الحمد لله رب العالمين ، وأفضل والصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الإنسان مخير :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الثالث من سورة الإسراء .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا(18)وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا(19)كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ .. هذه الآيات الثلاثة تبين وتؤكد أن الإنسان مخير .
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ ﴾ تبين أن للإنسان الكسب ، وأن الله سبحانه وتعالى يملك الفعل ، لك الكسب ، وله الفعل .
الشيء الثالث : أنك مخير ، لكنك مسير لتحَمُّل تبعة اختيارك ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ .. الله عز وجل يعطي الدنيا لمن يطلبها ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ﴾ هذه الدنيا القصيرة ، المحدودة ، المشحونة بالمتاعب والهموم ، التي نمضي معظمها في الإعداد إلى أقلها .
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لا دَارَ لَهُ ، وَمَالُ مَنْ لا مَالَ لَهُ ، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لا عَقْلَ لَهُ . ))
[ السلسلة الضعيفة : خلاصكم حكم المحدث : ضعيف ]
إن أسعد الناس فيها أرغبهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها .
أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عن الدنيا ، أبعدهم عنها ، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها .
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ﴾ من طلب الدنيا ، وأصَرَّ عليها ، فالله سبحانه وتعالى يعطيه إياها ، ولكنها هينة عند الله عز وجل ، لا شأن لها . عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء . ))
[ المنذري : الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن ]
فلينظر ناظر بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ، فإن قال : أهانه ، فقد كذب ، وإن قال : أكرمه ، فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا ، لو يعلم الملوك ما نحن عليه - كما قال أبو يزيد البسطامي رحمه الله- لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف .
فأحوال أهل الدنيا أحوال القلق ، والخوف ، والحرص ، وأحوال أهل الآخرة أحوال الطمأنينة ، والرضا ، والاستسلام ، والتفاؤل ، والثقة ، إن شعور الرجل المؤمن بأن الله سبحانه وتعالى راضٍ عنه هذا شعور لا يعدله شعور آخر ، وإن شعور الكافر بأن حياته سوف تنتهي ، وأن الموت ينتظره إن هذا الشعور المقلق لا حدود لتعاسته ، فلذلك ربنا عز وجل قال : أنتم مخيرون : ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ .
أرزاق الدنيا بقدَر وتفاوت :
هناك حكمة ، يعطي من الدنيا بالقدر الذي يشاء ، ويعطي هذا القدر الذي يشاء لمن يشاء من طالبي الدنيا ، معنى ذلك أن من طلبها بإصرار أعطاه الله إياها ، ومن كان طلبه إياها ليس معه إصرار ربما أخَّرَهَا عنه فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن رافع بن خديج:
(( إذا أحبَّ اللهُ عزَّ وجلَّ عبدًا حماه الدُّنيا كما يَظلُّ أحدُكم يحمي سقيمَه الماءَ . ))
[ المنذري | المصدر : الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن :التخريج : أخرجه الطبراني وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) ]
عن حذيفة بن اليمان :
(( إنَّ اللهَ يَحمي عبدَه الدنيا كما يَحمي الرَّاعي الشفيقُ غنمَهُ عن مراتعِ الهَلَكَةِ . ))
[ السلسلة الضعيفة : خلاصة حكم المحدث : ضعيف جدًا ]
الحقيقة الأولى : أن الإنسان مخير ، وأنك إذا اخترت اختياراً غير صحيح لا بد من تحمل تبعة اختيارك .
طالب الدنيا مذموم في الآخرة :
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ .. مذموماً من قِبَل نفسه ، ومذموماً من قِبل الخلق ، ومذموماً من قِبل الحق ، أما مدحوراً أي هذا الذي يساق إلى الإعدام ، هل هو مخير ؟ لو أنه بكى هل يعفى عنه ؟ لو أنه توسل ، لو أنه رجا ، لو أنه أعلن ندامته ، مدحوراً أي قسراً ﴿ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ كنت مخيراً ، فلما اخترت العاجلة أصبحت الآن مسيراً .
طالب الآخرة يسعى لها بشروطها وقوانينها :
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ ..علامة الإرادة الصادقة السعي الذي يتوافق مع شروطها .
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ أي لها سعي خاص ، لا بد من أن تحوط الآخرة من كل جوانبها ، لا بد من أن تتخذ جميع الأسباب ، لا بد من أن تمتلك موجبات الرحمة ، لا بد من أن تسعى للآخرة وفق الشروط التي وضعها الله عز وجل ، لا وفق شروط تخترعها أنت ، ﴿ وَسَعَى لَهَا﴾ لو قال ربنا عز وجل : وسعى لها ، أي سعي مقبول ، لكن : ﴿ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ المطلوب ، سعيها المحدد ، سعيها المقنن ، ﴿ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ من قِبَل أنفسهم ، ومن قِبَل الخلق ، ومن قِبَل الحق .
الإنسان المختار يتحمّل تبعة اختياره :
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ﴾ .. أي جميع البشر على وجه الأرض ، الله سبحانه وتعالى يُمدّهم بما يختارون ، فهم إذاً يتحملون تبعة اختيارهم ، يُمدهم بما يختارون ، أي حينما تقف على إشارة المرور ، والإشارة حمراء اللون ، أنت مخير أن تمشي ، أو لا تمشي ، فإذا اخترت أن تخالف القانون عندئذ تفقد اختيارك ، لا بد من أن تساق لتحمل تبعة هذه المخالفة ، الأمر واضح تماماً ، ﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ - أصرّ عليها وطلبها - عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ﴾ هنا تأتي الحكمة ، نعطي بالقدر الذي نشاء ولمن نشاء ، نعطي من نشاء بالقدر الذي نشاء ، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ لا محيد عن أن يصلاها ، لا محيد عن أن يتلظى بنارها، مذموماً يلعن نفسه ، ويلعنه اللاعنون ، وتلعنه الملائكة ﴿ مَذْمُومًا مَدْحُورًا ﴾ .
من آثر الدنيا خسرها وخسر الآخرة :
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا ﴾ .. واللهِ ما من قولٍ ترك في نفسي أثراً كهذا القول ، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، لأن الله عز وجل يقول :
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾
[ سورة طه ]
آثر الدنيا ، وحصّلَ من أموالها ما يشاء ، وحصّلَ من مراتبها ما يشاء ، وحصّلَ من وسائل القوة فيها ما يشاء ، لأنه أعرض عن الله عز وجل فإنه يعيش حياة شقية ، شقاءً نفسياً ، إن القلق ، والخوف ، والحزن ، والهلع ، والترقب ، والاضطراب ، والقسوة ، والضياع ، هذه الصفات كلها يعيشها ، بينما المؤمن : ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً.
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) ﴾
[ سورة النحل ]
ما قولكم ؟ اختاروا الآخرة تأتِكم الدنيا وهي راغمة ، والآخرة وهي مسعدة ، اختاروا الدنيا تخسروا الدنيا والآخرة ، من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً ، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً ، هل من شعور أكثر إسعاداً للنفس من أن تشعر أن الذي خلق السماوات والأرض ، ومن بيده ملكوت كل شيء ، ومن بيده كل شيء ، ومن إليه يرجع الأمر كله ، ومن بيده كل خصومك ، ومن بيده حياتك وموتك راضٍ عنك ؟ ما هذا الشعور ؟ لذلك قال بعضهم : إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من خلقه ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأصفيائه المؤمنين .
ليس في الإسلام حرمان ولكن لكل شهوة طريق مشروع :
يا أيها الإخوة الأكارم ؛ ملاحظة أتمنى عليكم أن تقفوا على دقائقها : ليس في الإسلام حرمان ، كل الشهوات التي أودعها الله فيك جعل لها قنوات شريفة ، ونظيفة ، وصحيحة ، وعلية ، وكريمة ، وعزيزة ، الشهوة التي يمكن أن توصلك إلى النار يمكن أن تمارسها بطريق مشروع .
مثل صغير ؛ هذا الوقود السائل إذا كان في مستودعه ، والمستودع محكم ، وسار في المواسير الصحيحة إلى المحرك ، إلى الموزع ، إلى غرف الانفجار ، وانفجر في المكان الصحيح ، فولّد هذا الانفجار حركة متتالية ، نقلك من دمشق إلى أحد المصايف ، هذا هو الوقود السائل ، قوة دافعة في خدمتك ، فإذا خرج من خطوطه ، وصُبّ فوق المحرك ، وجاءته شرارة أحرق المركبة كلها ، هذه شهوة .
إذا سلكت الطريق الذي رُسِمَ لَهَا فهي قوة دافعة ، وإذا سلكت طريقاً آخر غير صحيح فهي قوة مدمرة .
حبّ المال ، حبّ النساء ، حبّ العلو في الأرض ، هذه الشهوات التي أودعها الله فينا ، إذا مارستها وفق الشرع الصحيح ، وفق الشرع الحكيم سَعِدت بها ، خُلِقَتْ في نفسك لتسعد بها ، ولترقى بها ، إذا كسبت المال من طريق مشروع ، وأنفقته وفق الوجه الصحيح سعدت بكسب المال ، وسعدت بإنفاقه ، وإذا اخترت زوجة مؤمنة وابتعدت عن خضراء الدمن :
(( عن أبي سعيد الخدري : إيَّاكُم وخضراءَ الدِّمَنِ فقيلَ وما خَضراءُ الدِّمنِ ؟ قالَ : المرأةُ الحسناءُ في المنبتِ السُّوءِ . ))
[ السلسلة الضعيفة : خلاصة حكم المحدث : ضعيف جداً ]
أردت من الزوجة أن تكون مؤمنة..
(( من تزوج المرأة لجمالها أذله الله ، ومن تزوجها لمالها أفقره الله ، ومن تزوجها لنسبها زاده الله دناءة ، فعليك بذات الدين تربت يداك . ))
[ وقال الشوكاني رحمه الله في "الفوائد المجموعة" في إسناده : عبد السلام بن عبد القدوس ، يروي الموضوعات : السلسلة الضعيفة : ضعيف جداً ]
لو اخترت زوجة مؤمنة لسَعِدْتَ بها ، وسَعِدَت بك ، وأنشأت أسرة صالحة هي صدقة جارية من بعدك ..
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))
[ صحيح الجامع ]
فالولد الصالح صدقة جارية ، كل هذا عن طريق هذه الشهوة التي أودعها الله فينا ، فلو أن الإنسان سلك إلى تحقيقها وإروائها طريقاً نهى الله عنه شقي في الدنيا ، وشقي في الآخرة ، لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات ، ولكن ينبغي أن نسلك الطريق الصحيح ، قال تعالى :
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾
[ سورة النحل ]
البطولة أن تعرف الحقيقة قبل فوات الأوان :
اسأل يا أخي ، تخاف على عينك فتذهب إلى عشرات الأطباء ، وتنتظر عشرات الساعات ، وتدفع المبالغ المرقومة ، تقول : العين ، أخاف على عيني ، ألا تخاف على نفسك ؟ ألا تخاف على هذه الجوهرة التي أودعها الله فيك ؟ ألا تخاف أن يأتي ملك الموت ولست مستعداً لهذا اللقاء ؟ ألا تخاف أن تكتشف الحقيقة الخطيرة بعد فوات الأوان ؟ بعد الموت ؟
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91)﴾
[ سورة يونس ]
هذه ليست بطولة ، كفار الأرض جميعاً سيعرفون الحقائق عند موتهم .
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) ﴾
[ سورة ق ]
هذه ليست بطولة ، البطولة أن تعرف الحقيقة قبل فوات الأوان ، أن تعرف الحقيقة لتستفيد من هذه المعرفة ، إذا عرفت لماذا أنت هنا على وجه الأرض ، وأين كنت ، وإلى أين المصير ، وما المهمة التي جئت من أجلها ، عرفت كل شيء ، " ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحبّ إليك من كل شيء" .
الله جلّ وعلا لا يتعامل بالتمني بل يتعامل بالسعي :
﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ﴾ انظر إلى الناس جميعاً ، كل إنسان بنفسه يوجد طلب ، والله سبحانه وتعالى يحققه له ، هذا يسعى إلى كسب المال ، هذا يسعى إلى العلو في الأرض ، هذا يسعى إلى تحقيق كل الرغبات ، هذا يسعى إلى الانغماس في الشهوات ، هذا يسعر للإيقاع بين الناس ، هذا يسعى لمعرفة الواحد الديان .
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) ﴾
[ سورة الليل ]
كل شخص يسير في طريق ، وهنيئاً لمن كان يمشي في الطريق الصحيح ، في الطريق الذي أراده الله ، في الطريق التي رسمها الله لنا ، هنيئاً له ، ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ﴾ الأشياء كلها معروضة أمامك ، اختر ، هذا يختار الأحجار الكريمة ، كل حجر بمئتي ألف ليرة ، وهذا يختار صخرة كبيرة تسحقه ، وتدمره ، هذا يختار شيئاً ثميناً يسعد به ، وهذا يختار شيئاً يدمره ، ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ قال تعالى :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾
[ سورة الأحزاب ]
﴿ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ عن أحد ، أي مخلوق له عند الله حق ، أن يعطيه ما يريد ، لكن الله جلّ وعلا لا يتعامل بالتمني ، يتعامل بالسعي ، فرق بين التمني والسعي ، التمني أن تتمنى شيئاً ولا تسعى له ، ولكن الإرادة الحرة الصادقة تقترن بالعمل .
الناس في الدنيا متفاوتون :
ثم يقول الله عز وجل : ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ .. الآن في الدنيا مكانة من يعمل في تنظيف المستشفى كمكانة مدير المستشفى ؟ في الدنيا هل يتساوى الراتبان ؟ الجندي كقائد الجيش ؟ الخفير كالوزير ؟ الممرض كالطبيب ؟ الفقير كالغني ؟ هذه الدنيا أمامكم ، ﴿ كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاء وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا(20)انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ الصحة درجات ، الشكل درجات ، القوة درجات ، المكانة الاجتماعية درجات ، الذكاء درجات ، الدخل درجات ، القوة درجات ، درجات البشر في الأرض بعدد أبناء البشر ﴿ كُلًّا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ يقول لك : هذا البيت أربعمئة وثمانون متراً ، في أرقى أحياء دمشق ، ثمنه سبعة وثلاثون مليوناً مثل بيت غرفة واحدة لا ترى الشمس ؟ هذا بيت وهذا بيت ؟ هذا الشيء تحت سمعنا وبصرنا ، الله عز وجل يريد من هذه الآية شيئاً آخر .
التفضيل الدنيوي ينتهي بالموت :
﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ .. هذا التفضيل مؤقت ، الفقير يموت ، والغني يموت ، القوي يموت ، والضعيف يموت ، الذي يحمل أعلى الشهادات يموت ، والذي لا يقرأ ، ولا يكتب يموت ، مع أن هناك فروقاً شاسعة ، ودرجات كثيرة في العلم ، والقوة ، والمال ، والجمال ، والمكانة ، وفي كل شيء في الأرض مُقَسَّم إلى درجات ، ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ في الدنيا ، هكذا تقتضي الحكمة أن يكون الناس درجات ، لكن هذه الدرجات أولاً مؤقتة ، وثانياً قد يكون الخفير عند الله عز وجل أعظم من أعلى مرتبة في الأرض ، ممكن ، عَنْ أبي هريرةٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( رُبَّ أشعثَ مدفوعٍ على الأبوابِ ، تنبُو عنه أعينُ الناسِ لو أقسمَ على اللهِ لأَبرَّهُ . ))
[ أخرجه مسلم : السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : حسن ]
قد يكون هذا الفقير ، وقد يكون هذا العليل ، وقد يكون خامل الذكر أعظم عند الله وأرقى مكانة ، وأحظى رتبة من عليِّ القدر ، ومن غني المال ، ومن ذائع الصيت .
هناك فكرة دقيقة جداً ؛ يقول الله عز وجل : ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ هناك تفضيل في الصحة ، وفي المال ، وفي الجمال ، وفي الذكاء ، وفي القوة ، وفي المكانة ، وفي كل شيء ، الحياة مراتب ، لكن هذه المراتب الدنيوية أولاً مؤقتة تنتهي بالموت ، أي قبر الغني كقبر الفقير تحت الأرض ، هل قبر الغني مكيّف تحت الأرض ؟ هل يوجد بلاط أو رخام أو ثريا ؟ لا يوجد ، قبر الغني كقبر الفقير .
أحد أكبر أغنياء بعض بلدان الخليج أوصى ذويه أنه إذا مات أن يسيروا بجنازته في كل شوارع المدينة ، شارعاً شارعاً ، وأوصى أن تخرج يده من الكفن ، هكذا عاريةً ليشعر الناس أنني ذهبت إلى الآخرة ، وليس معي شيء ، كله تركته في الدنيا ، المصيبة في الموت مصيبتان : الأولى أنك تخسر مالك كله ، والثانية : أنك تحاسب على مالك كله ، من أين اكتسبته ؟ وفيمَ أنفقته ؟
فأول نقطة في الآية أن هذه المراتب ، هذا يسكن في بيت صغير ، هذا في بيت كبير ، هذا دخله لا يكاد يغطي نفقاته ، هذا عنده أموال لا تأكلها النيران ، هذا لا يستطيع أن يفك أسيراً ، هذا يستطيع أن يغير اتجاهاً ، يوجد قوي ، يوجد ضعيف ، يوجد غني ، يوجد فقير ، يوجد صحيح ، يوجد مريض ، المشكلة الأولى أن هذه المراتب مؤقتة ، يأتي الموت فيضع حداً لها .
النقطة الثانية : أن هذه المراتب شكلية ، قد يكون الفقير أعلى عند الله من الغني ، وقد يكون الضعيف المستضعف أحظى مرتبة من القوي ، وقد يكون خامل الذكر أعلى شأناً عند الله من الذي تألق نجمه في السماء :
﴿ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) ﴾
[ سورة الواقعة ]
هذه مراتب الدنيا .
مراتب الآخرة أبدية :
أما المشكلة : ﴿ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ .. هنا المشكلة ، مراتب الآخرة إلى الأبد ، مراتب الدنيا إلى الموت ، تنتهي بالموت ، اذهبوا إلى المقابر ، أحياناً تجد على الشاهدة إشارة إلى أن هذا كان طبيباً ، وأن هذا كان شاعراً ، وأن هذا كان عميد الأدب في القطر ، وأن هذا كان من كبار القوم مثلاً ... أي كل واحد له ترتيب ، الموت يضع حداً لهذه المراتب في الدنيا ، وهذه المراتب شكلية ، قد تكون مكانتك على نقيض مرتبتك ، أي لو أن في دائرة حكومية آذناً مستقيماً ، لا يأكل مالاً حراماً ، يغض بصره عن محارم الله ، يؤدي وظيفته بإخلاص ، وصدق ، وأمانة ، ربما كان هذا المستخدم أعلى مرتبة عند الله من كل الموجودين في الدائرة ، بما فيهم أعلى من فيها ، لكن مراتب الآخرة مراتب أبدية ، مراتب من وضع الله عز وجل ، لكن نحن في الدنيا العالم اصطلحوا على أن الغني معظَّم ، والفقير مهان ، الناس الضائعون ، الناس الضالون ، الناس الغافلون يرفعون الغني ، ولا يكترثون بالفقير ، هذه قيم الأرض ، هذه مقاييس البشر ، لا قيمة لها عند خالق البشر ، لكن مراتب الآخرة مراتب من خلق الله عز وجل ، أنت في الجنة ، وفي هذه المرتبة ، بحسب عملك في الدنيا ، وهذا الذي كان في الدنيا يملأ الدنيا ، كان نجماً متألقاً في العلوم أو الفنون ، فإذا هو في أسفل السافلين ، إذاً مراتب الآخرة مراتب حقيقية ، ومراتب أبدية ، البطولة أن تكون لك في الآخرة مرتبة عليّة ، البطولة أن يكون لك عند الله مقعد صدق عند مليك مقتدر ، البطولة أن تشعر أن رب البشر راض عنك .
فليتك تحلو والحيـــــــــاة مــريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني و بينك عامر وبينــــي وبين العالمين خراب
***
العاقل من يبحث عن مرتبة عند الله ولا يكترث بمرتبته عند الناس :
أيها الإخوة الأكارم ، هذه البطولة ، أن تكون محظياً عند الله عز وجل ، أن يكون الله راضياً عنك ، أن تكون وفق الشرع ، أن تكون حبيب الحق ، هذه البطولة ، كلما رأيت في الدنيا بيتاً فخماً لا تقل : ليتني أسكنه !
﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) ﴾
[ سورة القصص ]
فلذلك على الإنسان أن يبحث عن مرتبة عند الله ، ولا يكترث بمرتبته عند الناس ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ :
(( أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلامُ ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلِ اللَّهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ . ))
[ صحيح الترمذي ]
لا أنسى قول أحد التابعين ، وأظنه الحسن البصري ، حينما كان عند أحد ولاة يزيد بن عبد الملك ، جاءه من يزيد توجيه ، هذا الوالي .. قال : ماذا أفعل ؟ أنا في حيرة من أمري ، فقال الحسن البصري : " اعلم أن الله يمنعك من يزيد ، ولكن يزيد لا يمنعك من الله " .
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11) ﴾
[ سورة الرعد ]
﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ لا تبحث عن مكانة علية عند الناس ، فإن الناس لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون ، ابحث عن مكانةٍ عند الله .
الشرك سبب للعذاب النفسي والتوحيد راحة وطمأنينة :
﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ .. يا الله ! أحد أكبر أسباب العذاب النفسي أن تجعل مع الله إلهاً آخر:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾
[ سورة الشعراء ]
إذا شئت أن تعذِّب نفسك ، إذا شئت أن تحس بالقهر ، والحقد ، والضياع ، والشك ، واليأس ، والسوداوية فادع مع الله إلهاً آخر ، اعتقد أن زيداً من الناس يملك شيئاً من أمرك ، إذا اعتقدت أن زيداً من الناس ، أو أن كائناً من كان من الناس يستطيع أن ينفعك ، أو أن يضرك ، أو أن يرفعك ، أو أن يخفضك ، فهذا هو الشرك بعينه : ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ :
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
[ سورة هود ]
﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) ﴾
[ سورة الزخرف ]
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)﴾
[ سورة الفتح ]
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)﴾
[ سورة الأنفال ]
﴿ وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)﴾
[ سورة غافر ]
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾
[ سورة الكهف ]
هذا هو التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، نهاية العلم التوحيد .
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)﴾
[ سورة محمد ]
كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، ﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ إذا أطعت مخلوقاً وعصيت الخالق فقد جعلت مع الله إلهاً آخر ، إذا أطعت مخلوقاً وعصيت الخالق فقد أشركت ، فلو قلت : الله أكبر في الصلاة ، أنت لم تقل : الله أكبر، ولو قلتها ألف مرة ، لأنك رأيت أن غضب فلان أكبر من غضب الله ، لذلك أطعته ، وعصيت الله ، إذا أطعت مخلوقاً ، وعصيت خالقاً فقد رأيت هذا المخلوق أكبر من الخالق ، فكلمتك في الصلاة : الله أكبر لا معنى لها.
المشرك مذموم مخذول :
﴿ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ .. مذموماً من قِبَلِ نفسك ، ومن قِبَلِ الخلق ، ومن قِبَلِ الحق ، مخذولاً لا نصير لك ، لذلك :
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) ﴾
[ سورة الطلاق ]
ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ، وما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ،﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا ﴾ .
العبادة لا تكون إلا لله وحده :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ .. كلمة ( قضى ) معناها أنه أمرَ ، وألزمَ ، وأوجبَ ، وهذا القضاء ليس قضاء حُكم بل هو قضاء أمر ، ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ ربك هو الذي يربيك ، أقرب اسم من أسماء الله تعالى إلى الإنسان كلمة الرّب ، ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ .. ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ لو أن الله عز وجل قال : قضى ربك أن تعبده ، أي أمرك أن تعبده ، هذا أمر لعبادته ، ولكن هذا الأمر فيه قصر العبادة عليه ، ﴿ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ لو أن الله عز وجل قال : وقضى ربك أن تعبده ، لكنت مأموراً بعبادته ، لكن الله عز وجل يقول لك : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ إذاً لا معبود بحق إلا الله .
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) ﴾
[ سورة الفاتحة ]
لو أن الله عز وجل قال : نعبد إياك ، ليس فيها قصر .
شيء آخر ؛ العبادة طاعة طوعية ، تسبقها معرفة يقينية ، تنتهي بسعادة أبدية ، تعريف العبادة : طاعة طوعية ، تسبقها معرفة ، تنتهي بسعادة أبدية ، العبادة الاستسلام لأمر الله في المنشط والمكره ، في إقبال الدنيا وإدبارها ، في صغائر الأمور وفي أكبرها ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ أي فحوى رسالات الأنبياء جميعاً .
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) ﴾
[ سورة السجدة ]
الربط بين عبودية الله والإحسان للولدين :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ .. روعة هذه الآية أن الله جمع توحيد الربوبية بالإحسان إلى الوالدين ، ما هذا الأمر الذي أُمِرنا به والذي رفعه الله إلى مستوى توحيد عبوديته ؟ برّ الوالدين ، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ أي ما من عمل أعظم أو أجلّ بعد عبادة الله عز وجل من البر للوالدين .
من مظاهر عبودية الله وجود الوالدين :
شيء آخر ، أول مظهر من مظاهر تربية الله لك أنه خلقك من والدين ، يعطفان عليك ، ويحسنان إليك ، يجوعان لتشبع ، يعريان لتكتسي ، يقلقان لتنام ، حينما ترى ابناً مدللاً ، يحبه والداه ، يغدقان عليه كل الإكرام ، فاعلم علم اليقين أن هذا الإكرام من عند الواحد الديان ، لولا أنه أودع في قلب الأب هذه الرحمة ، لولا أنه أودع في قلب الأم هذه الرحمة ، من يربي ولده ؟ كيف أن الأب يسعى طوال النهار ، ويتحمل المشاق والأخطار أحياناً من أجل أن يأتي برزق أولاده ؟ من أجل أن يطعمهم ، وأن يكسوهم ، وأن يرزقهم ، من أجل ماذا ؟ لذلك ربنا عز وجل رفع برّ الوالدين إلى مرتبة توحيد الربوبية ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ ..
الفائدة من مجيء الباء في قوله : وَبِالْوَالِدَيْنِ :
علماء اللغة قالوا : فعل ( أحسن ) يتعدى بـ ( إلى ) ، تقول : أحسنت إليه ، لكن هنا في الآية يتعدى هذا الفعل بالباء على خلاف القاعدة ، ما الحكمة من تعدية هذا الفعل بالباء ؟ ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ ، أي : أحسن بهما ، لم يقل الله عز وجل : أحسن إليهما ، بل قال : أحسن بهما ، لأن الباء تفيد الإلصاق ، تقول : أمسكت بيده ، إذاً : الإحسان إلى الوالدين لا يقبل من الابن إلا إذا باشره بنفسه ، أن ترسل الصانع في المحل التجاري إلى أبيك مع بعض الفاكهة ، قل له : خذ هذه الفاكهة من ابنك ، هذا خلاف لتوجيه الله عز وجل ، يجب أن تمارس الإحسان إليهما بنفسك ، تقول للسائق : خذ أبي نزهة ، لا ، ليس هذا إحساناً إليهما ، الإحسان إليهما أن تكون إلى جانبهما ، أن تكون لاصقاً بهما ، أن تباشر الخدمة بنفسك ، هذا معنى : ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ لأن معاجم اللغة تعدي فعل أحسن بـ ( إلى ) ، لكن الله سبحانه وتعالى وضع الباء مكان إلى لماذا ؟ من أجل أن يُفْهِم أن الإحسان إلى الوالدين يجب أن يُباشر من قِبَل الابن مباشرة .
اقتران شكر الله بشكر الوالدين :
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ .. وكما أن الله عز وجل قرن الإحسان بالوالدين بعبادته بل بتوحيد عبادته ، قرن شكر الله بشكرهما ، قال تعالى :
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)﴾
[ سورة لقمان ]
أي ما من مخلوقين على وجه الأرض يستحقان الشكر بعد الله عز وجل من الوالدين ﴿ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ- وليس لزوجتك- إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ روى الإمام البخاري رضي الله عنه في صحيحه عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ، قَالَ : ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ))
[ صحيح البخاري ]
أي بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، وهو بعد الصلاة .
مِن برِّ الوالدين عدم التعرض لسبِّهما :
شيء آخر ؛ من بر الوالدين ألا يتعرض الولد لسبِّهما ، كيف ذلك ؟ هذا مستحيل ، ففي صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مِنَ الكبائرِ أن يشتُمَ الرَّجلُ والديهِ ، قالوا : يا رسولَ اللَّهِ وَهَل يَشتُمُ الرَّجلُ والدَيهِ ؟ قالَ : نعَم ، يَسبُّ أبا الرَّجلِ فيَسبُّ أباهُ ، ويشتُمُ أُمَّهُ فيشتُمُ أُمَّهُ . ))
[ صحيح البخاري : متفق عليه ]
أي إذا أطلق رجل لسانه في سبّ الناس أغلب الظن أن الناس سيسبون والديه ، وإذا سبّ الناس والديه وكان هو السبب فكأنه في الحقيقة هو الذي سبّ والديه ، لذلك أي شاب يجب أن يعامل الناس معاملة يثنون على والده ، ما هذا الوالد الذي ربَّاك ؟ بارك الله بوالدك ، عامل الناس معاملة تجعلهم يلهجون بالثناء على والدك ، إذا كنت بارَّاً به ، أما الذي يعامل الناس معاملة يلعنون بهذه المعاملة أباه فقد لعن هو أباه ، كأنه هو لعن أباه .
مِن برِّ الوالدين موافقتهما في أغراضهما :
شيء آخر ؛ من بر الوالدين موافقتهما في أغراضهما ، الأب له حاجة فإذا لبَّيتها له فهذا من البر ، إلا أن هذه الحاجة لها شرطان ؛ أولاً : أن تكون في غير معصية الله عز وجل ، وأن تكون مباحة ، وأن تكون في استطاعتك ، وعقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما ، الجائزة ، العلماء قالوا : إذا أمر الأب أو الأم وجب على الابن تنفيذ الأمر ما لم يكن في معصية ، أو ما لم يكن فوق المستطاع ، إذا كان الشيء مباحاً أصبح بأمر الأب والأم مندوباً ، وإذا كان مندوباً أصبح بأمر الأب والأم آخذًا في الندب .
الأب والأم كلاهما في البر سيّان :
شيء آخر ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَجُلٌ :
(( يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ : أُمُّكَ ، ثُمَّ أُمُّكَ ، ثُمَّ أُمُّكَ ، ثُمَّ أَبُوكَ ، ثُمَّ أَدْنَاكَ ، أَدْنَاكَ.))
[ صحيح مسلم ]
فالعلماء استنبطوا من هذا الحديث أن ثلاثة أرباع البر للأم ، والربع للأب ، هناك حديث آخر يجعل توازناً بين بر الأب والأم :
أن رجلاً قال للإمام مالك ـ رحمه الله تعالى : إن والدي في بلد السودان وقد كتب إليّ أن أقدم عليه ، وأمي تمنعني من ذلك ، فقال له الإمام مالك : أطع أباك ولا تعص أمك.
نقل القرافي في كتابه ـ الفروق
كِلاهُمَا في البِرِّ سيّان .
الحقيقة المهمة التي ينبغي أن تعرفوها أن بر الوالدين يجب عليك ولو كانا كافرين أو مشركين فكيف إذا كانا مسلمين ؟ لقوله تعالى :
﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾
[ سورة الممتحنة ]
أبوك ، اليوم إذا لم يكن أبو الرجل وفق اتجاهه الدقيق تجده يذم والده ، هذا أب ؟ أنت بإحسانك ، بتهذيبك ، ببرك ، بلطفك ، لعل الله عز وجل يجعل قلب أبيك يميل إلى اتجاهك ، أما أن تنتقده علانية أمام أمك ، وأمام أخواتك ، تنتقده علانية وتريده أن يخضع لك هذا مستحيل ، لغة واحدة يمكن أن تعامل بها أباك وهو الإحسان ، ولا شيء إلا الإحسان ، بالإحسان قد تأخذ بيده إلى الجنة ، بالإحسان فقط ، أما بالنقد ، والتعريض ، والإشارة ، والتلميح ، والتشهير فهذا ليس من الدين في شيء ، ومن يفعل ذلك فقد ارتكب حماقة ومخالفة لأوامر دينه .
مِن برِّ الوالدين استئذانهما للجهاد :
من بر الوالدين أن تستأذنهما في الجهاد ، ولا يصح جهادك إلا إذا استأذنتهما ، فما هذه المكانة ؟ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ :
(( إِنِّي جِئْتُ أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ ، وَلَقَدْ تَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ ، قَالَ : ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا . ))
[ صحيح الترغيب : سنن النسائي ]
مِن برِّ الوالدين أن يصل الإنسان أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي :
من بر الوالدين أن يصل الإنسان أهل ودِّ أبيه بعد أن يولي ، توفي والده ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ :
(( بينا نحن جلوسٌ عند رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ جاء رجلٌ من بني سلمةَ فقال : يا رسولَ اللهِ هل بَقِي من بِرِّ أبوَيَّ شيءٌ أبرُّهما به بعد موتِهما ؟ قال : نعم ، الصَّلاةُ عليهما ، والاستغفارُ لهما ، وإنفاذُ عهدِهما من بعدِهما ، وصلةُ الرَّحِمِ الَّتي لا تُوصَلُ إلَّا بهما وإكرامُ صديقِهما . ))
[ المنذري : الترغيب والترهيب : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما ]
كل رجل من الإخوة الحاضرين إذا كان والده موجوداً فهذه فرصة ذهبية ، ليستغل حياته في خدمته ، وفي الإحسان إليه ، وفي طلب مرضاته من غير معصية طبعاً ، وإن كان قد توفي فليصل أهل ودِّ أبيه ، وليعمل من الصالحات عملاً من أجل أن تكون أعماله كلها في صحيفة أبيه ، من أجل أن يكون لأبيه صدقة جارية .
شيء آخر ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلاهُ الْجَنَّةَ . ))
[ سنن الترمذي : إسناده حسن : هداية الرواة ]
أي بر الوالدين قد يستحق بهما الرجل دخول الجنة .
النهي عن التأفف من الوالدين أو نهرهما :
لكن الله عز وجل يقول : ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾ .. طبعاً الأب الشاب ، هناك آباء لا يزالون في سن الشباب أو الكهولة يتمتعون بصحة جيدة ، ومكانة علية ، ومال وفير ، هم يقدمون كل الإحسان إلى أولادهم ، المشكلة أعمق من ذلك : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا ﴾ تجاوز عمر الأب ثمانين عاماً ، وتراجعت قواه الجسمية والعقلية ، وصار يعيد القصة مئات المرات ، وصار ذا طبيعة فضولية ، يبتغي أن يعرف كل شيء ، وأن يحشر أنفه في كل شيء ، وصار يكثر من النقد ، وصار له ثقل في البيت : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا ﴾ بلغ سناً كبيرةً وهو عندك في البيت ، لأن الذي يأتي لعند أبيه في الأسبوع مرة ليقبِّل يده ، ويسأله رضاه ، قضية سهلة جداً ، أن يكون لك بيت مستقل ، يسير وفق ما تريد ، وأبوك عند أخيك الأصغر ، أو الأكبر ، تنتقل إلى بيت أخيك في الأسبوع مرة لتقدم واجب بر الوالدين ، تأتيه بهدية صغيرة ، تقبّل يديه ، تسأله عن صحته ، ماذا فعلت ؟ لكن الأب إذا كان في البيت ، وكان له طلبات كثيرة ، وانتقادات كثيرة ، وكان له طباع لا ترضاها ، مع طباعه التي لا ترضاها ، ومع طلباته الكثيرة ، ومع إلحاحه الشديد ، ومع تدخلاته في شأن غيره ، ومع انتقاده الذي لا يحتمل ، في هذه الحالة الصعبة : ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا - هنا البطولة - فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ .. أقل شيء أن يخرج نَفَسُك بصوت ، لا أعتقد أن هناك أقلّ منها ، لا يوجد تعبير عن الضجر كأن يخرج النفَس بصوت ، يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، هذه شهادة ، هذه ليست شهادة ، هذه ضجر ، أف أقل من الشهادة ، نَفَس عادي ، الزفير مع صوت ، أف بمعنى الضجر ، وجدته قد بلل ثيابه ، وقبل ساعة نظفته ، وألبسته ثياباً جديدة ، لم يمض ساعة قل لنا يا أخي أريد أن قضي حاجة ، قال العلماء : إذا وضعت ثوبك على أنفك فهذه بمستوى أف ، رائحة كريهة ، بالكبيرة كنت منزعجاً هذه مثل أف تماماً ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ يمكن أن يبتعد عن والده مترين ، ثم يُسمِعهُ قوله : الله يخفف عنه ، قد أسمعته إياها ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، هذه أصعب من أف ، أسمعته كلمة الله يخفف عنه ، شيء لا يحتمل يا أخي ، متى سيموت لنخلص منه ؟ أعرف رجلاً خدم أمه تسع سنوات ، إلى أن ضجر استدعى إخوته ، وقال : هذه أمي وأمكم ، خذوها عني ، فأخذوها عنه ، وماتت في اليوم الثاني ، ضيّع تسع سنوات من الخدمة الشاقة .
وأعرف رجلاً كان يعنى بامرأة قعيدة متقدمة في السن ، فانتقل إلى حيّ بعيد ، فصار انتقاله إلى مكان بيت المرأة التي يرعاها أمراً فوق طاقته ، هو متقدم في السن ، من حيّ بعيد إلى حيّ آخر ، يركب الحافلات كل يوم ، أشفق عليه أهله ، دعوه إلى أن يترك خدمتها إلى جهة أخرى ، فلم يرضَ ، مسنة كبيرة ، فلما رأوه يُشقي نفسه ، قالوا : يا أخي ، ائت بها إلى هنا ، وأرحنا من هذا الأمر ، فأقنعها ، وجاء بها إلى بيته لتكون الرعاية أكثر ، في اليوم الثاني ماتت ، كسب الأجر، ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾ لا أعتقد امرأة وهي تنظف ابنها فعلت هذا أبداً ، كانت تتمنى حياته ، أما الابن إذا خدم أمه في أعماقه يتمنى أن يخفف الله عنها ، شتّان بين هذا العمل وهذا العمل ، فربنا عز وجل جاء بالحالة الصعبة ، أصعب حالة ، تقدم في السن ، تراجع في الملكات ، وعدم انضباط بالأجهزة ، وهي في البيت ، والزوجة تنتقد إلى متى سنتحمل ، هذه ليست أمك فقط بل وأم إخوتك أيضاً ، عليك أن تقوم بالدور بينكم .
﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ أمر ، خالق الكون يقول لك : إياك أن تقول لهما : أف ، ولا تنهرهما ، هذه أفظع ، أنت منهي عن أن تقول لهما : أف ، فالنهي عن أن تقول أكبر من أف من باب أولى .
النهي عن مناداة الأبوين باسمهما والحض على مخاطبتهما بأجمل العبارات :
﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ .. قال العلماء : من القول الكريم ألا تناديهما باسميهما ، ولا بكنيتيهما ، دخلت مع رجل كبير بالسن إلى عند ابنه ، وهو يحتل منصباً مرموقاً ، والأب يرتدي لباساً جيداً ، وبملكاته الكاملة ، يبدو أن الابن خجل بأبيه أمام الحاضرين فقال له : أبا فلان اجلس هنا ، سبحان الله ! هذا منهي عن أن تقول لأبيك : أبا فلان ، يا أبي أهلاً وسهلاً بالوالد الكريم ، هكذا ، ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ أنت منهي عن أن تسميهما باسميهما ، أو تناديهما باسميهما أو بكنيتيهما ، كلمة يا أبتِ ، يا أبتاه .
هناك تفسير آخر ؛ قالوا : القول الكريم كالعبد المذنب الذي يخاطب سيده الفظ الغليظ ، كيف يريد أن يسترضيه ؟ ينتقي أجمل العبارات ، يقول له : سيدي ، لا أعرف ذلك ، ما فعلت هذا عن قصد ، ﴿ وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا(23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ .. أي تدعو لهما بعد الموت أن يكونا في الجنة .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين