الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أعظم جريمة يقترفها الإنسان أن ينسب الظلم إلى الله عز وجل :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس السادس من سورة الإسراء .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)﴾ ، ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ﴾ هذه الهمزة للاستفهام الإنكاري ، قد يقول لك قائل : أنت فعلت هذا ؟ تقول له : أنا فعلت هذا ؟ هذه الصيغة صيغة استفهام ، لكن الاستفهام في علم البلاغة يخرج عن حقيقته إلى جوازات كثيرة ، منها الإنكار ، فالله سبحانه وتعالى حينما قال : ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ﴾ أي ينكر على المشركين هذه المقولة ، أو هذا التوهم ، أو هذا الاعتقاد .
﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً﴾ إن المشركين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى اتخذ الملائكة بناتاً ، هم لهم الذكور ولله البنات ، نسبوا لله ما يكرهون ، أيعقل أن يكون الأمر كله لله وأن يكون هو الواحد الأحد ؟ وأنه لا إله إلا الله ؟ وأن تختصوا أنتم بالبنين وتكرهون البنات ؟ وعلامة كره البنات في الجاهلية أنهم كانوا يئدون الفتاة وهي صغيرة ؟ قد لا يقول الآن أحد مثل هذه المقولة : إن الملائكة بنات الله ، وإن الذكور لنا ، لكن الله عز وجل كثيراً في القرآن الكريم ما يذكر جزءًا ويريد به الكل ، بمعنى أنك إذا نسبت شيئاً تكرهه إلى الله عز وجل فإن هذه المقولة مقولة عظيمة .
أيعقل أن تكون وأنت العبد الأدنى مترفعاً عن هذه الصفة والله سبحانه وتعالى تصفه بها ؟ أنت مترفع عن الظلم وتنسب الظلم إلى الله عز وجل ؟ أنت تترفع عن هذه الصفة وتصفها لله عز وجل ؟ إذاً ليس المقصود أن تقول : الملائكة بنات الله ، وأن الذكور لنا ، قد لا تكون هذه المقولة مطروحة في العصور المتأخرة ، ولكن أي شيء لا ترضاه لنفسك لا ينبغي أن تفتري به على الله سبيلاً ، لا تقل : الله كذا وكذا من دون علم ، أخي كتب عليه الشقاء من الأزل ، ولا بد من أن يشقى بلا ذنب ، قد يطيعه الطائع ، ويضعه في نار جهنم ، هذا قول عظيم ، إذا قلت هذا القول وكأنك بهذا نسبت الظلم إلى الله ، فإن هذه المقولة لا ينبغي أن تقولها ، لذلك قال الله تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) ﴾
[ سورة الأنبياء ]
لا تقل كلاماً لست متأكداً منه ، تثبت من كل شيء تعزوه إلى الله عز وجل ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً﴾ أنتم أيها العباد أعطاكم الله البنين ، وهم في الدرجة الأولى وهو أخذ البنات اللاتي لا تحبونهن ؟! أيعقل هذا ؟ قال الله تعالى : ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)﴾ كيف هذا القول العظيم ؟ لأنك إذا وصفت الله عز وجل بوصف لا يليق به فجعلت هذا المستمع ينفر ، أو يبتعد ، أو لا يلتفت ، أو لا يقبل ، قطعته عن مولاه ، أعظم جريمة تقترفها أن تبعد الناس عن الله عز وجل ، وأعظم عمل تفعله في الدنيا أن تقرب الناس إلى الله عز وجل ، يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من أحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : يا داود ذكرهم بآلائي ونعمائي وبلائي .
من ينسب الضلال إلى الله فهو الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري:
أخي يضلّ من يشاء ، الله أضلّ فلاناً ، أنت لست متأكداً من هذا المعنى ، الله عز وجل إذا عُزيَ الضلال إليه فهو الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري ، والدليل قوله تعالى :
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) ﴾
[ سورة الصف ]
أي إذا قرأت القرآن وحدك من دون أن تسمع تفسيره من الذين آتاهم الله فهم الكتاب فهذا خطأ كبير ، قد تقول : يُضلّ من يشاء ، الله عز وجل جعل هذه الآية موجزة ، قال :
﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) ﴾
[ سورة يوسف ]
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
[ سورة القصص ]
﴿ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)﴾
[ سورة المائدة ]
الله بيّن وفصل في آيات أخرى من هؤلاء الذين لا يهديهم ، لا يهدي فاسقاً ، ولا يهدي ظالماً ، ولا يهدي خائناً ، ولا يهدي كذاباً . . فإذا قال الله عز وجل :
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) ﴾
[ سورة فاطر ]
هذه آية مفصلة في آيات أخرى . إذا قال الله عز وجل :
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) ﴾
[ سورة الصافات ]
هذه آية لها سياق معين :
﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) ﴾
[ سورة الصافات ]
خلقكم مع هذه الأصنام التي تنحتونها ، إذاً من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار ، كان بعض أصحاب رسول الله إذا قالوا في القرآن قالوا : إن أصبنا فمن الله ، وإن أخطأنا فمن أنفسنا ، كلام الله ، فلذلك : ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)﴾ كلمة يضل من يشاء مفصلة في آيات كثيرة .
إذا أضلّ الله الإنسان فإنه يضله عن شركائه لا عن ذاته :
شيء آخر ؛ إذا أضلّ الله الإنسان فإنه يضله عن شركائه ، لا يُضله عن ذاته ، قد يتوهم الإنسان أن زيداً من الناس بيده مصيره ، أو بيده رزقه ، أو بيده خيره وشره ، عندئذ يجعل الله سبحانه وتعالى هذا الإنسان الذي وضعت كل آمالك عليه يخيب ظنك ، بمعنى أن الله قد أضلك عنه ، إن الله عز وجل يُضل عن شركائه ، ولا يضل عن ذاته ، هذا معنى قوله تعالى :
﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) ﴾
[ سورة فاطر ]
فإذا أخذت الآيات أخذاً سريعاً من دون تبصر ، من دون فهم ، من دون تعمق ، وظننت أن الله خلقه ليضله ، لا :
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ﴾
[ سورة هود ]
خلقهم ليرحمهم .
العبادة علة الخلق :
علة الخلق :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) ﴾
[ سورة الذاريات ]
لعلة العبادة ، والعبادة طاعة طوعية ، تسبقها معرفة يقينية ، وتنتهي بسعادة أبدية ، علة الخلق بنص القرآن الكريم العبادة ، أي الإقبال ، الاستغراق ، فلذلك لا يحق للإنسان أن يقول على الله قولاً عظيماً ، فإذا عُزي الضلال إلى الله فهذا هو الضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري .
آيات أخرى توضح ذلك : ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ . .
﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)﴾
[ سورة فصلت ]
الإنسان مخير .
النهي عن افتراء الكذب على الله :
لذلك ليس المقصود بهذه الآية : ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)﴾ ليس المقصود من هذه الآية هذا الكلام بالذات حصراً ، حينما قال الله عز وجل :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) ﴾
[ سورة الإسراء ]
في اللغة معنى أف أي أن يصدر منك نَفَسٌ بصوت مرتفع ، وهو يعني التضجر ، فهل المقصود بهذه الآية أن الله عز وجل نهاك عن كلمة أف فقط ؟ إذا ظننت أن الله عز وجل نهاك عن كلمة أف فقط فهذا هو المدلول اللغوي فقط ، ولكن للآية حكماً شرعياً ، والحكم الشرعي هو أن كل شيء تستاء منه الأم والأب ، لو أنك خبطت الباب بوجههما ، لو أنك شددت النظر إليهما ، لو أنك قسوت معهما في الكلام ، الحكم الشرعي لهذه الآية : أي شيء صغر أم كبر يؤدي إلى إساءة للأم والأب محرم بنص هذه الآية ، مع أن الآية تقول : ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ هذا من علم الأصول ، ليس المقصود أف ، المقصود كل شيء ، كل قول ، كل عمل ، كل فعل ، كل تصرف يؤدي إلى الإساءة إلى الأم والأب ، هذه الآية أيضاً لا أسمع ، ولن أسمع في هذا العصر من يقول : إن الله عز وجل اصطفى له البنات ، وأعطانا البنين ، هذا قاله الكفار في عهد النبي عليه الصلاة والسلام ، وردّ الله عليهم : ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)﴾ ولكن المقصود ألا تفتري على الله الكذب ، لا تقل : الله كذا وكذا وأنت لا تعلم ذلك ، لا تنسب شيئاً إلى الله عز وجل أنت تترفع عنه .
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له : إياكَ إياك أنْ تبتلَّ بالمـــاءِ
***
مستحيل ! لذلك فالله عز وجل قال :
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148)﴾
[ سورة الأنعام ]
إذاً أن تقول : الله خلقني هكذا ، لا أصلي ، هكذا يريد الله عز وجل ، أن تعزو تقصيرك إلى الله عز وجل فهذا افتراء على الله ، إذاً هذه الآية تحتمل هذا المعنى الجزئي ، هذا الخاص الذي نصت عليه ، وتحتمل أي معنى آخر يعزى إلى الله عز وجل الله سبحانه وتعالى منَّزه عنه :
﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) ﴾
[ سورة الأعراف ]
يقولون لك الآن : هذا الذي قدره الله عليّ ، لماذا تعصي الله ؟ هكذا ، كقول العوام : " طاسات معدودة في أماكن محدودة " ! " لا تعترض فتنطرد " ، هذا كلام جهل ، أن تنسب المعصية وشرب الخمر وكل شيء إلى الله ، ثم تقول : هذا قدره الله عليّ ، أليس لك حيلة إطلاقاً أنت ؟ هذه دائرة الاختيار .
من حمَل ذنبه على الله فقد فجر ، لو أن الله عز وجل أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، إذا قصرت في شيء ، وجاءت النتائج غير مرضية تقول : هذا من فعل الله ، هو من فعل الله ، هذه كلمة حق أريد بها باطل ، لكنك مقصر ، وسوف تحاسب على تقصيرك ، ما من شيء يقع إلا بأمر الله ، ولكن أمر الله متعلق بشرعه ، وشرعه نهاك عن هذا الأمر ، مادام هناك نهي فأنت مذنب ، وسوف تحاسب ، أما كلما قصرنا ، كلما ارتكبنا مخالفات ، تعزى إلى الله عز وجل ببساطة : ﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40)﴾ أيعقل أن تتهم أباً حريصاً حرصاً بالغاً على أن يعلم ابنه أنه منع ابنه بالقوة من المدرسة ؟ مستحيل ، لا يعقل أن يوصف أب بذلك ، ولا سيما إذا كان حريصاً على تعليم أولاده .
معنى صَرَّفْنَا في الآية التالية :
1 ـ الله عز وجل نوَّع في القرآن الكريم ألوان الخطاب :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41)﴾ ، الآية : ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ﴾ الله عز وجل يخاطب كفار قريش ، الآية الثانية : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ﴾ انتقلت صيغة التكلم من المخاطبة إلى الغيبة ، قال علماء البلاغة : هذا اسمه : التفات ، ومعنى الالتفات أن هؤلاء المشركين ليسوا جديرين أن يخاطبوا ، لذلك تركهم الله عز وجل وأخبر عنهم ، ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41)﴾ ما معنى صَرَّفنا ؟ صرف الشيء بمعنى قلّبه ، الله عز وجل نوَّع في هذا القرآن الكريم ألوان الخطاب ، جعل التقرير ، وجعل التصوير ، وجعل القصة ، وجعل المثل ، وجعل الوعد ، وجعل الوعيد ، وجعل الأمر ، وجعل النهي ، وجعل التخويف ، وجعل التبشير ، وجعل الإنذار ، وجعل الأخبار وسرد الآيات ، وتعداد النعم ، وتعداد النقم ، ألوان ملونة ، تارة يأتي بالمثل ، وتارة يأتي بقصة ، وتارة يأتي بالوعد .
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) ﴾
[ سورة النور ]
وتارة يأتي بالوعيد ، وتارة يأتي بالمثل ، ويأتي بالأمر ، ويأتي بالنهي ، تلوين الكتاب من أمر إلى نهي ، إلى وعد ، إلى وعيد ، إلى تقرير ، إلى تصوير ، إلى مثل ، إلى قصة ، إلى خبر ، إلى أمر ، إلى نهي ، إلى مخاطبة ، إلى غيبة ، إلى تكلم ، إلى استخدام ضمير المتكلم ، إلى استخدام ضمير الغائب . . هذا التلوين والتنويع والتفصيل والإيجاز تارة ، والفصل تارة ، والوصل تارة ، الألوان المنوعة من الأساليب الأدبية والبلاغية في كتاب الله ليذكروا .
أحياناً المعلم الحريص الرحيم الحكيم يتفنن بعرض الدرس كي يفهم الطالب ، كي ينجذب إلى الدرس ، كي يتعلق به ، كي يزداد حرصه على العلم ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ صرفنا ، هذا المعنى الأول .
2 ـ القرآن الكريم نزل منجماً :
أما المعنى الثاني للتصريف أن هذا القرآن الكريم نزل منجماً ، ولو أنه نزل دفعة واحدة لثقل عليه ، نزل مع كل مناسبة ، مع كل حادثة ، مع كل موعظة ، جاءت الآيات تباعاً بشكل لطيف ، الله عز وجل قال عن النحل وعن بعض السكريات :
﴿ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)﴾
[ سورة النحل ]
إشارة لطيفة بعيدة إلى أن هناك رزقاً حسناً ، وهناك سكراً ، كأنه رزق غير حسن ، تقول : هذا شراب لذيذ غير هذا الشراب ، يفهم من هذا أن الشراب الثاني دون الأول ، ثم قال الله عز وجل :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) ﴾
[ سورة النساء ]
ثم قال الله عز وجل :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)﴾
[ سورة البقرة ]
إلى أن جاء قوله سبحانه :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)﴾
[ سورة المائدة ]
جاء التحريم تدريجياً رحمة ولطفاً وحكمة وعطفاً ، لذلك : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ تلوين ، تأتي قصة يوسف ، صفحات كثيرة من أجل أن تؤكد حقيقة واحدة .
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) ﴾
[ سورة يوسف ]
هناك آيات أخرى :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) ﴾
[ سورة محمد ]
آية تقريرية موجزة ، أحياناً تأتي صورة :
﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) ﴾
[ سورة الحج ]
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) ﴾
[ سورة البقرة ]
مثل ، تشبيه ، فالتنويع بين المثل ، والقصة ، والتقرير ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والخبر ، والإنشاء ، والحض ، والاستفهام ، والنداء ، والتَرَجِّي ، والتمني . . هذا التلوين الشديد في أساليب عرض القرآن الكريم إنما هو رحمة منه ، لعل قلوبنا تهفو إليه ، من أجل أن نقرأه ، أن نطبقه ، أن نسعد به .
تدبر آيات القرآن الكريم :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا﴾ قال العلماء : ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ بمعنى ليتدبروا ، ومعنى التدبر أن تدرك معنى المعنى ، لكل آية معنى ظاهري ، وخلف هذا المعنى الظاهري معنى آخر أعمق ومقصود ، كما قلت قبل قليل : ﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ المعنى الظاهري أنك منهي عن أن تقول لوالديك : أف لكما ، إذا شخص أخذ الآية على ظاهرها له الحق أن يسيء إلى أمه وأبيه ، له الحق أن يقذع لهما في الكلام ، لكنه لم يقل كلمة أف ، هذا المعنى ظاهري ، أما التدبر فأن تعرف ما وراء المعنى الظاهري ، هناك معنى ظاهري ، وهناك معنى عميق مقصود ، وهذا معنى التذكر ﴿لِيَذَّكَّرُوا﴾ .
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ﴾
[ سورة الحجر ]
اليقين الموت ، لم يقل الله عز وجل : حتى يأتي الموت ، لا ، هو الذي سيأتي إليك مفاجأة في ساعة لست مستعداً لها ، الآن ؟ نعم الآن ، ما من ميت يموت إلا وفي ذهنه آمال كبيرة ، ومشروعات ، وطموحات ، وخيالات ، وتمنيات لا تنقضي بعشرين عاماً قادمة ، جاء الموت ، لا تقل : إنك مشغول ، فلا يوجد ميت ذهب إلا وكان مشغولاً ، لا يوجد إنسان توفي إلا وعليه قائمة أعمال لم تنته ، مات ولم تنته ، لذلك اشتغل بذكر الله ، اعتزل ذكر الأغاني والغزل ، اشتغل بذكر الله ، ولا تنس ذكر الله .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) ﴾
[ سورة الأحزاب ]
محال أن تذكره ولا يذيقك طعم القرب منه ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا﴾ اقرأ القرآن ، تأمل في آياته ، اسأل عن آياته ، احضر مجالس العلم فيها تفسيره ، تفهم الآيات ، اعرف مدلولاتها ، أبعادها ، مؤداها ، تطبيقها العملي.
توهم أهل الشرك أن التدين حدّ لشهواتهم :
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41)﴾ لماذا ؟ لأن أهل الشرك ، وأهل النفاق ، وأهل الأهواء ، هؤلاء شهواتهم غالية عليهم ، هؤلاء اتخذوا إلههم هواهم ، فإذا جاء القرآن على الرغم من وعده ووعيده ، وصوره وتقريره ، وتفصيله وإيجازه وإطنابه ، وعلى الرغم من أمره ونهيه ، كل هذا التلوين يزيدهم نفوراً ، لأن القرآن في زعمهم سيحد من شهواتهم ، سيوقفهم عند هذا الحد ، مع أن الحقيقة الكبرى :
(( مَا كَانَ اللَّه لِيُعَذِبَ قَلْبَاً بِشَهْوَةٍ تَرَكَهَا صَاحِبُهَا فِي سَبِيلِ اللَّه . ))
[ ليس حديث وإنما ذكره أبو نعيم في الحلية من قول أبي سليمان الداراني ]
أي إذا التفت إلى الله غسل الله لك قلبك من السوى ، هذه التعلقات ، وهذه التمزقات ، وهذه الصراعات ، وهذا التشعب ، وهذا التشتت ، وهذا التبعثر ، وهذا التعدد ، وهذه الازدواجية ، وهذه الأمراض كلها أنت معافى منها إذا عرفت الله عز وجل ، تتوحد وجهتك ، تكتمل شخصيتك ، يتحدد هدفك ، تختار لهذا الهدف الوسائل الناجحة الرائعة ، إن هذا كله يؤكد أنك إذا عرفته عرفت كل شيء ، وإن فاتك فاتك كل شيء ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء .
إذاً : ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41)﴾ بمعنى أن أهل الشرك يتوهمون أن في التدين حداً لشهواتهم ، لنأخذ موضوع النساء فقط ، لو أنك استقمت على أمر الله ، وغضضت البصر عن النساء اللاتي لا يحل لك أن تراهن ، لأنعم الله عليك بالوفاق الزوجي ، الله عز وجل يلقي المودة والمحبة بينكما ، يوفق بينكما ، يجمع بينكما على خير ، يخرج منكما الكثير الطيب ، تحفكما ملائكة الرحمن ، هذا البيت مقدَّس ، مبارك ، فيه وفاق ، فيه وئام ، فيه محبة ، فيه مؤاثرة ، فيه تضحية ، فيه هدوء ، فيه سكينة ، إذا كان الله بين الزوجين كان التوفيق حليفهما ، وإذا كان الشيطان بينهما كان الشقاق ، والخصام ، والنكد ، والغضب ، والحياة الخشنة الصعبة ، لذلك :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) ﴾
[ سورة طه ]
﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)﴾
[ سورة الجن ]
إذا تناول أحدكم دواء ، ولم يؤثّر فيه يرفع الطبيب العيار ، كلما قلّ تأثير الدواء رفع الطبيب مقدار الكمية الفعالة في الدواء ، ﴿وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً (17)﴾ لذلك إذا بني الزواج على معصية الله عز وجل تولى الشيطان التفريق بين الزوجين ، إذا بني على طاعة الله عز وجل تولى الرحمن التوفيق بينهما ، الشيطان يتولى التفريق ، قال عليه الصلاة والسلام : عن معقل بن يسار :
(( مَن فَرَّقَ فليس منا . ))
[ ضعيف الجامع : خلاصة حكم المحدث : موضوع : أخرجه الطبراني ]
فإذا كان لإنسان دور التفريق فهو شيطان .
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) ﴾
[ سورة النساء ]
توفيق الله للحكام بين الزوجين منوط أن يريدا الإصلاح ، فإذا أراد الحكم الفراق لم يوَفّقا إلى ذلك ، ﴿وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً (41)﴾ .
معاني قوله تعالى : لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً :
﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)﴾ هذه الآية دقيقة جداً ، العرب في الجاهلية كانت تعبد أصناماً من دون الله ، وتزعم أن هذه الأصنام تقرِّبها إلى الله زلفى ، فالله سبحانه وتعالى يقول : هذه الآلهة التي تزعمون أنها تشاركني في الألوهية ، هذه الآلهة بزعمكم إنها تعبدني أيضاً ، إذاً ليست آلهة ، فلماذا أنتم أيها المشركون لا تعبدون الله عز وجل وحده من دون أن تشركوا به ؟ هذا هو المعنى الأول ،
﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ﴾ كما يزعمون ، بالمناسبة كلمة : (لو )حرف امتناع لامتناع ، العملية كلها فرضية ، لو جئتني لأكرمتك ، أنت لم تأت وأنا لم أكرمك ، فـ (لو) تُسَمَّى حرف امتناع لامتناع ، تجتهدون في عبادتي بزعمكم أنها أقرب إلى الله منكم ، إذاً أنتم تتخذونها وسيلة مقربة ، مادامت هذه الآلهة تعبد الله إذاً ليست آلهة ، هذا كلام متناقض ، لأنها تبتغي هي إلى ذي العرش سبيلاً ، ذو العرش هو الله عز وجل ، العلي الأعلى ، تبتغي إليه سبيلاً ، إذاً هي تعبد مثلكم ، إذاً هي ليست آلهة ، هذا هو المعنى الأول .
أما المعنى الثاني : ﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42)﴾ لو كانوا فعلاً آلهة لكانوا تنازعوا ، كانوا أرادوا أن يصلوا إلى ذي العرش ليحلوا محله ، وينازعوه هذا العرش :
﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) ﴾
[ سورة الأنبياء ]
المَركب له رُبَّان واحد ، والطائرة لها رُبَّان واحد ، الثاني احتياط ، أما الذي يقودها في الجو فشخص واحد ، وفي الأرض واحد ، فأي عمل ، أي دائرة ، أي مدرسة ، أي مجال للعمل لا بد من قائد واحد ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ فهؤلاء الآلهة المزعومة ، كلمة (لو )شيء افتراضي ، لو أنها حقيقة آلهة لابتغت إلى ذي العرش سبيلاً ، لاتجهت إليه تنازعه العرش ، ولكان خصام ، ولكان قتال ، ولكان منازعة ، ولكان شيء لا يعقل .
إذاً لا المعنى الأول ، ولا المعنى الثاني وقع ، العملية كلها افتراضية ، لكنها مناقشة علمية لهؤلاء الذين يزعمون أن مع الله آلهة أخرى .
التشديد في الفعل الماضي يفيد التكثير :
في الآية الماضية فاتني التعليق على فعل (صرَّف) ، لدينا في اللغة صرّف وصَرَفَ ، قَطَعَ وقطّع ، غَلَقَ وغلّق ، كَثَرَ وكثّر ، قَطَع اللحم أي قطعه قطعتين ، أما قطّعها جعلها آلاف القطع ، التشديد في الفعل الماضي يفيد التكثير ، صَرَفَ أي فيها أسلوبان ، أما صرّف ففيها مئة أسلوب ، ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ ، فالفعل الثلاثي المضعف يفيد معنى التكثير والمبالغة ، كسر الإناء قطعتين ، أما كسّره سحقه تحت قدميه ، كَسَرَ ، وكسّر ، وغلّقت الأبواب ، غَلَق الباب ، أما غلّقه أرتجه ، أحكم إغلاقه ، فإذا استخدمت الفعل الماضي الثلاثي الذي عينه مشددة ففيه معنى المبالغة ، ومعنى التكثير ، ربنا قال : ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ أي أكثرنا من الأساليب البلاغية .
ما من شيء إلا ويسبح الله عز وجل :
﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43)﴾ لذلك كلمة : (سبحان الله) تنزيه لذات الله عما لا يليق به ، كلما سمعت عن الله شيئاً لا يليق به فقل : سبحان الله ، هو أعظم ، وأرفع ، وأجلّ ، وأعظم وأعلى من أن يكون كذلك ، هذا هو التسبيح ، ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ وكأن السماوات عاقلة لأنها تسبِّح ، طبعاً هذه الآية العلماء لهم آراء متعددة في فهمها : ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ ﴾ السماوات كلها ، والأرض كلها ، ﴿وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ في السماوات والأرض ، من الملائكة والإنس والجن ، ﴿وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ المقصود بهن الملائكة والإنس والجن ، السماوات السبع والأرضون السبع ومن فيهن تسبح الله عز وجل ، فيا أيها الإنسان ، يا من خُلق لك الكون من أجلك .
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾
[ سورة البقرة ]
وخلق لكم ما في الأرض والسماوات والأرض ، وسخر لكم ما في السماوات والأرض ، الكون كله يسبح الله ، وقد سُخّر من أجلك .
وأنت أيها الإنسان المكرم ، يا من سخّر لك الكون تغفل عنه ؟ أنت الغافل إلى متى؟
أيا غافلاً تبدي الإساءة و الجهـلا متى تشكر المولى على كل ما أولى؟
عليك أياديه الكرام وأنت لا تراهـــــا كــــــأن العيــــــن عميــــاء أو حــــــــــــــولا
لأنت كمزكوم حوى المسك جيبـــــه ولكنه المحروم ما شمّــــــــه أصــــــــــلا
***
أتغفل عن ذكر الله وكل ما في الكون يسبحه ؟ لو أن رجلاً له أم وله عشرة إخوة ، فكان يوم العيد تسعة إخوة له جاؤوا أمهم مع الهدايا ، ومع التعظيم والتبجيل والاحترام ، وهو غائب عن هذا المكان ، أيليق بك أيها الإنسان أن تكون الدابة أفضل عند الله منك ؟ أن يكون الجماد أفضل عند الله منك ؟ وأن يكون النبات كذلك ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ ، قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ . ))
[ صحيح مسلم ]
قال بعضهم : الحجر الأسود ، يسلم عليّ وأسلم عليه ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ:
(( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَسْتَنِدُ إِلَى جِذْعِ نَخْلَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ ، فَلَمَّا صُنِعَ الْمِنْبَرُ ، وَاسْتَوَى عَلَيْهِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ السَّارِيَةُ كَحَنِينِ النَّاقَةِ ، حَتَّى سَمِعَهَا أَهْلُ الْمَسْجِدِ ، حَتَّى نَزَلَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاعْتَنَقَهَا فَسَكَتَتْ . ))
[ صحيح النسائي ]
جذع النخلة حنّ إليه ، الحجر سلم عليه ، وأنت لا تعرفه بعد .
﴿ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) ﴾
[ سورة المؤمنون ]
لذلك الإنسان موقفه يوم القيامة موقف الخزي والعار ، إذا كانت كل الخلائق تسبح الله ، لا تفتر عن تسبيحه ، والإنسان الذي خُلِق الكون كله من أجله غافل عن الله عز وجل ، لذلك :
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)﴾
[ سورة البقرة ]
إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول : يا رب لإرسالك بي إلى النار أهون عليّ مما ألقى ، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب ، وتأتيه النار تلفح وجهه :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) ﴾
[ سورة النساء ]
﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) ﴾
[ سورة الدخان ]
تدّعي في الدنيا أنك كذلك ، ذق لفح جهنم ، فلذلك : ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ المعنى الأول : أن التسبيح حقيقي ، وإن من شيء فضلاً عن الأرض وما فيها ، والسماوات وما فيها ، وإن من شيء أي ما من شيء ، إن حرف نفي ، ومن لاستغراق كل شيء ، لا يوجد شيء إلا يسبح الله هذا معنى ، لكن ما من شيء أي : ما فاتك شيء واحد.
لكل مخلوق تسبيح حقيقي خلقه الله عز وجل :
﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ يسبحون بلغة لا تعرفونها ، بعض علماء التفسير قالوا : التسبيح هنا بأن صنعة هذا الشيء متقن ، فإذا رأيتها تأملتها ، وقلت : سبحان الله ! هذا المعنى لا يغطي كل الآية ﴿ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ لابدّ أن هناك تسبيحاً حقيقياً لكل مخلوق خلقه الله عز وجل ، ولكن مادية الإنسان وحجبه الكثيفة تحول بينه وبين أن يرى تسبيح من حوله ، لذلك عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ :
(( كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، فَوَعَظَنَا ، فَذَكَّرَ النَّارَ ، قالَ : ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ ، قالَ : فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ فَذَكَرْتُ ذلكَ له ، فَقالَ : وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما تَذْكُرُ ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ ، فَقُلتُ : يا رَسُولَ اللهِ ، نَافَقَ حَنْظَلَةُ فَقالَ : مَهْ فَحَدَّثْتُهُ بالحَديثِ ، فَقالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَنَا قدْ فَعَلْتُ مِثْلَ ما فَعَلَ ، فَقالَ : يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ، ولو كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كما تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ ، حتَّى تُسَلِّمَ علَيْكُم في الطُّرُقِ . وفي رواية : كُنَّا عِنْدَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَذَكَّرَنَا الجَنَّةَ وَالنَّارَ ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَديثِهِمَا . ))
[ صحيح مسلم ]
كلما ارتقيت إلى الله عز وجل شفَّت نفسك ، فإذا شفّت نفسك رأيت ما لا يراه الآخرون ، سمعت ما لا يسمعون ، لذلك هذه الحالة يسميها الصوفيون حالة الكشف ، تنكشف لك الحقائق ، ترى :
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
***
ترى الله عز وجل ، ترى عظمته في كل شيء :
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)﴾
[ سورة الملك ]
أيّ شيء تقع عينك عليه تراه يسبح الله عز وجل .
القرآن الكريم لا يصل إلى معانيه إلا من كان طاهر القلب من الشرك والنفاق:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً(45)﴾ هذا القرآن الكريم لا يستطيع أن يصل إلى معانيه إلا من كان طاهر القلب من الشرك والنفاق ، لأن الإنسان إذا تلبس بالمعصية كان القرآن عمى عليه كما قال الله عز وجل : ﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً (82)﴾ وهو عمىً عليهم .
قد يقرأ الإنسان المعرض القرآن فيفهمه فهماً معكوساً ، قد لا يتأثر به ، لذلك القرآن يحتاج إلى نفس طاهرة مخلصة من كل شرك ، ومن كل دنس ، ومن كل معصية .
أهل الدنيا لا ترضيهم إلا الدنيا :
﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً(46)﴾ الله عز وجل إذا رأى من العبد إنابة وتوبة وإخلاصاً فتّح قلبه لذكره ، شرح الله صدره للإسلام ، أما إذا رأى في قلبه شهوة ، وفي سلوكه نفاقاً ، وفي عمله رياءً ، وأن له مطالب أرضية ، وأن الدنيا أكبر همه ، ومبلغ علمه ، كان بعيداً عن كتاب الله بُعد الأرض عن السماء ، فالأصل أن تكون طالب حق ، وأن تكون صادقاً ، ومخلصاً ، وطاهراً ، عندئذٍ تتفتح مشاعرك ، وينفتح قلبك لهذه المعاني التي أنزلها الله عز وجل .
سبحان الله ! في كتاب الله معانٍ لا تنتهي ، كلما ازددت قرباً من الله عز وجل كُشفت لك المعاني ، فقد تقرأ سورة وتقول : والله كأنني أقرؤها أول مرة ، كأن الله عز وجل سمح لك هذه المرة أن يكشف لك عن بعض المعاني التي لم تكن مكشوفة لك من قبل ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45)﴾ :
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾
[ سورة هود ]
هذه الرحمة التي آتاها الله أنبياءه وأحبابه عمّيت على بعض الناس ، لذلك المؤمن في نفسه شعور بالغنى لأنه عرف الله عز وجل ، يرضيه من الدنيا كل شيء ، لكن أهل الدنيا لا ترضيهم إلا الدنيا ، فإذا زالت عنهم أو نقصت أو قلت انهارت نفوسهم وتمزقوا ، ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ كأن على القلب سداً :
﴿ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) ﴾
[ سورة يس ]
النبي عليه الصلاة والسلام كان مع صاحبه الصدّيق في غار حراء ، وقعت عين بعض المشركين على سيدنا الصديق فقال : لقد رأوني ، قال : يا أبا بكر ألم تسمع قوله تعالى :
﴿ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198) ﴾
[ سورة الأعراف ]
﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً﴾ في السيرة النبوية قصص كثيرة ، كيف خرج النبي يوم الهجرة من بيته ، الله جعل على عيونهم سداً لئلا يروه ، ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)﴾ أي إذا عزوت إلى الله الأمور ، إذا قلت : لا إله إلا الله ، لا معز إلا الله ، لا مذل إلا الله ، لا معطي إلا الله ، لا مانع إلا الله ، بيده الخلق والأمر ، إليه يرجع الأمر كله ، هو كل شيء :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
***
إذا فعلت ذلك ﴿وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)﴾ أما إذا أشركت وقلت : زيد وعبيد ، وفلان وعلان ، وفلان بيده هذا ، وفلان بيده هذا ، وهذه تحل عند هذا ، وهذه مفتاحها هذا ، إذا بدأ الشرك ينساب من شفتيك جمّع الناس حولك ، وأصغوا إليك ، وتعاطفوا معك ، فإذا ذكرت الله وحده ﴿وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)﴾ لذلك إذا أردت أن ينفضّ عنك من لا ترجو منه هدى فاذكر الله وحده ، هذا الذي في قلبه شرك وفي قلبه نفاق لا يحتمل أن يذكر الله وحده.
اتهام النبي الكريم بالكهانة والسحر والشعر :
﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (47)﴾ في ندواتهم ، في خلواتهم ، في لقاءاتهم ، في سهراتهم ، في نزهاتهم ، إذا جاء ذِكْرُ المؤمنين ، ذِكْر النبي الكريم عليه الصلاة والسلام يقولون : هذا رجل مسحور ﴿ إنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (47)﴾ أي تأتيه الشياطين ، يهذي ، يقول كلاماً غير معقول ، قالوا : مجنون ، قالوا : ساحر ، قالوا : شاعر ، قالوا : كاهن ، اتهموه بالكهانة وبالسحر وبالشعر . . والله سبحانه وتعالى برّأه .
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ﴾
[ سورة القلم ]
أحياناً يكون للإنسان أقرباء من أهل الدنيا ، رأوه مستقيماً ، ورعاً ، حريصاً على دينه ، يقول : هذه حرام ، وهذه حرام، هذه لا تجوز ، هذه أخاف الله رب العالمين ، قد يسخرون منه ، وقد ينعتونه ببعض النعوت ، بالجمود ، والقوقعة ، والتزمت ، لا تعرف الحياة ، أنت جامد ، افرح بهذه التهم ، هذه أوسمة شرف لك ، لا تسعَ لإرضائهم ، إرضاؤهم لا يجدي . ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ النبي الكريم عليه الصلاة والسلام دخل إلى مجالسهم ، وتلا عليهم بعض الآيات من القرآن ، فلما خرج تحاوروا ، وتناقشوا ، واختلفوا ، واتهموه بأنه ساحر ، وأنه مجنون ، وأنه شاعر ، وأنه كاهن ، وقالوا : ﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً (47)﴾ هذا مسحور .
استهزاء الكفار وإصرارهم على شهواتهم :
﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48)﴾ حينما تناول أحد المشركين عظماً وفتّته قال :
﴿ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) ﴾
[ سورة يس ]
يقول هذا بكل فلسفة ، أمسك بالعظم وفتّته .
﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) ﴾
[ سورة يس ]
﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ لو أنكم كالجبال تعادون إلى ما كنتم عليه ﴿فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ﴾ بمعنى يهزون رؤوسهم استهزاءً ، أحياناً تتكلم مع رجل فتعطيه حجة دامغة ، أنت أفحمته ، لكنه غير مقتنع داخلياً ، مصرّ على شهوته ، ماذا يفعل ؟ أسقط في يده ، يهز رأسه استهزاءً .
الله سبحانه وتعالى يُحمد على كل شيء :
﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً(52)﴾ قال العلماء : حينما يُدعى الناس ليوم البعث والنشور يقولون : الحمد لله :
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾
[ سورة يونس ]
حينما يبعثون على حمد الله ، وحينما ينتهي الحساب على حمد الله ، لأن الله سبحانه وتعالى يحمد على كل شيء ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ بمعنى أيّ شيء ساقه الله لك في الدنيا حينما تكشف لك الحقيقة ، يكشف الغطاء ، تقول : الحمد لله ، لا تملك إلا هذه الكلمة ، لأن الله عز وجل حكمته مطلقة ، ورحمته مطلقة ، وعدله مطلق ، وكماله مطلق ، ولطفه مطلق ، لذلك إذا انكشف لك الحق لا تملك إلا أن تقول : الحمد لله ، إذا دخل إنسان غرفة العمليات ، وبقي خمس ساعات ، ثم رأى الحصاة الكبيرة التي انتزعت من بين كليتيه ، والعملية نجحت رغم الآلام ، ورغم المتاعب ، ورغم المخدر ، لا يملك إلا أن يقول للطبيب : لك الشكر ، شكراً لك ، فالإنسان يوم القيامة حينما يرى الحقيقة لا يملك إلا هذه الكلمة ، ولو أن الله عز وجل ساقه إليه ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾ .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين