وضع داكن
21-11-2024
Logo
الدرس : 03 - سورة لقمان - تفسير الآيات 8 - 11 الدين إيمان وعملٌ
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

صفات المؤمن الذي له الجنة في الآخرة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة لقمان.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7)﴾ ..

الآن الآية التي تَلي هذه الآية تتحدَّث عن أهل الإيمان، ولكن يجب أن ننظر إلى العلاقة بين الآيتين، يقول الله عزَّ وجل بعد قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾  هذا الذي يُغَنِّي، أو يحبُّ الغناء، أو غارقٌ في الباطل، أو في الشهوات المُنحرفة، أو الذي يبحث عن لَذَّته، يبحث عن اللذَّة، هذا الذي آثر الشهوة على طاعة الله، هذا الذي آثر الدنيا على الآخرة، هذا الذي أراد الشهوة العاجلة على الجنَّة الآجلة، استمعوا أيها الإخوة لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ ..أي المؤمن الذي خاف الله في الدنيا، الذي ضبط جوارحه، الذي كَفَّ أذنه عن سماع ما لا يرضي الله عزَّ وجل، الذي غضَّ بصره، إذا دُعي إلى شيءٍ لا يرضي الله قال: إني أخاف الله رب العالمين، هذا المؤمن الذي بدا في الدنيا أنه قد حرم نفسه هذه الملذَّات، هذا المؤمن الذي بدا لأهل الدنيا أنه حرم نفسه هذه المباهِج، هذا المؤمن الذي ظنَّه أهل الدنيا متقوقعاً على نفسه، بعيدٌ عن المُتَع، بعيدٌ عن مباهج الحياة، بعيدٌ عما في الحياة من لذّات، هذا المؤمن..هنا دقَّة الآية بعد قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾  هؤلاء ما ضاع عليهم شيء بل كسبوا كل شيء، وأهل الدنيا حَصَّلوا شيئاً، وضيَّعوا بعدها كل شيء، استمتعوا، استمتع بعضهم ببعض، استمتعوا بالملذَّات، استمتعوا بالمُحَرَّمات، غاصوا في الشهوات، ومع ذلك جاء الموت فأنهى كل هذه اللذات، ووضعهم أمام حسابٍ عسير. 

 

دقَّة القرآن الكريم الترابط بين الآيات:


النقطة الدقيقة أن المؤمن في أعماقه يبحث عن سعادته؛ ولكنَّه كان ذكياً جداً، اختار سعادةً لا تنقضي، اختار سعادةً أبديَّةً على لذائذ مؤقَّتة، أنا أستخدم السعادة واللذَّة، اللذَّة دائماً مؤقَّتة، ودائماً يعقبها نَدَم، وتعقبها كآبة، بينما السعادة متنامية وأبديَّة، فلذلك دقَّة القرآن الكريم أن هناك ترابطاً بين الآيات، عندما قال ربنا عزَّ وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ(7)﴾  هؤلاء المؤمنون الذين ضبطوا شهواتهم، وكفّوا جوارحهم عن المعاصي، وظنَّهم أهل الدنيا محرومين، ظنَّهم أهل الدنيا مُقَيَّدين، هؤلاء هم الطُلقاء..

﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)﴾ 

[ سورة المدَّثر ] 

المؤمن طليق، حتى إذا دخل قبره يمتدُّ قبره مَدَّ بصره، بل إن قبره روضةٌ من رياض الجنَّة، إذاً: من هو الذكي؟ هل هو الذي نال شيئاً مؤقَّتاً وضيَّع الأبد؛ أم الذي ضبط نفسه في هذه الحياة الدنيا؟ الحياة الدنيا ليس فيها حرمان للمؤمن، ولكن فيها نظافة، فيها نظام، فيها قنوات نظيفة، بإمكانه أن يُمَرِّر شهواته عَبْرَهَا، المرأة من خلال الزواج، والمال من خلال الكسب الحلال، والرفعة في الدنيا من خلال العمل الصالح، إنك إن عملت صالحاً ارتقى اسمك في الدنيا، إنك إن كسبت مالاً حلالاً بارك الله لك فيه، إنك إن أردت أن تُحْصِنَ نفسك بزوجةٍ صالحة وفَّقك الله إليها، لو دقَّقت في حياة المؤمن تجد أن حياة المؤمن ليس فيها شقاء، وليس فيها شعور بالذنب، ليس فيها شعور بالتَمَزُّق، ليس فيها شعور بالانقباض، ومع ذلك من آثر آخرته على دنياه.. والله يا أيها الإخوة الأكارم؛ هذا الحديثان أو هذا الحديث لو عقلنا أبعادَ هذا الحديث لكنّا أناساً آخرين..ورد: "من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً - دنيا وآخرة- ومن آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً".

 

الدين إيمان وعملٌ:


لذلك قال ربنا عزَّ وجل بعد آية: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾  هذه إنَّ تفيد التوكيد، تقول: العلم نافعٌ، أو العلم نورٌ، مبتدأ وخبر، مسند ومسند إليه، أما إذا قلت: إنَّ العلمَ نافعٌ، أكَّدت هذا الإسناد، فربنا عزَّ وجل يقول: ﴿إِنَّ﴾ كلامه حق؛ ولكن لا يؤكِّد لأن كلامه ليس بحق، لكنَّه يؤكِّد لنا، يقول لك الله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾  وقفةٌ قصيرة عند..﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾..الذي يَلفت النظر أن كلمة: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾  تدور في كل القرآن، إشارة إلى أن الدين اعتقاد وسلوك، فأي فرقةٍ، أي جماعةٍ، أي مجتمعٍ، أي طائفةٍ فَصَلَت الاعتقاد عن العمل، أكَّدت على العمل على حساب الاعتقاد، أو أكَّدت على الاعتقاد على حساب العمل هي فئةٌ عرجاء، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾  الإيمان بلا عمل كالشجر بلا ثَمَرَ، كما أن الإيمان بلا عمل لا قيمة له، كذلك العمل من دون إيمان لا يكون، وإذا كان فلأهدافٍ دنيويَّة، أي إن واجهت إنساناً مُحْسِنَاً، وليس مؤمناً بالله عزَّ وجل إنه ذكي ذكاءً اجتماعياً، بحيث يحصِّل متعته الاجتماعيَّة من خلال ثناء الناس عليه، هذا شأن أهل الغرب، هذا شأن الأذكياء دائماً، دائماً الذكي يلتقي بعمله مع الأخلاقي في النتائج ؛ ولكنهما يختلفان في البواعث، البواعث متباعدة، هذا باعثه على هذا الموقف الأخلاقي ذكاؤه ومصالحه الأرضيَّة، وذاك باعثه مواقفه الأخلاقيَّة إرضاء الله عزَّ وجل، هذا يسعد بأخلاقيَّته إلى أبد الآبدين، لأنه أراد بهذا وجه الله الكريم، وهذا يقطف ثمار أخلاقيَّته في الدنيا فقط.. 

﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)﴾ 

[ سورة البقرة ] 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: 

(( إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ، وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ. )) 

[ صحيح  مسلم ] 

 

الإيمان والعمل شرطان متلازمان غير كافيين:


إذاً: إذا أراد الإنسان العمل الصالح من دون إيمان ففي نيَّته خلل، ينوي انتزاع مديح الآخرين، ينوي السمعة، ينوي المركز الاجتماعي، والله سبحانه وتعالى ربُّ النوايا، والذي يقول لك: أنا مؤمن، ويركِّز على ما في الإسلام من أفكار، ولا ترى في عمله ما يوافق أفكاره، كلا الطرفين قد ضَيَّع شطر الدين، لذلك دائماً وأبداً أكثر من ثلاثمئة أو أربعمئة آية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ..أي إيمان بلا عمل لا قيمة له، عمل بلا إيمان لا قيمة له، يمكن أن نقول: الإيمان والعمل شرطان لازمان غير كافيين، عندك أسطوانة غاز ولكن لا يوجد عندك رأس، عندك رأس ولا يوجد عندك أسطوانة، لا الرأس وحده يُجْدِي ولا الأسطوانة وحدها تجدي، نقول: الأسطوانة ورأس الغاز شرطان لازمان غير كافيين، كل منهما شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، نقطة دقيقة جداً: ﴿إِنَّ﴾ توكيد ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ افحص عملك دائماً، وعملوا الصالحات مطلقة، إتقانك لعملك جزءٌ من الدين، افحص عملك، إخلاصك في بيعك وشرائك جزءٌ من الدين، والدين في المعمل، والدين وراء الطاولة كموظَّف، والدين في العيادة، والدين في المكتب الهندسي، والدين في مكتب المحاماة، والدين في المِهَن، وفي التعامل.

 

أبواب العمل الصالح كثيرة:


لذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ..عمل صالحاً في مهنته، في علاقاته، في أفراحه عمل صالحاً، في أحزانه عمل صالحاً، في لقاءاته، في نُزهاته، في مرحه، في كل نشاطاته الحياتيَّة عمل صالحاً، عمل صالحاً أي أنه طبَّق الأمر، واجتنب النهي، وتقرَّب إلى الله، بشكل مختصر، طبَّق الأمر، واجتنب النهي، وقدَّم شيئاً من ماله، أو من وقته، أو من علمه، أو من خبرته في سبيل الله، فالتزام الأمر، واجتناب النهي، وبذل المعروف، بمجموع هذه النشاطات الثلاث هو العمل الصالح، وأن تعتقد بأن الله خالق الكون، وربُّ الكون، وإله الكون، موجودٌ، وواحدٌ، وكامل، أسماؤه حسنى، صفاته فضلى، هذا هو الإيمان، وأن تؤمن به وبرسله واليوم الآخر والقدر خيره وشرِّه، هذا الدين كلمات مجملة، موجزة، مكثَّفة. 

﴿إِنَّ﴾  حرف توكيد..﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾  آمن بالله خالقاً، آمن به رباً، آمن به مسيِّراً، آمن به رحيماً، آمن به حكيماً، آمن به قديراً، آمن به غنياً، آمن به لطيفاً، آمن به واحداً، آمن بأنه كاملٌ.. 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا  وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾ 

[ سورة الأعراف ] 

والعمل الصالح أن يتقرَّب إليه بما رزقه، الغني بماله، والعالِم بعلمه، والوجيه بمكانته، والخبير بخبرته، والقوي بعضلاته، والفارغ بوقته..﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾  هؤلاء هم السعداء، هؤلاء هم الأذكياء، هؤلاء هم الفائزون، هؤلاء هم الرابحون، هؤلاء هم المتفوِّقون، هؤلاء متى تُعْرَف مكانتهم؟ حينما يقول الله عزَّ وجل: 

﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)﴾ 

[ سورة يس ] 

ابتعدوا عنهم.. 

 

الدنيا دار الامتحان والفرز:


في أثناء العام الدراسي تكون الأوراق مختلطة، كل الطلاب يأتون الساعة الثامنة، يرتدون ثيابهم الأنيقة والنظيفة، كلهم طلاب، عند أهلهم، وعند المجتمع، وفي الطريق يرتدي زيّ الطالب، لكن من الذي يعرف المجتهد من الكسول؟ هذا يُكشَف يوم الامتحان، أو يوم إعلان النتائج، هُناك الفَرْز.

الآن نحن في الدنيا، المؤمن موظَّف، المؤمن تاجر، المؤمن قد يكون صانعاً، قد يكون حاجباً، يأكل ويشرب كغيره من الناس، له بيت، وله غرفة ضيوف، وغرفة استقبال، وغرفة نوم، ويأكل، ويشرب، ويعمل، الأوراق مختلطة، لكن متى تظهر بطولة المؤمن؟ حين يقوم الناس لرب العالمين، هذا عرف الله، هذا قدَّم الغالي والرخيص، هذا كان همُّه مقدَّساً، همُّه أن يعرفه، همه أن يعبده، همه أن يتقرَّب إليه. 

 

ثمن النجاح في الامتحان جنات عدن:


لذلك هؤلاء المؤمنون، الصادقون، المخلصون الذين كان عملهم صالحاً، هؤلاء ليس لهم جنَّة نعيم؛ لهم جنات النعيم، هناك معنى بالجمع، أي جنَّة القرب، وجنة الفواكه التي تقدَّم لهم مما يشتهون، وجنَّة الحورِ العين، هكذا قال أحد أصحاب رسول الله، طولب بشيءٍ فوق طاقته، طالبته زوجته بشيءٍ ما فعله أصحابه من قبل، قال: "يا فلانة، إنّ في الجنة من الحور العين ما لو أطلَّت إحداهنَّ على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهنَّ من أجلك".  

كلمة جنَّات، القرب جنة، أنهار من عسل مصفَّى، العسل مصفى، واللبن لم يتغيَّر طعمه، والخمر لذَّةٍ للشاربين، لا فيها غولٌ، طعمها مستساغ، ولا تغتال العقول، خمرة الآخرة شيء آخر، العسل مصفَّى، الخمر لذَّة للشاربين، اللبن لم يتغيَّر طعمه، الماء غير آسن، السدر مخضود ليس فيه شوك، فهذه جنَّة؛ جنَّة الطعام والشراب، جنة حور العين، جنة الأبد، الإنسان في الدنيا دائماً قلق، هل يا ترى الله يطيل في عمره؟ لا يعرف، عندما يستقرُّ وضعُ الإنسان الاجتماعي، والمالي، وينجح في الحياة ينشأ عنده قلق الموت، يا ترى كم سأعيش أنا كم سنة؟ هناك شيء اسمه قلق في الدنيا، أما في الآخرة فخالدون فيها أبداً..﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾  ربنا عزَّ وجل اختار من الجنات النعيم، لأن هذا الذي يشتري لهو الحديث يتوهَّم أنه في نعيم، النعيم الحقيقي لهؤلاء المؤمنين الصادقين، المستقيمين، الملتزمين، الذين ائتمروا بما أمر الله، وانتهوا بما عما عنه نهى، هكذا..﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾  جنَّات، والنعيم نعيمٌ لا ينقطع، أحد الشعراء وهو لبيد قال:

ألا كل شيءٍ ما  خلا اللهَ باطلُ

* * *

(( سمع النبي هذا البيت فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ. )) 

[ صحيح البخاري ] 

فلما قال الشاعر: وكل نعيمٍ لا محالةً زائلُ، قال: لا، نعيم أهل الجنَّة لا يزول، هذا كلام شعراء، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾  أي هذه الدنيا المحدودة، هذه السنوات العشرون، أو العشر، أو الثلاثون، الإنسان حتى يستطيع أن يقول لك: أنا، بعد أربعين سنة من حياته، حتى يقول: أنا، ويكتب: مجاز في الآداب مثلاً، أو دكتور، أو بورد مثلاً، حتى يكون له بيت مرتَّب، حتى يكون له عيادة، حتى يكون له مركبة، هذه تحصل في الأربعينات، والناس يموتون في الخمسينات، كلما مات أحد يسأل: متى مات؟ في الثالثة والخمسين، في التاسعة والأربعين، في الثالثة والستين، في الستين.. فكل العملية عشر سنوات، عشر أو عشرون سنة، أنضيِّع الآخرة كلها من أجل هذه السنوات العشر، وفيها نكد.

 

لا سعادةَ للمُعرِض عن الله أبداً:


أقول لكم هذه الكلمة: أنا أتحدَّى أن يسعد إنسانٌ في الدنيا، وهو معرضٌ عن الله عزَّ وجل، أبداً..

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا  وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾ 

[  سورة طه  ] 

ولو كان غنياً، ولو كان قوياً، سُئِلَ بعض العلماء: ما بال الملوك والأغنياء مع هذه الآية ؟ قال: ضيق القلب، في قلب هؤلاء من الضيق، والقلق، والضعف، والخوف، والتشاؤم، والانقباض ما لو وزِّع على أهل بلدٍ لكفاهم، أما:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)﴾ 

[ سورة الكهف ] 

الآية الثانية:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ 

[ سورة النحل ] 

القرآن كلام خالق الكون، هو الذي يدعوك للإيمان بالقرآن، أنك إذا طبَّقت آياته قطفت ثمارها، هل تظن أن هناك أدلَّة على إعجاز القرآن، هذه الأدلَّة كافية؟ لا والله، الأدلَّة الكافية أنك إذا غضضت بصرك عن محارم الله أورثك الله لذَّةً، سعادةً إلى يوم تلقاه، أنك إذا استقمت على أمره..

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾ 

[ سورة فصلت  ] 

أنك إذا التزمت أمره غمرك بالأمن..

﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ  (82)﴾ 

[ سورة الأنعام  ] 

دخل رجل إلى بعض الفنادق في بلاد أوروبا، فرأى لوحة على السرير: "إذا أرقت في هذه الليلة فهذا لا يعود إلى نوع الأثاث، ولا إلى الفراش، بل إلى ذنوبك أنت".  إذا ارتكب إنسان معاص، ارتكب موبقات، تفلَّت من منهج الله عزَّ وجل، تحرَّك حركة عشوائيَّة، قادته نفسه، استهدف هواه، هذا شقيّ، أي يوجد بالإيمان سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها.

 

الخلود هو السعادة المتعاظمة وعدم الملل:


إذاً: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ(8) خَالِدِينَ فِيهَا﴾ .. معنى خالدين، هناك معنى إضافي على الاستمرار، أحياناً الإنسان يقبع في مكان سنوات، عشر سنوات، خمسين عاماً، أما كلمة خالدين، خلد إلى الشيء أي مال إليه، أي هذا الاستمرار مع الميل، مع السعادة، مع السرور، فليس معنى الخلود هو الاستمرار فقط، لا.. للخلود معنى آخر، معناه السعادة المتعاظمة، السعادة المتنامية، الإنسان مهما كان المكان جميلاً، يجرب الإنسان لو جلس في مكان جميل أول يوم يكون فرحاً كثيراً، ثاني يوم، ثالث يوم، أقصى مدة أسبوع، ويقول لك: والله مللنا، يكون في أجمل مكان، وسط جبال خضراء، تطل على ساحل جميل، ليس عنده هموم، الأماكن الجميلة في الدنيا متعتها محدودة، واسأل سُكَّان بلد جميل تجد أنهم ملُّوا، اسأل إنساناً عنده شرفة مطلَّة على الشام يقول لك: والله من شهر لم أدخل إليها، اسأل إنساناً عنده حديقة جميلة يقول لك: والله من كذا شهر لم أدخلها، الجمال في الدنيا محدود، والجمال في الدنيا يُمَلّ، عندما قال ربنا: ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ ..معنى هذا أن الجمال في الآخرة متجدِّد، لو لم يكن متجدِّداً ومتنامياً لما كان الإنسان فيها خالداً، الخلود هو المَيل المستمر، أنت قف في شرفة قطار، والقطار واقف، مهما كان المنظر جميلاً تقف خمس دقائق، وبعدها تجلس وتمل، القطار إذا كان ماشياً، وينقلك من واد إلى واد، من جبل إلى جبل، من بحيرة إلى بحيرة، ما دام هناك تجدُّد فلا يوجد ملل أبداً. 

إذاً: لا يكون الإنسان في الآخرة خالداً إلا إذا كانت المُتَعُ متجدِّدةً ومتناميةً، هذا معنى خالدين فيها، الله عزَّ وجل قال:عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ: 

(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ : اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ : {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}  [السجدة: 17].  )) 

[ متفق عليه ] 

 

دائرة المسموعات والمرئيات والخواطر:


كل مشاهداتك لا تفيدك في توقُّع ما في الآخرة، وكل مسموعاتك لا تكفي، وكل خواطرك، مع أن هناك ما لا عينٌ رأت، دائرة المشاهدات محدودة جداً، كل واحد منا يعرف خمسة بلدان أو ستة في العالم، يقال: والله فلان يعرف اليابان، ما شاء الله، وأمريكا، وإفريقيا، وأستراليا، هذا نادر جداً، هذا يعرف أوروبا، هذا اليابان، هذا آسيا، هذا الأردن فقط، هذا ذهب إلى تركيَّا، هذا ذهب إلى العمرة فقط، المشاهدات محدودة أما المسموعات فأنت تسمع في الأخبار عن مئتي بلد في العالَم، وأسماء عواصم، وأسماء قبائل، وأسماء بُلدان، وأسماء دول، تسمع عن المجرات، فالمسموعات واسعة جداً، أي دائرة المشاهدات بالنسبة إلى دائرة المسموعات نسبتها ضعيفةٌ جداً، ودائرة المسموعات إذا قيست بدائرة الخواطر نسبتها ضعيفةٌ جداً، الحديث القدسي يقول: ((أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)) .

 

قيمة الدنيا عند رسول الله:


هذه الآخرة أنضيعها من أجل لُعاعةٍ من الدنيا؟‍! ماذا قال النبي الكريم؟ جاءه أحد أصحابه سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إنَّ قومي وجدوا عليك في أنفسهم – حزنوا منك- من أجل هذا الفيء- أي الغنائم- فالنبي الكريم بعد معركة هوازن وزَّع الغنائم على المؤلَّفة قلوبهم، أما الأنصار فما خصَّهم بشيء، وَكَلَهم إلى إسلامهم، هو حكيم، فالأنصار يبدو أنهم وجدوا عليه في أنفسهم، لأن عطاء رسول الله شرفٌ عظيم، فاتَهُم هذا الشرف، هكذا نفسر نحن، فتململوا، تضايقوا، وجدوا، تألَّموا، سيدنا سعد كان صريحاً، لأنه لا مجاملات في الإسلام، ولا مواقف معلنة ومواقف مبطَّنة، فقال له: "يا رسول الله إن قومي وجدوا عليكَ في أنفسهم في هذا الفيء الذي قسمته".

(( عن أبي سعيد الخدري: قال النبي: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَنَا إِلا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي- أيضاً حزين -  قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ، فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَتَرَكَهُمْ، فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ، فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ... اسمعوا الآن إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام، قال: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ..أَلَمْ آتِكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ ؟ وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ ؟ وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُم ؟ْ قَالُوا: بَلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلا فَأَغْنَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ – انظر إلى انتقاء الكلمات - مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ؟  )) 

[ شعيب الأرناؤوط :تخريج المسند لشعيب : حكم المحدث:إسناده حسن ] 

أي خشخيشة باللغة الدارجة،ـ شيء تافه جداً، الدنيا كلها عند النبي تافهة..

(( يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ ... يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ فِي لُعَاعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا تَأَلَّفْتُ بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا، وَوَكَلْتُكُمْ إِلَى إِسْلامِكُمْ، أَفَلا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رِحَالِكُمْ؟  )) 

فلان ثمن بيته حوالي ثلاثة وعشرين مليوناً، أنت ألا ترضى أن يحبك الله؟ وأن تكون طائعاً لله؟ وأحسن من هذا البيت الواسع؟ لأن البيت لن يطول، اقرأ النعوات كلها: وسيشيَّع إلى مثواه الأخير، معنى هذا أن البيت الحالي مثوى مؤقَّت، شيء مؤقت.. ((ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟ يا معشر الأنصار أما إنكم لو قلتم - اسمعوا الآن السياسة الحكيمة ، اسمعوا الوفاء، اسمعوا العفو، اسمعوا مكارم الأخلاق - يا معشر الأنصار، أما إنكم لو قلتكم فلصدقتم ولصدِّقتكم..))  إذا قلتم هذا الكلام فأنتم صادقون ومصدَّقون ((..أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك، وطريداً فآويناك، ومخذولاً فنصرناك-  بدأ بفضلهم عليه، أذابهم- يا معشر الأنصار، ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي؟))  ألم تكونوا ضالين؟ ألم تكونوا منحرفين؟ ألم تكونوا ضائعين؟ ألم تكونوا شاردين؟ ألم تكونوا شاربي خمر؟ ألم تكونوا متخاصمين؟ ألم تكونوا أعداء متباغضين؟ ((ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله؟ ألم تكونوا عالةً فأغناكم الله ؟))  ما قال لهم: فأغنيتكم.. إنه أديب، قال عليه الصلاة والسلام: (( ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله؟)) وليس أنا الذي هديتك، ولي فضل عليك..((ألم تكونوا ضُلالاً فهداكم الله؟ ألم تكونوا أعداء فألف الله بين قلوبكم؟ ألم تكونوا عالةً فأغناكم الله؟ أوجدتم عليّ في أنفسكم من أجل لُعاعةٍ تألفتُ بها قوماً ليسلموا، ووكلتكم إلى إسلامكم، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا أنتم برسول الله إلى رحالكم؟))  أنا معكم، نحن الآن إذا كان مصير أحدنا في الدنيا أن الله يحبه، ألا تكفي هذه؟ نصيبه أن الله راضٍ عنه، نصيبه أنه مستقيمٌ على أمر الله، نصيبه أنه متعففٌ عن المال الحرام ألا تكفي هذه؟

 

قصة بكاء عمر في بيت النبي:


(( سيدنا عمر دخل على النبي، سيد الخلق، وكان مضطجعاً على حصير أثر على خده الشريف، فبكى عمر، قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: ((دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٍ فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَالِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ ؟ قَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمْ الدُّنْيَا، قُلْتُ: بَلَى))  )) 

[ صحيح الترغيب والترهيب ] 

يجب على الإنسان إذا كان مستقيماً على أمر الله أن يشعر بالغنى، يشعر أنه فائز، متفوق، يشعر أن الله عزَّ وجل كَرَّمَهُ بالهدى..

﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾ 

[ سورة الأنفال ] 

لا يوجد واحد من الإخوة الحاضرين إذا استمع إلى الحق إلا وله بشارة عند الله، البشارة أن الله عَلِمَ فيه خيراً، والدليل أنه أسمعه الحق: ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ﴾ .

 

من لوازم الخلود التجدد والتنامي:


إذاً: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا﴾ ..الخلود إذاً هو التجدد والتنامي، ليس معنى الخلود الاستمرار، مثلاً: تقرأ بالقرآن الكريم يقول لك: 

﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ  لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)﴾ 

[ سورة النور ] 

الإنسان يتوهم أحياناً أن كلمة (رجل) تعني الذكر، لا، كلمة رجال هنا في هذه الآية لا تعني أنهم ذُكْرَان، تعني أنهم أبطال، كما قال سيدنا سعد قال: << ثلاثةٌ أنا فيهن رجل، وفيما سوى ذلك فأنا واحد من الناس، ما صليت صلاةً فشغلت نفسي بغيرها حتى أقضيها- هذه الرجولة والبطولة- وما سرت في جنازةٍ فحدثت نفسي بغير ما تقول حتى أنصرف منها، وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى >>  فكلمة خالدين لا تعني أنهم مستمرِّين، تعني أن سعادتهم متناميةٌ ومتجددةٌ. 

 

تحقّق وعد الله وعيده: 


﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً﴾ ، خالق الكون وَعَدَ.. 

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ  فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ 

[ سورة التوبة ] 

﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)﴾ 

[ سورة النساء ] 

لذلك ربنا عزَّ وجل مثلاً قال:

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)﴾ 

[ سورة الفيل  ] 

بربكم من منكم رأى هذه الحادثة؟ ولا واحد، ولا أنا رأيتها، كيف يقول الله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ لو قال: ألم تسمع معقولة أكثر.﴿ أَلَمْ تَرَ﴾  قال بعض المفسرين: إخبار الله عزَّ وجل لأنه من الله عزَّ وجل في حكم المّرْئِيّ، من أخبرك عن هذه الحادثة؟ خالق الكون كأنك تراه، تصديقك لما قاله الله عزَّ وجل يرقى إلى مستوى الرؤية، هذا معنى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾  لم يقل: ألم تسمع.. وعد الله عزَّ وجل يأتي دائماً أو أحياناً كثيرة بصيغة الماضي، لماذا؟ القضية انتهت..

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ  سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)﴾ 

[ سورة النحل ] 

لم يأت بَعْدُ، والدليل: ﴿ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾  في حكم المأتي.

﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)﴾ 

[ سورة المائدة ] 

هذا الشيء لم يحصل بعد، هذا الشيء سيحصل يوم القيامة، كيف قال الله: ﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى﴾ ؟ لأن إخبار الله عن المستقبل في حكم الماضي، إخبار الله عزَّ وجل عن شيءٍ لم تره في حكم رؤيته، هذا معنى قوله تعالى: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً﴾  يجب أن تؤمن، ماذا قيل؟ "كأنني بأهل النار يتصايحون، وكأنني بأهل الجنة يتنعمون"، كأنه رأى، وأنت كمؤمن، إن رأيت إنساناً منحرفاً فلك أن تقول: كأنني أراه سيحاسب، كأنني أراه سيعالجه الله عزَّ وجل، وإن وجدت إنساناً مستقيماً وفي ضائقة مادية شديدة، قل وأنا معك: كأنني أراه سيوَفَّق، كأنني أراه سينصره الله عزَّ وجل، لأنه الآن في الامتحان، أبداً، إن وجدت الإنسان مستقيماً فتتفاءل، خالق الكون وعده، من أنت؟ خالق الكون وعده.

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾ 

[ سورة النحل  ] 

هذه الحياة مؤقتة، هذه امتحان، وقد سئل الإمام الشافعي: "أندعو الله بالتمكين أم بالابتلاء؟"، فقال الإمام الشافعي: "لن تُمكّن قبل أن تبتلى"، فأي مؤمن طلب رضاء الله عزَّ وجل أمامه امتحان، هل تريد ما عند الله أم تريد الله؟ من أحبنا أحببناه، ومن طلب منا أعطيناه، ومن اكتفى بنا عما  لنا كنا له وما لنا.

﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً﴾  أي زوال السماوات والأرض أهون على الله من ألا يكون وعده حقاً، فإذا وعد المُنحرف بالدمار، قل: كأنه دُمِّر. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ- وفقه- وَمَنْ أَخَذَ – يكون ذكياً جداً، وأخذ احتياطاً بالغاً- يُرِيدُ إِتْلَافَهَا – رأينا بأم أعيننا- أَتْلَفَهُ اللَّهُ. )) 

[ صحيح البخاري ] 

هذا قول سيدنا سعد: << وما سمعت حديثاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا علمت أنه حقٌ من الله تعالى>>  أي إذا أخبرك النبي عن الله بشيء فهو لا ينطق عن الهوى، إن هو وحيٌ يوحى، لك أن تقول: كأنني أرى وعد الله قد وقع، وكأنني أرى وعيد الله قد وقع، هكذا قيل: "كأنني بأهل الجنة يتنعمون"، هذا أحد الصحابة قال: <<كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت كأنني أرى أهل الجنة يتنعمون، وأهل النار يتصايحون، قال: عبدٌ نوّر الله قلبه، عرفت فالزم >> 

إذا شاهدت مثلاً إنساناً راكباً مركبة، ماشياً في انحدار شديد، وأنت متأكد أنه لا يوجد معه مِكبح، تراه بعينك ماشياً بسرعة عالية جداً ألا تقول: لابدَّ من أن يتدهور، لأنه قانون حتمي، لم يتدهور بعد، انتظره على أول منعطف، شيء قطعي، إن وجدت متفجرة، ولها فتيل طويل، وأشعلنا أول الفتيل، ماذا تقول؟ بعد قليل سوف تسمع صوت انفجار، لأن الفتيل يمشي، شيء بديهي جداً، فقوانين ربنا عزَّ وجل حتمية الوقوع، لأنه الخالق، هكذا قال الله عزَّ وجل. 

 

علاقة العزيز الحكيم بوعد الله:


﴿ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ..ما علاقة العزيز الحكيم بوعد الله حقاً؟ إذا وعدك إنسان وعداً، وأتيت على وعده، يقول لك: والله لا تؤاخذني، لم أتمكن، ألم يصغر في نظرك قليلاً؟ وهو ألا يستحي أمامك قليلاً؟ من هو العزيز؟ الذي لا يُنال جانبه، لو أن الله عزَّ وجل وعد المؤمن، ولم يفِ بوعده لم يعد عزيزاً، لأنه عزيز إذا وعد وفى، إله لا راد لقضائه، لا توجد جهة ثانية تجبره، واحدٌ أحد، فردٌ صمد، صمداني، أي:

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2)﴾ 

[ سورة الإخلاص ] 


مِن لوازم العزة عدمُ الافتقار:


وجود الله ليس مفتقراً إلى شيء آخر، الإنسان يقول لك: والله لم أتمكن، هذا يحتاج إلى توقيع من جهة عالية، لم يوافق، دائماً عنده أعذار، أما ربنا عزَّ وجل خالق كل شيء، كن فيكون.

(( عن أبي ذر الغفاري  قال اللهُ تعالَى: يا عبادي! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا، يا عبادي! إنَّكم تُخطِئون باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أُبالي فاستغفروني أغفِرْ لكم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُ فاستطعِموني أُطعِمْكم، يا عبادي! لم يبلُغْ ضُرٌّكم أن تضُرُّوني ولم يبلُغْ نفعُكم أن تنفعوني، يا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإِنسَكم اجتمعوا وكانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم لم يُنقِصْ ذلك من مُلكي مثقالَ ذرَّةٍ، ويا عبادي! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإنسَكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني جميعًا فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه لم يُنقِصْ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يُنقِصِ المَخيطُ إذا غُمِس في البحرِ، - يا عبادي! إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم- فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه. )) 

[ حلية الأولياء : خلاصة حكم المحدث: صحيح ثابت ] 

لا تقل لي: أقدار، وليس لي حظ، والدهر قلب لي ظهر المِجَن، والأقدار سخِرت مني، والدهر يوم لك ويوم عليك، والدهر خوَّان، هذه كلها كلمات الجهل، لا يوجد إلا الله.. عن أبي هريرة:

(( يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأَمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. )) 

[ صحيح البخاري ] 

لا يوجد إلا الله عزَّ وجل، فلان مسكين لا يوجد له حظ، ما هذا الحظ؟ غير موفق، أي يوجد معالجة أمامه، لا حظ له، وله حظ، ويده خضراء، ويده حمراء، هذا كلام كله ليس له معنى. 

 

الإنسان وقانون التيسير والتعسير:


البشر صنفان: 

﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)﴾ 

[ سورة الليل ] 

هذا القانون، هذا قانون التيسير والتعسير، وإذا التعسير لصالح المؤمن:

﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً  ﴾ 

[ سورة الشرح ] 

لا يغلب عسرٌ يُسْرَين، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾  الكلمة المعرّفة بـ (ال) إذا تكررت فهي ذاتها، أما النكرة إذا تكررت اختلفت، فصار عندنا عسر واحد ويسران، ﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾  هناك معنى دقيق جداً، أي هذه المصيبة في طياتها الفرج، في طياتها التوبة، في طياتها اللجوء إلى باب الله عزَّ وجل، في طياتها الإكرام، ظاهرها مصيبة، حتى إن بعض العلماء فسر قوله تعالى: ﴿ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ ، قالوا: النعم الباطنة هي المصائب، كل المصائب نعمٌ باطنة، ظاهرها مُزعج، وباطنها مُسعد.

 

حكمة الله وإعجازه في الكون:


إذاً: ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ ..أولاً: الكون مؤلف من كُتَل، كواكب ونجوم، هذه الكتل متفاوتة في الحجم، متفاوتة في المسافة، لولا أن هذه الكتل، وهذه الكواكب، وهذه النجوم تدور لأصبح الكون كله كتلةً واحدة بفعل الجاذبية، لكن لأنها تدور، كل كوكب أو كل نجم في أثناء دورانه ينشأ عن دورانه قوى نابذة، كما لو أخذت وعاء من الماء مفتوحاً من جهة وأدرته هكذا، إذا جعلته في الأعلى جهة الفتحة نحو الأسفل، فالماء لا ينزل، هذا الشيء معروف، لماذا لا ينزل؟ لأن الماء اندفع بقوة نابذة بفعل الدوران، وهذا مبدأ عصارات الفواكه، مبدأ تنشيف الألبسة، الدوران السريع ينشئ قوى نابذة دائماً، فالكون متوازن، قوى التجاذب تكافئ قوى التنابذ دائماً، فربنا عزَّ وجل قال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾  لو أتينا بكرتين مغناطيسيَّتين، وضعناهما على سطحٍ ثقيل، لابدَّ من أن تتجاذبا، إلا إذا وضعناهما بمكان دقيق جداً مدروس على مستوى الميكرون، هذا الشيء فوق طاقة البشر، ثلاث كرات أصعب، أربع أصعب، ثلاث أو أربع بحجوم متفاوتة أصعب بكثير، كرات في الفراغ أصعب وأصعب، كرات متحركة في الفراغ متجاذبة فيما بينها بقانون دقيق جداً، والمحصلة حركة من دون تصادم، هذا الشيء يكاد يكون معجزاً، قيل: إن القمر مربوط بالأرض بقوة جذب تكافئ حبلاً من الفولاذ المضفور قطره خمسون كيلو متراً، القمر مربوط، والشمس كذلك، بين كل كوكبين قوى تجاذب، فكأن هذه السماوات مرفوعة بعمد، ولكن لا ترونها، هذه العَمَد هي قوى التجاذب، لذلك: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ ، (ترونها)  قَيْدٌ وَصْفِي، لا قيدٌ احترازي..﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ .. كيف أن العجلة على السرعة العالية تضطرب، يضعون لها الرصاص، يضعها على ميزان، وفي أثناء الدوران يظهر المؤشر خمس غرامات، تقف العجلة، يعرف مكان الخمس غرامات، يضع الخمس غرامات، الآن على الدوران السريع تبقى مستقرة، كذلك هذه الجبال جعلها الله في أماكن محددة، بحيث تكون الأرض في أثناء الدوران السريع مستقرة، ولولا أنها مستقرة لما قام بناء، والدليل الزلازل، فالزلازل تعليم لنا، لأن الله عزَ ّوجل يقول:

﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)﴾ 

[ سورة النمل ] 

من جعلها مستقرة؟ من جعل الأشياء تستقر عليها بقوى الجاذبية؟ من جعلها متحرِّكة ساكنة؟ السكون الحركي هذا أصعب شيء، الشيء الساكن ساكن، والمتحرك متحرك، أما السكون الحركي، هل يمكنك الركوب في طائرة دون الشعور باهتزاز؟ مستحيل، مهما تكن الطائرة غالية من حين لآخر تحس باهتزاز، تركب مركبة من دون اهتزاز؟ قطار بلا اهتزاز؟ لا يمكن ذلك، لكن الأرض تسير بسرعة ثلاثين كيلو متر في الثانية، ومع ذلك مستقرة، من جعلها مستقرة؟ من جعلها متحركة ساكنة؟ من جعل الأشياء عليها مستقرة؟ ﴿أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا﴾  إذاً.. ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ .

أي لئلا تميد بكم.

يوجد شيء آخر.. أن الأرض طبقات، فهذه الجبال لها أوتاد في أعماق الأرض تعادل ضعفي ارتفاعها فوق الأرض، كالسن تماماً، له جذر يساوي ثلثي نتوئه فوق اللثة، فالجبل له ارتفاع فوق سطح الأرض، وله جذر ممتد في أعماق الأرض، هذا الجذر يربط طبقات الأرض بعضها ببعض، فإذا دارت الأرض لاختلاف كثافة طبقاتها تبقى مستقرة، لو أنها دارت وطبقات متفاوتة في الكثافة لاضطربت، والدليل: ائت ببيضة غير مسلوقة ودوّرها تضطرب، لو سلقتها لا تضطرب، بالسلق تصبح متجانسة، من دون سلق تصبح متفاوتة في التجانس، فمن معاني: ﴿وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾  هذه الجبال جعلها الله كالأوتاد تربط طبقات الأرض بعضها ببعض.

المعنى الآخر: الدوران السريع يسبب اضطراباً، وضعُ هذه الجبال في أماكن محددة يجعل الأرض تدور باستقرار، تدور من دون اضطراب.

 

آيات الله الدالة على عظمته:


﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ .. الأنعام، أي من كل دابة، أنت بحاجة إلى غنم، إلى ماعز، إلى بقر، إلى جمال، بحاجة إلى كلاب للحراسة، هذه الدواب بثها الله في الأرض كلها لها فوائد، لها وظائف، شيء ملموس، شيء غير ملموس، شيء مباشر، شيء غير مباشر..﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾  مجموعة آيات؛ آية قوى التجاذب فيما بين الكواكب والمجرات، آية الجبال، وكيف أنها تحقق التوازن، وتربط طبقات الأرض بعضها ببعض، وآية بَثَّ فيها من كل دابة، وآية المطر..﴿ فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾  ذلكم الله رب العالمين..

﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ  إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)﴾ 

[ سورة النمل ] 

 

أسلوب التحدي: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ:


﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ ..أي هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله هل فعلوا هذا؟ هل أنزلوا الماء من السماء؟ هل ألقوا في الأرض الرواسي والجبال؟ هل أمسكوا السماوات والأرض؟

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا  وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)﴾ 

[ سورة فاطر ] 

بقاء كل كوكبٍ على خط سيره يحتاج إلى قوة جبارة، من يمسك هذه السماوات من أن تزول؟ الله رب العالمين..

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ  إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65)﴾ 

[ سورة الحج  ] 

آية أخرى. 

 

أنواع الضلال:


﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .. لو فرضنا إنساناً يسير في طريق عريض جداً، ست حارات، وعلى عرض الطريق لوحة مرتفعة، وبمادة مشعة، أحياناً بعض الطرقات الكبيرة يقول لك: هنا مكة، يمكن كلمة (مكة) عرضها ثمانية أمتار، فلو رأى الشخص هذه اللوحة، وسار في طريق آخر نقول: هذا ضلال مبين، لأن اللوحة واضحة جداً، فلأن الحق واضح جداً الابتعاد عن الحق يُعدّ ضلالاً مبيناً، شيء كبير ألم تره؟ لوحة كبيرة جداً مشعة ألم ترها؟ الإنسان عندما يضل عن سبيل الله عزَّ وجل، ليس سبيل الله صعب الإدراك، صعب الالتماس، لا، شيء واضح، قال له: "يا إمام متى كان الله ؟"، فقال له: "ومتى لم يكن؟"، كان الله ولم يكن معه شيء، فلذلك الضلال ضلال الضالين ضلالٌ مبين، وهناك ضلال بعيد، البعيد أن الإنسان يمشي في طريق ويتوغل، يمشي  في مئتي كيلو متر بعيداً عن الطريق الأساسي، هذا ضلال بعيد، وهناك ضلال مبين.

 

تعريف بالظالمين:


 إذاً: ﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ..مَن هم الظالمون؟ الذين ظلموا أنفسهم بعدم إيمانهم بالله، وهذا أشد أنواع الظلم، أشد أنواع الظلم أن تظلم نفسك، فإذا قال الإنسان كلمة (ظلم) فإنه ينصرف ذهنه إلى ظلم الآخرين، لكن الحقيقة الكبرى أنّ أشدّ أنواع الظُلم أن تظلم نفسك، أن تحرمها من معرفة الله، أن تحرمها من طاعة الله، أن تحرمها من الإقبال على الله، أن تحرمها من الاتصال بالله، هذا الظلم، هذا الظلم الكبير، هذا الظلم الذي لا يغتفر، لذلك: ﴿ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .

 

نعمة الهداية:


إذا عرف المؤمن الله عزَّ وجل، وألقى الله في قلبه نوراً يرى أهل الدنيا ضالين، يراهم تائهين، يراهم شاردين، يراهم في ضلال مبين، يراهم في طريق مسدود، أو طريق ينتهي بحفرةٍ سحيقةٍ ما لها من قرار، هكذا، فلذلك يجب أن تعلم علم اليقين أن أثمن نعمةٍ أنعم الله بها عليك أنه عَرَّفَكَ بذاته، وهداك إليه، ودلَّك على ذاته، وألهمك رُشْدَكَ، وجعل هذا الشرع بين يديك، هذه نعمةٌ عُظمى..

﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا  وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)﴾ 

[ سورة آل عمران  ] 

وحبل الله هو القرآن، ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾  إذا كان الإنسان في الجاهلية تاركاً للصلاة، منحرفاً، يأكل المال بالحرام، ينتهك حُرُمات الله، له انحرافات في شهواته، غارقاً في ملذاته، تائهاً، شارداً، هذا هو الضلال المبين، هذا هو الشقاء، هذا هو الظلم الكبير، لذلك: ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ .

 ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ كلمة (من دونه) بمعنى أي شيءٍ سوى الله دون الله، فإذا كنت مع الله عزَّ وجل ، إذاً:

كن مع الله تر الله معك         واتــــــرك الكل وحاذر طمعك

وإذا أعطاك من يمنعــه؟         ثم من يعطي إذا ما منعك؟

* * *

الآيات في الدرس القادم إن شاء الله: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ .


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور