وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 10 - سورة الإسراء - تفسير الآيات 78 – 81 الصلوات الخمس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعدِ الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 


الآية التالية جُمِعت فيها الصلوات الخمس :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس العاشر من سورة الإسراء .

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79)﴾ هذه الآيات وقف المفسرون من تفسيرها مواقف متباينة . 

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ دلوك الشمس زوالها عن كبد السماء ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ وكما هو معلوم لديكم أن دخول الوقت شرط من شروط الصلاة ، فالصلاة لا تصح إلا إذا دخل الوقت ، ولا تصح صلاة الظهر إلا إذا زالت الشمس عن كبد السماء ، فـ : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ هذه اللام توقيفية ، أي حين دلوك الشمس ، ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ وغسق الليل بمعنى ظلمة الليل ، لذلك بعض الفقهاء قالوا في هذه الآية جمعت فيها الصلوات الخمس ، فالصلاة صلاة الظهر والعصر لدلوك الشمس ، تبدآن بعد زوال الشمس عن كبد السماء ، وصلاة المغرب والعشاء تنضويان تحت قوله تعالى : ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ أي صلاة الصبح ، وسميت الصلاة في مواضع أخرى ركوعاً ، وسميت سجوداً ، وسميت في هذه الآية قرآناً ، وهذا في البلاغة وارد أن نسمي الشيء ببعض أجزائه المهمة ، فقراءة القرآن في الصلاة ركن من أركانها ، فعلى هذا التفسير دخلت الصلوات الخمس في هذه الآية : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ صلاة الظهر والعصر ، ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ صلاة المغرب والعشاء ، ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ صلاة الصبح ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)﴾ .

الحقيقة هناك تفسير آخر ، أن الله عز وجل وضح أوقات الصلاة في آيات أخرى ، والنبي عليه الصلاة والسلام بيّن هذه الأوقات بدقة بالغة ، وبيّن ركعاتها ، وركوعها ، وسجودها ، وشروطها بالسِّنة الفعلية والقولية ، لأنكم كما تعلمون السنة هي كل قول أو فعل أو إقرار . 

(( عن مالك بن الحويرث ارجعوا إلى أهليكم فكونوا فيهم ، وعلِّموهم ومروهم  ، و صلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي  ، فإذا حضرتِ الصلاةُ فلْيُؤذِّنْ لكم أحدُكم ، و لْيؤمُّكم أكبرُكم . ))

[ صحيح الجامع :  خلاصة حكم المحدث  : صحيح ]

عَنْ جَابِرٍ يَقُولُ :

(( خذوا عني مناسكَكم  ، لَعلِّي لا أراكم بعدَ عامي هذا . ))

[ ابن الملقن  : البدر المنير : خلاصة حكم المحدث  : إسناده صحيح ]

 

أنواع السنة :


السنة أنواع ثلاث : نوع منها قولي ، ونوع منها فعلي عملي ، ونوع منها إقراري ، فالصحابي الجليل إذا فعل شيئاً بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام ، وبقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساكتاً فهذا من السّنة ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت على خطأ ، لماذا ؟ لأنه مشرّع ، لو سكت على خطأ لعدّ هذا الخطأ شرعاً ، ولسُمح باتباعه ، وهذا في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مستحيل ، لذلك إقراره أو أفعاله أو أقواله ، فالصلوات الخمس بأوقاتها وأركانها ، وشروطها وسننها ، وكل تفصيلاتها وردت فيها سنة فعلية وقولية ، بينما هذه الآية تأمرنا بمطلق الصلاة ، أي الصلاة فرض قطعي الثبوت في هذه الآية : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ ، ومن فهم من هذه الآية أن النبي عليه الصلاة والسلام مأمور بالصلاة فأمته مأمورة أيضاً بالتبعيّة ، فالله سبحانه وتعالى قد أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين .

 

الصلاة شطر الدين :


يبدو أن الصلاة شطر الدين ، إذا صحّ أن نضغط الدين إلى شطرين أو إلى ركنين ، أو إلى شيئين أساسيين ، هما الصلاة والإحسان إلى الخلق ؛ الاتصال بالحق والإحسان إلى الخلق : 

﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)  ﴾

[  سورة مريم  ]

الصلاة صلة بالله عز وجل ، لكن حينما تؤدى الصلاة أداءً شكلياً ، أي حينما يسبق الصلاة تقصير أو حَيد عن الشرع ، أو مخالفة لأوامر الله ، أو عدوان على الآخرين ، فإن العدوان والمعصية والمخالفة والتقصير هذا كله يشكل حُجُباً كثيفة في أثناء الصلاة ، لذلك أكثر الذين لا يستقيمون على أمر الله يملّون من الصلاة ، يجدونها عبئاً ثقيلاً ، لسان حالهم يقول : أرحنا منها ، على عكس ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول ، فعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: 

(( رجلٌ من خُزاعةَ  : لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ ، فكأنهم عابوا ذلك عليه ، فقال  : سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ  : أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ ! أَرِحْنا بها . ))

[ هداية الرواة : خلاصة حكم المحدث  : إسناده صحيح ]

ربنا عز وجل يقول : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ أقم ، لم يقل : صلِّ ، ما الفرق بين أن يقول الله عز وجل : صلِّ وبين أن يقول : أقم الصلاة ؟ أي الصلاة تحتاج إلى إقامة ، شروط كثيرة لابدّ من توافرها حتى تستطيع أن تصلي ، قد نقول لطالب : أدِّ الامتحان ، أيّ امتحان هذا ؟ إن دخول قاعة الامتحان أمر سهل ، والإمساك بالقلم أمر سهل ، ولكن أن تنجح أمر صعب ، كلمة أدِّ الامتحان معنى ذلك أنك أمضيت عاماً بأكمله تدرس ، فربنا عز وجل حينما يقول : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ أي هل هيأت نفسك قبل الصلاة للصلاة ؟ هل أنت مستعد للصلاة ؟ هل بإمكانك أن تقف بين يدي الله عز وجل دون أن يحجبك الخجل ؟ دون أن يحجبك حاجب ؟ أقم الصلاة من معاني هذه الآية أن فكِّر بآيات الله حتى تعرفه ، وإذا عرفته عندئذٍ تخشاه ، وإذا خشيته تستقيم على أمره ، وإذا استقمت على أمره تستطيع أن تقف بين يديه ، وتحس عندئذٍ أن الصلاة شيء ثمين ثمين .

خطر ببالي مثل يوضح الصلاة الجوفاء ، والصلاة الصحيحة ، لو دعيت إلى طعام ، وجلست على مائدة ، وضِع أمامك صحن وملعقة وكؤوس وأوانٍ ومنديل ، وكل شيء وضع بالتمام والكمال إلا الطعام ، لو دعيت إلى هذه الولائم مراراً وتكراراً تملّ من هذه الدعوة ، ومن حضور هذه المائدة ، لا طعام عليها ، الصحون موجودة ، كل شيء على الطاولة صحيح إلا الطعام ، لكنك إذا دعيت إلى طعام نفيس ، وجاءت الدعوة ثانية ، إنك تلبي بشوق ، وباهتمام ، وبسرور ، وتشعر بأن الذي دعاك قد امتن عليك ، فبين أن تصلي صلاة صحيحة فتخرج من الصلاة ، وقد قبضت شيئاً ثميناً ، الصلاة ميزان ، فمن وفّى استوفى ، وبين أن تصلي صلاة جوفاء سريعاً ما تملها ، وتعرض عنها ، لذلك جاء وصف المنافقين أنهم : ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً (142)﴾ .

﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ هناك تفسيرات تقول : لدلوك الشمس إلى غياب الشمس . .﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾   ربنا سبحانه وتعالى في سورة المزمل يقول : 

﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً(6) ﴾

[  سورة المزمل ]

أي ركعتان في جوف الليل خير من الدنيا وما فيها ، لأن طبيعة الإنسان في الليل طبيعة صافية ، لا مشاغل ، لا مواعيد ، لا أولاد ، لا متاعب ، لا ضجيج ، كل هذه العوائق والعلائق في صلاة الليل مختفية ، ويبدو أن الإنسان إذا قام من نومه تكون نفسه أصفى ممّا لو ذهب إلى الصلاة من عمله ، لأن طبيعة العمل فيها متاعب ، فيها مشاحنة ، فيها مشكلات ، هذه المتاعب تسير معك إلى المسجد ، لكن صلاة الليل تمتاز عن غيرها بأن الاتصال فيها محكم ، وأن إقبال العبد على ربه مؤكد ، وأن تلقّي التجلي محكم ، لذلك قال الله عز وجل في الحديث عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا ، فَيَقُولُ : هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ . ))

[ صحيح مسلم ]

 

القرآن جزء من العبادة فمن أراد أن يتعرف إلى ما فيه فليلزم نفسه أن يقرأه كل يوم :


﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)﴾ الفقهاء أشاروا إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقرأ في صلاة الفجر ما يزيد عن أربعين إلى ستين آية في كل ركعة ، هذا العدد لأنك أنت مرتاح ، مستيقظ من النوم ، قد أخذت قسطاً من الراحة ، وأنت نشيط ، وصلاة الفجر ركعتان ، وجاء في بعض الأحاديث :

(( عَنْ نُعَيْمِ بْنِ هَمَّارٍ الْغَطَفَانِيِّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ  : قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا بْنَ آدَمَ  ، لَا تَعْجِزْ عَنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ . ))

[ وأخرجه الترمذي من حديث أبي الدرداء  ، وأبي ذر رضي الله عنهما بلفظ : ( ابْنَ آدَمَ  ، ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ ) وحسنه الذهبي في "السير" ، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"  . ]

(( أن يا عبدي لا تعجز عن ركعتين قبل الشمس أكفك النهار كله ! )) أي أنت طول النهار في حفظ الله ، ورعايته ، وتوفيقه ، والله يدافع عنك ، ويحميك من كل ورطة ، ومن كل مشكلة ، إذاً : ﴿وَقُرْآنَ الْفَجْرِ﴾ معظم العلماء على أن قرآن الفجر أي : صلاة الفجر ، وربما سميت قرآن الفجر لأن قراءة القرآن يجب أن تغلب عليها ، أي كأن الله عز وجل ينتظر من الذي يصلي الفجر أن يطيل في القراءة ، لأنه أدعى إلى الخشوع ، وأدعى إلى التعلم ، وقد يتعلم الإنسان بعض ما في كتاب الله وهو يصلي .

وبعضهم قال : قرآن الفجر هو القرآن الذي يتلى قبل صلاة الفجر ، أو بعد صلاة الفجر ، هذا القرآن جزء من العبادة ، فمن أراد أن يتعرف إلى ما في القرآن فليلزم نفسه أن يقرأه كل يوم ، لو أنه قرأ كل يوم جزءاً ، أو نصف جزء ، أو ربع جزء ، أو عدة صفحات فإن هذا مع الاستمرار يجعله على صلة بكتاب الله ، صلة مستمرة . 

﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78)﴾ أي مشهوداً من قِبَل الملائكة ، والملائكة يشهدون لك يوم القيامة أنك قمت من الليل ، وقرأت القرآن ، وصليت بالقرآن ، وتهجدت بالقرآن. 

 

صلاة التهجد لا تعدلها أي صلاة :


﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ التهجد ترك الهجود ، والهجود النوم ، وهذه الصيغة صيغة سلبية ، تقول : تأثمت أي تركت هذا الشيء مخافة الإثم ، تقول : تحرجت أي  تركت هذا الشيء مخافة الحرج ، تهجدت أي تركت النوم ، فالتهجد أن تدع النوم لتصلي ، ومنها صلاة التهجد ، وهي صلاة فيها استيقاظ بعد أن تأخذ قسطاً من النوم ، فلو قال لصلاة التهجد تلك التي يصليها الإنسان قبل أن ينام ، لا ، هذه الصلاة التي يصليها بعد أن ينام ، ينام ويستيقظ قبل صلاة الفجر ، هذه صلاة التهجد . ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ﴾ هذه صلاة النافلة . 

الحقيقة لا تعصه في النهار يوقظك في الليل . .

 شكوت إلى وكيع سوء حفظي         فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأنبأنــــــــــــي بأن العلـــــــم نــــور         ونور الله لا يهدى لعــاصـي

***

أي إذا ألزمت نفسك في النهار على طاعته ، واتباع سنّة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وغض البصر ، والتحرج من كلمة الإثم ، من الغيبة ، من النميمة ، من الفحش ، من البهتان ، من الإفك ، من كل إيذاء ، من كل انحراف ، من كل معصية ، أغلب الظن أنك تستيقظ من دون منبه ، وتستيقظ لتمضي أجمل ساعات العمر في مصلاك ، هؤلاء الذين عرفوا الله وأحبوه ما ذاقوا طعماً أطيب من طعم القرب ، هؤلاء الذين استيقظوا من الليل ، وتهجدوا لا شيء في الدنيا يعدل هذا التهجد . 

 

من أراد أن يذوق طعم القرب فليصلِّ صلاة الليل :


﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79)﴾ بعض المفسرين قال : هذا الأمر خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)﴾ بآخر السورة : ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ ﴾ فالعلماء بين أن تكون هذه الآيات خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، وبين أن تكون عامة ، على كلٍّ من أراد أن يذوق طعم القرب فليصلِّ صلاة الليل ، صلاة الليل تحتاج إلى طاعة تامة في النهار ، تحتاج إلى عمل صالح ، تحتاج إلى بذل وعطاء ، إلى تضحية وإيثار ، عندئذٍ ترى أمتع شيء أن تقف على قدميك ، وتقرأ القرآن في الليل ، وتناجي ربك .

قلت اليوم في الخطبة إن سيدنا عمر وفد إليه رسول من أذربيجان ، هذا الرسول وصل المدينة في منتصف الليل ، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين ، فتوجَّه إلى المسجد إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي المسجد يبدو أن الظلام كان دامساً ، وفي المسجد سمع صوت أنين وشوق إلى الله عز وجل ، سمع صاحب هذا الصوت يقول : يا رب ! أنا واقف ببابك ، مستمسك بحبالك ، هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيها ؟ فقال هذا الرسول : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا عمر بن الخطاب ، كره أن يطرق بابه ليلاً فإذا هو في المسجد ، قال : يا أمير المؤمنين ألا تنام الليل ؟ قال : إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي ، لذلك قالوا : من أمضى عمره بالنوم أتى يوم القيامة مفلساً ، إني إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي ، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي ، ويمكثان حتى يؤذن الفجر ، ويصليا الفجر ، ويأخذ عمر ضيفه إلى البيت ، وفي البيت يقول للسيدة أم كلثوم- هذه كوكب الإسلام - يقول : يا بنت رسول الله ماذا عندك من طعام ؟ قالت : والله يا أمير المؤمنين ما عندنا إلا خبز وملح ، يقدم عمر إلى ضيفه هذا الطعام الخشن ، ويأكلانه ، ويحمدان الله عز وجل على هذه النعمة ، ويقول عمر لضيفه : ما الذي أقدمك إلينا ؟ يقول : معي هدية من عاملك على أذربيجان ، علبة فيها بعض الحلوى ، قال سيدنا عمر : أو يأكل عندكم عامة المسلمين هذا الطعام ؟ قال : لا ، هذا طعام الخاصة ، الطبقة الغنية ، قال : أو أعطيت فقراء المدينة مثلما أعطيتني ؟ قال : لا ، هذه لك وحدك .

ما كان من عمر إلا أن أمر الرسول أن يبلّغ الأمير هناك أن يأكل مما يأكل منه عامة المسلمين ، وأمره ألا يعود إلى ذلك أبداً ، وأمر الرسول أن يذهب بهذه الحلوى ليوزعها على فقراء المسلمين في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وقال قولته الشهيرة : " حرام على بطن عمر أن يذوق حلوى لا يطعمها فقراء المسلمين " ،  طبعاً هذا الورع من صلاة الليل ، في سورة المزمل :

﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً(7)﴾

[  سورة المزمل ]

أي إذا شحنت نفسك في الليل فاضت الأنوار في النهار ، فاض العلم في النهار ، فاض العمل الصالح ، فاض الورع ، فاض القول السديد ، فاض الفكر الثاقب ، المواقف الأخلاقية ، والتفكير السليم ، واتخاذ القرار الصحيح ، والرؤية الصحيحة ، هذا كله من أفضال صلاة الليل ، لا تستخف بصلاة الليل ، إنها مدرسة ، مدرسة بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، مدرسة ، خرّجت الصّدّيقين ، خرّجت كبار المؤمنين ، خرَّجت العارفين بالله ، أحد كبار العلماء العارفين رآه تلميذه في المنام قال يا سيدي : ما فعل الله بك ؟ قال : طاحت تلك الإشارات ، وذهبت تلك العبارات ، ولم يبقَ إلا ركيعات ركعناها في جوف الليل ، احفظ سورة يس ، واقرأها بقيام الليل في ثماني ركعات ، عند كل كلمة مبين تركع ، فيها ثمانية مبينات ، احفظ يس فهي قلب القرآن ، واقرأها في جوف الليل .

 

المقام المحمود أعلى مرتبة نالها البشر وهو لسيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام :


﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً (79)﴾ والمقام المحمود إما أن يكون خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام ، كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ، ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِي الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ . ))

[ صحيح مسلم ]

باب الله ، باب الخلق إلى الله ، هذا المقام المحمود .  

وبعضهم قال : المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى ، وعلى كل فالمقام المحمود هو أعلى مرتبة نالها البشر ، وهو لسيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام .

 وإذا أردنا أن نوسع الآية لتشمل المؤمنين ، أنت بصلاة الليل وبتهجدك تنال عند الله مقاماً محموداً ، كقوله تعالى :

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ﴾

[  سورة القمر ]

وشتان بين من يحتل عند الله مقاماً محموداً ، وبين من يحتل عند البشر مقاماً محموداً .

اجعل لربك كل عـزك يستــقر ويثـبت             فإذا اعتززت بمن يمـوت فإن عزك ميت

***

وكلمة (محمود )هذا اسم مفعول ، أي إن صاحب هذا المقام ما وصله إلا لأنه محمود السيرة عند الخلق ، وعند الحق ، وعند نفسه ، وهذا مقام النبي عليه الصلاة والسلام .

 قد تحمد عند إنسان ، وتذم عند إنسان آخر ، قد تحمد عند نفسك ، وتذم من قِبل الآخرين ، قد يحمدك الناس ، وليس لك عند الله مقام محمود ، ولكن أن تجمع بين أن تكون محموداً عند الخلق وعند الحق وعند نفسك فهذا من أعمال الأبطال ، والنبي عليه الصلاة والسلام كان بطل الأبطال .

 

أَقِمِ الصَّلَاةَ وصفة ربانية لكل إنسان أصابه همّ وحزن :


﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ قبل أن نفسر هذه الآية أريد أن أبين علاقة هذه الآية بالآيات التي قبلها : ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ ما علاقة هذه الآيات بهذه الآية ؟ قال بعض المفسرين : أي إن الإنسان كلما واجه كيداً ، أو واجه صعوبةً ، أو لاح له شبح مصيبة ، أو اغتمَّ قلبه ، أو تضعضعت نفسه ﴿ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ﴾ ، ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾   وهذه وصفة ربانية ، كلما هالَكَ أمر ثق به ، كلما عرض لك خطر ثق به ، كلما قال لك الطبيب كذا وكذا مما يضيق لك القلب ثق به ، كلما أصبحت الحاجات نادرة وعسيرة المنال ثق به ، كلما نالك أمر ثق به ، لك إن فرق أو إن جمعك ،  لذلك : ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾  تأتي هذه الآية وصفة ربانية لكل إنسان أصابه همّ وحزن ، ربنا عز وجل في بعض الآيات يقول :

﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)  ﴾

[ سورة الأنعام ]

أحياناً ربنا عز وجل يصف حالة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما يرى الطرق مسدودة ، والصّد عن سبيل الله قوياً ، حينما يرى المعارضة تشتد ، وهناك من يكيد له من كل جانب ، حينما يتخلى عنه الأصدقاء ، ويضعف أمامه الأصحاب ، وحينما تقوى شوكة العدو ، عندئذٍ ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ هذه وصفة ربانية ، حياة الإنسان محفوفة بالمخاطر ، فكلما لاح له شبح خطر فليفزع إلى الصلاة ، والله سبحانه وتعالى كفيل أن يريه ما في الصلاة من خير كبير . 

 

بطولة الإنسان أن تنتهي الحياة وقد خرج منها مخرج صدق :


﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً(80)﴾ هذه الآية مهمة جداً ، الإنسان أحياناً يتزوج ، وينوي بهذا الزواج أن يرضي الله عز وجل ، دخل في الزواج مدخل صدق ، فإذا وهو متزوج تغريه زوجته أن يفعل كذا وكذا ، وأن يدع كذا وكذا ، وأن يكسب هذا المال الحرام ، وأن يشتري لها كذا وكذا ، وأن يرافقها إلى نزهة في مكان مختلط ، وأن يذهب بها إلى بلاد بعيدة ، بلاد الكفر والفسق والفجور ، دخل في الزواج مُدخل صدق ، فخرج منه مع الكاذبين المنافقين ، فالآية الكريمة : ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ قد يشارك الإنسان إنساناً يراه لطيفاً ، ذكياً ، مليئاً ، يرى في هذه الشركة كل الخير ، يدخل فيها مدخل صدق ، فإذا بهذا الشريك له من المعاصي والمخالفات ما حمله على أن يفعل مثله ، إذا به يدخله في متاهات ، يضع أمواله بالفائدة ، يتاجر بما هو محرم ، يغريه بالربح الكثير ، خجل وسكت ، دخل مدخل صدق ، وخرج مخرج كذب ، وفجور ، وفسق ، ونفاق ، فالأمور بخواتيمها ، البطولة أن تنتهي الحياة وقد خرجت منها مخرج صدق .

من السهل جداً أن تدخل مدخل صدق ، ولكن البطولة أن تخرج منها مخرج صدق ، لذلك أحد أصحاب رسول الله سأل سيدنا عمرو بن العاص : يا عمرو ما بلغ من دهائك ؟ قال : والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه ، فقال : يا عمرو لست بداهية ، أما أنا فوالله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه ، فالبطولة أن تدخل مدخل صدق في كل شيء ، في الوظيفة ، في الزواج ، في التجارة ، في الشركة ، في هذه السفرة ، النية مشروعة ، خرجت من بلدك ، وسافرت إلى هذا المكان بنية أن تحصّل شيئاً مباحاً ، فإذا بالقدم قد تزلّ ، وتقع في أكبر المعاصي ، فلذلك الدعاء في كل حركة ؛ في السفر ، في الدخول إلى عند بعض الأشخاص ، في أي موقف يوجد مزالق ، يوجد أخطار ، هناك احتمال أن يقع الإنسان في المعصية ، في أي مكان يمكن أن تزل القدم ادعُ بهذا الدعاء : ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً(80)﴾ الإنسان يواجه مزالق كثيرة جداً في الحياة ، إذا كان معتصماً بالله ، مستمسكاً بحبل الله ، ذاكراً لله ، فأغلب الظن أن الله سبحانه وتعالى يحفظه من كل مكروه .

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ أي صدق معك ، صدق في النيّة ، وصدق في الفعل ، وصدق في الاستقامة ، وصدق في البذل ، أي المدخل صدق ، وهذه كلمة جامعة مانعة ، أي أنت مع الله صادق في أقوالك ، وفي أفعالك ، وفي وجهتك ، وفي نواياك ، وفي حركاتك ، وفي سكناتك . ﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ ، كن معي يا رب في هذا المكان ، وفي هذا السفر ، وفي هذا اللقاء ، وفي هذه المقابلة ، كن معي حتى لا تزل قدمي من أجل أن أخرج منها مخرج صدق. 

﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً(80)﴾ أي ألهمني حجتي ، ألهمني أن أقف موقفاً صلباً ، ألهمني ألا أقع تحت إغراء المال ، وألا أقع تحت ضغط الآخرين ، الإنسان بين الضغوط والإغراءات ، الضغط مزلة قدم ، والإغراء مزلة قدم ، والإنسان واقع بينهما ﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً(80)﴾ إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ، وما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه :

كن مع الله ترَ الله معـــك          واترك الكل وحاذر طمعـــــــك

وإذا أعطاك من يمنعـــــــه          ثم من يعطي إذا ما منعك ؟

كيفما شاء فكن في  يده          لك إن فــرّق أو إن جمعـــــك

***

أطع أمرنا نرفع لأجلك حجبنا       فإنا منحنا بالرضا من أحبنــا

ولذ بحمانا واحتــــمِ بجنــابنـــــا       لنحميك مما فيه أشرار خلقنا

***

﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً(80)﴾ أحياناً الإنسان يدخل إلى بيته يدخل مدخل صدق ، يحمل أغراضه ويدخل ، ينشب خلاف فتسمعه زوجته كلمة قاسية ، يرد عليها بكلمة أقسى ، تقسو عليه إلى أن يحلف عليها بالطلاق يميناً ، ويطردها من البيت ، وعنده أولاد خمس ، دخل مدخل صدق ، لكنه لم يخرج من البيت مخرج صدق ، فإذا دخل الإنسان بيته فعليه أن يسمي ، ففي الحديث عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَذَكَرَ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ : لَا مَبِيتَ لَكُمْ ، وَلَا عَشَاءَ ، وَإِذَا دَخَلَ فَلَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ دُخُولِهِ قَالَ الشَّيْطَانُ : أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ اللَّهَ عِنْدَ طَعَامِهِ قَالَ : أَدْرَكْتُمْ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ.))

[ صحيح مسلم ]

هذه تصلح لركوب السيارة أيضاً ، يركب أحدهم سيارته يا ترى هل هناك إنسان نائم يأتي أمامه ؟ قد يقع حادث مروّع ، قد يفقد الإنسان أحد أعضائه ، والخطأ ليس خطأه .

 

الحق هو الشيء الثابت المستمر والباطل الشيء الطارئ غير المستمر :


﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ الحق هو الشيء الثابت المستمر ، والباطل الشيء الطارئ غير المستمر ، أي الحائط الذي بني على غير الشاقول ، الحائط المائل لابدّ من أن يقع ، نقول : هذا الحائط باطل ، أما الحائط الذي بني على الشاقول هذا الحائط بني بالحق ، أي سوف يبقى ، فالحق هو الشيء الثابت الهادف ، والدليل أن الله عز وجل في آيتين من آيات كتاب الله وضح فيهما معنى الحق ، قال تعالى : 

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(27)﴾

[  سورة ص ]

الباطل هو الشيء الزائل ، والحق الشيء الثابت ، هناك آية ثانية :

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)  ﴾

[ سورة الدخان ]

واللعب هو العمل الذي لا جدوى منه ، فالحق إذاً خلاف اللعب ، العمل الهادف ، فتعريف الحق من خلال هاتين الآيتين هو الشيء الثابت الهادف ، الباطل الشيء غير الثابت ، غير الهادف ، لا جدوى منه ولا يثبت .

بعضهم قال : الباطل وجوده ليس ذاتياً ، هناك أسباب خارجية تجعله يقف ، فإذا زالت هذه الأسباب وقع ، أما الحق فوجوده ذاتي ، كإنسان ضعيف الإمكانات قد نضعه في مكان رفيع ، ولكن الذي وضعه دعمه ، فهذا وجوده بالباطل ، لكن لو أن الإنسان أهل لهذا المكان ، وعنده من العلم ، والخبرة ، والحكمة ما يجعله في مستوى هذا المكان نقول : هذا الإنسان مكانه بالحق ، أي هذا الذي وضعه في هذا المكان لو تخلى عنه فإن وجوده قائم ، فمن معاني الحق أن يكون الشيء ثابتاً وهادفاً ، فالله سبحانه وتعالى يقول : ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ بعضهم يقول : الإنسان مندوب أن يقرأ هذه الآية حينما يزهق الباطل ، لو تمكن من إزالة منكر في البيت فليتلُ هذه الآية : ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ لو أنه تمكن من فك شركة مع شريك مبطل يعمل بالربا ، ويبيع المواد المحرمة ، لو أنه فعل ذلك ، ووقّع عقد المخالصة ليقل في نفسه : ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ النبي الكريم حينما أمر أن تُكسّر أصنام الكعبة التي حولها تلا هذه الآية : ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ فالباطل الشيء المتداعي الذي لا يملك أن يقف على قدميه وحده ، الشيء الذي سيزول ، الشيء الذي لا يستمر ، الشيء الطارئ ، الشيء العارض ، غير الهادف ، ليس هناك هدف عظيم من الباطل ، الحق هو الشيء الثابت الهادف ، فقالوا : للباطل جولة ثم يضمحل ، والأمور لا تستقر إلا على الحق ، أبداً ، وكل أمر مستقر فهو على الحق .

 

الباطل زاهق إن عاجلاً أو آجلاً والحق مستقر :


﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ هذه الصيغة صيغة الترابط الوجودي ، الرابط الوجودي أن تقول : إن الطائرة تطير ، فلو ألغي الطيران ألغيت الطائرة ، فالترابط بين الطائرة وبين طيرانها ترابط وجودي ، حيثما طارت فهي طائرة ، فإن لم تطر لا تبقى طائرة ، إذاً : ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ وكلمة زهوق على وزن فعول ، لم يقل : زاهقاً ، اسم فاعل ، هذه صيغة مبالغة لاسم الفاعل ، أي لابد من أن يزول ، الفكرة الباطلة لابد من أن تزول ، المعتقد الباطل لابد من أن يزول ، الشخص المبطل لابد من أن يضمحل ، أفكار ، معتقدات ، أعمال ، انحرافات ، أيّ شيء يوثق بأنه باطل لابد من أن يزول ، ولا يستقر الأمر إلا على الحق ، فلذلك الباطل زاهق إن عاجلاً أو آجلاً ، والحق مستقر ، والدليل حينما ينادي المنادي يوم القيامة :

﴿ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)﴾

[ سورة الأعراف ]

هذا هو الحق ، أين دعوى الداعين ؟ أين دعوى الكاذبين ؟ أين تخرصات الكافرين؟ كلها تلاشت .

﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)﴾

[ سورة يس ]

من وقف مع المبطلين إذا كان بشكل أو بآخر فقد غامر وقامر بسعادته ، فلذلك : ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81)﴾ أما إذا كنت مع الحق فالعاقبة لك : 

﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) ﴾

[  سورة القمر ]

﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)﴾

[  سورة فاطر ]

إذا كنت مع الحق فأنت من حسن إلى أحسن ، ومن خير إلى خير ، ومن سعادة إلى سعادة ، ومن توفيق إلى توفيق ، وحينما يأتي الموت الذي لابد منه تجد أنك قد نقلت من دار إلى دار ، نقلت من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة ، كما ينقل المولود من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا ، لذلك قيل :

﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27) ﴾

[ سورة يس ]

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى  : أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ  ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ  ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَر ٍ . قالَ أبو هُرَيْرَةَ  : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ  : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة : 17].))

[ متفق عليه ]

كن مع الحق ترَى أن الدنيا كلها معك ، يكفي أن يكون الله معك ، فإذا كان معك فمن عليك ؟ يكفي ، إن الله معك بالرعاية ، والحفظ ، والتوفيق ، والتسديد ، وكل ما تشتهي نفسك ، عبدي كن لي كما أريد أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ، ولا تعلمني بما يصلحك ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تكن لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور