وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 09 - سورة لقمان - تفسير الآيتان 20 - 21 دعوة قرآنية إلى التدبر والتأمل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الله تعالى نصب في الأرض والسماوات آيات واضحة دالة على وجوده:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس التاسع من سورة لقمان.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾..

أيها الإخوة؛ قبل هذه الآيات وردت قصة لقمان عليه السلام، وقبل قصة لقمان قال الله عز وجل بعد أن تحدث عن آياته في الكون: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ، ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ إذاً هذه الآية مرتبطة بالآيات التي وردت قبل قصة لقمان، هؤلاء الظالمون الذين هم في ضلال مبين ألم يروا، معنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى نصب في الأرض وفي السماوات آيات واضحة صارخة مبينة دالة على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى كماله، ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ .

 

دعوة قرآنية إلى التدبر والتأمل والرؤية:


 الآن بعد أن كان الخطاب خطاب غائب: ﴿فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ، ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ ..أيها الظالمون، أيها الجاحدون، أيها المنكرون، أيها المعرضون، أيها المنغمسون في شهواتكم، ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ ..يا ترى الكافر ألا يرى الشمس؟ يراها بعينه، ولكن الرؤيا هنا مقصود بها رؤية القلب، لأن الرؤية نوعان: رؤية بصرية، ورؤية قلبية. 

رؤية البصر تنصب مفعولاً به واحداً، تقول: رأيت الشمس، فإن قلت ساطعة حال، أما رؤية القلب فتنصب مفعولين به، تقول: رأيت العلم نافعاً، نافعاً مفعول به ثانٍ، فالمقصود هنا الرؤية القلبية، طبعاً الكافر والجاحد والمعرض والفاسق والفاجر كلهم يرى الشمس، كلهم يرى القمر، كلهم يرى الجبال، هذه النعم التي أنعم الله بها علينا يتمتع بها الكفار أيضاً، يرونها بأعينهم، يسمعون أصواتها بآذانهم، يلمسونها بأيديهم، يتذوقونها بألسنتهم، فأهل الدنيا يتمتعون بكل النعم، ولكنهم لا ينتقلون منها إلى المُنعم، لا يرون صاحب النعمة، لا يرون الذي أنعم عليهم، جاءت هذه الآية لتحض المعرضين الجاهلين المنكرين على أن يروا بقلوبهم حقيقة هذه النعم، منشئ هذه النعم، صاحب هذه النعم.  

 

تسخير الكون للإنسان:


﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ﴾ ..معنى سخر، التسخير في أدق معانيه: أن يُقهر الفاعل في أداء الفعل وفق مراد القاهر، أي الشمس مقهورة على أن تشرق،ولا تملك ألا تشرق، لأنها مسيرة ومسخرة، أما الإنسان فيؤمر ولا يأتمر، يُنهى فلا ينتهي، الإنسان مخير ومكلف، أمره الله بأوامر ونهاه عن نواهٍ، هو إما أن يأتمر أو لا يأتمر، إن ائتمر قبض الثمن، وإن لم يأتمر دفع الثمن، فلذلك ما سوى الإنسان والجن الخلق كلهم مقهورون على تنفيذ ما خلقوا به، لذلك:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

الكون كله بمجراته، وكازاراته، وكواكبه، ونجومه، ومذنباته، وشموسه، وأقماره، الأرض كلها، ما فيها، وما عليها، وما فوقها، وما تحتها، المواد الصلبة والغازية والمائعة، النباتات، والحيوانات، والجمادات كلها مسخرة، أي كل عنصر، كل حيوان، كل مخلوق مقهور على أن يفعل ما أمره به قاهره وهو الله عز وجل، الله عز وجل جعل هذا الكون مسخراً للإنسان. 


أمثلةٌ لأنواع التسخير:


أما معنى التسخير مثلاً لو أن الله عز وجل جعل الحديد كتلاً صافية في الأرض، فالحديد قد يوجد بكميات كبيرة جداً، وبمساحات شاسعة جداً، ولكن كونه موجوداً على شكل حديد صافٍ لا يمكن أن يسخر لنا، أما حينما وُجِد الحديد على شكل تراب، فلزات، هذا الشكل الذي جعله الله فيه، هذا الشكل هو مسخر لنا، أي بإمكان الإنسان أن يجمعه، ويضعه في فرن عالٍ، وأن يصهره، وأن يقسمه إلى حديد صلب، وإلى حديد مطاوع، وإلى حديد فولاذي، وإلى أنواع أخرى، إذاً: طريقة خلق الحديد في الأرض طريقة جعلته فيها مسخراً للإنسان. 

المياه الجوفية جعلها الله على أبعاد تتناسب مع قدرات الإنسان، هذا موضوع طويل.  

مثلاً البذار، طريقة خلق البذرة من رشيم وسويق وجذير ومحفظة للغذاء، ومن قشرة إن جاءتها الرطوبة والضوء والحرارة نبتت، طريقة خلق البذار طريقة تجعل من الإنسان قادراً على الاستفادة منها.  

البقرة مثلاً؛ جعل الله عز وجل ما تستهلكه من طعام أقلّ مما تنتجه، لذلك سعى الإنسان إلى تربية الأبقار، جعلها مذللة، لو أنها تجنح كالضبع أو كالذئب أو كالحيوان المفترس فكيف يرعاها؟ كيف يجعلها في حظيرة؟ لا يستطيع، البقرة مسخرة، الدواب مسخرة، الجمل مسخر، الأغنام مسخرة ، النباتات مسخرة، الله عز وجل جعل هذه الثمار بقوام تناسب طبيعة الإنسان، لو أن التفاحة لها قوام صخري فكيف نأكلها؟ وجعل هذا الغذاء مناسباً لطبيعة الإنسان، وجعل طعمها محبباً، ورائحتها محببة، وشكلها محبباً، وجعل خصائصها متناسبة مع حاجات الإنسان.

لو أن البطيخ مثلاً جاء كالطماطم في قشرة رقيقة ليس مسخراً لنا، لكن هذه القشرة السميكة تجد شاحنة تحمل خمسة أطنان من البطيخ، والذي في الأسفل لا يتأثر، الشكل الكروي شكل متين يقاوم الضغط، والقشرة سميكة داخل البطيخ، قوامه هش يتناسب مع طبيعة الصيف، ومع حاجة الإنسان. 

لو تأملت في كل فاكهة، في كل محصول، في كل شيء خلقه الله عز وجل تشعر أنه مسخر، الأشجار مسخرة ، الأنهار مسخرة ، البحار مسخرة، بل إن الإنسان الذي استخدم كل شيء في الطبيعة استخدامه لما في الطبيعة هو ترجمة لتسخير الكون للإنسان.  

الهواء مسخر جعله ركب الطائرات على متن الهواء.  

والبحر مسخر، لولا أن في البحر دافعة أرخميدس التي كشفها هذا العالم، وهو أن الماء متماسك تماسكاً يرفض دخول الأجسام فيه، فإذا دخلت دفعها نحو الأعلى بقوة تناسب وزن الماء المزاح، هذا قانون أرخميدس، لولا هذا القانون لما سارت باخرة في البحار، فالبحار مسخرة، بقانون أرخميدس جعلت البحار همزة وصل، وليست فاصلاً بين القارات، بالعكس لو أردت أن تنشئ طرقاً بين القارات لكلفك هذا ألوف الملايين، أما البحر فكله طريق، والبحر يحمل حمولات كبيرة جداً، الآن يقولون لك: ناقلات النفط تحمل مليون طن، الآن تجد البواخر مدنًا بأكملها تحمل آلاف السيارات، آلاف القطارات، آلاف المحاصيل.

إذاً: البحر مسخر بدافعة أرخميدس، والهواء مسخر، طبيعة الهواء تتناسب مع حاجة الإنسان، والضغط الذي فوق الإنسان هو ضغط يتناسب مع حياته، لو رُفِع الضغط لانفجرت كل أوعيته.  

لو فكرت في كل شيء لوجدت أن كل شيء مسخر للإنسان، هذه المياه الجوفية لولا أنها تخرج على شكل ينابيع كيف نستفيد منها؟ إذاً: ﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾  يا أيها الجاحدون، لأن الكلام عاد إلى: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .

 

تسخير الكون للإنسان تسخير تعريف وتسخير إكرام:


﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ﴾ ..فهذه اللام في (لكم)لام التعليل، أي علة خلق السماوات والأرض أنها مسخرة لكم إكراماً وتعريفاً، والكون مسخر لهذا الإنسان تسخير تعريف وتسخير إكرام.

 

المسخَّر له دائماً أكرم من المسخَّر:


شيء آخر؛ هذا التسخير من معانيه الأخرى أن المسخَّر له دائماً أكرم من المسخَّر، إذاً: أنت المخلوق الأول، أنت المكرم، لأن الكون كله مسخر لك، لكن ألا تسأل هذا السؤال: إذا كان الكون مسخراً لك أنت لست مطالباً بشيء؟ إذا أعطاك والدك كل ما تحتاج لتكون طبيباً، منحك الأموال، سخر لك المدرسين، منحك الميزات، كل هذه الميزات تنالها، ألا تشعر أنك مسؤول؟ أنه مطلوب منك شيء؟ هنا السؤال، إذا كانت المجرات مسخرة لي، إذا كانت الأفلاك مسخرة لي، إذا كان كل ما في الأرض مسخراً لي، إذا كان كل حيوان مسخراً لي، إذا كان كل طائر مسخراً لي، إذا كان كل ما في البحار مسخراً لي، وأنا لماذا خلقت؟ هنا يأتي الجواب: عبدي خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما فرضته عليك. 

 

ليس ذكاء الإنسان هو الذي سخّر الطبيعة وإنما سُخرت بفضل الله وعلمه:


الشيء الآخر؛ أن الله عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ﴾ ..أي هذا تسخير الله عز وجل، يتوهم أحياناً أهل الدنيا أن الإنسان بذكائه استطاع أن يسخر الطبيعة، أو يستغل الطبيعة، أو يقطف ثمار الطبيعة، هذا كلام الشرك، لولا أن الله أعطاك عقلاً أو فكراً هل بإمكانك أن تستفيد من شيء؟ انظر إلى مجتمع الحيوانات، هل تجد القرود مثلاً استغلوا ما في الطبيعة؟ نمط حياتهم هوَ هو منذ أن وجدوا وحتى الآن، كل مجتمع حيواني هل ارتقى؟ أما الإنسان بما أودع الله فيه هذا الفكر الذي يُعد أثمن ما في الوجود، بل أثمن عطاء وهبه الله للإنسان، بهذا الفكر اكتشف الإنسان البترول، بهذا الفكر اخترع المركبات، بهذا الفكر أوجد المواصلات، بهذا الفكر بنى البيوت، نسخ القماش، تفنن في زراعة المزروعات، إذاً: كل ما ترونه من إنجاز - إن صح التعبير- حضاري هو من حصيلة هذا الفكر الذي أودعه الله فينا، إذاً: لولا أن الله أعطانا فكراً لما أمكننا أن نسخر الطبيعة لمصالحنا، هذا التسخير بفضل الله عز وجل، وبعلمه، وبإذنه. 

 

التسخير لا يقع إلا بفضل شيئين:


شيء آخر؛ لو أعطاك فكراً وطبيعة المواد في الطبيعة لا تستجيب لك ماذا تفعل؟ الصخر لا يتفتت، خلق الصخر، وخلق فيه خاصة التفتت، بل علّمك أن تضع فيه ماء، وأن تُجمد الماء فيتصدع الصخر، إذاً علّمك كل شيء عن طريق الفكر، وعن طريق خواص المواد، لو أن هناك فكراً متفوقاً جداً، وطبيعة المواد لا تستجيب لك فالتسخير لا يقع، ولو أن المواد تستجيب لك لكنك لم توهب هذا الفكر، فالتسخير لن يقع. إذاً ما وقع التسخير إلا بفضل شيئين: بفضل طبيعة المواد، وأوضح مثلٍ الحديد، لو كان الحديد كتلاً من الحديد الخام الصلب الصافي يستحيل استخراج الحديد، أما جعل الله الحديد فلزات مع التراب تجمعه كما تجمع التراب، ثم تجعله في فرن تزيح الشوائب، وتبقي الحديد مصهوراً، عندئذ تُصنّعه على درجات. إذاً: التسخير يقتضي وجود طبيعة خاصة للمواد تقبل التسخير، والتسخير يقتضي وجود جهاز في الإنسان يعرف كيف يسخر هذه المواد له.  

 

موقف الإنسان من تسخير التعريف وتسخير التكريم:


إذاً: التسخير هو تسخير تكريم وتسخير تعريف، أي هذا الكون خُلِق على هذه الشاكلة من أجل أن تعرف الله من خلاله، ومن أجل أن تشكره من خلاله، لذلك جاءت الآيات الأخرى: 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

أي أنت أمام مهمتين كبيرتين جداً؛ أن تشكره، وأن تؤمن به، أو أن تؤمن به، وأن تشكره، فإن آمنت به ولم تشكره هناك مجال للمعالجة، وإن شكرته ولم تؤمن به فهذا شيء مستحيل، مستحيل أن تشكره من دون أن تؤمن به، وإن آمنت به ولم تشكره فما حققت عبوديتك لله عز وجل، فلذلك يقول الله عز و جل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ إن آمنتم ولم تشكروا فسوف يعذب الإنسان، إن شكر ولم يؤمن فهذا مستحيل عقلاً، مستحيل عقلاً أن تتجه إلى شكر جهةٍ لا تؤمن بوجودها، وهذا كلام غير منطقي. إذاً: الكون مسخر تسخير تعريف، ومسخر تسخير تكريم، أنت من خلال تسخير التعريف عليك أن تؤمن، ومن خلال تسخير التكريم عليك أن تشكر. 

مثلاً: لو أن صديقاً لك يصنع أجهزة إلكترونية بالغة الدقة، ولها فوائد جلّى، فإذا قدم لك أحد هذه الأجهزة هدية، وليكن هاتفاً مثلاً، أنت أمام هذا الهاتف تنتابك مشاعر متنوعة، أبرزها ما أدقّ صنعه! ما أجلّ فائدته! حلّ لي هذه المشكلة، وهذه المشكلة، الآن أستطيع أن أتصل بشكل آلي مثلاً كلما ظهر أن الخط مشغول يعيد الاتصال، وأنت مشغول بقضية ثانية، والله هذه ميزة كبيرة، إذا اتصلت بهذا الشخص يظهر الرقم على الشاشة، فإن كنت مخطئاً أعيد الرقم مرة ثانية، إن جاءتني مكالمة أعرف من هو الذي اتصل بي، فإذا رغبت ألا أجيبه لا أجيب، وإذا أردت أن أتصل مكالمة خارجية مثلاً يقول لي كم دقيقة مرت، إذا قدم لك جهاز من هذا النوع فيه ذاكرات كثيرة جداً، ستون ذاكرة مثلاً، يجيب عنك أثناء غيابك، تلقنه جملة يجيب بها عنك، يسجل كل مكالماتك في أثناء غيابك، إذا كنت في بلد آخر، واتصلت بهذا الجهاز يسمعك كل المكالمات التي جاءتك خلال أيام، أنت تتابع قيمة هذا الجهاز، ودقته، والفوائد الكبيرة التي استمتعت بها، واستفدت منها، ألا ينتابك شعور ما أدقّ صنع هذا الجهاز! ما أعظم هذا المهندس الذي اخترعه! ما أدقّ تفكيره! ما أدقّ جزئياته! تسبح بتعظيم مخترعه، هذا شعور. ثم هذا الجهاز غالٍ جداً، قُدم لك هدية مجانية، تشعر بامتنان تجاهه، هذا مثل مبسط، ولله المثل الأعلى، مثل مبسط جهاز بالغ التعقيد، عظيم الفائدة، غالي الثمن، قدم لك هدية، فهذا الجهاز سخر لك تسخير تعريف بمستوى المهندس الذي اخترعه، وتسخير تكريم من أجل أن تحبه، فإن لم تُعَظم، وإن لم تحب في وقت واحد فأنت قد بعدت عن الهدف الذي خلقت له، يجب أن تحب، ويجب أن تُعَظم، دقة الجهاز يجب أن تحملك على تعظيم صانعه، وقيمة الجهاز وكونه قد أهدي لك، يجب أن يحملك على أن تحبه، وأن تشكره، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾ أي يجب أن تؤمنوا، وقدم الشكر على الإيمان، لأن الإيمان بلا شكر لا معنى له، ولا قيمة له، إن كان لا بدّ من إيمان وشكر فالشكر هو ثمرة الإيمان، بل هو النتيجة التي ترجى من الإيمان.

 

علاقة الإنسان بالمجرات:


لذلك: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ..قد يقول قائل: أنا ما دخلي بهذه المجرة التي تبعد عنّا ستة عشر ألفَ ألف مليون سنة، وما علاقتي بها؟ وكيف أنها مسخرة لي؟ هذا كلام يقوله إنسان محدود التفكير، أي أنت ما علاقتك بالشمس؟ علاقة متينة جداً، وربما كانت الشمس في اتساق حركتها بسبب ما حولها من النجوم متوازنة معها في الحركة وفي التجاذب، على كل خالق الكون يقول لك: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ،  هذه (ما)تفيد استغراق كل شيء.

 

إتمام الله نعمه على كل مخلوقاته:


﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ ..ما معنى أسبغ عليّ النعمة؟ أي أتمها. 

أحياناً تدعو إنساناً إلى بيتك، تضعه أمام طعام لطيف، منوع، نفيس، طيب، متقن، ومع الطعام كؤوس جميلة، رائقة، صحون نظيفة، أدوات طعام جيدة، مقعد مريح، التهوية جيدة، باقة أزهار على المنضدة، إسباغ النعمة إتمامها، وقد تعطره، وقد تدعوه إلى أن يغسل يديه، وقد تعطيه العطر والمنديل لينشف يديه، وقد تجعل له بعد الطعام شراباً يروق له، وقد توصله إلى بيته بعد ذلك، وقد تقدم له هدية، إسباغ النعمة إتمامها. 

 

صوَرٌ من إسباغ النِّعمِ:


الله عز وجل ما خلق القمح فقط، خلق القمح، وخلق الشعير، وخلق المحاصيل كلها، وخلق الورود، وخلق الروائح العطرة، وخلق التوابل، وخلق المنكهات، وخلق المقبلات، وخلق العصافير، وخلق أسماك الزينة، وخلق أشياء تزيد عن حاجاتك الأساسية، خلق أشياء كي تسرّ بها، خلق الحدائق ذات البهجة، خلق الأصوات الشجية، خلق الروائح العطرية، خلق المناظر الجميلة، خلق غابات من أجل أن تمتع عينيك بها، إذاً: إسباغ النعمة إتمامها، أي إعطاء التفصيلات، الثانويات، المتممات، المحسنات؛ أي أحجار كريمة، الألماس، الألماس يؤكل؟! للمنظر فقط، اللؤلؤ في البحار لماذا؟ كي تستميل به قلب زوجتك، خلق أشياء لا علاقة لها بحياتك اليومية، لها متعة فقط، هذا من باب إسباغ النعمة، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ..

 

معنى ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً:


لكن معنى باطنة ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ الحقيقة النعم لما قال الله عز وجل: 

﴿ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)﴾

[ سورة إبراهيم ]

في الآية دقة، كيف أقول لك: وإن تعدّ هذه الليرة؟ لا تصح، كلمة تعد تعني ليرات، وإن تعد هذه الليرة معنى ذلك أن النعمة الواحدة لو أمضيت كل حياتك في تعداد خيراتها وبركاتها تنقضي الحياة، ولا تنقضي نعم أو خيرات نعمة واحدة، وهي العين مثلاً، وهي الأذن، وهي اليد، وهي المفاصل. ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ﴾ ..هنا جاءت نعم جمعاً، المأوى نعمة، الزوجة نعمة، الأولاد نعمة، الطعام نعمة، هذا اللباس، هذا الصوف، هذا القطن نعمة، هذا الهواء إذا تحرك نعمة، الأمطار نعمة، النباتات نعمة، كل شيء حولك من نعم الله عز وجل، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ .

 

بعض النعم الظاهرة والباطنة:

 

نعمة الديدان في الأرض:

﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .. ظاهرة واضحة، وباطنة، أي أنت لا ترى في الأرض ما في الأرض، الأرض فيها ديدان، لو أن النوع البشري أبيد عن آخره تبقى الحياة مستمرة، لو كان خمسة آلاف مليون إنسان ماتوا الحياة مستمرة، أمطار، نباتات، حيوانات، لكن من يصدق أن الديدان في التربة لو أبيدت لتوقفت الحياة من على سطح الأرض، هل تعرف هذه النعمة أنت؟ نعمة الديدان في التربة، قرأت عنها بحثاً لا يكاد يصدق، فالتراب يتحول إلى سماد عن طريق الديدان، تخليل التربة، تعديل الحموضة، عشرون فائدة تقوم بها الديدان وهي بكميات كبيرة. 

الإنسان أحياناً في أثناء إصلاح حقل نباتي يجد دودة فيظنها مؤذية، لولا هذه الدودة لما نبت النبات، لما دخل الهواء إلى التربة، لما انقلب التراب إلى سماد، لما اعتدلت حموضة التراب، شيء عجيب جداً، الفوائد التي تقوم بها الديدان في التربة الزراعية لا تعد ولا تحصى، هذه لا يعلمها كثير من الناس.  

البكتيربا:

البكتيريا لا تراها أنت، بعض الجراثيم ضار، بعضها نافع، كائنات حيوية، حينما ألقيت قنبلة على هيروشيما توقفت التربة عن إنبات النبات، لأنها أصبحت معقمة من البكتيريا،  رأيت مرة لوحة تعليمية؛ مكعب من التراب مرسوم في هذا المكعب عدد الكائنات الحية التي تعمل مسخرة لخدمة الإنسان، عشرون أو ثلاثون نوعاً من الكائنات كلها مسخرة لتهوية التربة، ولجعلها صالحة لإنبات النبات.  

العقل:

إذاً هناك نعم ظاهرة وهناك نعم باطنة، العقل نعمة باطنة لا يُرى بالعين، لكن ترى أثاره، العقل وما فيه من محاكمة، من تصور، من خيل، من تدبر، من حكم، من نقض للحكم، نشاط العقل نشاط رائع جداً، هذا لا يرى بالعين، إذاً النعم الظاهرة ما تبدو لعامة الناس، والنعم الباطنة ما لا تبدو لعامة الناس.   

نعمة العين:

العين فيها ماء، وهذا الماء يجب أن يتجدد، وإذا تجدد لابدّ من صنبور يغذي العين بماء جديد، لو أن هذه الفتحة ضاقت أو سدت يزداد ضغط العين، وإذا ازداد ضغط العين تضيقت الشرايين المروية للعين، عندئذ تقع مشكلات كبيرة، فيقال لك: أول شيء افحص ضغط عينك، أنت تعلم أن هناك جهازاً بالغ التعقيد، ماء العين يتجدد، هناك ماء يصب على هذا الماء، وفتحة تصرف الزائد منه، ومن تناسب ما يأتي وما يذهب يكون الضغط طبيعياً، فإذا جاء الوارد أكبر من التصريف ارتفع الضغط، وضاقت الشرايين، ووقعنا في مشكلة في العين، أي هذه نعمة لا تعرفها أنت.   

نعمة ضغط القلب والشرايين:

نعمة الضغط، القلب يضغط على الشرايين، من جعل هذه الشرايين مرنة بحيث إذا جاءها نبض القلب لمرونتها نبضت، تجاوبت مع القلب، فأصبح كل شريان قلباً آخر، بما أن الشريان مرن جاءته النبضة فتوسع لها، لما توسع مادام مرناً أراد أن يعود إلى سابق حجمه فانضغط، لما انضغط اندفع الدم، كل قطعة في الشريان قلب آخر، القلب ينبض نبضة، والشرايين تتابع هذا النبض، أنت عندما تضع جهاز النبض على يدك والعقرب يشير إلى 8/12، 10/16، هل تعلم كم هي دقة هذه الأجهزة والأوعية التي في الجسم؟ الضغط مهم جداً، إذا ارتفع الضغط كان له أخطار كبيرة، من صمم هذا الضغط؟ من جعل هذه الشرايين مرنة؟ من جعل بعض النباتات أو بعض الأغذية تساعد على بقاء هذه الأوعية مرنة، وهو الزيت البلدي؟ ومن فوائده أنه يحافظ على مرونة الشرايين والأوردة، وهذا معنى:  (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .. 

عمليات العين المعقدة:

من يدري أن الإنسان عندما يشاهد شيئاً مخيفاً تجري عمليات معقدة جداً في جسمه لا يدريها، العين تبصر، والشبكية ينطبع عليها شكل الأفعى، والشبكية تنقل هذا إلى الدماغ، فيدرك أن هناك خطراً، والدماغ ملك الجهاز العصبي. 

الجهاز الهرموني:

أما الجهاز الهرموني فله ملكة اسمها الغدة النخامية، وهي تأمر غدداً أخرى، في مقدمتها الكظر، أن أيها الكظر، ضَيِّق لمعة كل الأوعية الدموية حتى يتوافر الدم لطاقة جديدة للدفاع أو للهجوم، فالخائف يصفر لونه مثلاً، وأمر آخر للقلب ليزيد ضرباته حتى يجري الدم بسرعة، وأمر ثالث إلى لرئتين ليزداد وجييها، وأمر رابع للكبد ليطرح سكراً إضافياً في الدم، هذه نعمة باطنة لا تدريها أنت، رأيت شيئاً خفت منه اصفر لونك، دق قلبك، لهثت، لو فحصنا الدم وجدنا فيه سكر زيادة، وأنت لا تدري بأقل من لمح البصر، هذه نعمة باطنة.  

نعمة التقلب في أثناء النوم: 


وأنت نائم تتقلب، ما معنى تتقلب؟ أي اللحم الذي فوق العظم يضغط على اللحم الذي تحت العظم وأنت نائم، لك جهاز عظمي، ولك عضلات، وشحوم فوق الجهاز العظمي، وهناك عضلات تحت الجهاز العظمي، هذه العضلات حينما تنضغط تَنضغط معها لمعة الأوردة والشرايين، الله عز وجل أودع في الجسم أماكن ضغط، وإحساساً بالضغط، فتضعف التروية فالرِّجل تخدّر، أي التروية قلَّت، نمّلت، فأنت نائم مستغرق في النوم تأتي هذه المراكز المضغوطة تنبه الدماغ إلى أن هناك ضغطاً شديداً أضعف فتحة الشرايين، الدماغ يعطي أمراً للعضلات بالتقلب، فيتقلب النائم ستاً وثلاثين مرة، وأنت لا تدري، نائم، هذه نعمة باطنة لا تعلمها أنت.   

نعمة تجمُّع اللعاب في أثناء النوم:

وأنت نائم يتجمع اللعاب في فمك، تجمع اللعاب يعلم الدماغ بذلك، فيعطي أمراً للسان المزمار فيفتح، ولسان المزمار من أعقد الأجهزة، مثل مانعة، أي إذا أغلق فتحة المريء يفتح فتحة الرئتين، فإذا أغلق فتحة الرئتين يفتح المريء، بإحكام بالغ، وأنت نائم.   

طرفة العين:

طرفة العين، كل دقيقة ست عشرة طرفة عين، وأنت لا تدري، يجري مسح، الآن في بعض السيارات الحديثة إذا حصل مطر خفيف ففي كل عشرين أو ثلاثين ثانية تطلع المسّاحة مرة وترجع، ألا يوجد معها مؤقت هذه؟ معها جهاز معقّد، الحركة المستمرة سهلة، أما كل ثلاثين ثانية تطلع مرة وترجع، هكذا العين يأتي الجفن فيمسح القرنية، أحياناً نمسح البلور بمادة مذيبة (كحول)، أو الخل، يلمع أكثر، هذا الدمع فيه مادة مذيبة دائماً، فالرؤية شفافة تماماً بفضل الدمع، وهذه المسحة، وأنت لا تدري. 

نعمة السمع:

يوجد نعم لا تعرفها أنت، مليون نعمة في جسمك لا تعلمها، وأنت تمشي في الطريق، وراءك سيارة أطلقت بوقها تتجه إلى اليمين، هذه نعمة، لأنه يوجد في الدماغ جهاز معقد جداً يتلقى الصوتين من الأذنين، الصوت يا ترى إلى أي الأذنين وصل أولاً، طبعاً فرق 1/ 1650 جزءًا من الثانية، هذا الجهاز يحسب الفرق، فإذا وصل الصوت إلى الأذن اليمنى قبل اليسرى بواحد من ألف وستمئة وخمسين جزءاً من الثانية فالسيارة تكون نحو اليمين، تعطي أمراً للإنسان أن اتجه نحو اليسار، وأنت لا تدري. 

مرة كنت أقود مركبة في طريق سفر، أمامي قطيع من الغنم، أطلقت البوق، فانزاحوا نحو الجهة المعاكسة، قلت: الجماعة عندهم نفس الجهاز، ليس فقط عندنا، انزاحت كل هذه الأغنام إلى الجهة المعاكسة، إذاً هذا الفكر لو أنك أعملته في خلق الله عز وجل لرأيت العجب العجاب: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .. 

الحوين المنوي:

هل تعرف أن على الحوين المنوي يوجد خمسة آلاف مليون معلومة ومبرمجة، سنة كذا يشتد صوته، سنة كذا ينبت له شعر، سنة كذا ينمو الصدر، كل ذلك بالتسلسل، صفات دقيقة جداً مبرمجة، هذا المعنى الأول لـ: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ..

 

المعنى الثاني لـقوله تعالى: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾:


المعنى الآخر للباطنة؛ الإكرام الظاهر معروف، لكن الإنسان أحياناً شارد، لاهٍ، منحرف، مقصر، تأتي مصيبة، ظاهرها مزعج جداً، يحترق محل تجاري، تتلف البضاعة كلها، يتألم التاجر ألماً شديداً، ينعصر قلبه بهذه الخسارة، على إثر هذه المصيبة يبدأ يصلي، يعود إلى الله عز وجل، يقلع عن ذنوبه، فإحراق هذا المحل الذي كان بقضاء الله وقدره كان نعمة باطنة، ولو سألت معظم المؤمنين لوجدت العجب العجاب. 

أنا أكاد أجزم أن تسعين بالمئة ممن هم مستقيمون على أمر الله استقامتهم وعودتهم كانت بسبب معالجة إلهية حكيمة مصيبة. 

أحياناً ربنا عز وجل يبلو الإنسان في ماله، أو في جسمه، أو في أولاده، أو مع مَن هم فوقه، أو مع مَن هم دونه، أو يأخذ منه حريته لسبب أو لآخر، يخرج من السجن إنساناً آخر تائب توبة نصوحاً، هذه نعم باطنة أيضاً، هناك نعم لا تراها، وهناك نِعم في ظاهرها مؤلمة، في ظاهرها مصائب، في ظاهرها فقر، لكن لو كان الإنسان منحرفاً، وأمده الله بما يشتهي مع انحرافه إلى أن مات، واستحق جهنم يوم القيامة يعتب على الله: 

﴿ وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)﴾  

[ سورة القصص  ]

قال القرطبي في تفسير قوله تعالى:

﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)﴾

[ سورة فاطر ]

النذير هو المصائب، أي المصيبة رسول، هناك رسول حقيقي، وهناك قرآن، وهناك علماء، وهناك دعاة، وهناك كون، وهناك عقل، وهناك فطرة، وهناك حوادث، وهناك إلهامات، وهناك منامات، وهناك مصائب، كلها تهدف إلى إيقاظ الإنسان، إلى دفعه إلى باب الله عز وجل، أنواع المصائب تجتمع على محور واحد من أجل أن يتضرع الإنسان، هذا المعنى الثاني لـ: ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .

 

من أعظم المصائب المجادلة بغير علمٍ:


﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ .. العلم هنا في رأي بعض المفسرين الحجج العقلية، المنطق، لا نص، ولا كتاب، ولا حديث، ولا فطرة، العقل والمنطق، يوجد عنده عقل، ولا يوجد عنده منطق، ﴿وَلَا هُدًى﴾ الهدى الإلهام، والله عز وجل يلهم إنساناً أن يفعل شيئاً، هذه هداية الله.

﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)﴾

[ سورة طه ]

الهدى الإلهام، أي إما أن تملك شيئا مستفاداً من العقل، وإما أن تملك شيئاً مستفاداً  من الإلهام، وإما أن يكون معك كتاب سماوي منزل من عند الله عز وجل، لا يفهم كلام الله، ولا يتمتع بإلهام من الله عز وجل، ولا يملك منطقاً راجحاً، ومع ذلك يجادل، لذلك قال الإمام الغزالي: "ما جادلني جاهل إلا غلبني، ولا ناقشت عالماً إلا غلبته" هناك حجة عقلية، أنا أقول: عندك نقل، وعندك عقل، وعندك واقع، وعندك فطرة، فالواقع يؤكد الدين، والفطرة تؤكد الدين، والعقل يؤكد الدين، والنقل يؤكد الدين، من أي شيء أردت، العقل مؤيد، والفطرة مؤيدة، والنقل مؤيد، والواقع مؤيد، فهذا الذي يجادل من دون علم، بغير علم أي حجة عقلية، ولا هدى إلهام، بعض المفسرين قال: الهدى أي ما يقوله النبي عليه الصلاة والسلام، أي لا كتاب، ولا سنة، ولا منطق، الكتاب من الله، والسنة من رسول الله، والمنطق من العقل، لا معه عقل راجح، ولا حجة يقينية، ولا كتاب منير، ولا سنة ثابتة، وهو يناقش، أو ليس معه إلهام، ولا عقل، ولا واقع. 


  العادات المخالفة للدين مرفوضة:


﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ ..هذه  العادات والتقاليد، العوام يقولون: هكذا تربينا، هكذا نشأنا، هكذا علّمنا أبي، فإذا تربيت، ونشأت، والبيئة، والمحيط كان وفق الحق فأنعم وأكرم، وأما إذا تربينا على الاختلاط، هكذا نشأنا لا تغير، هذا خلاف الدين، تربينا على الربا، تربينا على كسب مال حرام، هكذا أبي علمنا، تربينا على المماطلة في الوعود، تربينا على كذا وكذا، هذا كلام مرفوض، العادات والتقاليد تأمر أن يقف العريس أمام المدعوات الكاسيات العاريات، كلما قلت له: هذا شرع، هذا أمر الله، هذا نهي الله، يقول لك: هكذا تربينا، هكذا العادات، هكذا التقاليد، وهكذا آباؤنا وأجدادنا، هذا المجتمع، هذا الواقع، هذا العصر، هذه التقاليد، هذه ليست آلهة هذه يجب أن تداس بالأقدام إذا خالفت أمر الواحد الديان طبعاً، ما قيمة التقاليد إذا كانت خلاف الشرع؟ مرة كنت في قرية قالوا: إنهم أحياناً يحتاجون إلى مال لشراء علف لأغنامهم، يتجهون إلى تجار يشترون صوف الأغنام، فإن كان الكيلو بسبعين أو ثمانين ليرة يشترونه بعشر ليرات للموسم، صار ربا، من أشد أنواع الربا، بالمئة خمسمئة للموسم، استغلال حاجة الراعي إلى أقصى الحدود، هكذا نشأنا، هكذا بلادنا، كلمة هكذا بلادنا ، هكذا تربينا، هكذا تعلمنا، إن لم يكن هذا موافقاً للشرع فليس مقبولاً، فعلى الإنسان أن يجري مراجعة حسب أسرته، وحسب عاداته وتقاليده، كل شيء موافق للشرع أهلاً وسهلاً به، أما إذا كان مخالفاً فيجب أن ننبذه إذا كنت مؤمناً بالله عز وجل.

طبعاً بيع السلم مشروع بالمناسبة، وهو أحد أبواب الفقه، أي أن تشتري بضاعة تدفع الثمن معجلاً وتأخذ البضاعة مؤجلاً، هذه مشروعة لكن لها شروط، إذا خالفت شروطها انقلبت إلى بيع محرم، جئت بهذا كمثل، هذه المنطقة هكذا يتعاملون، منطقة ثانية يؤجر بيته بلا أجرة، يأخذ خمسمئة ألف ليرة مالاً يجمده، يتاجر به إلى أن يخرج المستأجر، هذه علاقة غير مشروعة، من أين جئت بها؟ هذا المال الضخم الذي تستثمره لمصلحتك مقابل إيجار بيت، أو أحياناً ينتفع بالرهن، وهذا أيضاً خلاف المشروع. 

مع بُعدِ الناس عن الله عز وجل ظهرت علاقات مالية غير صحيحة، في البيع والشراء، علاقات اجتماعية غير صحيحة، عادات، تقاليد، يجب أن نعيد الفحص لكل شيء ألفناه عن آبائنا وأجدادنا، ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ ..لعل آباؤهم كانوا ضالين، لعل آباؤهم كانوا جاهلين، لعل الشيطان تمكّن من آبائهم، ودعاهم عن طريق آبائهم إلى عذاب السعير أيليق بنا ذلك، ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور