- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (031)سورة لقمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
وقفة قصيرة على عتبةِ باب الحكمة:
أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا في سورة لقمان، وفي الدرس السابع من هذه السورة، والحديث عن سيدنا لقمان الحكيم وهو يعظ ابنه.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
من الحكمة معرفة الحقيقة قبل فوات الأوان:
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن هو أن المؤمن حينما آمن بالله عزَّ وجل، وآمن بالحقِّ من عنده، وآمن بهذا القرآن، كان هذا القرآن توجيهات حكيمة، صحيحة، فيها حقّ صِرْف..
﴿
لذلك طبَّقها في وقتٍ مبكِّر، وقطف ثمارها، واستفاد منها، وسَعِدَ في دُنياه وأخراه، أما الذي يبتعد عن كلام الله، يبتعد عن الحق الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، يبتعد عن مجالس العلم، ويتحرَّك في الحياة من دون توجيه خالقه، من دون منهج خالقه، سوف يكتشف بعض الحقائق، ولكن أغلب الظن أنه يكتشفها بعد فوات الأوان، أو بعد أن يدفع ثمنها باهظاً، مثلاً: إنسان رأى في الأرض ما يشبه قُنبلة، يا ترى هل هي قنبلة، أم ليست قنبلة، اقترب منها ليفحصها، فإذا انفجرت بين يديه، في أقلّ من ثانيةٍ واحدة عرف أنها قنبلة، ولكن بعد فوات الأوان، بعد أن أطاحت به، هذا مثل صارخ جداً، ولكن الحياة الدنيا فيها ما يشبه هذا المثل، أي يتحرَّك على هواه، يتحرَّك بدافعٍ من شهوته، يتحرك بدافع من مصلحته، بعد فوات الأوان، بعد أن يدفع الثمن باهظاً، بعد أن يدفع سعادته الزوجيَّة ثمناً، وبعد أن يدفع ماله كلَّه ثمناً لأخطائه في البيع والشراء، يكتشف حقيقة، ولكن بعد فوات الأوان، فالبطولة كُل البطولة أن تعرف الحق في الوقت المناسب، أن تستفيد من الحق، أن تستثمر الحق، أن تنتفع به، أن تقطف ثماره في الدنيا، الحقيقة التي لا ريب فيها هو أن كل إنسانٍ كائناً من كان إذا جاءه الموت عرف الحقيقة، والدليل:
﴿ لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا
هل من إنسانٍ أكثر من فرعون كفراً؟! أكثر منه كبراً؟ أكثر منه استعلاءً؟ أكثر منه ادِّعاءً؟ ادَّعى أنه إله، فقال:
﴿ فَقَالَ
هكذا قال، ومع ذلك حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ
إذاً: ماذا نستنبط؟ أن الحقيقة لابدَّ من أن تُعرف في وقتٍ ما، من هو المؤمن؟ من هو السعيد؟ من هو الذكي؟ من هو الموَفَّق؟ من هو الفالح؟ من هو المتفوِّق؟ من هو الفائز؟ الذي عرف الحقيقة في الوقت المناسب، في مُقتبل العمر، لأنه إذا عرف الحقيقة في مقتبل العمر شكَّل حياته وفق الحق، اختار مهنة تتناسب مع مبدئه، اختار حرفةً يوظِّفها في سبيل آخرته، اختار زوجةً تعينه على أمر دينه، اختار كل الخيارات التي هي مُتَاحَةٌ أمامه وفق معرفته بالحق، إذاً شكَّل حياتَهُ إن صحَّ التعبير، في عمله، وفي زواجه، وفي علاقاته، وفي إقامته، وفي تحرُّكاته، وفي تصرُّفاته وفق الحق، سعد وأسعد، سعد بالحق وسعد به من ارتبط به، وسعد به من تعلَّق به، وسعد به من عامله، وسعد به من شاركه، وسعد به من تعامل معه.
إذاً: أردت من هذه المقدِّمة أن هناك أشخاصاً في خريف عمرهم يكشفون الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان، يقول لك: فلان عاركته الأيَّام، فلان أمضى حياته في هذا المجال فاكتشف هذه الحقيقة، لكنَّك إذا آمنت بالله عزَّ وجل خالق الكون، والخالق هو الصانع، وعنده الحق الصرف، عنده الحقيقة التي لا ريب فيها..
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
هل من خبيرٍ أشدّ خبرةً من الله عزَّ وجل؟ هو الصانع، هو الخالق، يقول لك: افعل ولا تفعل، غضَّ بصرك، اجعل دخلك حلالاً أبارك لك فيه، حَدِّد علاقتك مع الناس وفق الشرع تأمن شرَّهم.
إذاً: نحن لا نريد حكمةً نستقيها في خريف العمر، لا نريد حكمةً نستقيها بعد فوات الأوان، لا نريد حكمةً نستقيها بعد أن ندفع الثمن باهظاً، بعد أن ندفع كل شيء.
أنا قرأت كتاباً مرَّة لأحد المفكَّرين الغربيين عنوان الكتاب:
﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾
حينما أثبت الله لهم العلم بالدنيا أثبت لهم العلم بظاهرها، بصورها، بطلائها الخارجي، بزيفها لا بحقيقتها، لذلك قال بعضهم: "مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إليها وخرجوا منها ولم يعرفوا أجمل ما فيها، إنها معرفة الله عزَّ وجل، إنها طاعته، إنها الأُنْسُ به"، فلذلك:
بعض حِكَمِ لقمان الحكيم:
1 ـ العاقل هو الذي يعمل للآخرة:
إذاً:
قال:
هذا الإنسان نزل من بطن أمِّه إلى الدنيا، الآن هو يقترب من الآخرة، ويتباعد عن الدنيا، فالدار التي يتجه إليها أقرب إليه من الدار التي يبتعد عنها، إنك إن ركبت مركبةً، وتوجَّهت بها إلى حلب، لو قطعت عن دمشق كيلو مترا واحداً، ما دامت هذه المركبة متحرِّكة، وما دامت متَّجهة إلى حلب، فحلب مع حركة المركبة الثابتة أقرب إليكَ من دمشق، لأنك تتباعد عن دمشق، مع مُضي الزمن تتباعد، ومع مضي الزمن تقترب، فهذه حكمةٌ بالغة، إذاً: العاقل هو الذي يعمل للآخرة، العاقل هو الذي يعمل لدارٍ هو إليها متَّجه، لا يعمل في دارٍ هو عنها مُنصرف، شتَّان بين هذا وذاك، هذا هو العاقل، قال:
2 ـ مجالسة العلماء وعدم مجادلتهم:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
من أجل أن يبقى الإسلام كما بدأ، لا يجوز أن يضاف إليه شيء، ولا أن يُحْذَف منه شيء، ولا أن يؤوَّل إلا وفق ما أراد الله عزَّ وجل، لا إضافة، ولا حذف، ولا تأويل، يبقى الإسلام كما هو ويستمرُّ كما أراد الله عزَّ وجل، فإذا أُضيفت عليه أشياء ليست منه، كما قال عليه الصلاة والسلام: عن عائشة رضي الله عنها:
(( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ. ))
كل ما ليس من هذا الشرع مردودٌ عليه، ما ليس من هذا الكتاب، ما ليس من هذه السنَّة..
لا تسألهم سؤال المُتَعَنِّت، لا تسألهم سؤال الفاحص، أحدهم قال:
3 ـ الابتعاد عن الأعمال التي تضيع الآخرة:
هناك أعمال إذا أقدمت عليها ضيَّعت آخرتك، هناك شبهات، هناك مزالق، هناك تُرُّهات، هناك انحرافات، إذا دخلت في مداخل الدنيا دفعت الثمن باهظاً من آخرتك..
هذه من حِكَمِ سيدنا لقمان كما تناقلتها بعض الكتب، وقد يسأل سائل: ما مدى صحَّة هذه الحِكَمْ؟ الجواب: خذ الحكمة ولا يهمٌّك من أي مكانٍ خرجت، حِكَم تتفق مع كتاب الله عزَّ وجل، ومع شرع النبي عليه الصلاة والسلام.
4 ـ تربية في الصغر ثمرات في الكبَر:
الذي يرعى نفسه وهو صغير يقطف ثمار تربيته وهو كبير، من لم تكن له بدايةٌ محرقة لم تكن له نهايةٌ مشرقة..
5 ـ الاهتمام بالعلم:
مثلاً هؤلاء الذين لا يحبُّهم الله عزَّ وجل ماذا أعطاهم؟
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾
فرعون آتاه الله المُلك، الأنبياء ماذا آتاهم الله عزَّ وجل؟ آتاهم العلم والحكمة، فإذا جمعت إلى المال العلم والحكمة فقد حصَّلت من الدنيا طرفيها، أي ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا؛ وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل، كما يقولون.. فإذا آتى الله عزَّ وجل الإنسان مالاً فلا ينبغي أن يقنع به، يجب أن يبحث عن العلم، لأن بالعلم حياة القلب، لأن بالعلم سعادةً إلى الأبد..
6 ـ الجمع بين الخوف والرجاء:
هذا كلام دقيق، أي يجب أن يجمع المؤمن بين الرجاء وبين الخوف، الرجاء إذا تفاقم، وإذا نما نمواً غير طبيعي على حساب الخوف، وقع في المعاصي وهو يطمع برحمة الله، قد تلتقي مع إنسان تراه مقيماً على معاصٍ كثيرة ومع ذلك يرجو رحمة الله، هذه سذاجة، وهذا غباء، وهذا تفاؤل أبله..
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
وقد تلتقي بإنسان يحرص على طاعة الله عزَّ وجل وهو شبه يائسٍ من رحمة الله، هذه أيضاً حالة مَرَضِيَّة، هناك حالتان مَرَضيتان؛ أن تخاف خوفاً يحملك على اليأس من رحمة الله، وأن ترجو رجاء ساذجاً يجعلك تقع في المعاصي، ولا تبالي بها، هذا رجاءٌ مَرَضي، وذاك خوفٌ مَرَضي، أما الرجاء السَوِيّ والخوف السوي أن تجمع بينهما معاً، أن يأتلف عندك الرجاء والخوف، المؤمنون يعبدون الله خوفاً وطمعاً، رَغَبَاً ورَهَبَاً، ولاسيما أن الله عزَّ وجل إذا رأى العبد يتساهل في طاعته، ويُعَلِّقُ آمالاً كبيرةً على رحمته، يضيِّق عليه، يريه جانب القوَّة، يريه شدَّةً، يريه ضيقاً، يلوح له شبح مصيبةٍ، ليعود العبد عن رجائه الساذج، ويرجع إلى طاعته المُثلى، فإذا بالغ في الطاعة، وجاءته الوساوس، وحملته على اليأس، يريه الله بعض إكرامه، إذاً: الله سبحانه وتعالى إذا نما عندك الخوف على حساب الرجاء طمأنك، وإذا نما عندك الرجاء على حساب الخوف خوَّفك، من أجل أن تكون حالتك السويَّة أن تجمع بين الرجاء والخوف، لابدَّ من أن ترجو الله عزَّ وجل - نرجو رحمتك ونخشى عذابك - هذا الدعاء، هذا ما قاله سيدنا عمر:
لذلك الإنسان إذا عمل الصالحات، واستقام على أمر الله، وأجرى الله على يده الخير، هناك مزلقٌ خطير ربَّما وقع فيه، هذا المَزْلَق هو أن يَغْتَرَّ بطاعته، وأن يستعلي بها، وأن يعلو بها على خلق الله عزَّ وجل، عندئذٍ يقع في ذنبٍ أَشَدَّ من المعصية وهو العُجب، قال عليه الصلاة والسلام: عن أنس بن مالك:
(( لو لم تكونوا تُذْنِبونَ ، لخِفْتُ عليكم ما هو أكبرُ من ذلِكَ ؛ العُجْبُ العُجْبُ. ))
ربَّ معصيةٍ أورثت ذلاً وانكساراً خيرٌ من طاعةٍ أورثت عِزَّاً واستكباراً، فإذا غلب عندك الرجاء على حساب الخوف خوَّفك الله، وإذا غلب عندك الخوف على حساب الرجاء طمأنك الله، والله هو المُربي، هو ربُّ العالمين، كما أنه يربي جسدك بالطعام والشراب، يربي نفسك بتقليبك بين الخوف والرجاء، فأنت كن حكيماً، لا تطمع على حساب الخوف، ولا تخف على حساب الطمع، كن بين الخوف والرجاء، كن بين الرغَبِ والرهَبِ.
7 ـ الإيمان بالله يقتضي الإيمان بكلامه والمبادرة إلى طاعته:
قال ابنه له:
أي مقدِّمةٌ تفضي إلى نتيجة إفضاءً حتمياً، آمنت بالله، من لوازم إيمانك بالله أن تؤمن بكلامه، وإذا آمنت بكلامه على أنه كلام الحق، من لوازم إيمانك بكلامه أن تبادر إلى طاعته، فلمجرَّد أن تعصي الله عزَّ وجل فهذا مؤشر على أنَّك لم تؤمن بكلامه، وعدم إيمانك بكلامه هو عدم إيمانك به
هذه بعض الحِكَمْ المتناثرة التي نُسِبَت إلى سيدنا لقمان الحكيم.
8 ـ الدنيا زائلة فلا تشتغلوا بها:
من الحكم الأخرى التي نُسِبَت إليه:
وكما قال سيدنا علي:
قال:
والدليل:
هذا النبي العظيم سيد الخلق وحبيب الحق ماذا أوتي من الدنيا؟ لم يؤتَ منها شيئاً، كان إذا صلَّى قيام الليل رفعت السيِّدة عائشة رجليها، لأن غرفته من الضيق حيث لا تتسع لصلاته ونوم زوجته، هذا بيت النبي، دخل عليه رجل أصابته رعدة، فقال له: عن قيس بن أبي حازم:
(( هَوِّن عليك ، فإني لستُ بملِكٍ، إنما أنا ابنُ امرأةٍ من قريش كانت تأكل القَديدَ. ))
دخل عليه عمر رآه مضطجعاً على حصير، وقد أثَّر في خدِّه الشريف، فبكى عمر فقال النبي:
سيدنا عمر دخل على النبي، سيد الخلق، وكان مضطجعاً على حصير أثر على جنبه الشريف، فبكى عمر، قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
((دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٍ فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَالِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ ؟ قَالَ: يَا بنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ، وَلَهُمْ الدُّنْيَا، قُلْتُ: بَلَى))
يا عمر لمَ تبك؟ قال: رسول الله ينام على الحصير، وكسرى ملِك الفرس ينام على الحرير ؟! قال: يا عمر، إنما هي نبوَّةٌ وليست ملكاً، أنا لست بملك، هذه النبوة هكذا. إذاً: النبي عليه الصلاة والسلام كان أسوةً حسنة.
قال:
قال سيدنا علي:
الذي أتمنَّى أن يكون واضحاً عند كل إخوتنا هو أن الدنيا ليست مقياساً أبداً، قد يؤتي الله عبداً الدنيا، وهذا فضلٌ كبير، ونعمةٌ كبيرة، ويجب أن يذوب شكراً، ولكن لا ينبغي أن يتَّخذ الدنيا مقياساً لمحبَّة الله عزَّ وجل..
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
إذا جاءتك فاشكر الله عليها، قد ترى إنساناً آتاه الله مالاً وفيراً وهو مقيمٌ على المعاصي، فبسذاجةٍ تقول: أخي أعطاه الله، بيته كالجنَّة، إنه فوق الريح، رأى ليلة القدر، هذا كله كلام فارغ، الغنى والفقر كما قال سيدنا علي:
هناك الغنى والفقر، لكن إذا كنت مؤمناً، وآتاك الله الدنيا، وأنفقت من مالها الحلال، واللهِ هناك من يغبطك، سيدنا عبد الرحمن بن عوف سمع أن السيدة عائشة قالت:
حينما جاء عبد الرحمن بن عوف مهاجراً إلى المدينة لم يكن معه دينارٌ واحد، أحد أصحاب رسول الله كان قد آخاه، قال:
هذا الموقف موقف نموذجي، الأنصار وقفوا أرقى موقف، قدَّموا كل ما عندهم للمهاجرين، أعطوهم نصف أملاكهم، والمهاجرون وقفوا أكمل موقف، تعفَّفوا عن مالهم، وعملوا بالتجارة، قال:
دعاء عظيمٌ:
بالمناسبة، الدعاء النبوي الشريف:
اشتريت مركبةً سخِّرها للحق، كن خير من يستغلَّ هذه المركبة في طاعة الله عزَّ وجل، اشتريت بيتاً، اشتريت دُكَّانا، عملت في مصلحةٍ، عملت في حرفةٍ، عملت في الطب، عملت في الهندسة، كنت محامياً، اجعل مهنتك موظَّفةً في طاعة ربِّك.
والله أيها الإخوة الأكارم؛ الله عزَّ وجل حينما خلقنا في الدنيا خلقنا لنعمل صالحاً، لذلك أبواب العمل الصالح لا تعدُّ ولا تحصى، وأنت في بيتك؛ الأبوَّة المثاليَّة عملٌ صالح، الزواج المِثالي عملٌ صالح، وأنت بين جيرانك جيرانك مادَّةٌ لعملٍ صالح، وأنت في دكَّانك زبائنك مادةٌ لعملٍ صالح، وأنت في عيادتك مرضاك مادةٌ لعملٍ صالح، وأنت في مكتبك الموَكِّلون مادةٌ لعملٍ صالح، كيفما تحرَّكت، وأنت في معملك عمالك مادةٌ لعملٍ صالح، كيفما تحركت بإمكانك أن تعمل صالحاً.
هذا العامِل الذي جعله الله تحت يديك، وجعلك تعطيه أجراً بإمكانك أن تسعده، بإمكانك أن تكرمه، بإمكانك أن تنصحه، بإمكانك أن تأمره بالمعروف وأن تنهاه عن المنكر، ما دام الله عزَّ وجل قد جعل هذا الإنسان تحت يدك، فاستغلَّ هذه الناحية، وخذ بيده إلى الله، أصحاب المعامل، أصحاب المتاجر، أصحاب المزارع، المُعَلِّمون، المدرِّسون، الأطبَّاء، الصيادلة، كل حرفةٍ هناك من هم دونك، وقد أناطهم الله بك، بإمكانك أن تحسن إليهم، وأن تنصفهم، وأن تنصحهم، وأن تأخذ بيدهم، وأن تفتح قلبهم بإحسانك قبل أن تفتح عقلهم بلسانك.
9 ـ لا لتكلُّف المضمون ولا لتضييع المأمور به:
هذا الرجل الحكيم سيدنا لقمان سُئل مرَّةً: ما الذي أجمعت عليه في حكمتك؟ فقال:
كلامٌ في منتهى الدقَّة، أي أنت مكلَّفٌ بشيء ومضمونٌ لك شيء، فالذي كُلِّفت به يجب أن تسعى إليه، والذي ضُمِنَ لك يجب أن ترتاح منه، حال الناس اليوم عكس هذه الحقيقة، الذي ضُمِنَ لهم يتناحرون من أجله، يتقاتلون من أجله ، يتنافسون من أجله ، يبيعون دينهم من أجله ، يبيعون كل شيءٍ من أجله، الذي ضُمِنَ لهم، والذي كُلِّفوا به يَدَعونه للأقدار، يَدَعونه للزمان، حتى يشاء الله، حتى يأذن الله، فالآن لا يوجد إذن من الله، الله خلقه ولم يأذن له بالهدى، ولكن بأي شيء أذِنَ لك؟ هذا كلام ليس له معنى، فلذلك لا تتكلف ما ضُمن به، ولا تنصرف عما كُلفت له، هذه حكمةٌ بالغة من حِكَمِ لقمان الحكيم.
10 ـ النوم موتةٌ صغرى:
ومن هذه الحِكَم:
الله جعل النوم يشبه الموت والدليل أن الله عزَّ وجل يقول:
﴿
حينما ينام الإنسان توقَّف التكليف، توقَّف الاختيار، توقف الوعي، توقف العقل، توقف كل شيء، الله عزَّ وجل استردَّ هذه الأمانة، أعطاك نفسك أمانةً في النهار، واستردَّها في الليل،
11 ـ وضعُ الشيء في موضعه:
يقول هذا الواعظ الحكيم سيدنا لقمان:
أي أنت تحمل الحكمة، هذه الحكمة إذا أعطيتها إلى غير أهلها فقد ظلمتها، وإن منعتها أهلها فقد ظلمتهم..
﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) ﴾
التكبر على المتكبر صدقة..التكبُّر مرفوض، لكن إذا وجدت إنساناً مستعلياً، مستكبراً، عنيداً، محارباً للحق، قال: التكبُّر على هذا المتكبِّر صدقة، أحد أصحاب النبي - عليه رضوان الله، وعلى النبي الصلاة والسلام- مشى قبيل المعركة بفرسه مشية خُيَلاء، فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله يكره هذه المشية إلا في هذا الموطن..
الإنسان المؤمن إذا ألمَّت به مُلِمَّة، أو نزلت به نازلة، لا ينبغي أن يشكو ملمَّته ومصيبته لغير الله، وإن شكاها، وإن كان لابدَّ من أن يشكو فليشكُ للمؤمن، لأنه من شكا إلى كافر فكأنما اشتكى على الله، ومن شكا إلى مؤمن فكأنَّما اشتكى إلى الله، المؤمن يدعوك إلى الصبر، يهوِّن عليك هذه المصيبة، يذكِّرك برحمة الله، يذِّكرك بالآخرة، يذِّكرك بأن وراء هذه المصيبة تيسيراً كبيراً..
﴿ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) ﴾
لا يشمت بك، الدعاء الشهير: اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السلب بعد العطاء..
12 ـ لا خير للمؤمن في الكافر:
قال:
إيَّاك أن تظن أن هذا الفاجر الكافر الفاسق فيه خير لك، أو يحبُّك، أو يمكن أن يقدِّم لك شيئاً، يجب أن تقطع أملك من الناس، من الناس عامَّة، ومن أهل الدنيا والفسق والفجور والعصيان خاصَّة، لأن هناك تضاداً قديماً بين أهل الحق وبين أهل الباطل، لا تُعَلِّق عليهم الآمال.
الإمام الحسن البصري كان من الكبار التابعين، بلغ من المجد ما لم يبلغه أحد، سُئل مرَّةً:
13 ـ لا مشاحنة في الإسلام مع الابتعاد عن مواطن التهمة:
الذي عنده رغبة في المشاحنة.. النبي عليه الصلاة والسلام له كلمة بليغة جداً قبل أن يموت، وقف خطيباً وقال: من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ألا ومن كنت قد شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه، ومن كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليستقد منه، ولا يخشى الشحناء فإنها ليست من طبيعتي ولا من شأني، الشحناء من صفات الجهلاء، الشحناء، والمِراء، والمماحكة، والجدل، والكلام الطويل. عن المغيرة بن شعبة:
(( إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. ))
سيدنا رسول الله اللهمَّ صلِّ عليه كان معتكفاً في المسجد، فجاءته زوجته بطعام، فكره أن تعود وحدها إلى البيت فرجع معها، في الطريق فرأى صحابيين، فقال عليه الصلاة والسلام: عن صفية أم المؤمنين:
(( كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُعتَكفًا فأتيتُه أزورُه ليلًا فحدَّثتُه ثمَّ قمتُ فانقلبتُ فقامَ معي ليقلبَني وَكانَ مَسكنُها في دارِ أُسامةَ بنِ زيدٍ فمرَّ رجلانِ منَ الأنصارِ فلمَّا رَأيا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أسرَعا فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ علَى رِسلِكما إنَّها صفيَّةُ بنتُ حييٍّ قالا سبحانَ اللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ قالَ إنَّ الشَّيطانَ يجري منَ الإنسانِ مجرَى الدَّمِ فخشيتُ أن يَقذفَ في قلوبِكما شيئًا أو قالَ شرًّا وفي روايةٍ قالت حتَّى إذا كانَ عندَ بابِ المسجدِ الَّذي عندَ بابِ أمِّ سلمةَ مرَّ بِهما رجلانِ. ))
عَوِّد نفسك أن توضِّح كل شيء، ولو كنت طاهراً لا يكفي، ولو كنت نظيفاً لا يكفي، ولو كنت حَسَن النيَّة لا يكفي، الناس لا يعرفونك، إن عرفت نفسك فهذه معرفةٌ داخليَّةٌ لا قيمة لها، اعمل عملاً له تفسيرٌ واحد، ابتعد عن الشبهات، لا تقف مواقف التهمة، ثم تلوم الناس إذا اتهموك، فرضاً لو كنت في محلٍ تجاري، وجاءت أختك إلى المحل، ورحَّبت بها، يجب أن تعلم إخوانك أن هذه أختي، لأنهم يتساءلون: كيف يرحِّب بها هذا الترحيب؟ لا نعهده بهذه الأخلاق؟ قل: هذه أختي، مثلاً، هذا مثل لأن التعليم حرف، والتقليد ألف، النبي علَّمنا بهذه الطريقة، قال لهما:
14 ـ نتائج العداوة وخيمة على صاحبها:
حينما يُعادي الإنسان تهزّ أعصابه، يستهلك حياته استهلاكاً رخيصاً، هناك أشخاص يتحاكمون في المحاكم، تجد أن الفريقين استهلكا حياتهما النفسيَّة وأعصابهما لسنواتٍ طويلة، بحيث أن النصر لأحدهما لا قيمة له، مهما كان الحكم بعد هذه السنوات الثمانية لا قيمة له لأنك استهلكت نفسك، أورثت قلبك الحقد، دخلت في البُغض، دخلت في الكيد. لذلك:
15 ـ الابتعاد عن الخيانة:
﴿ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ
أي أية خيانةٍ على وجه الأرض لا يباركها الله عزَّ وجل، ولو خُنْتَ كافراً، الخيانة لمجرَّد الخيانة هي عملٌ قبيح، هناك شخص أعلم منك كن مخلصاً له، أنت مسلم، هكذا المسلم..
16 ـ احفظ الله يحفظك:
من حكمه أيضاً؛ طبعاً الدرس:
ألم يقل الله عزَّ وجل في حديث قدسي يوم القيامة لعبدين، قال للأول: عبدي آتيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ - ليس في الآخرة كذب أو تدجيل- قال: يا رب! لم أنفق منه شيئاً على أحدٍ مخافة الفقر على أولادي من بعدي- هذا لسان حاله- قال: ألم تعلم بأني أنا الرزاق ذو القوَّة المتين؟ إنَّ الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم، وسأل آخر قال: أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ قال: يا رب! أنفقته على كل محتاجٍ ومسكين لثقتي بأنك خيرٌ حافظاً، وأنت أرحم الراحمين، قال: يا عبدي، أنا الحافظ لأولادك من بعدك.
والله أعرف رجلاً سمعت قصَّته، هي قصَّةٌ واقعيَّةٌ لا تكاد تصدَّق لهولها، إنسان جمع مالاً كثيراً، ومات وترك المال، وكل همِّه في الحياة أن يكون أولاده في بحبوحةٍ من بعد وفاته، هؤلاء الأولاد بقدرة قادر عقدوا صفقةً كبيرةً جداً مع تاجرٍ في اليمن، وكيف أن هذا التاجر استجرَّ منهم بضاعةً بمئات الألوف؛ بل بعشرات الملايين، وكيف أن هذا التاجر لم يدفع لهم شيئاً، وكل شيءٍ وقَّعه لهم كان حبراً على ورق، بعد حين من الزمن لم يطل بيع المعمل، وبيع المحل التجاري، والبيوت بيعت، وعاد أولاده فقراء. وكم من إنسانٍ عاش في طاعة الله، واتكل على الله، وخَلَّف لأولاده إيماناً وسمعةً طيِّبة فأغناهم الله من بعده!.. قال له: "أنا الحافظ لأولادك من بعدك".. أكبر شيء تقدَّمه لأولادك أن تجعلهم مؤمنين، لأنك إذا جعلتهم مؤمنين استحقوا الإكرام من الله عزَّ وجل في حياتك وبعد وفاتك، وإن لم تهدهم إلى سبيل الله عزَّ وجل استحقوا العقاب والدمار في حياتك وبعد وفاتك.
من أغرب القصص التي تكاد لا تصدَّق أن آخر سلاطين بني عثمان عمل ابنه حمالاً في بيروت، شوهد ابنه يعمل حمالاً في هذه المدينة، إذاً: "أنا الحافظ لأولادك من بعدك"..
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين