الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وارنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
إضافة العباد إلى ذات الله إضافة تشريف :
أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس السابع من سورة الإسراء .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً(53)﴾ أولاً : الله سبحانه وتعالى أضاف العباد إلى ذاته ، هذه إضافة تشريف ، كأن تقول لرجل أمامك يعلم أن هذا ابنك : هذا ابني ، تريد من هذا أن تشرّف هذا الابن ، هذا ابني ، أنا أبوه ، الله سبحانه وتعالى أضاف العباد إليه في آيات كثيرة :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾
[ سورة الزمر ]
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) ﴾
[ سورة الإسراء ]
حيثما وردت كلمة (عباد) مضافة إلى الله عز وجل فهذه الإضافة إضافة تشريف ، فالله سبحانه وتعالى شرفنا حينما أضافنا إلى ذاته ، يا أيها النبي ﴿قُلْ لِعِبَادِي﴾ هذا أمر بالنص الدقيق ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ للآية التالية تفسيرات متعددة منها :
1 ـ على الإنسان أن يقول كلمة التوحيد ولا يخشى في الله لومة لائم :
العلماء في تفسير هذه الآية قد ذهبوا مذاهب شتّى .
المعنى الأول : أي قل لهم أن يقولوا كلمة التوحيد ، ليقولوا الحق إذا تحدثوا ، لا يتحدثوا بالباطل ، لا تقل كلاماً ليس صحيحاً ، لست قانعاً به ، لا ينطبق على الحقيقة ، لا ينطبق على الواقع ، مختل ، لا يقف على قدميه ، هذا الكلام غير الصحيح ، الكلام الباطل ، الكلام الذي لا جدوى منه ، الكلام الذي لا تعتقد أنت صحته تقوله لماذا ؟ إرضاءً لزيد أو عبيد ؟ وماذا ينفعك زيد أو عبيد ؟ ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ إذا تكلمت في موضوع ما فتكلم الحقيقة ، اذكر حكم الله عز وجل ، لا تجارِ أهل الفساد ، لا تمارِ أهل الباطل ، لا تمِل معهم ، لا تداهنهم ، لا تقل كما يقولون وأنت غير قانع بقولهم ، ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الربا حرام ، قلها ولا تخف ، أي شيء حرّمه الله عز وجل اذكر أنه حرام ، وأي شيء أحلّه الله عز وجل بيّن أنه حلال ، وإذا اختلطت الأمور فوحّد ، أي أرجع الأمور إلى الله عز وجل ، اعزُ الأفعال إلى الله عز وجل ، بيّن معنى قوله تعالى :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) ﴾
[ سورة محمد ]
لا مسير في الكون إلا الله ، لا معطي إلا الله ، لا مانع إلا الله ، لا رافع إلا الله ، لا خافض إلا الله ، لا معزّ إلا الله ، لا مذلّ إلا الله ، قل التي هي أحسن ، لو أن الناس تكلموا في البيوت ، وفي النزهات ، وفي السهرات ، وفي الندوات تكلموا الحقيقة ، تكلموا الذي هو أحسن ، لتولدت قناعات عند الأبناء ، وعند بعضهم بعضاً ، هذه القناعات لا تلبث أن تحملهم على الحق ، على السير في طريق الخير .
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ الأحسن أن تقول : إن الطبيب الفلاني هو الذي شفى ابني أم الأحسن أن تقول : إن الله سبحانه وتعالى هو الذي ألهم الطبيب ؟ ألهمه تشخيص الداء ، وألهمه الدواء الناجع ، فوفق الطبيب إلى معالجة ابني وإلى شفائه ، هذا هو الذي هو أحسن ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ قال بعض علماء التفسير : الأحسن أن توحد ، الأحسن أن تقول كلمة التوحيد ، الأحسن ألا تشرك ، ألا تعزو الأمور إلى أشخاص ليس بيدهم شيء ، لا يملكون ضراً ولا نفعاً ، ولا حياة ولا موتاً ولا نشوراً ، ولا يدفعون عن أنفسهم ضراً ، فكيف بمن يعتقد أنهم يدفعون عن غيرهم ؟ ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ تكلم بالحق ، لا تنطق بالباطل ، لا تجامل ، لا تمارِ ، لا تتملق ، لا تقل كلاماً لست قانعاً به ، لأنك إذا قلت كلاماً لست قانعاً به ، وسمعه منك من يثق بك أدخلت الباطل إلى نفسه وأنت لا تشعر .
(( إن الله ليغضب إذا مُدِح الفاسق . ))
[ كشف الخفاء : إسناده ضعيف ]
لا تقل للفاسق : أنت إنسان مهذب ، لطيف ، مرن ، ذكي ، لو سمع الناس منك هذا الكلام وأنت تماري رجلاً فاسقاً لصَدَّقوا كلامك ، ولاعتقدوا أنه على حق ، وأنه قدوة حسنة ، فقل التي هي أحسن ، إذا تحدثت في أي موضوع لا تقل إلا الذي تقنع به أو فاسكت ، أما أن تنطق بالباطل فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ . ))
[ صحيح الترغيب : حسن صحيح ]
النبي عليه الصلاة والسلام يعدّ سكوته سنّة ، لأنه لا يمكن أن يقرّ على باطل ، فلو سكت لكان الفعل الذي فعله صحابيٌ أمامه ، أو لكان القول الذي قاله رجلٌ أمامه حقاً ، لأنه سكت ، سكوته إقرار ، فإذا عَوَّدت نفسك أن تقول التي هي أحسن في أي موضوع فهو أحسن ، ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ هذا هو المعنى الأول .
2 ـ الابتعاد عن الكلام القاسي أثناء المناقشة أو المجادلة :
المعنى الثاني : في المجادلة ، في المناقشة لا تقل كلاماً قاسياً ، ليس الهدف أن تنتصر على هذا الإنسان ، الهدف أن تأخذ بيده ، لا تجرحه ، لا تحقره ، لا تُسَفِّه رأيه ، لا تستعلِ عليه ، تواضع لمن تُعلِّم ، إذا ناقشت ، إذا جادلت لا تقل : هذا الكلام كذب ، إنك بهذا جرحت خصمك وحطمته ، قل له : تعال يا أخي لنفكر معاً في هذا الذي قلته ، لنبحث له عن برهان ، لنبحث له عن دليل ، أين الدليل ؟ ألا تعتقد معي أن هذه الفكرة أصوب من هذه ؟ جادلهم بالتي هي أحسن ، إذا أمرت بالمعروف فليكن أمرك بمعروف .
المعنى الأول : قل كلمة التوحيد ، ولا تخش في الله لومة لائم .
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) ﴾
[ سورة الأحزاب ]
المعنى الثاني : إذا دعوت إلى الله ، إذا جادلت أهل الكفر ، جادلت أهل الشرك لا تجرحهم ، لا تحقرهم ، لا تسفههم ، لا تسبهم ، فيسبّوا الله عدواً بغير حق ، إذا أردت أن تقنع الناس فاسلك معهم أي سبيل إلا المجادلة ، إنها لا تأتي بخير . عَنْ أبي أمامة الباهلي قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربَضِ الجنَّةِ لمن تركَ المِراءَ وإنْ كان مُحقًّا . ))
[ مناسك الحج والعمرة : خلاصة حكم المحدث : حسن ]
قل التي هي أحسن ، الكلمة القاسية ، الكلمة الجافية ، الكلمة الجارحة ، إنها توقع بين الناس ، إنها تزيد خصمك تشنجاً ، تزيده تمسكاً بباطله ، تحمله على أن يعاديك ، تحمله على أن يفكر في إيذائك ، قل التي هي أحسن ، الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قال :
﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) ﴾
[ سورة النحل ]
وأحسن اسم تفضيل ، لو أن هناك مئة جواب كلها حسنة ابحث عن الأحسن ، لو أن هناك مئة جواب تنضوي كلها تحت عنوان : جواب حسن ، يجب أن تبحث عن الأحسن ، عن الكلمة المؤنسة ، الكلمة اللطيفة ، الكلمة التي لا تُفَرِّق ، الكلمة التي تجمع ، الكلمة التي تُقَرِّب ، الكلمة التي تُلَيِّن القلب ، هكذا المؤمن ، كان عليه الصلاة والسلام ليّن العريكة ، يألف ويؤلف ، لم يواجه أحداً بما يكره ، كان إذا أراد توجيه الناس صعد المنبر قائلاً : مالي أرى قوماً يفعلون كذا وكذا ؟ قوماً ، يكون الذي يريد أن يعظه واحداً ، مالي أرى أناساً يفعلون كذا وكذا ؟ ما بال قوم يفعلون كذا وكذا ؟ لئلا يواجه الإنسان بما يكره ، إذاً بالتي هي أحسن ، أحسن على وزن أفعل ، وأفعل اسم تفضيل ، واسم التفضيل يعني أن شيئين اشتركا في صفة واحدة ، لكن الأول أكثر اتصافاً بهذه الصفة ، فقد تقول كلمة حسنة ، وقد تقول كلمة أحسن ، فالله عز وجل يأمرك بأن تقول التي هي أحسن .
كم من طلاق ؟! وكم من تشريد أطفال ؟! وكم من خراب أسرة سببها كلمة قاسية من الزوج ؟! أو كلمة قاسية من الزوجة ؟! وكم من شركة فيها الخير العليم وفيها الرزق الوفير انفصمت بكلمة جافية قالها شريك لشريكه ؟! وكم من مشروع كان يرجى له النجاح تراجع وتقهقر لكلمة قاسية قالها شريك مع شريك ؟! وكم من شيء نعلق عليه الآمال تحطم بكلمة تفوّه بها إنسان بغير حق ؟! لذلك :
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
***
قبل أن تقول كلمة فكِّر كثيراً ، ابحث عن الكلمة الأحسن ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي﴾ إن كنا عباده فنحن مأمورون بهذا الأمر ، مأمورون أن نقول الكلمة الأحسن .
3 ـ على الإنسان أن يقول الكلمة الأحسن في أية علاقة مع الآخرين :
المعنى الثالث أنه قل الكلمة الأحسن في أية علاقة مع الآخرين ، إذا كنت تضبط أمراً ، تدير دائرة ، تدير مدرسة ، تدير معملاً ، في علاقتك مع من هم دونك ، مع من هم فوقك ، قل الكلمة الأحسن ، فقد يكون من يعمل معك مخلصاً ، وقد يبذل كل جهده ، فإذا سمع منك كلمة قاسية فقد حطمته ، النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي بأصحابه سمع رجلاً يركض في المسجد ليلحق الركعة مع رسول الله وقد أحدث ضجيجاً وجلبة ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ :
(( زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ . ))
[ صحيح البخاري ]
انتقى له أجمل كلمة ، عدّ هذا حرصاً منه على الصلاة ، (( زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلا تَعُدْ )) .
إذاً المعنى الأول : الأحسن كلمة التوحيد ، والأحسن في المجادلة ، والأحسن في أية علاقة ، قال تعالى :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) ﴾
[ سورة الأنفال ]
لا يمكن أن تصلح ذات بينك ، أي العلاقة فيما بينك وبين غيرك ، أو العلاقة فيما بين اثنين إلا بالكلمة الأحسن ، فلو كنت قاسياً ، لو وبخت ، لو قرّعت ، لو حقّرت ، لو استهزأت ، لو شمتَّ ، لو استعليت لجرحت .
(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ : ما يسرُّني أني حكيتُ رجلًا وإنَّ لي كذا وكذا . قالت : فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّ صفيَّةَ امرأةٌ وقالت بيدِها هكذا ! كأنها تعني قصيرةٌ ، فقال : لقد مُزِجَتْ بكلمةٍ لو مُزِجَ بها ماءُ البحرِ لَمُزِجَ . ))
[ سنن الترمذي ، حسن صحيح ، أخرجه أبو داود ]
قد يقول الأب لأحد أولاده أمام بقية الأولاد كلمة قاسية فيَتَعَقَّد الابن ، قد تصف الأم ابنتها بوصف فيه نقد لاذع تُعَقِّدَهَا ، قل الكلمة الحسنة ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ : صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ ، هِيَ الْحَالِقَةُ ، لَا أَقُولُ : تَحْلِقُ الشَّعَرَ ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ . ))
[ صحيح أبي داود ]
فساد ذات البين ، التفَتُت ، تَفَتُت الأسرة ، تفتت العائلة ، تفتت الحي ، تفتت القرية ، تفتت المدينة ، الكلمة القاسية ، والنقد اللاذع ، والاستهزاء ، والسخرية ، والاستعلاء ، والاحتقار ، هذا كله يفتت المجتمع ، يصبح المجتمع أفراداً متفرقين ، متعادين ، متباغضين ، متدابرين .
4 ـ الابتعاد عن مناقشة البعيد عن الدين :
المعنى الرابع ؛ قال تعالى :
﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) ﴾
[ سورة الأنعام ]
إياك أن تناقش إنساناً بعيداً عن الدين ، وتقسو عليه ، لا يجد ملجأً إلا أن يسبّ دينك ، ويسبّ مقدساتك ، عندئذٍ توقعه في حرج كبير ، قل له الكلمة الحسنى ، لا تجادل من لا خير منه .
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) ﴾
[ سورة الأعلى ]
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :
بعضهم قال : ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أن تأمر بالمعروف ، وأن تنهى عن المنكر ، أن تأمر بما أمر الله ، وأن تنهى عما عنه نهى الله ، هذا معنى قوله تعالى : ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ .
6 ـ الأمر موجه لخاصة المؤمنين :
وبعضهم قال : هذا أمر موجه لخاصة المؤمنين ، كما قال عليه الصلاة والسلام :
أوصاني الله بتسع أوصيكم بها : أوصاني بالإخلاص في السر والعلانية ، والعدل في الرضا و الغضب ، و القصد في الفقر والغنى ، وأن أعطي من حرمني ، وأعفو عمن ظلمني ، وأن يكون نطقي ذكراً ، وصمتي فكراً ، ونظري عبرة .
مشكاة المصابيح للتبريزي بألفاظ قريبة مما ذكر ، وقال : رواه رزين .ويؤيده ما جاء في مسند الإمام أحمد وصححه الأرناؤوط
أن تسمو على الخصومات ، أن ترد على الإساءة بالإحسان ، أن ترد على التشهير بالصمت ، أن ترد على النقد بالمدح ، أن ترد على القطيعة بالوصل ، أن ترد على الظلم بالإنصاف ، هذه أخلاق الأنبياء ، لو قلدتهم ، لو جعلتهم قدوة لك لأحبك عدوك قبل أن يحبك الصديق ، والفضل ما شهدت به الأعداء .
المعنى الأول : كلمة التوحيد .
المعنى الثاني : في المجادلة .
المعنى الثالث : في أية علاقة اجتماعية .
المعنى الرابع : في مجادلة خصوم الدين .
المعنى الخامس : في الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر .
المعنى السادس : أمر موجه إلى خاصة المؤمنين .
هذه بعض المعاني المستفادة من قوله تعالى : ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً(53)﴾ ما وجدت تشبيهاً موضحاً لهذه الآية كالتشبيه التالي : لو أنك وضعت بينك وبين أخيك شيئاً متفجراً يأتي الشيطان فيشعل هذه المادة ، فيحدث انفجار فيحطم الطرفين .
هدف الشيطان التفريق وإيقاع العداوة بين الناس :
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ متى يستطيع الشيطان أن ينزغ بينهم ؟ لأن أحدهم قال هذه الكلمة القاسية فكانت كشيء متفجر ، لو أنك قلت لأخيك : إنك لا تفهم ، إنك أحمق ، إنك كذّاب ، هذه الكلمات كأنها ألغام يأتي الشيطان فيشعلها ، فإذا أشعلها تفجرت وحطمت الطرفين ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ يفرق بينهم ، يوقع بينهم العداوة والبغضاء ، على مستوى البيت لو أنك كلما وجدت من زوجتك خطأً قسوت عليها في الكلام لكانت هذه القسوة لغماً يأتي الشيطان فيفجره ، لذلك ربّ كلمة قاسية فرّقت بين زوجين ، وإذا فرّقت بين زوجين ضيّعت الأولاد ، وشرّدوا ، وليس اليتيم من مات أبوه ، بل اليتيم من لم يلق من المجتمع العناية الكافية ، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ يتمنى الشيطان أن يفسد العلاقات بين الأخوين ، بين الشريكين ، بين الزوجين ، بين الأب وابنه ، بين الأم وابنها ، لذلك البعيد عن الله عز وجل بِدَفع من الشيطان ينطق بالكلمة القاسية الجافية ، فيأتي الشيطان للطرف الثاني انظر ماذا قال لك ابنك ، أهذا ابن ؟ يطرده شر طردة ، يلتجئ هذا الابن إلى رفقاء السوء ، تفسد أخلاقه ، يقع في بعض الجرائم ، قد يُحكَم عليه بالإعدام ، أساس هذه المشكلات كلها أن الابن بوسوسة من الشيطان تفوّه بكلمة قاسية مع الأب ، طرده الأب فتسلمه الأشرار ، دلّوه على طريق الجريمة ، اقترف جريمة ، حُوكِم ، أُعدِم ، أساسها كلمة قالها ، لذلك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ ، وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . ))
[ صحيح الترغيب : خلاصة حكم المحدث : حس ]
وفي حديث آخر عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ . ))
[ السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح رجاله ثقات ]
هذا اللسان أربعة أخماس المعاصي ترتكب به ؛ الغيبة ، والنميمة ، والكذب ، والإفك ، والبهتان ، وقول الزور ، وشهادة الزور ، والإيقاع بين الناس ، والاستخفاف بالناس ، والاستعلاء عليهم ، والسخرية منهم ، (( وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ )) ، قال عليه الصلاة والسلام :
(( مَنْ عَامَلَ النَّاسَ فَلَمْ يَظْلِمَهُمْ ، وَحَدَّثَهُمْ فَلَمْ يَكْذُبَهُمْ ، وَوَعَدَهُمْ فَلَمْ يُخْلِفْهُمْ ، فَهُوَ مِمَّنْ كَمُلَتْ مُرُوءَتُهُ ، وَظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ ، وَوَجَبَتْ أُخُوَّتُهُ ، وَحَرُمَتْ غَيْبَتُهُ . ))
[ السلسلة الضعيفة : خلاصة حكم المحدث : موضوع ]
من أساء الظن بأخيه فكأنما أساء الظن بربه .
أخلاق المؤمن :
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ ليقولوا كلمة التوحيد ، وليحسنوا المجادلة ، وليحسنوا القول في كل علاقة اجتماعية ، وليحسنوا مجادلة أهل الكفر والفجور ، وليأمروا بالمعروف ، ولينهوا عن المنكر ، وليرتفعوا فوق الضغينة ، والحقد ، والسباب ، والشتائم ، وردّ الصاع صاعين ، هذا كله ليس من أخلاق المؤمن ، سيدنا عمر - رضي الله عن عمر - كان يمشي في المسجد ليلاً ، ويبدو أن المسجد كان مظلماً في الليل ، يروى أنه داس على أحد المصلين على طرف قدمه تألم هذا المصلي قال : أأعمى أنت ؟ قال : لا ، فلما قيل لهذا الأمير العظيم لأمير المؤمنين كيف تسكت على هذا الكلام ؟ قال : سألني فأجبته ، أأعمى أنت ؟ قال : لا ، وانتهى الأمر ، بهذه الكلمة انطفأ الشر ، وهذا توجيه نبوي ، إذا غضبت فاسكت ، لأن أية كلمة تقولها وأنت غضبان ربما تؤذي بها كثيراً ، ربما تفسد علاقات ، ربما تسبب خراب أسرة ، ربما تفسد بين شريكين ، إذا غضبت فاسكت ، إذا غضبت فتوضأ ، إذا غضبت فاغتسل ، إذا غضبت فاخرج من البيت ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( أنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أوْصِنِي ، قالَ : لا تَغْضَبْ . فَرَدَّدَ مِرَارًا ، قالَ : لا تَغْضَبْ . ))
[ صحيح البخاري ]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ . ))
[ صحيح البخاري ]
يغضب فيطلق ويقف على أبواب المفتين ، جمع للمفتي ، يستفتيهم : ما وضع زوجتي ؟ أتجوز لي ؟ أعلاقتي معها صحيحة ؟ كنت في غنى عن هذا لو أنك لم تغضب ، لا تغضب هكذا يقول عليه الصلاة والسلام ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً(53)﴾ ليست عداوته خافية ، ليست عداوته ظنية ، عداوته مبينة ، عدواً مبيناً .
أنواع الرحمة :
﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) ﴾
[ سورة الإسراء ]
الرحمة نوعان : رحمة مادية ، ورحمة معنوية ، فالرحمة المادية أن تكون مرتاحاً في صحتك ، الأجهزة على اختلاف أنواعها تعمل بانتظام ، هذه رحمة ، أن تجوع ، وتجد الطعام الذي يسدّ جوعتك ، هذه رحمة ، أن تجد الماء الذي يروي ظمأك ، هذه رحمة ، أن تجد المأوى الذي يؤويك ، هذه رحمة ، أن تجد الزوجة التي تسكن إليها ، هذه رحمة ، أن تجد الابن البار ، هذه رحمة ، أن تجد زوج البنت الصغرى المخلصة المهذبة الديّنة ، هذه رحمة ، أن يكون جارك لطيفاً ، هذه رحمة ، هذه كلها رحمة ، كل شيء ترتاح له رحمة ، وأن يتجلى الله على قلبك ، هذه رحمة ، وأن يقذف الله في قلبك النور ، هذه رحمة ، هناك رحمة مادية ، وهناك رحمة معنوية ، أو رحمة نفسية لا يعرفها إلا من ذاقها ، الرحمة المادية قد يشترك فيها الناس جميعاً ، مؤمنهم وغير مؤمنهم ، ولكن الرحمة الروحية هذه خاصة بالمؤمن ، إن الله يعطي الصحة والذكاء والمال والجمال للكثيرين من عبيده ، ولكنه يعطي السكينة بقدر لأتقيائه المؤمنين ، هذه الرحمة يعطيها الله عز وجل ، يعطيها مكافأة على استقامة الرجل ، ويعطيها تشجيعاً له على أن يجلبه إلى طريق الإيمان ، يعطيها استحقاقاً ، أو تشجيعاً ، والرحمة المادية قد يعطيها لأهل الكفر استدراجاً :
﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) ﴾
[ سورة إبراهيم ]
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾
[ سورة الأنعام ]
فهذه الرحمة الشيء الذي ترتاح له ، صحتك ، وزوجتك ، وأولادك ، وعملك ، ودخلك ، وبيتك ، ومركبتك ، انبعثت في نفسك الراحة فهذه رحمة بشكل أو بآخر ، لكنها رحمة مادية ، قد تكون استدراجاً ، وقد تكون تقديراً ومكافأةً ، وقد تكون تشجيعاً وإكراماً ، على كلّ هناك علم إلهي يحدد هذه الرحمة ، والدليل قوله تعالى : ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ يرحمكم لعلمه بكم ، لعلمه أن هذه الرحمة تناسبكم ، لعلها تحملكم على التوبة ، لعل هذه الرحمة تكون مكافأة لكم على حسن صنيعكم ، لعلها استدراج ، ولعلها مكافأة ، ولعلها تشجيع ، أما رحمة الله الروحية إذا تجلى على قلبك ، وغمرك بأنواره ، فهذه رحمة يختصّ بها المؤمنون من دون غيرهم ، على كلّ ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ لعلمه بكم يرحمكم ، رحمة مادية ، تشجيعية أو تقديرية أو استدراجاً ، أو رحمة روحية تنسون بها كل الدنيا ، لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف .
رحمة الله وعذابه مبنيان على علم الله بالإنسان :
﴿إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ كل شيء يخالف طبيعة الجسم ، أو طبيعة النفس ، هو عذاب ، لو أن جهازاً من أجهزتك تعطّل لكان عذاباً قد لا يطاق ، فهناك الأمراض ، وهناك الهموم ، وهناك الأحزان ، وهناك المقلقات ، هناك أمراض نفسية ، وأمراض جسمية ، هناك ضيق ذات اليد ، هناك نقص في الثمرات ، في الأولاد ، هناك زواج سيئ ، هناك زوجة مشاكسة ، هناك ولد عاق ، هناك بيت ضيق ، هناك مركبة صعبة ، أنواع العذاب لا تعد ولا تحصى ، وكلها أدوية في صيدلية ربنا جلً وعلا ، أدوية ، كل أنواع العذاب المادي والمعنوي ، الصغير والكبير ، النفسي ، هذه كلها أدوية .
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) ﴾
[ سورة الأنعام ]
﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ لعلمه بكم يرحمكم أو يعذبكم ، إذاً رحمته وعذابه مبنيان على علم الله بكم ، إن الرحمة تناسبكم ، أو أن العذاب يردعكم .
أنواع المصائب :
لذلك قال بعض العلماء : هناك مصيبة قصم ، وهناك مصيبة ردع ، وهناك مصيبة دفع ، وهناك مصيبة رفع ، وهناك مصيبة كسب ، فإذا كان الإنسان ميئوساً من صلاحه تأتيه مصيبة تقصمه ، وتهلكه ، وتسحقه ، وانتهى الأمر ، لا خير فيه ، لا خير يرتجى منه ، هذه مصيبة القصم ، وإن كان هناك معصية وعناد ومجاهرة وفجور تأتي مصيبة الردع ، الرجل الشديد العتيد لا تقوى ركبتاه على حمله ، يبكي كالأطفال ، طبعاً عند الله أدوية المادة الفعالة فيها كثيفة جداً :
﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) ﴾
[ سورة الجن ]
هناك دواء ثمنه كان مئتين وخمسين ليرة ، ودواء خمسمئة ليرة ، دواء ألف ليرة ، قال لي أحدهم : أخذت دواء عياره مليون ﴿يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا﴾ هذه مصيبة الردع ، مرض خطير ، كان يزني ، جاء المرض الخطير فحمله على التوبة ، هذه مصيبة الردع ، أما مصيبة الدفع فهذه للمؤمنين .
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) ﴾
[ سورة البقرة ]
(( إذا أحبّ الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن شكر اقتناه . ))
[ تخريج الإحياء للعراقي : إسناده ضعيف ]
إذا أحبّ الله عبده ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، وإن شكر اقتناه ، إذا أحبّ الله عبده عجّل له بالعقوبة ، إذا أحبّ الله عبده عاتبه في منامه ، هذه مصيبة الدفع ، مؤمن مقصر ، يا رب ارحمه ، قال : يا عبدي كيف أرحمه مما أنا به أرحمه ؟
هذه مصيبة الدفع ، مستقيم لكنه مقصر ، يدفعه نحو الأمام ، يُخَوفه ، تلوح له مصيبة يلجأ إلى الله عز وجل ارتفع ، هذه مصيبة الدفع ، فإذا كان مستقيماً وذا همة عالية إذا جاءته مصيبة رفعت مرتبته عند الله عز وجل ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ :
(( قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : الْأَنْبِيَاءُ ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ ، فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ . ))
[ صحيح ابن حبان ]
أما الأنبياء عليهم صلوات الله فالمصائب التي تصيبهم من أجل كشف حقيقتهم ، في أنفسهم من الكمال الذي يسمو على كمال البشر ، بحيث أن هذا الكمال لا يظهر للناس إلا في ظروف صعبة ، لذلك يذهب النبي عليه الصلاة والسلام مشياً على قدميه إلى الطائف ، وأما كلمة مشياً على قدميه لا يعرفها إلا من زار الأماكن المقدسة ، ورأى فيها شدة الحر ، وماذا تعني كلمة مشياً على قدميه من مكة إلى الطائف ، ليصل إليها ، ليردّه أهل الطائف شرّ رد ، ليستخفوا برسالته ، ليؤذوه ، يأتي سيدنا جبريل يقول : يا محمد ! أمرني ربي أن أكون طوع إرادتك ، لو شئت لأطبقت عليهم الجبلين .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ :
(( كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ ، فَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ، وَيَقُولُ : رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . ))
[ صحيح البخاري ]
لعل الله يخرج من أصلابهم من يوحد الله ، هذه مصيبة الكشف ، وهناك مصيبة الرفع ، وهناك مصيبة الدفع ، وهناك مصيبة الردع ، وهناك مصيبة القصم ، لذلك الأدب الإسلامي هو أنه إذا أصابتك مصيبة فاتهم نفسك قل : لعلي فعلت معصية ، لعلي قصرت ، لعلي أكلت مالاً حراماً ، وإذا أصابت أخاك مصيبة فأحسن الظن به ، قل : هذه مصيبة ترقية ، وهذه مصيبة رفع ، وهذه مصيبة رفع درجاته عند الله سبحانه وتعالى ، استعمل هذه القاعدة ، إن ألمت بك مصيبة فاتهم نفسك ، وإن ألمت المصيبة بأخيك فأحسن الظن به .
الله تعالى يعلم اختيار الإنسان ونواياه ووجهته :
إذاً : ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ رحمته وفق علمه بكم ، علمه بما يناسبكم ، وعذابه وفق علمه بما يناسبكم ، إنه حكيم ، ومعنى حكيم أن الشيء الذي وقع لابدّ من أن يقع ، ولو لم يقع لكان نقصاً في كمال الله ، ونقصاً في علمه ، ونقصاً في رحمته ، ونقصاً في حكمته ، الشيء الذي وقع لا بد من أن يقع ، لذلك إذا كُشِف الغطاء اخترتم الواقع ، لذلك عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ . ))
[ أحمد : الهيثمي : مجمع الزوائد : رجاله ثقات ]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ . احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ ، فلا تَقُلْ : لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا ، وَلَكِنْ قُلْ : قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ . ))
[ صحيح مسلم ]
﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)﴾ أنتم مخيرون ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)﴾ لست مكلفاً أن تحملهم بالجبر والقهر على الإيمان ، أنت منذر ، أنت مبشر ، أنت رسول ، أنت مبلغ . . هم مخيرون :
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) ﴾
[ سورة القصص ]
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) ﴾
[ سورة البقرة ]
إذاً أنتم مخيرون ، الآية دقيقة جداً ، أنتم مخيرون وفق اختياركم ، يعلم الله اختياركم ، ويعلم نواياكم ، ويعلم وجهتكم ، إذاً يرحمكم أو يعذبكم ، لحكمة بالغة هي من حكمة الله عز وجل ، آية دقيقة جداً جمعت بعض العقائد : ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ أعلم اسم تفضيل ، ليست في الأرض جهة تعلم حقيقة الإنسان كعلم الله عز وجل ، ﴿أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)﴾ إن أنت إلا نذير ، وما عليك إلا البلاغ المبين .
تفضيل الله عز وجل بعض النبيين على بعض لعلمه اللامتناهي بهم :
﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ﴾ علم الله عز وجل لا يستطيع مخلوق أن يحيط به ، هل يستطيع موظف بسيط في كلية الطب أن يعرف مستويات الأطباء ؟ وأيهم أكثر علماً ؟ وأيهم أكثر مهارة في الجراحة ؟ لا يستطيع هذا ، فكيف يستطيع هذا الموظف البسيط أن يفرق بين أربعة جراحين في القلب في العالم ؟ أيهما أكثر مهارة ؟ من يستطيع أن يقيّم الصحابة إلا أن يكون فوقهم ؟ لذلك نحن كمؤمنين ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( إذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا . ))
[ السلسلة الصحيحة ]
لسنا جميعاً مؤهلين أن نميز بينهم ، ولا أن نقيّمهم ، ولا أن نقول : هذا أفضل من هذا ، هذا كلام مرفوض ، نحن جميعاً دونهم ، إذاً أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، ((إذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا)) ، لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيبه ، إذاً الله عز وجل قال : ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ هؤلاء الأنبياء الذين وصلوا جميعاً إلى مرتبة النبوة ، وهذه المرتبة تعني عدم الانقطاع عن الله أبداً ، الاتصال الدائم :
عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا . ))
[ السلسلة الصحيحة ]
ومع ذلك الله عز وجل فضّل بعضهم على بعض ، لعلمه اللامتناهي بهم ، مثلاً الله سبحانه وتعالى خاطب بعض الأنبياء بأسمائهم :
﴿ يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) ﴾
[ سورة مريم ]
﴿ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) ﴾
[ سورة المائدة ]
أما نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يخاطب إلا بـ : يا أيها النبي ، ويا أيها الرسول ، جاء اسمه في القرآن على صيغة الخبر :
﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) ﴾
[ سورة الفتح ]
أما الخطاب فلم يخاطب إلا بـ : يا أيها النبي ، ويا أيها الرسول :
خفضت كل مقام بالإضافة إذ نوديت بالرفع مثل المفرد العلم
***
﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلاً (56)﴾ هذه دعوة إلى التوحيد ، أي هؤلاء الذين تدعونهم من دون الله ، أصناماً كانوا ، أو أشخاصاً ، لا يستطيعون كشف الضر عنكم ، ولا تحويله منكم إلى غيركم ، وكفى بهذا ضعفاً وعبودية لله عز وجل .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين