- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠09برنامج موسوعة الأخلاق الإسلامية - قناة إقرأ
مقدمة :
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين ، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ، أيها الأخوة المشاهدون والمشاهدات ، ونرحب بكم في حلقة جديدة من حلقات برنامجنا : "موسوعة الأخلاق الإسلامية " مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة ، وأصول الدين ، فأهلاً وسهلاً بكم أستاذنا الفاضل .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ أحمد جزاكم الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
أستاذي الكريم نود أن نقف اليوم معك عند خلق من الأخلاق جديد ألا وهو خلق الحكمة ، والله عز وجل يقول :
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾
واللافت للنظر أن أياً من آيات القرآن الكريم لم تتحدث عن مثل هذه الخيرية إلا آية الحكمة ، فما هو سرّ هذا الخلق ؟ وما تعريفه عندكم ؟ .
الحكمة أحد أكبر عطاءات الله عز وجل :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
من التعاريف الجامعة المانعة للحكمة : فعل ما ينبغي ، بالقدر الذي ينبغي ، مع من ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي ، على كلٍ : الحكمة عطاء إلهي .
مثلاً ورد في بعض الآثار القدسية :
(( إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإن زوارها هم عمارها ، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني ، وحقّ على المزور أن يكرم الزائر ))
بربك لو دخلت إلى بيت من بيوت الله هل هناك من ضيافة ؟ على الشبكية ليس هناك أي ضيافة ، لكن الحقيقة إذا أكرمك الله بالحكمة فهي أعظم عطاء إلهي ، إذا أكرمك الله بنعمة الأمن ، إذا أكرمك الله بقلب رحيم ، إذا أكرمك الله بعلم ينير لك الطريق ، إذا أكرمك الله وأنت في بيت من بيوته بالسكينة ، عطاءات الله عز وجل آثارها تغطي الدنيا والآخرة .
لذلك الحكمة أحد أكبر عطاءات الله عز وجل ، وأنا لا أصدق أبداً أن تكون هذه لغير المؤمن ، فقد تجد إنساناً مقطوعاً عن الله ، شارداً عنه ، يتمتع بأعلى درجة من الذكاء ، يرتكب حماقة تلوى حماقة ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ﴾
لا يمكن أن يتمتع بالحكمة إلا من كان موصولاً بالله عز وجل .
الأستاذ أحمد :
ذكياً لكنه ليس بحكيم .
لا يتمتع بالحكمة إلا من كان موصولاً بالله عز وجل :
الدكتور راتب :
يرتكب الأذكياء أحياناً حماقات لا يمكن أن توصف لعظم أخطارها ، أما المؤمن مسدد من الله عز وجل ، فنعمة الحكمة من أعظم النعم ، لأنك بالحكمة تسعد بزوجة من الدرجة الخامسة ، تسعد بها أيما سعادة ، وبعدم الحكمة تشقى بزوجة من الدرجة الأولى ، بالحكمة تجعل العدو صديقاً ، من دون حكمة تجعل الصديق عدواً ، بالحكمة تنتفع بالمال القليل ، وبغير الحكمة تبدد المال الكثير ، بالحكمة تعتني بصحتك ، ومن دون حكمة تخسر صحتك ، وهي أثمن ما في حياتك ، بالحكمة تكسب قلوب الناس ، من دون حكمة تكسب عداوتهم .
فالحكمة من أعظم عطاءات الله عز وجل ، وهي خاصة بالمؤمن ، ولن يكون غير المؤمن حكيماً ، لأنه مقطوع عن الله عز وجل ، وهذه الحكمة تعطى ولا تؤخذ ،
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً ﴾
الأستاذ أحمد :
أستاذي الكريم : رسول الله صلى الله عليه وسلم هل حضنا أيضاً على الحكمة ؟ أو وجهنا إليها بشكل أو بآخر ؟ .
الحكمة لا يملكها الإنسان ولكن يملك أسبابها وأسبابها الاستعانة بالله تعالى :
الدكتور راتب :
الحقيقة أحياناً الشيء الذي لا تملكه وقد وجُهت إليه توجه إلى أسبابه ، أنت لا تملك أن تكون حكيماً بإرادتك ، لأن اتخاذ القرار أحياناً يتراءى لك أن هذا القرار فيه حكمة ، فإذا فيه حمق ما بعده حمق ، لذلك الحكمة لا تملكها ، ولكن تملك أسبابها ، أسبابها أن تستعين بالله عز وجل ، وأن تقول في كل موقف عصيب : " اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي والتجأت إلى حولك وقوتك يا ذا القوة المتين " ، أنت حينما تكون مستعيناً بالله ، مقبلاً عليه، يمدك الله بهذه الحكمة التي تنتفع بها أيما انتفاع ، من دون حكمة الحياة جحيم لا يطاق ، مع أنك قد تكون قوياً ، أو غنياً ، لكن مع الحكمة تبدو الحياة جنة في الأرض ، لذلك في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة .
الأستاذ أحمد :
أفهم منك أن الغنى على سبيل المثال ، ربما يكون لإنسان جاهل غير مثقف هو قسمة من الله عز وجل ، لكن الحكمة كأنها لا تكون إلا بمقدمات ، لذلك قال الله عز وجل :
﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ ﴾
وإتيان الله الحكمة لهذا الشخص ليس عطاء .
الحكمة أحد أكبر ثمار الإيمان بالله :
الدكتور راتب :
مكافأة وجزاء على مقدمات هي بيده ، أنا أقول دائماً : حينما تؤمر بشيء لا تملكه أنت مأمور بالأخذ بأسبابه ، أسباب الحكمة أن تكون مستقيماً على أمر الله ، موصولاً بالله ، عندئذٍ يتولى الله أمرك ، وهذا معنى قوله تعالى :
﴿ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
أي إذا كان الله وليك ممن تخاف ؟ إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ إذا كان الله في عليائه ، إذا كان الله قيوم السماوات والأرض ، خالق السماوات والأرض وليك فمن الذي يمكن أن يصل إليك ؟ إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك وماذا وجد من فقدك ؟ .
إذاً الحكمة عطاء إلهي يخص المؤمنين حينما يستقيمون على أمره ، ويخطبون وده ، ويقبلون عليه ، تأتي الحكمة كأحد أكبر ثمار الإيمان ، فالمؤمن يتمتع بالحكمة .
أستاذ أحمد ، حروب نشبت أحرقت الأخضر واليابس بسبب الحمق ، مشكلات بين الزوجين أدت إلى انفصال الزواج ، وتشرد الأولاد بسبب الحمق ، شركات عملاقة انهارت بسبب الحمق ، أي آثار الحمق كبيرة جداً ، وما يجري في العالم من حروب ، ومن آلام ، ومن فقر ، ومن قهر ، بسبب البعد عن الله عز وجل ، بل إنني أرى أن كل ما نعانيه في حياتنا هي أعراض لمرض واحد هو الإعراض عن الله ، هي أعراض الإعراض .
الأستاذ أحمد :
لذلك قال تعالى :
﴿ فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ﴾
بكل مستوياتنا .
الجهل أعدى أعداء الإنسان والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به :
الدكتور راتب :
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً ﴾
لذلك حينما نوقن أن كل ما نعاني من مشكلات بسبب بعدنا عن منهج الله ، وأنا بعدنا عن منهج الله بسبب الجهل ، فالجهل إذاً أعدى أعداء الإنسان ، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به ، والشواهد لا تعد ولا تحصى .
أحياناً يكون تدمير الرجل بتدبيره ، تحجب عنه الحكمة ، يرتكب حماقات ما بعدها حماقات ، قد يكون تدمير الإنسان بيده .
﴿ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾
والإنسان البعيد عن الله هذه الحماقات قد تنهيه ، قد تنهي سلطانه ، وقد تنهي غناه، وقد تنهي قوته ، وقد تنهي مكانته في المجتمع ، فلذلك لا يمكن أن يكون غير المؤمن حكيماً .
الأستاذ أحمد :
قديماً كان الناس يقولون لمن يعرف اليوم أنه طبيب أو دكتور كانوا يقولون : إنه حكيم ، وعندما نقرأ في كتب التاريخ أو الفلاسفة ، يقولون : قال أحد الحكماء ، فهل إطلاقهم لهذا الوصف على الذي يقوم بعمليات التطبيب ، أو صاحب النظر الواسع والمستقبلي سمي بهذه التسمية لإعجاب الناس بالحكمة ؟ .
الحكمة سلوك أما الإدراك النظري فهو علم :
الدكتور راتب :
فيما أرى ، أو فيما قرأت أيضاً أن الفيلسوف إذا طبق مبادئه يكون حكيماً ، فالحكمة سلوك ، أما الإدراك النظري فهو علم ، فأنا أحمل نظرية معينة ، أنا حينما أطبقها أكون حكيماً ، فالحكمة تطبيق المثل العليا ، المثل تكون نظرية ، فإذا طبقت أصبحت حكمة ، هذا في الفلسفة .
أما الطبيب حينما يفاجئ المريض بمرضه الخبيث من دون تمهيد قد ينتهي هذا المريض ، أما أحياناً يخبر أهله ، يترفق به ، ينفس له في الأجل ، فالطبيب المؤمن عنده حكمة ، فقد ينقل المريض إلى مرضه بنعومة ، ورقة ، أو عن طريق من حوله ممن يلوذ به، أما إذا فاجأه بالحقيقة المرة قد ينهي حياته .
أنا أذكر طبيباً قال لمريضه : معك ورم خبيث ، ولن تعيش أكثر من أربعة أشهر تدبر أمرك في هذا الوقت ، مات في اليوم التالي من الوهم الذي أصابه.
الأستاذ أحمد :
أستاذي الكريم ، رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حكيماً في جلّ أعماله ، بل في كلها التي تعامل فيها إما مع أعدائه ، أو مع أصحابه ، مع أعدائه لم يبادرهم فوراً بالقتال بل أرسل لهم الرسائل ، ودعاهم إلى الإسلام ، ثم بعد ذلك فتح البلاد ، ومع أصحابه أيضاً ، فما أمثلة ذلك من سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم ؟.
مثال عن حكمة النبي صلى الله عليه وسلم :
الدكتور راتب :
الحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام كماله يلفت النظر ، بلغه أن بعض أصحابه الأنصار وجدوا عليه في أنفسهم ، فنقل الخبر زعيمهم سعد بن عبادة ، فسأله النبي بادئ ذي بدء، يا سعد أين أنت منهم ؟ قال : ما أنا إلا من قومي ، فقال : اجمع لي قومك ، جمع الأنصار ـ لكن دقق ـ النبي عليه الصلاة والسلام بعد معركة حنين دانت الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها ، إذاً هو أصبح أقوى رجل في الجزيرة ، وبكلمة من شفته ينفذ كل شيء ، وأناس انتقدوه ، واعترضوا على توزيع الغنائم ، فكان بإمكانه بمنطق الأقوياء الجبابرة أن يلغي وجودهم ، وكان بإمكانه أن يهدر كرامتهم ، وكان بإمكانه أن يهملهم ، وكان بإمكانه أن يعاتبهم لصالحه ، الذي يلفت النظر في كماله أنه ذكرهم بفضلهم عليه ، قال :
" أما بعد ، فيا معشر الأنصار ! أما إنكم لو قلتم فلصدقتم ، ولصدقتم به ، أتيتنا مكذباً فصدقناك ، أتيتنا عائلاً فأغنيناك ، أتيتنا شريداً فآويناك ، يا معشر الأنصار ! ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟ ـ ما قال فهديتكم ، فيها أدب ـ ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ ألم تكونوا عالة فأغناكم الله ؟ ـ بتواضع ، وبتوحيد ، وبإنكار للذات ، وبشفافية ـ يا معشر الأنصار ! أوجدتم عليّ في أنفسكم من أجل لعاعة ؟ ـ أي حروف ، الكلمة تنبئ عن معناها ، شيء لا قيمة له ـ تألفت بها قوماً ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم ، يا معشر الأنصار ! أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم ؟ ـ فبكوا حتى أخضلوا لحاهم ، وامتص نقمتهم ، واعتراضهم ، وانتقادهم ـ بل قال : اللهم ارحم الأنصار ، وارحم أبناء الأنصار ، وارحم أبناء أبناء الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً ، وسلك الأنصار شعباً ، لسلكت شعب الأنصار ، فامتلأ قلبهم محبة لهم " .
لكن هذه القصة هل هي من حكمته ؟ ممكن ، من رحمته ؟ ممكن ، من وفائه ؟ ممكن ، من حنكته السياسية ؟ ممكن ، إذاً أوتي الكمال البشري كله .
فلذلك الحكيم هو الذي يفعل ما ينبغي بالقدر الذي ينبغي ، مع من ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي .
الأستاذ أحمد :
قالوا : رأس الحكمة : الصمت ، لماذا ميز الصمت بأنه رأس الحكمة ؟.
الصمت رأس الحكمة :
الدكتور راتب :
لأن الصامت أمره بيده ، أما إن نطق بكلمة غير مناسبة أصبح مصيره بها .
احفظ لسانــك أيها الإنسان لا يلدغنـــك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
***
فالصمت زينة للإنسان ، والصمت حكمة ، ولكن لبعض العلماء قول رائع يقول : " الشريعة حكمة كلها ، رحمة كلها ، مصلحة كلها ، عدل كلها ، وأية قضية خرجت من الحكمة إلى خلافها ، ومن العدل إلى الجور ، ومن المصلحة إلى المفسدة ، فليست من الشريعة ولو أدخلت عليها بألف تأويل وتأويل ".
إذاً الحكمة أن تفعل ما ينبغي ، بالقدر الذي ينبغي ، مع من ينبغي ، في الوقت الذي ينبغي .
الأستاذ أحمد :
هذا التعريف ، والحكمة بحدِّ ذاتها كمصطلح أمر شامل ، عام ، فضفاض ، نريد أن نسألكم عن معاني الحكمة ؟ هل لها معنىً ؟ لو أتت في سياق معين لكان لها دلالة ، ولو أتت في سياق آخر لكان لها دلالة أخرى ؟.
اختلاف دلالات الحكمة باختلاف السياق الذي تأتي فيه :
الدكتور راتب :
لو جاءت الحكمة في باب الفلسفة ؛ الحكيم هو الفيلسوف الذي تجسد في سلوكه أفكاره ، وفلسفته ، أي طبق ما يعلم ، هذا في مجال الفلسفة .
في مجال القرآن والسنة :
﴿ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾
الحكمة سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، فإذا جاءت في الحقل الديني فالحكمة هي من سنة النبي عليه الصلاة والسلام ، لأن الأمر الإلهي أمر عام .
﴿ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾
فالنبي حدد الركعات ، والفرائض ، والسنن ، والواجبات ، والمستحبات ، أي تنفيذ الأمر الإلهي على وجه أمثل هو الحكمة .
إذاً بيان النبي لما في القرآن من أحكام عامة ، ومن أوامر عامة ، ومن نواهٍ عامة، البيان التفصيلي هو الحكمة التي إذا وردت مع القرآن فهمت أنها السنة .
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾
النبوة أحياناً ، إما التطبيق ، وإما سيرة النبي وبيانه الكريم للقرآن الكريم .
الأستاذ أحمد :
الحكمة هل يمكن أن يصل إليها الإنسان بالتعلم ، ثم بعد ذلك يؤتيها الله إياه إيتاءً ، أو منحة ؟.
فرق كبير بين أن تكون حكيماً بتوجيه من الله و بين من يبتغي مصلحته المادية :
الدكتور راتب :
والله أحياناً الإنسان إذا كان ينطوي على ذكاء وقاد ، قد يهديه ذكاؤه إلى الموقف السليم ، لكن لا بدّ من أن أنوه إلى أن هذا الموقف السليم الذي هدي إليه الإنسان بذكائه هو يشبه الحكمة التي يؤتيها الله للمؤمن ، ولكن مع اختلاف البواعث ، فرق كبير بين أن تكون حكيماً بتوجيه الله عز وجل ، وبإلقاء الحكمة في قلبك ، وقد ربحت الدنيا والآخرة ، ربحت الدنيا بحكمتك ، ومحبة الناس لك ، وربحت الآخرة ، ربحت الأبد ، وبين الذي يبتغي مصلحته المادية فقط ، بل الذي يبتغي أن يكون ذا دخل وفير ، قد يلجأ إلى أن يكون متواضعاً في موقف ، أي منصفاً في موقف ، وهذا يكسبه مكانة في مجتمعه .
لذلك قد تلتقي أفعال الحكماء من المؤمنين ، مع أفعل الأذكياء من الشاردين ، هذا اللقاء يكون في النتائج ، ولكن ليس في البواعث .
لذلك هناك أخلاق الأذكياء ، لكن المشكلة أن هؤلاء الأذكياء إذا توهمنا أنهم حكماء حينما تمس مصالحهم ينقلبون إلى وحوش ، والدليل أن الحضارة السابقة لبعض الشعوب حينما ضربت مصالحها انقلبت إلى وحشية ، وسقطت الحضارة ، وبقيت قوة غاشمة، والإنسان أحياناً يكون بعيداً عن الله ، بعيداً عن أن يقتبس الحكمة من الله ، حينما يهديه ذكاؤه إلى أن يكون متواضعاً ، لطيفاً ، رقيق الحاشية ، ليناً ، يألف ويؤلف ، بدافع من ذكائه ، حينما يستفز ينطلق بكلمات الكفر أحياناً ، وينطلق بأفعال لا يمكن أن تصدق ، لذلك :
﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾
فالله عز وجل متكفل أن يضع هذا الإنسان في ظرف يكشف حقيقته .
الأستاذ أحمد :
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما كان جالساً بين أصحابه دخل عليه شاب فقال له : يا رسول الله أتأذن لي في الزنا ، استهجن الصحابة كلهم مثل هذا التصرف ، وسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم واسـتئذانه ، لم ينهره النبي عليه الصلاة والسلام ، لم يعنفه ، وإنما قال له : ادنُ مني ، وبدأ يسامره ، حبذا لو نعرف الحكمة وتشرح لنا بقية القصة ؟
الحكمة من القصة التالية :
الدكتور راتب :
هذا درس للدعاة ، أنت حينما تقول لوزير داخلية : ائذن لي أن أقتل فلاناً ، هذا تحدٍ كبير ، قمة الفظاظة ، وقلة الذوق ، فهذا الشاب يخاطب نبي الأمة ، يخاطب سيد الخلق ، الذي يوحى إليه ، يقول له : ائذن لي بالزنا ، شيء غير معقول ! الصحابة تألموا ، ماذا فعل النبي ؟ قال ادنُ مني ، ـ دقق ـ قال له : يا هذا أتريده لأمك ؟ تصور أمه تزني فامتلأ وجهه دماً ، فقال : لا ، قال : ولا الناس يريدونه لأمهاتهم ، أتحبه لأختك ؟ لابنتك ؟ لعمتك ؟ لخالتك ؟ بعد هذا الشرح والحوار ، قال : " والله دخلت على رسول الله وما شيء أحب إلي من الزنا ، وخرجت من عنده وما شيء أبغض عليّ منه ".
مرة كنت في أمريكا ، سُئلت سؤالاً عن حكم المصافحة ، طبعاً أمامي طبيبات وأطباء يقعن في حرج شديد حينما لا يصافحن الأجانب في المفهوم الإسلامي ، بإمكاني أن أقول الجواب الشرعي ، إني لا أصافح النساء ، قلت للسائلة : الملكة إليزابيت لا يصافحها إلا سبعة رجال ، بحكم القانون البريطاني لعلو مكانتها في مجتمعها ، والمرأة المسلمة أيضاً لا يصافحها إلا سبعة رجال بحكم القانون القرآني لعلو مكانتها في مجتمعها ، فكانت هذه الإجابة مقبولة جداً عندها لأنها كالملكة .
أحياناً يمكن أن تنقل فكرتك بأسلوب لطيف .
الأستاذ أحمد :
لم تحد عن حدود الشرع ، وفي نفس الوقت أعطيتها مثالاً عملياً واقعياً مما تعيشه، وحاولت أن ترتقي بالسائلة على أنكِ والإسلام ينظر إليكِ ياقوتة وملكة ، لا يسمح لأي كان بأن يعبث معك بمثل هذا العبث .
الدكتور راتب :
أحياناً تقول : الياقوتة والجوهرة الثمينة ، توضع في مكان أمين وليست مبتذلة ، هذه من الحكمة .
الأستاذ أحمد :
من سنة النبي عليه الصلاة والسلام أيضاً نلمح مواقف تدلنا على الحكمة ؟.
الدعوة إلى الله بالحكمة قمة النجاح عند الله عز وجل :
الدكتور راتب :
الحقيقة له قول رائع يقول :
(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا .))
الأولى مالاً ، والثانية حكمة ، لا حسد إلا في اثنتين ، هنا الحسد لا بمعنى الحسد الاصطلاحي ، بمعنى الغبطة :
(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا .))
إذاً :
(( إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها ، وحتى الحوت في البحر ، يصلون على معلم الناس الخير ))
فالذي يعلم الحكمة له مكانة علية جداً ، بل إن الله عز وجل يقول :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
إذاً الدعوة إلى الله بالحكمة قمة النجاح عند الله عز وجل ، لكن الدعاة أشد الناس حاجة إلى مفهوم الحكمة ، ليترفقوا بالناس ، وقيمة الداعية ليس في معلومات يحفظها ، بل في قلب كبير يرعى الناس جميعاً ، ويحتوي الناس جميعاً ، ويقبل الناس جميعاً ، فبلطفه وحكمته يأخذ بيد الناس إلى الله عز وجل .
خاتمة و توديع :
الأستاذ أحمد :
ولذلك ندعو الله عز وجل أن يوفقنا للحكمة وللخير ، ويجعلنا من عباده الصالحين، ونشكر أستاذنا الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة على ما تفضل به ، وإلى أن نلقاكم في حلقة أخرى أعزائي المشاهدين ، وأخواتي المشاهدات نستودعكم الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .