- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (031)سورة لقمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
صفات المحسنين:
1 ـ إقامة الصلاة:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني من سورة لقمان.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم:
إقامة الصلاة أي تحسين العلاقة مع الله، هذه الصلوات الخمس التي نصليها ما هي في الحقيقة إلا اتصال العبد بالله عزَّ وجل، ولكن من السذاجة أن نظن أنه بمجرَّد أن يقف الإنسان متوضِّئاً، ويتَّجه نحو الكعبة، ويكبِّر تكبيرة الإحرام، ويقرأ دعاء الثناء، والفاتحة، وسورة، ويركع، ويسجد، من السذاجة أن نظن أن هذه صلاةٌ وكفى، لن تستطيع أن تقيم الصلاة، لأن الله عزَّ وجل يقول:
معنى إضاعة الصلاة:
لذلك ربنا عزَّ وجل وصف الناس مع تقدُّم الزمان قال:
﴿
العلماء قالوا: إنَّ إضاعة الصلاة ليس تركها، ولكن حينما لا نخشع فيها، ومتى لا نخشع فيها؟ إذا تخلَّلتها المعاصي؛ دخله حرام، كلماته ليست منضبطة، جوارحه ليست منضبطة، لا يسير على منهج الله، فإذا قام ليصلي ماذا يفعل؟ لذلك المنافقون وصفهم الله عزَّ وجل فقال:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
لأن الصلاة عند المنافق لا معنى لها، يقف، ويركع، ويسجد، لا يشعر بشيء، أقرب إلى الحركات الإيمائية، أقرب إلى الطقوس منها إلى الصلاة، ولكن هذا الذي ضبط جوارحه، هذا الذي أنفق ماله، هذا الذي سار على منهج الله عزَّ وجل، هذا الذي تَقَصَّى أوامر الله فطبَّقها، هذا الذي تقصَّى نواهيه فاجتنبها، هذا الذي أنفق ماله الحلال على حبِّه، أطعم الناس بماله، أنفق ماله في سبيل الله لا يبتغي رياءً ولا سمعةً، هذا الذي إذا وقف ليصلي انهمرت دموعه، وشعر أنه قريبٌ من الله عزَّ وجل جداً.
حقيقة الصلاة من خلال الكتاب والسنة:
لذلك الصلاة قال:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ
من معانيها الاقتراب..
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
الصلاة ميزان، ميزان لعلاقتك بالله عز وجل فمن أوفى استوفى، من وفى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمرتها ، قيل: "الصَّلاةُ نُورٌ"، "الصلاة طهور"، "الصلاة معراج المؤمن"، كما قيل: "لو يعلم المصلي من يناجي ما انفتل"، "الصلاة مناجاة"، هذه تعريفات الصلاة في الكتاب والسنَّة، ربَّما عرَّفها الفقهاء تعريفاً آخر، قال الفقهاء: "هي أقوالٌ وأفعالٌ مفتتحةٌ بالتكبير مختتمةٌ بالتسليم"، هذا تعريف ظاهر الصلوات، ولكن حقيقة الصلاة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
حقيقة الصلاة أن تفهم ما تقرأ، أن تعقل ما تقرأ.. ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها، لذلك أول ما يُسْأل عنه العبد يوم القيامة صلاته، الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، هؤلاء المحسنون، هذا الكتاب الحكيم الذي هو هدىً، أي دلالة، البداية الدلالة، ورحمة النهاية، للمحسنين، لماذا أحسنوا؟ لأنهم استناروا بنور الله، ومتى استناروا؟ عندما صلوا..
معاني الصلاة:
وأما الاتصال خارج الصلاة فقد أشارت إليه الآية الكريمة:
﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)﴾
أي إذا خرجت من بيتك وقلت: "يا رب، إني أعوذ بك من أن أضِلّ أو أُضَل، أو أزلَّ أو أُزَل، أو أجهل أو يُجْهَل علي" فأنت في صلاة، إذا دخلت بيتك، ودعوت الدعاء المأثور فأنت في صلاة، إذا أقدمت على عمل وقلت: "اللهمَّ إني تبرَّأت من حولي وقوَّتي، والتجأت إلى حولك وقوَّتك يا ذا القوَّة المتين" فأنت في صلاة، إذا أردت أن تدخل السوق فدعوت الدعاء المأثور فأنت في صلاة، لماذا سَنَّ النبي هذه الأدعية في كل حركات الإنسان؟ في عمله؟ في بيته، إذا أقدم على عملٍ معيَّن؟ لأن الدعاء مُخُّ العبادة، والدعاء نوعٌ من أنواع الصلاة، فأنت تصلي في أثناء الصلاة، وتصلي خارج الصلاة من خلال الدعاء، من خلال الذكر، من خلال التسبيح، من خلال التحميد، من خلال التكبير، من خلال التهليل، من خلال قراءة القرآن.
المعصية حجاب وانقطاع في أثناء العبادة:
إذاً:
هذا الشريط الكهربائي إذا كان متقطِّعاً، الكهرباء واقفة، الكهرباء لا تسري إلا إذا كانت الدارة مغلقةً، ما دام هناك قطع فالكهرباء واقفة، معطَّلة، وما دامت الكهرباء معطَّلة فكل هذه الأجهزة معطَّلة، أردت من هذا المثل أن أوضِّح أنه إذا أقام الإنسان على معصية، وأصرَّ عليها صغيرةً أو كبيرة انقطع عن الله عزَّ وجل، إذاً تصبح العبادات عبئاً عليه، الصلاة ثقيلة، والصيام ثقيل، إن لم تستقم على أمر الله لا تذوق حلاوة الصلاة، إن لم تبذل الغالي والرخيص لا تذوق حلاوة الصلاة، إن لم تضبط جوارحك كلَّها على منهج الله لا تذوق حلاوة الصلاة، فإذا أخذت من الدين بعضه، واستمعت إلى بعض مجالس العلم، ولم تكن منضبطاً كما أراد الله عزَّ وجل، ربَّما وقفت في الصلاة لم تشعر بشيء، ربَّما جاء رمضان وذهب رمضان ولم تشعر بشيء، ربَّما ذهبت إلى الحج وعدت من الحج، ولم تشعر بشيء، لا تشعر بالقرب إلا إذا دفعت ثمن القرب..
تعصي الإله و أنت تُظْهِرُ حبَّه ذاك لعمري في المقالِ بديع
لو كان حبُّك صـادقاً لأطعتـــــــــه إنَّ المحبَّ لمن يحبُّ يطيعُ
* * *
والله أيها الإخوة الأكارم؛ كل ثمار الدين في طاعة الله، كل ما في الدين من بهجة، من نورانيَّة، من شعور بالأمن، من شعور بالقُرب، من شعور بالتفوُّق، من شعور بالفوز، من شعور بالفلاح، كل سكينة النفس في طاعة الله عزَّ وجل، فهذا الذي يعصي الله لا يعرفه، وحينما عصاه أوقع بينه وبين ربِّه حجاباً، والمعاصي بريد الكفر، والذنوب تقطع الإنسان عن ربِّه.. اللهمَّ لا تقطعنا بقواطع الذنوب..
(( ما كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَصْنَعُ في أهْلِهِ؟ قَالَتْ: كانَ في مِهْنَةِ أهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ قَامَ إلى الصَّلَاةِ. ))
تهيئة الظروف المناسبة للصلاة:
إذا أتقن الإنسان الصلوات الخمس فقط؛ أي أتقن قيامها وركوعها وسجودها، إذا صلاها وكان فارغ القلب، لو كان منشغلاً، وصلَّى تصبح الصلاة جوفاء، كُلْ وصلِّ، نم وصلّ، أنهَ عن هذا العمل وصلِّ، من أجل أن تكون الصلاة كما أراد الله عزَّ وجل يجب أن تهيِّئَ لها الظروف المناسبة.
من الظروف المناسبة أن تصلي وأنت خالي الذهن، لو جاءتك رسالة تقول: ماذا قال فيها؟ هل فيها حوالة أم لا؟ اقرأها وصلِّ يا أخي لئلا تنشغل بها في الصلاة، دائماً فرِّغ قلبك للصلاة، صلِّ في غرفةٍ هادئة، هذا الذي يصلي وقلبه مشغولٌ بزيدٍ أو عُبيد ما ذاق طعم الصلاة.
2 ـ إيتاء الزكاة:
﴿ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ
الموت دافع إلى الإحسان والعمل الصالح:
(( عن سهل بن سعد أنه جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، واعمل ما شئت فإنك مجزى به، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، وأعلم أن شرف المؤمن صلاته بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس. ))
الحياة تنتهي بالموت، بعد الموت حياةٌ أبديَّة، لذلك يقول الله عزَّ وجل في سورة الفجر متحدِّثاً عن هذا الإنسان الضائع:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
أية حياةٍ هذه؟ الحياة الأبديَّة، لأن هذه الحياة التي نعيشها سمَّاها الله الحياة الدنيا، دنيا وليست عليا، حياة إعدادٌ للحياة الأبديَّة، تهيئةٌ للحياة الأبديَّة.
المهتدي فوق الهدى والضالّ منغمس في الضلال:
قال:
﴿
وأما الضلال فاستخدم الله معه كلمة في..
﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ
أي المهتدي على الرغم من أنه يبدو أنه مقيّد بالشرع، لكن هذا القيد هو الذي رفعه إلى أعلى عليين، بينما الضال على الرغم من أنه يبدو للناس حراً في تصرُّفاته، إنَّ هذه الحريَّة المزيَّفة تقوده إلى الحبس، وإلى القيد، وإلى الدخول في القهر، والذل، والهَونِ.
الناس كلهم يسعون إلى الفلاح ويختلفون في حقيقته:
المغبون مَن اشترى شيئاً بثمن باهظ:
الآن يقول الله عزَّ وجل:
مثلاً: إذا دفع الإنسان ثمناً باهظاً، وأخذ سلعةً سيئةً يشعر بالخسارة والندم، يشعر بأنه مغبون، يشعر بالضيق، يتألَّم جداً، إذا شعر أن هذه السلعة ليست كما يحب، ليست كما يريد، ليست من بلد المنشأ، إنها مزوَّرة، إنها صُنِعَت في بلدٍ آخر، إنها غير جَيِّدَة، إذاً يرى أن الثمن الذي قدَّمه كبير جداً، وأنها لا تستحقُّ هذا الثمن، إذاً البيع والشراء عمليَّة مبادلة، تأخذ شيئاً، وتعطي شيئاً.
الوقتُ أعظمُ رأس مال الإنسان:
لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
مثلاً للتوضيح: وأنت على طاولة الامتحان مدة ثلاث ساعات أو ساعتين في الجامعة الآن، هذه الساعات ربَّما بُنِي عليها مستقبلك، فإذا كنت متمكِّنا من هذه المادَّة، وكتبت كتابة جيدة، الأوراق صُحِحَت، نلت علامةً جيدة، أصبحت طبيباً، فتحت عيادةً، جاءك الناس، جاءك الدخل الوفير، تزوجت، واشتريت بيتاً، وعشت حياةً كريمةً مثلاً، إذاً هذه الساعات الثلاثة، أو هاتان الساعتان اللتان كتبت فيهما بني عليهما أنك أصبحت طبيباً.
الدنيا كلُّها امتحان، امتحان لحياةٍ أبديَّة، فأخطر ما في الامتحان.. لو فرضنا أن طالباً أمضى هذه الساعات في التفكير فيما سيأكل غداً مثلاً، هذا غير معقول، هذا وقت ثمين جداً، لو أن قلمه تعطَّل تجد معه قلماً آخر، أراد أن يُصْلِح هذا القلم، فكَّه كله، وطلب كأساً من الماء لكي يغسله، هل معقول أن يصلِّح قلمه في أثناء الامتحان؟ يستهلك نصف ساعة، هذا غير معقول، هل معقول أن يجري حساباته في أثناء الامتحان ؟ غير معقول، يجري حسابات، يصلح قلماً، هل معقول أن يفكر متأملاً حوالي نصف ساعة بلا سبب؟ هذا الوقت محسوب عليه، يجب أن تعلم علم اليقين أنك في امتحان، وأن أخطر ما في الامتحان الوقت.
النشاط الكلامي بأقسامه الثلاث: المحرم والمباح والواجب:
هذا الذي يشتري لهو الحديث، اللهو أي شيءٍ شغلك عن عظيم، أي شيءٍ شغلك عن عظيم هو اللهو.
إذاً: عندنا معنى يشتري، ومعنى الحديث الكلام، الإنسان له نشاط كلامي، أي يتكلَّم؛ حق، باطل، مِزاح، كلام جاد، كلام مفيد، كلام مُمتع، كلام غير ممتع، كلام ضار، يعصي الله بالكلام، أحد أكبر نشاطات الإنسان هو الكلام، قال أحد الصحابة الكرام: عَنْ مُعَاذٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ. ))
يجب أن تعلم أن هذا اللسان حينما يتحرَّك، الآن أنت تمارس نشاط الكلام، هذا الكلام إما أن ترقى به إلى أعلى عليين؛ وإما أن تهبط به إلى أسفل سافلين، معاصي الكلام؛ الغيبة، النميمة، الإفك، الافتراء، الإيقاع بين الناس، الإفساد، إفساد العلاقات، السخرية، الاستهزاء، الفُحش، البذاءة، الاحتقار، أن يحتقر إنساناً بكلمةٍ، أو بنظرةٍ، أو بعبارة، أن يقلِّد إنساناً في حركاته، وسكناته، وأقواله، وأفعاله.
وهناك كلام مباح؛ ماذا أكلت اليوم؟ وكيف كان الطعام؟ ومن أين اشتريت هذه الخضار؟ وكم دفعت ثمنها؟ هؤلاء الأناس الصالحون أحياناً يستهلكون أوقاتهم في كلامٍ لا معنى له، والنبي عليه الصلاة والسلام كما تعلمون دخل إلى المسجد فرأى رجلاً تحلَّق الناس حوله، فهو سأل سؤال العارف قال: من هذا؟ قالوا: هذا نسَّابة، قال عليه الصلاة والسلام: وما نسَّابة؟ فقالوا: يعرف أنساب العرب، قال: ذلك علمٌ لا ينفع من تعلَّمه ولا يضر من جهل به، نحن إذا قسَّمنا النشاط الكلامي إلى أقسام ثلاث؛ نشاط محرَّم مثل: غيبة، نميمة، إفساد، تفريق، سخرية، محاكاة، استهزاء، احتقار، فُحش، بذاءة، وهناك نشاط يرفعك إلى أعلى عليين ذكر الله، تعريف الناس بالله، الإرشاد، الدلالة على الله، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، وهناك كلام ليس محرَّماً، وليس مندوباً، وليس عملاً صالحاً إنما هو مباح؛ كالحديث عن الطعام والشراب، وأشياء لا تقدِّم ولا تؤخِّر، فالإنسان إذا تكلَّم في الصنْفِ الأول وقع في المعاصي، وقع في الحُجًب، وقع في الضلال، وقع في البعد عن الله عزَّ وجل، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ. ))
الإنسان أحياناً بكلمة يدفع الزوج إلى تطليق زوجته، كلمة يجعل هذا الطفل مشرَّداً، أحياناً زوجة الأب توغر صدر الأب على ابنه الذي ليس منها، يطرده في ساعة غضب، هذا الطفل يهيم على وجهه، قد ينحرف، قد يرتكب السرقة، قد يرتكب الفعل المنافي للحِشْمَة، وقد يغيب عن البيت أياماً عديدة، بسبب كلمة قالتها هذه المرأة لتشفي غليلها من ابن زوجها، فوقف الأب موقفاً أحمق، طرده من البيت، فانحرف، كلمةً،
(( إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. ))
طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس..عن أبي هريرة:
(( مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ. ))
عن الحسين بن علي بن أبي طالب:
(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها. ))
فمن علامات الإيمان أن تنشغل بهمومٍ عُليا، بهمومٍ مقدَّسة، قال:
الشعر والفن غير الهادف من لهو الحديث:
الشعر غير الهادف من لهو الحديث:
جئت لا أعلم من أين ولـــكنـــي أتيــتُ
ولقد أبصرت قدَّامي طريقاً فمشــيــت
أين كنت؟ أين أصبحت؟ لســــت أدري
ولماذا لست أدري؟ لســــــــــــــــت أدري
* * *
ما هذا الكلام؟ هناك شعر في الهجاء، وشعر في الرثاء..
ولو أن النساء كمن فقدنا لفضِّلت النساء على الرجالِ
* * *
من هذه المرأة التي ما ذكرها التاريخ؟ كلامٌ فيه مبالغة كبيرة جداً، فالشعر إذا لم يكن ملتزماً بالدعوة إلى الله عزَّ وجل فهو من لهو الحديث.
قصَّة ثمانمئة صفحة تمضي بها أسبوعاً أو أسبوعين، مغزاها كلمتان، هذا من لهو الحديث، الأعمال القصصية، الأعمال المسرحيَّة أحياناً، إذا ما كان فيها مغزى كبير جداً، طبعاً إذا قرأت قصَّة أو قصيدةً، وشعرت أنها حرَّكت مشاعرك العُليا وتفكيرك المرتفع فأنت أمام فن رفيع، فإن لم تحرِّك إلا التافِهَ من مشاعرك والمبتذل من أحاسيسك فأنت أمام فن رخيص.
أنواع لهو الحديث:
الفن الرخيص أن تقرأ شيئاً يحرِّك المشاعر البهيميَّة في الإنسان، هذا من لهو الحديث، شعر، قصَّة، سهرة ليس فيها شيء إلا حديث، وغيبة، ونميمة، ومزاح رخيص، وتعليقات لاذعة، وتقليد، ومحاكاة، أنت أرقى من ذلك، هذا لهو الحديث، سواء كان كلامًا، أو لقاء، أو نزهة، أو كان قراءة كتاب، أو مجلَّة، أو قصَّة، نقرأ مجَلاَّت متعلِّقة بفلانة وفلان، المجتمع المخملي مثلاً، وماذا فعل فلان؟ ومتى تزوَّجت فلانة؟ ولماذا طُلِّقَت فلانة؟ أين أنت؟ أعندك وقتٌ لهذا؟ هذا من لهو الحديث.
قال:
الآيات الدالة على تحريم الغناء:
وهذه الآية هي إحدى الآيات الثلاثة التي استدلَّ بها العلماء على كراهة الغناء والمنع منه..
﴿ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)﴾
اسمدي لنا أي غني لنا، أحياناً إذا الإنسان استغرق في الغناء أصبحت حياته كلها غناء، وهو يعمل الأغنيات تصدح في المحل التجاري، وهو في المعمل تصدح الأغنيات، وهو في مركبته يستحضر هذه الأشرطة ليسمع الغناء، وهو في بيته، في كل حركاته وسكناته غارقٌ في الغناء، والغناء والقرآن لا يلتقيان، فإذا كانت حياتك غناءً فأنت بعيدٌ عن كتاب الله بُعْدَاً شديداً، فلذلك الآية الثانية:
﴿
أحياناً يموت المُغني فيموت معه أناسٌ كثيرون، هناك من ينتحر لموت بعض المُغَنِّين، هناك من يزور قبره ومعه المسجِّلة ليسمع إلى أغنياته التي كان يَطْرَبُ لها، وقد يأتي علماء كبار ليعزّوا بوفاة بعض المغنيين أيضاً، وهذه مشكلة كبيرة جداً، على كُل هذه الآيات الثلاثة استدلَّ بها العلماء على تحريم الغناء..
أقوال الصحابة والسلف في هذه الآية:
سُئِل عبد الله بن مسعود عن قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾..فقال:
عن ابن عمر قال:
وقال عكرمة وميمون بن مهران ومكحول. وعن ابن مسعودٍ أيضاً قال:
أنا أنقل لكم ما في التفاسير، هذا تفسير القرطبي للإمام القرطبي، عنوان هذا التفسير:
وقال مجاهد وزاد: "إن لهو الحديث في الآية الاستماع إلى الغناء، وإلى مثله من الباطل "، أي جلست إلى كاهن. طبعاً:
(( عن عبد الله بن مسعود قال : مَنْ أَتَى عَرَّافًا أو ساحراً أو كَاهِنًا فسأله فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ . صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . ))
هذا إن صدقه، أما إذا لم يصدقه..
(( من أتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عن شيءٍ، لَمْ تُقْبَلْ له صَلاةٌ أرْبَعِينَ لَيْلَةً. ))
لأن الإيمان بأن إنساناً يعلم الغيب كفر، لأنه ردّ لقوله تعالى:
﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴿
حتى لو سألت: أخي انظر لي في الفنجان، فيقول لك: والله سيأتيك مبلغ من المال، أمامك مشكلة، سيتزوج أحد من أقربائك، خير إن شاء الله، هذا لهو الحديث، هذا كلام لا معنى له، دائماً كن جادَّاً، لك أن تلهو لهواً بريئاً، إذا جلس الإنسان مع أهله، وكان إذا دخل بيته كما كان النبي عليه الصلاة، كان إذا دخل بيته بسَّاماً ضحَّاكاً، لك أن تسأل، أن تجيب، أن تمزح مزاحاً بريئاً، لك أن تستمتع بما أباح الله لك، من دون أن تقع في معصية اللهو، واللهو أن تنشغل بشيءٍ تافه عن شيءٍ ثمين، أن تنشغل بالخسيس عن النفيس.
لو أن أحداً غاص في البحر ليأخذ اللؤلؤ، فجاء بالأصداف، وانشغل بها عن اللؤلؤ هذا لهو، فأي شيءٍ تفعله يتناقض مع هدفك الكبير هو لهو.
قال مجاهد:
وقال ابن القاسم: سألت الإمام مالك عن قوله تعالى:
﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)﴾
قال: لهو الحديث..
والإمام البخاري في صحيحه عقد باباً سمَّاه: باب كل لهو باطل إذا شغل عن طاعة الله، ومن قال لصاحبه: تعالَ أقامرك، وقوله تعالى:
سبب نزول قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ:
بعض علماء القرآن الكريم، ولاسيما من تتبَّعوا أسباب النزول، أَوْرَدَ في سبب نزول هذه الآية القصَّة التالية، قال: اشترى النضر بن الحارث كتب الأعاجم، فكان يجلس بمكَّة، فإذا قالت قريش: إن محمداً قال كذا، ضحك منه، وحدَّثهم بأحاديث ملوك الفرس، ويقول: حديثي هذا أحسن من حديث محمَّد، وقيل: كان يشتري المُغَنِّيَات، فلا يظفر بأحدٍ يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينةٍ فيقول لها: أطعميه، واسقيه، وغنّي له، ويقول: هذا خيرٌ مما يدعو إليه محمد من صلاةٍ وصيامٍ، وأن تقاتل بين يديه.
هذه القصَّة أوردها بعض المفسِّرين في تفسير قوله تعالى:
الإنسان إما مع عقله أو مع شهوته، إما يسعى لآخرته أو لدنياه، فالسعيد من سعى لآخرته، ومن كان مع ربِّه.
أحاديث نبوية محذِّرة من الغناء:
قيل: "ما من رجلٍ يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما عن هذا المنكب، والآخر على المنكب الآخر، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتَّى يكون هو الذي يسكت"، لأن الغناء يتناقض مع الهدف الكبير من وجودك في هذه الدنيا.
ويقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام الترمذي من حديث جابر بن عبد الله:
(( لَمْ أَنْهَ عنِ البُكاءِ، إِنَّما نَهَيْتُ عَنْ صوتَيْنِ أحمقَينِ فاجريْنِ، صوتٌ عند نغَمَةٍ مزمارُ شيطانٍ ولَعِبٌ، وصوتٌ عندَ مصيبةٍ، خمشُ وجوهٍ، وشقُّ جيوبٍ، ورنَّةُ الشيطانِ، وإِنَّما هذِهِ رحمةٌ. ))
أي الغناء والمزامير في الأفراح وفي الأتراح، هذان الصوتان ينهى عنهما النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي حديثٍ آخر رواه الإمام جعفر بن محمد، عن أبيه عن جدِّه، عن عليٍّ رضي الله عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلَّم:
بعثت بكسر المزامير.
الصوت الحسن والتغني بالقرآن:
لكن سأقف وقفة قليلة، ما من حاجة عند الإنسان إلى أن يستمع إلى شيء يطربه، أنا أقسم لكم، واسألوا أيّاً من تحبون ممن تثقون بحديثهم، إن المؤمن ليطرب طرباً بالقرآن لا يصل إليه ذوَّاقو الغناء في العالَم، حينما نهاك عن الغناء سمح لك أن تتغنَّى بالقرآن، المؤمن إذا استمع إلى القرآن من صوتٍ شجي، يفعل هذا الصوت مع هذا الكلام المقدَّس، مع كلام خالق الكون في نفسه فعلاً لا يرقى إليه أي ذواقٍ للغناء، أحياناً مديح النبي، أحياناً صوت المؤذِّن الشجي، أحياناً ابتهالاتٌ يسمعها من أناسٍ وهبهم الله صوتاً رخيماً وشجياً، مدائح نبويَّة، أي كل كلامٍ يرقى بك إلى الله إذا جاء بصوتٍ حسنٍ وعذبٍ هذا شيءٌ مسموحٌ به، فأنت حينما تترك الغناء خوفاً من الله عزَّ وجل هناك شيءٌ آخر يحلُّ محلَّه، تطرب بالقرآن، تطرب بمديح النبي العدنان، تطرب بالابتهال إلى الله عزَّ وجل، فما من شيءٍ أودعه الله في الإنسان إلا وجعل له قناةً نظيفةً يسري عبرها.
قيل:
وقيل أيضاً:
الإنسان بين سكرة الأغاني وسعادة القرآن:
بعضهم يقول: إنَّ كبار المغنين الذين أسكروا الناس بأغنياتهم هم سبب تخلُّفنا وسبب تقهقرنا، هكذا قال بعضهم في أعقاب النكسات التي ألمَّت بأمَّتنا، شعبٌ غارقٌ في الغناء، غارقٌ فيما لا يرضي الله عزَّ وجل، هذا كيف يتحرَّك إلى طاعة الله؟ كيف يخرج منه الخير؟ قيل: "إِذَا فَعَلَتْ أُمَّتِي خَمْسَ عَشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بِهَا الْبَلاءُ- فذكر منها- وَاتُّخِذَتِ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ".. صار الغناء جزءاً أساسياً من حياة الإنسان.
الآن إذا دخلت إلى المحلات التجاريَّة، إلى المعامل، أينما تحرَّكت تجد الأغاني تصدح بأعلى أصواتها، حتَّى إذا سافرت لا تنجو من الغناء، بمركبة عامَّة لا تنجو منها، لكن لو أن الإنسان تعرَّف إلى الله عزَّ وجل يقشعرُّ جلده إذا تليت عليه آية..
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
القرآن الكريم هكذا وعد الله، الإنسان المؤمن يطرب أشدَّ الطرب، يمر بسعادة نفسية لا يرقى إليها كل ذواقي الغناء في العالَم.
ورد أيضاً:"من جلس إلى قينةٍ يسمع منها صبَّ في أذنه الآنك يوم القيامة قيل: وما الآنك؟ قال: الرصاص المذاب".
وفي حديثٍ قدسي أن الله تعالى يقول يوم القيامة: "أين عبادي الذين كانوا ينزِّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان؟ أحِلُّوهم رياض المِسك، وأخبروهم أني قد أحللت عليهم رضواني".
وفي روايةٍ أخرى يقول الله عزَّ وجل للملائكة: "اسمعوهم حمدي وشكري وثنائي، وأخبروهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون".
بشرى للمغني التائب: مَن ترك شيئًا لله عوّضه الله خيراً منه:
طبعاً الحياة ابتلاء، ربَّما كان الغناء محبَّباً للنفس، لكن المؤمن حينما يرجو ما عند الله، ويترك ما يحبّ في سبيل الله، الله عزَّ وجل يعوِّضه خيرٌ منه، لذلك: ما كان الله ليعذِّب قلباً بشهوةٍ تركها صاحبها في سبيل الله، مهما كنت متعلِّقاً، لذلك بعض كبار المغنِّين في العالَم، حينما عرفوا الله عزَّ وجل، أنفقوا كل ثرواتهم على شراء اسطواناتهم وإتلافها خوفاً من الله عزَّ وجل، يوجد مغنون كبار في إيطاليا لهم قصص شهيرة حينما دخل الإيمان في قلوبهم ندموا على فعلتهم، هناك أناسٌ يعملون في حقول الفن، حينما عرفوا الله عزَّ وجل ذاقوا من السعادة ما لا يعرفونها من قبل.
قرأت بعض المقالات عن أناس تابوا إلى الله، وكانوا غارقين في المعاصي، يصفون أحوالهم مع ربِّهم كما يصف العارفون بالله، لذلك إذا دخل الإنسان في حضرة الله عزَّ وجل يذوب شوقاً وحبَّاً، ويستنقع في الرحمة استنقاعاً، كبار المغنين أصبحوا من كبار المؤمنين، والشيء الذي يؤسَفُ له أن تجد بعض المنشدين، أو بعض قرَّاء القرآن أصبحوا مغنين، هذا الشيء نكسة خطيرة جداً، أما العكس فشيءٌ طيِّب.
الاشتغال بالغناء على الدوام سفهٌ تُردُّ به الشهادة:
ورد أيضاً:
وفي كتاب التذكِرة: عن عبد الله بن عمر:
(( مَن شربَ الخمرَ في الدُّنيا، فماتَ وَهوَ يدمنُها، لم يَتُب مِنها، لم يشرَبْها في الآخِرةِ. ))
وخمر الآخرة شيءٌ آخر.. عن ابن الزبير:
(( مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ. ))
ومن مات وعنده جارية فلا تصلّوا عليه- مغنية- يقول لك: ترك أربعمئة وخمسين شريط غناء، ماذا نفعل فيهم؟ أتلفها كلها..ومن مات وعنده جارية فلا تصلوا عليه.
وقال الإمام القرطبي:
وعيد مَن يتخذ آيات الله هزواً:
إذاً:
اقتران الضلال بالجهل:
لا يجتمع في قلب المؤمن غناء وقرآن:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين