- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠09برنامج موسوعة الأخلاق الإسلامية - قناة إقرأ
الأستاذ أحمد :
وترحيب :
نرحب بكم في هذه حلقة جديدة من برنامجكم موسوعة الأخلاق الإسلامية ، نسير في هذه الحلقة ، ونمعن النظر في خُلق جديد من الأخلاق مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته أستاذنا الكريم .
الدكتور راتب :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركته أستاذ أحمد .
الأستاذ أحمد :
سيدي الكريم نتمنى اليوم أن نقف أمامكم مع خُلق جديد ، ألا وهو الرفق ، فهل الرفق هو اللين ؟
الدكتور راتب :
خُلقُ الرفقِ :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
1 ـ الرفقُ أساسه رحمة مشتقة من الاتصال بالله :
أستاذ أحمد ، الإنسان عقل يدرك ، ونفس تنطوي بين جنبيه ، وجسم يتحرك ، النفس لها خصائص ، فبقدر اتصالها بالله تشتق منه الكمال ، فأي إنسان له صلة بالله يشتق منه الرحمة ، واللطف ، والإنصاف ، فالرفق انعكاس رحمة في القلب ، الرحمة في القلب تنعكس ليناً ورفقاً ، فخلق الرفق خاص بالمؤمنين ، أما المنقطعين عن الله عز وجل فهم قساة في أقوالهم وفي ألفعالهم ، إلا من كان ذكياً منهم فيتلبس بلبوس الرفق ليحقق مصالحه ، وهذا موضوع دقيق جداً ، فالذكي قد يصل في بعض تصرفاته إلى ما يشابه الفقيه ، لكن الباعث هو الدنيا ، الباعث هو انتزاع إعجاب الآخرين ، بينما المؤمن حينما تنعقد صلته بالله عز وجل يشتق منه الكمال .
لذلك الصلاة أهم شيء في الدين ، من ترك الصلاة فقد ترك أعظم أركان الدين ، وهو الصلاة .
إذاً : الرفق خُلق أساسه رحمة في القلب ، والرحمة التي في القلب أساسها اتصال بالرحيم .
(( إِنَّ اللهَ عز وجلَ رَفيق يحِبُّ الرِّفق ))
رحمة الله عز وجل أيضاً يمكن أن يشتق منها الإنسان جزءًا كبيرا من أخلاقه .
2 ـ الرفقُ لين في الأقوال والأفعال والأحوال والمعاملات :
الرفق هو اللين في المعاملة ، اللين في القول ، اللين في الفعل ، أن تكون مألوفاً أن تألف وتؤلف ، هذا كله من مظاهر الرفق في الإنسان .
لذلك الرفيق لين في معاملته ، لين في أقواله ، بل إنه يأخذ بالأسهل ، ما لم يكن الأسهل حراماً ، وما خُيِّر النبي بين شيئين إلا اختار أسهلهما ، إلا أن يكون حراماً .
من هو الرفيق ؟ هو الذي ينطوي على قلب رحيم ، هذه الرحمة انعكست رفقاً ، وليناً ، في الأقوال والأفعال ، وفي التصرفات ، بل وفي الأحكام ، الرفيق يرحم مَن حوله ، فلا يفتيهم إلا بالأيسر ، ما لم يكن هناك شبهة ، والرفيق الذي هو يرحم الناس ، فلا يأخذهم بالعزائم ، ويأخذ نفسه بالرخص .
كلمة رفيق تعني إنسانا موصول بالله ، اشتق من رحمة الله عز وجل هذا اللين في أقواله ، وفي أفعاله ، فهو يألف ويؤلف ، يحبه كل من حوله ، مَن رآه بديهة هابه ، ومَن عامله أحبه ، هذا هو الرفيق بمنعكس إيماني ، الأصل هو الإيمان ، هذا الإيمان من مظاهره أن المؤمن رفيق بمَن حوله .
الأستاذ أحمد :
أستاذنا الكريم ، هذا تعريف الرفق ، لكن هذا الخُلق ، ونحن نتحدث عنه لا بد أن الباعث إليه إرشاد شرعي ، فأي هي توجيهات الله عز وجل لنا في الرفق ؟
الدكتور راتب :
الدليل القرآني على خُلق الرفق :
بارك الله بك ، الآية التي هي أصل في الرفق .
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
هذه الباء باء السبب ، يعني بسبب رحمة استقرت في قلبك يا محمد من خلال اتصالك بنا كنتَ ليَّنا .
مستحيل أن تتصل بالرحيم وتكون قاسياً ، مستحيل أن تتصل بالحكيم وتكون غير حكيم ، مستحيل أن تتصل باللطيف وتكون غير لطيف .
إن مِن ثمار الصلاة الأولى أن الإنسان باتصاله بالله يشتق منه الكمال ، فلا ترى إنساناً مصلياً يتمتع إلا بالأخلاق الكريمة ، لأن الأخلاق الكريمة نتيجة وثمرة يانعة من ثمرات اتصال العبد بربه ، لكن لا بد من التحكم قليلاً :
أداء الشعائر مع الانقطاع عن الله لا ينفع الإنسانَ :
هناك من يقف في الصلاة ويكبّر تكبيرة الإحرام ، ويقرأ الدعاء ، والفاتحة ، وسورة ، ويركع ويسجد ، وفق القواعد الشرعية ، وأحكام الصلاة ، لكن لأن له مخالفات كثيرة في الحياة ، في دخله شبهةٌ ، في علاقاته الاجتماعية شبهة ، في أقوله شبهة ، في أفعاله شبهة ، هو مقطوع عن الله ، مقطوع عنه نفسياً ، لكنه يؤدي الصلوات الخمس .
لذلك هذه نقطة دقيقة جداً ، النبي الكريم حينما سأل أصحابه :
(( أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ ، فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))
لا بد من أن أفرق بين المتصل بالله ومن يؤدي حركات الصلاة ، ويؤدي أقوالها وأفعالها ، حتى إن بعضهم قال : " سقط الوجوب ، وإن لم يحصل المطلوب " ، المطلوب لم يحصل ، إن الصلاة عندئذٍ لا تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ما دام هناك اتصال بالله حقيقي فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر نهيا ذاتيا ، لأنه اشتق من الله الكمال ، اشتق من الله العدل ، اشتق من الله الرحمة ، اشتق من الله اللطف ، اشتق من الله الحكمة ، فمن هو الرفيق ؟ هو الإنسان المتصل بالله عز وجل .
لئلا يختلط الأمر في أذهان الإخوة المشاهدين ، هناك اتصال بالله أساسه الاستقامة ، وهناك أداء لحركات الصلاة ، فلذلك المصلي إن لم يكن مستقيماً قبل الصلاة فلن يستطيع أن يقطف من الصلاة ثمارها .
إن الرفيق إنسان متصل بالله ، هذا الاتصال جعل قلبه يمتلئ رحمة ، هذه الرحمة انعكست ليناً ،
﴿ فَبِمَا ﴾
لباء للسبب ،
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
الرحمة شيء داخلي لها منعكس خارجي :
إن هذه الرحمة شيء داخلي لها منعكس خارجي ، كيف أن الإنسان قد يحب ، والحب شعوب داخلي في القلب ، ينعكس مودة ، وابتسامة ، وهدية ، واعتذارا ، ومداعبة أحياناً ، فالرحمة في القلب تنعكس لينا ، والحب في القلب ينعكس مودة .
إذاً :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
لينك ، ورفقك يا محمد صلى الله عليه وسلم كان بسبب رحمة من الله ، فلما كنت ليناً في معاملتك معهم أحبوك ، فلما أحبوك التفوا حولك ، فصار هناك اتصال ، ورحمة ، ولين ، والتفاف ، وهذه معادَلة .
الرحمة شُقت من خلال هذا الاتصال ، والرحمة مشاعر داخلية ، تترجم إلى لين في العلاقات ، اللين يسبب محبة الناس ، إذاً : التفُّوا حوله .
الأستاذ أحمد :
كأنك تشير أستاذي إلى أن هذه الأمور النفسية التي تنطبع في القلب من الله عز وجل ، الصلة معه تنتج عملاً بالجوارح والأركان ، رسول الله صلوات الله وسلامه عليه كان من أكثر الناس صلة ووجداناً ، وشعوراً ، ونفساً بالله عز وجل ، وانطبع في ذلك على تصرفاته ، فلو أننا فتحنا كتب الشمائل والسير لوجدنا فصولاً وأبواباً كثيرة ، هذه تعد واحدة يقال لها فصل في تواضعه صلوات الله عليه ، في حلمه ، في كظمه الغيظ ، فما أمثلة ذلك من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ؟.
الدكتور راتب :
نتابع الآية :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾
وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
الآن :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
أي لو كنت منقطعاً عنا لامتلأ القلب قسوة ، ولانعكست القسوة غلظة وفظاظة ، وإذاً لانفض الناس مِن حولك ، هذه معادلة أخرى ، نحن أمام معادلتين الأولى : اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، والثانية : انقطاع ، قسوة ، غلظة ، وفظاظة ، وانفضاض ، وهذا قانون ، والبطولة أن تكتشف السنن الثابتة في القرآن الكريم .
وقد نجمع في القرآن الكريم عددا كبيرا جداً من القوانين ، وهذه القوانين علاقات ثابتة ، فمن هو الذكي ؟ من هو العاقل ؟ من هو الموفق ؟ هو الذي يكتشف هذه القوانين ، وقدم الأسباب ، فقطف الثمار .
إذاً : الدين معادلات ، هناك من يفهم الدين فهماً ضبابياً ، فهماً عشوائياً ، فهماً غير واضح ، وحينما تتصل بالله الاتصال الحقيقي فلابد من أن تكون رحيماً ، لا بد من أن تكون منصفاً ، لا بد من أن تكون حكيماً ، لأن هذا شأن العبد حينما يتصل بالمطلق ، بخالق السماوات والأرض ، بالذات الكاملة ، بصاحب الأسماء الحسنى والصفات الفضلى .
إذاً : هذه الآية تعد أصلاً في خلق الرفق :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
هذه لكم معشرَ الدعاة :
لكن لا بد من تعليق : أنت يا محمد صلى الله عليه وسلم ، هكذا منطوق الآية ، مع أنك نبي ، ورسول ، بل سيد الأنبياء والرسل ، مع أنه يوحى إليك ، مع أنك كامل ، مع أنك أوتيت المعجزات ، مع أنك أوتيت الوحي ، مع أنك أوتيت القرآن ، مع كل هذه الخصائص المتميزة ، أنت أنت بالذات :
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾
لو سألنا داعية لا يوحى إليه ، وليس نبياً ، ولا رسولاً ، ولا كلّمه الله ، لا فصيحا ، ونطقاً ، وخلقاً ، وكان مع هذا غليظ القلب ، قاسيًا في دعوته ، نقول له : لمَ الغلظة ؟ الذي ملك كل الميزات لو أنه كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله ، هذا درس للدعاة ، لذلك :
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
هناك ملمح في الآية دقيق جداً : حينما تدعو إلى الله ينبغي أن تختار العبارة الحسنة اللطيفة ، لكن حينما تجادل مع المجادلة في نفس ، قد تُجرح ، والإنسان أحياناً يربط أفكاره بكرامته ، أما بالمجادلة لا ينبغي أن تختار العبارة الحسنة ، ينبغي أن تختار العبارة الأحسن ، لأن أحسن اسم تفضيل .
أخلاق الجهاد وأخلاق الدعوة :
هناك أخلاق الدعاة ، وهناك أخلاق الجهاد ، فرق كبير بينهما ، لذلك الله عز وجل يقول :
﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾
هذه أخلاق الدعوة ، لكن في الحرب شأن آخر .
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾
إن الخطأ الذي وقع فيه الدعاة أن الآيتين تختلطان عندهما ، فقد يسلك الداعية خُلقَ الجهاد في مجال الدعوة ، وقد يكون قاسياً في ملاحظاته ، وقاسياً في تصرفاته ، فيبعد الناس عنه ، عندئذٍ ينعزل .
لقد علَّمنا النبي ليكون الإنسان لطيفاً ، لين الجانب ، رفيقاً مع الناس كي يملك قلوبهم ، وسهلٌ جداً أن تكون قاسياً ، لكن البطولة الرائعة أن تكون حكيماً ، دائماً وأبداً يمكن أن تقف موقفا ذكيا ، وحكيما ، ورحيما من أجل أن تشدَّ إنسانا إليك ، لأن تصرفًا واحدًا أحمق تبعده عنك .
إن بطولة الداعية لا في معلوماته ، بل في حِكمته ، وفي قلبه الكبير الذي يتسع لكل الناس ، وفي إنصافه ، وفي تلطفه مع الآخرين ، وهذه آية أصل في الرفق ك
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾
الأستاذ أحمد :
نرجع إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأين هي الأمثلة الواقعية العملية على خُلقه الرفق صلوات الله عليه .
الدكتور راتب :
أحاديث نبوية الواردة في خُلق الرفق :
أولاً : إذا قلت سنة النبي عليه الصلاة والسلام فسنةُ النبي تعني أقواله .
الحديث الأول :
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ))
أيّ عملٍ أو نصيحة مع العنف سقطت قيمتها ، وكلُّ تدريس مع العنف لا قيمة له ، إذا أخطأ الطالب صبّ عليه الأستاذ الشتائم ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يقول :
(( علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خير من المعنف ))
أحيانا توضيح مع العنف ، أو أمرٌ مع العنف ، أو إدارة عمل مع العنف ، أو إدارة مدرسة مع العنف .
(( إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيء إِلا زَانَهُ ، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إِلا شانَهُ ))
في كل التصرفات ينبغي أن تكون رفيقاً ، ويمكن أن تصل إلى كل أهدافك بوسائل لطيفة ، والناس راضون عنك ، أما عنَّفتَ ، ولو كنت منصفاً لم يُقبَل منك ، ولو كان الكلام حقاً فيه لطف ، وفيه رفق ، وفيه تؤدة ، وفيه حلم ، وفيه رحمة يُقبل منك بصدر رحبٍ .
إذاً : الحديث :
(( إِنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيء إِلا زَانَهُ ، ولا يُنْزَعُ مِن شيء إِلا شانَهُ ))
الحديث الثاني :
عَنْ عبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ قَالَ : أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْأَلُهَا عَنْ شَيْءٍ ، فَقَالَتْ : أُخْبِرُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي بَيْتِي هَذَا :
(( اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ ))
أن يكون رفيقاً برعيته ، لأن الله ائتمنه عليهم ، لذلك سيدنا عمر يقول : << مَن كان منكم تقياً أضع رأسي على الأرض ليطأه بقدمه >> ، رحمة برعاياه ، سيدنا عمر كان وقافاً عند كتاب الله ، وكان فيما يبدو شديداً ، ولما عاتبه بعض الأصحاب ، قال : << والله يا أبا ذر ، لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه ، لكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى >> .
إذاً : الأصل في الرفق أن تكون ليِّنَ المعاملة ، ليِّناً في أقوالك ، وفي أفعالك ، وأن تختار لمن حولك ما هو أسهل ما لم يكن حراماً .
الأستاذ أحمد :
أي أن أشعِر من حولي بأني رفيق ، لكني في نفس الوقت أن أكون حازماً كي لا تميَّع الأمور ، وتصير على الغالب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما خرج إلى الطائف يدعو أهلها ، وقُوبِل بالحجارة والسفهاء ، والصبيان ، وأرسل له الله ملَكَ الجبال مع سيدنا جبريل أن يستأذنه بأن يطبق عليهم الأخشبين عندما أعرضوا عن دعوته ، فوجئ التاريخ ، وفوجئت كتب السير عندما تحدثت عن الرجال العظام كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زرع الله الرحمة في قلبه ، فعن عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ ؟ فَقَالَ : لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ ، فَانْطَلَقْتُ ، وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي ، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ ، فَنَادَانِي فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَمَا رُدُّوا عَلَيْكَ ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ ، قَالَ : فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَسَلَّمَ عَلَيَّ ، ثُمَّ قَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ ، فَمَا شِئْتَ ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ))
مع أنه كان في ذلك الوقت في أشدِّ أوقات المحنة ، والألم ، ونزف الدم ، وما كان منه إلا أن قال هذا القول ، هل في السيرة مثالاً آخر يشبه هذا ؟
الدكتور راتب :
صورٌ حيةٌ للرفق في حياة النبي عليه الصلاة والسلام :
1 – الرفق بأهل الطائف وقد آذوه :
أنا أقول : المصائب أنواع ثلاثة :مصائب ردع وقصم للفجار والكفار والمجرمين ، ومصائب دفع ورفع للمؤمنين ، ومصائب كشف للأنبياء ، فالنبي ينطوي على كمال لا يظهر إلا في هذه الصعوبة ، سار على قدميه إلى الطائف ، استقبله أهلها بالتكذيب والسخرية والإهانة ، بل أغروا صبيانهم أن يؤذوه ، وكان بإمكانه أن يلغي وجودهم ، لكنه اعتذر عنهم ، ولم يتبرأ منهم ، ودعا الله لهم ، قال : اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحدك .
2 – الرفق بقومه وقد آذوه في مكة :
المثل الذي طلبته مني ، في مكة المكرمة ، أهل مكة قبل أن يؤمنوا ناصبوا النبي الكريم العداء ، تفننوا في إزعاجه ، وفي التنكيل في أصحابه ، وقادوا حروباً ثلاثة ليستأصلوا الإسلام ثم فتحت مكة ، وعشرة آلاف سيف متوهجة تنتظر حركة من شفتي النبي عليه الصلاة والسلام ، وكان بإمكانه أن ينتقم أشد الانتقام ، كان بإمكانه أن يأمر بإبادتهم ، ما زاد عن أن قال :
(( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم وابن أخ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ))
إذاً : النبي عليه الصلاة والسلام قوة تأثيره فينا أنه ما أمرَ بأمرٍ إلا وسبق إليه ، وما نهانا عن شيء إلا أبعدنا عنه ، لذلك قيمة المرشد والداعية والقائد في أيِّ موقف قيادي قيمته لا في الأقوال ، بل في الأفعال .
حينما كان عليه الصلاة والسلام رفيقاً بأمته ، حينما رحم أمته ، مثلاً : كيف هاجر ؟ سيدنا عمر هاجر جهاراً نهاراً ، وتحدى المشركين ، النبي أولى بالنصر من عمر ، لكن النبي رحمة بأمته هاجر سراً ، وليلاً ، ومتخفياً ، واتجه نحو الساحل ، وقبع بغار ثور ، وهيأ كل الأسباب ، لأنه لو هاجر كعمر لعدَّ اقتحام الأخطار واجباً ، ولعدَّ أخذُ الحيطة حراماً ، ولهلكت أمته من بعد ، لذلك قالوا : أرحم الخَلق بالخلق رسول الله ، فهو أرحمُ بنا من أنفسنا .
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَليْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحيمٌ ﴾
إذاً : أفعال النبي تؤكد هذا الموقف الأخلاقي .
الأستاذ أحمد :
بعض الدعاة أستاذي الكريم عندما يدعون الناس ، ولا يرون ثمرة لدعوتهم يملُّون ، وربما ينفرون ، وربما ييئسون من هؤلاء المدعوين ، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حينما يدعو على دوسٍ مثلا لم يدع عليهم ، بل قَالَ :
(( اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا ))
بدل أن يدعي على دوس دعا لها ، فهل فعْلُه هذا أشد ما يتمثله العلماء في أيامنا ؟
الدكتور راتب :
كلما علا إيمان المسلم زادت رحمتُه بالناس :
قبل ذلك لو تصورنا مقعدا في بناء من مئة طابق ، كلما صعدت طابقاً اتسعت رؤيتك ، لو تركب طائرة لرأيت مسافة ألف كيلومتر من فوق ، إذاً : كلما علا مكان الإنسان اتسعت دائرة رؤيته ، الآن كلما علا الإنسان في إيمانه اتسعت دائرة رحمته ، هناك إنسان يهتم ببيته فقط ، وإنسان بأسرته ، وإنسان بعائلته ، وإنسان بقوله ، وإنسان بأمته ، وإنسان يهتم بالبشرية جميعاً .
(( لو تعلمون ما أعلمُ لضَحِكتم قليلاً ، ولبَكَيْتمْ كثيراً ))
كان عليه الصلاة والسلام يبكي على البشرية كلها ، هذه كلمة دقيقة ، كلما علا مكان الإنسان عند الله تتسع دائرة نفقته ، واهتمامه ، ورحمته ، فهذا الذي يرحم ابنه فقط له الأجر ، لكن شيء فطري ، وشيء طبيعي ، وهذه الرحمة أودعت بقلب الأب والأم من دون كسب منهم ، لكن الذي يرحم موظفاً عنده فهي رجمة كسبية ، ولن تكون الرحمة ميزةً في المؤمن إلا أن تكون عامة ، أن تحب الأمُّ ابنها شيء طبيعي ، أما أن تحب الأم بنت زوجها التي عندها فهذه رحمة كبيرة .
بطولتي ليست برحمة خاصة هذه فطرية ، ولا أجر لي فيها ، لكن بطولتي بالرحمة العامة ، فكلما اتسعت دائرة الرحمة علا الإنسان عند الله ، والأنبياء اهتماماتهم بالبشرية جميعاً .
قد تجد بلدا معاملته لشعبه تفوق حد الخيال ، لكنه مع شعوب أخرى وحش كاسر ، يتفنن في إذلال الشعوب ، وفي إفقارها ، وفي إبادتها ، وفي سحقها ، وفي إيقاع الأذى بها ، نقول : هؤلاء عنصريون ، ما لم تكن إنسانياً فلا قيمة لك عند الله ، فالغرب مع شعبه بأعلى درجة من الحرية ، والديمقراطية ، وحقوق الإنسان ، أما إذا دخل إلى بلد آخر يتفنن في إفقار الشعب ، وفي إذلاله ، وفي إبادته أحياناً .
البطولة أن يكون في القلب رحمة عامة ، وليست خاصة ، الرحمة الخاصة من صفات كل البشر ، كل أب وكل أم يحرص على أولاده ، أما أن تحرص على إنسان يعمل عندك في المحل التجاري في سن ابنك هل تعامله كما تعامل ابنك ؟ هل لو طلب منك ساعة ليتابع دراسته ترفض ذلك ؟ وابنك تتمنى أن يكون طبيباً ، تقدم له ألوفا مؤلفة ، ودروسًا خاصة ليكون طبيبا ، أما هذا اليتيم الذي عندك هل تتمنى له أن يكون متعلماً كابنك ؟ فما لم تكن الرحمة عامة فلا قيمة للرحمة الخاصة ، لأنها فطرية ، ولا أجر فيها ، إن كانت في حدود الفطرة .
الأستاذ أحمد :
خاتمة وتوديع :
إذاً : الرحمة مطلوبة من الجميع ، من الأنبياء للبشر جميعاً ، وللأمم والحضارات ، من الحكام لشعوبهم وشعوب الإنسانية جمعاء ، من الأب لرعيته ، والأستاذ لطلابه ، حتى نقول بذلك : إن المجتمع مجتمع لين فيه رفق وفيه رحمة .
جزاك الله خيراً أستاذنا الكريم على ما تفضلت به من إشارات حول موضوع الرفق ، وإلى أن نلقى الإخوة المشاهدين في حلقة أخرى من حلقات موسوعة الأخلاق الإسلامية ، مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي نستودعكم الله .
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته