موسوعة الأخلاق الإسلامية" ، لنكون في ضيافة أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، فأهلاً وسهلاً بكم أستاذنا الكريم .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ أحمد جزاك الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
سيدي الكريم حبذا لو نتطرق اليوم إلى خلق جديد ؛ ألا وهو خلق الإخلاص ، فالله عز وجل حينما حدثنا في سورة النساء عن المنافقين ، وأنهم في الدرك الأسفل من النار استثنى بعد ذلك منهم فقال :
﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ ﴾
فيكف يكون الإخلاص ، وما هو الإخلاص أصلاً ؟ .
العبادة علة وجود الإنسان في الأرض :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ أحمد ، بادئ ذي بدء علة وجود الإنسان في الأرض العبادة ، لقوله تعالى :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
والعبادة في أدق تعاريفها : طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، ولكن هذه العبادة بتفاصيلها تتجه إلى جارحةٍ جارحة ، فعبادة العين غضّ البصر عن ما لا يحل ، عبادة الأذن عدم سماع الباطل والغناء ، عبادة اللسان أن ينطق بالحق ولا يكذب ، عبادة اليد ألا يبطش بها ، عبادة الرجل ألا تقوده إلى منكر .
والسؤال الآن : ما عبادة القلب ؟ القلب له عبادة ، إن عبادة القلب الإخلاص فالإخلاص عبادة القلب ، أي ألا تطلب لعملك شاهداً إلا الله ، أن تكتفي أن الله يعلم ، أما إذا أردت أن تذكر هذا العمل للناس كي تنتزع إعجابهم ، كي يسمعوك ثناءهم ، كي تعلو عندهم، هذا يضع مشكلة أمام الإخلاص ، ألا تحتاج إلى شاهد على عملك إلا الله ، وأن تصفي السر والعلانية ، والقول والعمل .
تعريف الإخلاص :
الإخلاص له تعريفات كثيرة ، العبرة أنك تبتغي بهذا العمل وجه الله ، أن تبتغي به إرضاء الله عز وجل ، إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي .
الإخلاص له تفاصيل ، وله تعاريف ، ولكن حينما تريد لعملك شاهداً غير الله معنى ذلك أنت تتوجه بعملك إلى غير الله ، تسعى أن ترضي غير الله ، تسعى أن يكون لك مكانة عند غير الله ، تسعى أن تأخذ ثناء من غير الله ، ما دام العمل متوجهاً لغير الله ففي إخلاصه شك .
الإخلاص أن تتوجه إلى الله ، أن يكون سرك كعلانيتك ، الإخلاص أن تزهد في مديح الناس ، الإخلاص عبادة القلب ، هذه الحقيقة الأولى .
الأستاذ أحمد :
أما ما أريد الآن الحديث عنه والاستماع إلى جوابه أن الإخلاص ما سببه ؟.
سبب الإخلاص :
الدكتور راتب :
الحقيقة جزاك الله خيراً على هذا السؤال ، هذا أخطر سؤال في هذا اللقاء ، أنت متى تخلص ؟ إذا كان توحيدك جيداً ، أنت حينما توقن أن المعطي هو الله ، إذاً لا تسأل غير الله ، وأن المانع هو الله ، إذاً لا تخاف إلا الله ، وأن الرازق هو الله إذاً لا تعصي الله من أجل الرزق ، أنت حينما توقن أن الله هو المعطي ، وهو المانع ، وهو المعز ، وهو المذل ، وهو الرافع ، وهو الخافض ، إذا اعتقدت أن الأمر كله بيد الله ، أمر كل حياتك ، أمر كل من حولك ، كل من فوقك ، كل من دونك ، أمر صحتك ، أمر أهلك ، أمر أولادك ، حينما ترى أن الله بيده كل شيء ، تتوحد وجهتك ، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها ، أنت حينما تخلص تتمثل هذه الآية :
﴿ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾
أنك إذا عبدت الله تأتيك الخيرات ، إذاً عليك أن تشكر ، أنت حينما تخلص تقرأ قوله تعالى :
﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ﴾
أنت حينما تخلص تقوى شخصيتك ، الإخلاص يحتاج إلى توحيد .
مرة ثانية : دخلت إلى بناء من أربعة طوابق ، هذا البناء إدارة الهجرة والجوازات ، وأنت تريد أن تسافر إلى بلد معين ، وقد أنبئت يقيناً أن تأشيرة الخروج لهذا البلد بيد المدير العام وحده ، و يوجد بالبناء خمسمئة موظف ، هل يمكن أن تبذل ماء وجهك لشرطي ؟ لموظف ؟ لمعاون المدير ؟ أبداً ، الأمر في هذا الموضوع بيد المدير العام .
من تفوق في توحيده تفوق في إخلاصه :
أنت حينما توقن أن كل أمورك بيد الله ، وأن كل سلامتك بيد الله ، وأن كل سعادتك بيد الله ، وأن التوفيق في زواجك بيد الله ، وأن أولادك بيد الله ، وأن صحتك بيد الله وأن الله يطلب منك الاستقامة ، فأنت حينما تعتقد أنه لا إله إلا الله ، لا مسير ، لا مربي ، لا معطي ، لا مانع ، أنت حينما لا ترى مع الله أحداً ، أنت حينما ترى أنه :
﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾
عندئذٍ تعبده مخلصاً ، أنت حينما توقن أنه :
﴿ فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ﴾
الذي يجري في الأرض من حوادث ، من حروب ، من أزمات ، من زلازل ، من براكين ، من مجاعات ، أنت حينما توقن أن هذا الذي وقعَ وقع بعلم الله ، وأن كل شيء وقع أراده الله ، وأن كل شيء أراده الله وقع ، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة ، وحكمته المطلقة متعلقة بالخير المطلق ، أنت حينما تتفوق في توحيدك تتفوق في إخلاصك .
التوحيد أحد أكبر أسباب الإخلاص :
إذا صحّ أن للإخلاص مؤشراً وللتوحيد مؤشراً ، المؤشران يتحركان معاً ، بقدر ما أنت موحد بقدر ما أنت مخلص ، بقدر ما يوجد في كيان الإنسان من شرك خفي فيه عدم إخلاص ، فالإخلاص سببه التوحيد ، أما التوحيد فهو محصلة الإيمان كله ، أي التوحيد ليست كلمة تقولها ، ولا فكرة تفهمها ، إنه متغلغل في أعماقِ أعماق الإنسان ، متغلغل في أعماق الإنسان أن الله هو كل شيء ، وأن بيده كل شيء .
﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾
التوحيد أحد أكبر أسباب الإخلاص ، لا ترى مع الله أحداً ، لا ترجو غير الله ، لا تعقد الأمل على غير الله ، لا تتوكل على غير الله ، لا تخاف غير الله ، لا ترجو غير الله ، لا تصبو إلى غير الله ، هذا هو التوحيد .
بل إن هذا الإنسان الذي عرف الله يسمى بمصطلح آخر الإنسان الرباني ، هناك إنسان رباني ، هناك إنسان شهواني ، هناك إنسان شيطاني ، فالرباني هدفه و مقصده الله عز وجل ، وتطبيق أمره ، والدنيا في خدمة هدفه ، فالإخلاص شيء يرفع الإنسان إلى أعلى عليين ، الإخلاص يجعلك في مرتبة عند الله كبيرة ، الإخلاص يجعلك تعلو في عين الله .
الأستاذ أحمد :
إذاً لو أردنا أن نرتقي في الإخلاص لا بدّ من أن نصحح التوحيد من الشرك الظاهر والشرك الخفي ، جزاك الله خيراً .
قبل قليل ذكرنا أمر الله عز وجل بالإخلاص في المنافقين ، وكيف استثنى منهم الذين يخلصون بعد ذلك ، لكن ما هو توجيه رب العالمين للمؤمنين بشأن الإخلاص ؟.
توجيه رب العالمين للمؤمنين بشأن الإخلاص :
الدكتور راتب :
يقول الله عز وجل :
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ﴾
أستاذ أحمد ، أحياناً ينهانا النبي عن أن نبغض ، مع أن البغضاء شعور ، إحساس ليس إرادياً ، فإذا كان النهي أو الأمر عن حالة نفسية لا نملكها ماذا تعتني الآية إذاً ؟ الآية
﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ﴾
إذا كان التوجيه لحالة نفسية ، أو لشعور لا أملك له جلباً ، ولا دفعاً ، فماذا يعني هذا الأمر ؟ أن آخذ بأسبابه ، أنا حينما أُنهى عن الغضب ، يجب أن آخذ بأسباب ترك الغضب ، فالأشياء التي لا أملكها الأمر ينصب على أسبابها ، فالإخلاص حالة نفسية .
مثلاً : إنسان صلى وراء الإمام صلاة الفجر أربعين عاماً ، وأدرك تكبيرة الإحرام ، مرة غفل عن صلاة الفجر ، فصاح مذعوراً وقال : ماذا يقول الناس عني ؟ إذاً هو يتوجه إلى أن يكون عالياً عند الناس بهذه الصلاة .
الأستاذ أحمد :
إذاً كل عمله خلال هذه السنوات كلها كان من أجل رضا الناس عنه .
قيمة العمل الصالح تتحدد بنيته :
الدكتور راتب :
فالإنسان مشاعره أثناء أداء العمل لا يتحكم بها ، أي قد يعمل عملاً ويعلن أنه لله، لكن دون أن يشعر يظهر من فلتات لسانه ، ومن تصرفاته ، أنه يبتغي به إرضاء الناس ، لكن أحياناً قال عليه الصلاة والسلام :
(( إِنما الأعمال بالنيات ))
قيمة العمل الصالح تتحدد قطعاً بنيته ، أضرب مثلاً :
الأراضي في أكثر البلاد إما أن تكون مشاعاً ، أو أنها قُسمت إلى محاضر ، وإلى مقاسم ، فجاء إنسان لأحد كبار الإقطاعيين الذين يملكون أراض بآلاف الدنمات ، همس في أذنه : أرضك على المشاع ، إن أردت أن يرتفع سعرها قدم مساحة لبناء مسجد ، فتضطر البلدية أن تقسمها إلى مقاسم ، وبهذه الطريقة يرتفع ثمنها ، هو أراد أن يضاعف سعر أرضه أو أن يرفع سعرها ، فقدم هذه الأرض لبناء مسجد ، لو أن ألف إنسان سمع هذا الخبر لامتلأ إعجاباً بهذا الإنسان ، لكن الحقيقة أن هذا الإنسان لا تعنيه الصلاة لا من قريب ولا من بعيد ، بل هو لا يصلي أصلاً ، فهذا العمل مع أن ظاهره رائع ، لكن حقيقته ساقطة .
والذي ذكرته من قبل في مناسبات كثيرة : أن امرأة أحبها رجل من مكة ، فاشترطت لقبول زواجها منه أن يهاجر إلى المدينة ، فهاجر ، سماه الناس مهاجر أم قيس لأنه أراد بهذه الهجرة امرأة يتزوجها .
(( إِنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى . فمن كانت هجرته إِلى الله ورسوله ، فهجرته إِلى الله ورسوله . ومن كانت هجرته إِلى دنيا يُصِيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إِلى ما هاجر إِليه ))
أستاذ أحمد ، أحياناً يستخدم الدين للدنيا ، فلذلك مثل هؤلاء تنطبق عليهم الآية الكريمة :
﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾
فالإخلاص من أهم ما في الدين ، بل لي رأي : أنه الدين كله ، لماذا ؟ لأنك إن قمت بالعبادات من دون إخلاص لا قيمة لها ، إذاً الإخلاص إذا انعدم انعدم ثواب العبادات كلها ، إذاً الإخلاص هو الدين .
الأستاذ أحمد :
حتى إنني عندما كنت أقلب الأوراق في كتب علماء التربية والأخلاق والسلوك وجدت أنهم يصدرون هذا الباب ـ باب الإخلاص ـ قبل الحديث عن أي باب من الأبواب الأخرى من أبواب العبادات ، لأهميته ، ولأن كل ما يتبعه متعلق به ، ولكن هل في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحضنا أيضاً على الإخلاص ، أو يمكننا أن نتمثله واقعاً ؟.
العمل الصالح مقيد بقبول الله له :
الدكتور راتب :
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لا يقْبَلُ منَ العْمَلِ إلاَّ ما كان له خالصا ، وَابتُغِيَ به وجْهُهُ ))
ولعل الآية الكريمة :
﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾
بالمناسبة : الصفة قيد ،
﴿ َأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً ﴾
مطلقة ، لكن
﴿ تَرْضَاهُ ﴾
العمل الصالح مقيد بقبول الله له ، من هنا قال الفُضيل رحمه الله : "إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً وصواباً ، خالصاً ما ابتغي به وجه الله ، وصواباً ما وافق السنة ".
الأستاذ أحمد :
وكذلك رأيت الفُضيل يقول : " ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك الله منهما ، من الرياء ومن الشرك ".
الدكتور راتب :
أحياناً الشيطان يأتي على الإنسان بشبهة أنك إذا صليت الآن صلاة نافلة أمام الناس لعلك تريد بهذا أن تنتزع إعجابهم ، دعك من الصلاة ، فكلما نهاك الشيطان عن عمل صالح خوف أن يظن الناس أنك ترائي ، هذا ترك العمل أيضاً مراءاة ، وحينما تقوم بعمل تبتغي غير الله هو شرك ، فالإخلاص أن تكون بعيداً عن كل أنواع الرياء ، وعن كل أنواع الشرك .
الأستاذ أحمد :
ذكرتني عندما ذكرت قول هؤلاء الأئمة ، فالإمام الجنيد له قول يقول فيه : " الإخلاص سرّ بين الله وبين العبد لا يعلمه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، ولا هوىً فيميله" عبارات جميلة لكنها تحتاج إلى شرح .
سرّ نجاح الإنسان وتوفيقه وقبول عمله هو الإخلاص :
الدكتور راتب :
الحقيقة الذي بينك وبين الله وحده هو الإخلاص ، الصلاة بينك وبين الله ، وبينك وبين العباد ، أنت حينما تقوم لتصلي رآك الناس صليت ، إذاً هناك مكاسب من هذه الصلاة ، معظم الأعمال والعبادات تقوم بها أمام الناس ، أما الشيء الذي بينك وبين الله وحده ، ولا أحد يطلع عليه حتى ولا الملك ، هذا هو الإخلاص ، معنى هذا أن سرّ نجاح الإنسان ، وتوفيقه ، وسرّ قبول عمله هو الإخلاص .
بل إن العلماء وقعوا في حيرة من حديث ، أن امرأة بغياً رأت كلباً يأكل الثرى من العطش ، فسقته فغفر الله لها ، أيعقل أن امرأة بغياً ، من أجل سقيا كلب يغفر الله لها ؟ ! تحليل العلماء : أنها كانت في الصحراء ، ولا أحد يراها ، ولا تبتغي إرضاء إنسان إطلاقاً أو الدعاية لها ، هذا العمل يكاد يكون إخلاصه تاماً .
لذلك العمل بإخلاصه ، بالمناسبة : مع الإخلاص ينفعك كثير العمل وقليله ، بينما من دون إخلاص لا ينفعك لا كثيره ، ولا قليله ، بل إن الموازنة بين عمل صغير مع الإخلاص أفضل ألف مرة من عمل بلا إخلاص ، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه :
(( يؤتى برجال يوم القيامة ، لهم أعمال كجبال تهامة يجعلها الله هباءاً منثوراً قيل : يا رسول الله جلهم لنا ؟ فقال : إنهم يصلون كما تصلون ، ويأخذون من الليل كما تأخذون ، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))
الأستاذ أحمد :
إذاً العمل كان من صلاة وقيام لأجل الناس .
الإخلاص هو السّر بين الإنسان و ربه :
الدكتور راتب :
الآن :
(( ركعتان من ورع ـ مخلص ـ خير من ألف ركعة من مخلط ))
(( من لم يكن له ورع يحجزه عن معصية اللّه إذا خلا بها لم يعبأ اللّه بسائر عمله شيئاً ))
فالإخلاص هو الأساس في الدين ، بل هو الدين كله ، بل هو عبادة القلب ، بل هو السر الذي بينك وبين الله .
الأستاذ أحمد :
وما هي المحصلة المرجوة من الإخلاص إن تمت ؟ .
مؤشرات الإخلاص :
الدكتور راتب :
قبل المحصلة هناك نقطة دقيقة جداً : أنا كيف أقنع نفسي أنني مخلص ؟ سؤال دقيق ، هل هناك أدلة ، هل هناك مؤشرات في الإخلاص ؟ العلماء اجتهدوا ، بعضهم قال : من مؤشرات الإخلاص أن العمل يستوي في سرك أو في جهرك ، في خلوتك أو في جلوتك، في بيتك أو أمام الناس ، إذا استوى العمل في سرك أو في جهرك ، في خلوتك أو في جلوتك، في بيتك أو أمام الناس فهذا أحد مؤشرات الإخلاص .
هناك مؤشر ثان : أنك عملت عملاً صالحاً ، إذا كان هذا العمل يزداد بالمديح ويقل بالذم هنالك إشكالية في الإخلاص ، أما إذا لم يتأثر العمل لا بمديح الناس ، ولا بثنائهم ، ولا بذمهم وانتقادهم ، هذا مؤشر آخر أنه الإخلاص .
لكن المؤشر الثالث مهم جداً : الناس يتداولون كلمة ثواب ، والثواب مصدر من فعل ثاب ، وثاب إلى رشده أي رجع إلى رشده ، أنا أتصور ـ وأرجو أن أكون مصيباً ـ أن الإنسان حينما يرفع عملاً خالصاً لله هذا العمل يُرفع إلى الله مكسواً بالإخلاص ، لابسه الإخلاص ، الله عز وجل يكافئ العبد على إخلاصه بمكافأة لا تقدر بثمن ، في الدنيا قبل الآخرة ، يعيد عليه سكينة تملأ قلبه سعادة ، هذه السكينة يسعد بها ولو فقد كل شيء ، ويشقى بقدها ولو ملك كل شيء .
من أدق الملاحظات : أن إنساناً يجلس في غرفة قميئة ، لكنه مخلص ومتصل بالله هو أسعد الناس ، وقد يجلس ببيت بمئة مليون ، فيه كل وسائل الراحة لكنه منقطع عن الله ، فهذا البيت يبدو جحيماً .
فهذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء ، هذه السكينة وجدها النبي الكريم في غار ثور ، وهو ملاحق ، ومهدور الدم ، وجدها يونس في بطن الحوت ، وجدها إبراهيم في النار ، وقد يفقد المؤمن أحياناً حريته ، يجدها بين أربعة جدران .
الأستاذ أحمد :
ولذلك قالوا : العبد حر ولو كبل بالقيود ، والحر عبد ولو خفقت له البنود .
الإخلاص يرفع عمل الإنسان إلى الله والله يكافئه بالسكينة :
الدكتور راتب :
شيء آخر : بعض العلماء يقول : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري إخلاصه جعل صدره بستاناً ، إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة مع الله، وإن قتلوني فقتلي شهادة .
الإخلاص يجعل المؤمن في جنة ، لذلك يقول بعض العلماء : "في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة "، الله عز وجل يؤكد هذا المعنى فيقول :
﴿ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ﴾
ذاقوا طعمها في الدنيا ، الإخلاص يرفع عملك إلى الله ، والله عز وجل يكافئك قبل يوم الحساب بمكافأة لا تقدر بثمن بما يسمى بالسكينة ، تتنزل على قبلك السكينة فتسعد بها ولو فقدت كل شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء .
الأستاذ أحمد :
المؤمن يقوم ببعض العبادات ، والمنافق ربما أيضاً يقوم بما يظنه الناس أنه عبادة لكنه غير مخلص ، ما الرابط بين هذا وذاك ؟.
عبادات المنافق سيئات و عادات المؤمن عبادات :
الدكتور راتب :
أستاذ أحمد ، الشيء الرائع جداً أن المؤمن عباداته طاعات وقربات ، شيء مفروغ منه ، أما أعماله ، حرفته ، كسب رزقه ، زواجه ، عنايته بهندامه ، أخذ أهله إلى نزهة ، هذه أشياء عادية يفعلها كل الناس ، كل الناس يأكلون ، ويشربون ، ويتزوجون ، ويشترون البيوت ، ويؤسسونها ، ويعملون ، ويتنزهون أحياناً ، ويسمرون ، المؤمن لأنه عرف الله وأخلص له تنقلب عاداته إلى عبادات ، بينما المنافق يصلي من أجل أن يبتز أموال الناس ، من أجل أن يثقوا به ، لذلك عبادات المنافق سيئات ، بينما عادات المؤمن عبادات .
أما كتنويه دقيق : حرفة المؤمن ، مهنته ، وسيلة كسب رزقه ، إذا كانت في الأصل مشروعة ، تجارة مشروعة ، وظيفة مشروعة ، تعليم ، حرفة المؤمن إذا كانت في الأصل مشروعة ، وسلك بها الطرق المشروعة ، وابتغى بها كفاية نفسه ، وكفاية أهله ، وخدمة المسلمين ، ولم تشغله عن واجب ، ولا عن فرض ، ولا عن عمل صالح ، ولا عن طلب علم ، انقلبت حرفته إلى عبادة ، شيء رائع جداً ، وأنت في عملك في عبادة ، وأنت في مكتبك في عبادة ، وأنت في حقلك في عبادة ، وأنت في عيادتك في عبادة ، المؤمن عاداته عبادات ، والمنافق عباداته سيئات .
خاتمة و توديع :
الأستاذ أحمد :
وإن من الحكم الرائعة أن الأعمال صور قائمة ، أرواحها سر الإخلاص فيها ، لذلك نسأل الله عز وجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل .
وإلى أن نلتقي بكم أيها الأخوة المشاهدون والأخوات المشاهدات في حلقة أخرى من برنامجكم موسوعة الأخلاق الإسلامية ، نشكر فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي على ما تفضل به وأجاد في هذه الحلقة .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته