- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (031)سورة لقمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الكون طريق لمعرفة الله والقرآن سبيل لعبادته:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة لُقمان.
﴿ بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)﴾. ﴾
أولاً أيها الإخوة؛ كما تعلمون أن الكون كلَّه في كفَّة، وأن كتاب الله في كفَّة، والدليل أن الله عزَّ وجل يقول:
﴿
وفي آيةٍ ثانية يقول:
﴿
الكون طريقٌ لمعرفة الله، والكتاب طريقٌ لعبادته، هذا الإله الذي خلق الكون له أمرٌ، ونهي، وتوضيحٌ، وتعريفٌ، وتبيينٌ، وتفصيلٌ كلُّه في القرآن، لذلك ليس في حياة الإنسان كلها شيءٌ أهم ولا أعظم من أن يفهم كلام الله، لأنه خطاب الله لهذا الإنسان، فالله هو الذي خلق المجرَّات، خلق السماوات، خلق الأرض، خلق الموت والحياة، خلق الحيوان والنبات، خلق الشفاء والأمراض، الذي خلق كل شيء، والذي بيده كل شيء، والذي إليه مصير كل شيء هذا كلامه؛ توضيح، تعريف، تبيين، تنبيه، تحذير، تبشير، وَعد، وعيد، تطمين، تخويف.
إذاً: ليس في حياة الإنسان كلها كتابٌ يعلو على هذا الكتاب، أو ليس في حياة الإنسان كلِّها اهتمامٌ يجب أن يزيد على اهتمامه بهذا الكتاب، لأن الإنسان كائن من أعلى الكائنات، مخلوق أول، الله عزَّ وجل أودع فيه من عجائب الكون..
أتحسبُ أنَّكَ جُرْمٌ صغير وفيك انطوى العَالَم الأكبرُ؟
* * *
مساهمة العقل في الإنجازات الحضارية:
الحديث عن عقل الإنسان لا ينتهي في سنوات، العقل البشري أعظم ما في الكون، بل إن العقل البشري على عظمته عاجزٌ عن فهم ذاته، فالجانب العقلي في الإنسان، هل تغيَّر وضعُ الحيوانات كلها منذ أن خُلِقَت وحتَّى الآن؟ هيَ هي.
أما الإنسان فحينما استخدم العقل لا في معرفة الله؛ ولكن في حياته الدنيا، في تطوير حياته، أين سَكَن؟ وماذا ركب؟ وكيف اتصل؟ وكيف صعد إلى أعلى السماوات؟ كيف وطأت قدمه على القمر؟ وكيف غاص في أعماق البحار؟ وكيف نقل الصورة ونقل الصوت؟ وكيف اخترع هذه الأجهزة؟
من ركب طائرةً مثلاً ثلاثمئة راكبٍ يركبون، يأكلون ويشربون وهم في أطباق السماء، هذا أحد إنجازات العقل الذي أودعه الله فينا، فالإنسان عنده عقل، أي طاقة خطيرة جداً إن وجِّهَت فعلت المعجزات، وإن وجِّهَت نحو الشر فعلت الكوارث، والحديث عن الأسلحة الحديثة، والكيماويَّة، والقنبلة التلفزيونية، والقنبلة الذكيَّة، وأشعة الليزر ليست عنا ببعيد، هذا كله من إنجاز العقل حينما أراد أن يدمِّر أخاه الإنسان، فأعظم ما في الكون هو هذا العقل الذي أودعه الله في الإنسان، إما أن يرفعه إلى أعلى عليين ؛ وإما أن يهبط به إلى أسفل سافلين.
الحديث عن العقل بمعنى الفكر، عن إمكاناته، عن طاقاته، مكان الذاكرة لا يزيد على حبَّة العدس، هذا المكان يختزن أكثر من سبعين مليار صورة في عمر يزيد عن ستين عاماً، سبعون مليار صورة تستدعيها متى تشاء، مُبرمجة، مؤرشفة - باللغة الحديثة - يمكن أن تختزن هذه الصورة في مكان بعيد لا تحتاجها، أو في مكان قريب، تقول: هذا الوجه ألمحه، وهذا الصوت أعرفه، وهذه الرائحة شممتها، وهذه الأكلة أكلتها.
أتحسبُ أنَّكَ جرْمٌ صغير وفيك انطوى العَالَم الأكبرُ؟
* * *
أنت الكائن الأول، أنت المخلوق الأول، المخلوق المكرَّم، فالحديث عن عقلك لا ينتهي، وكل ما تراه عينك في هذه الأرض من إنجازات تسمى حضارية هي ثمرة من ثمار العقل حينما توجَّه إلى الدنيا، أما إذا توجَّه هذا العقل إلى معرفة الله، عقل الإنسان فيما يبدو أسعد بعض البشريَّة، أسعد الأغنياء، أجهزة، يقول لك: وأنا في السيارة أبعث رسالة مصوُّرة إلى أي مكان في العالَم، بواسطة جهاز نقل الصور في السيارة، وأنا أتصل، فهذا العقل البشري أسعَد بعض الناس، أو أسعَد الأغنياء، ولكن إذا اتجه هذا العقل لمعرفة الله سَعِدَ صاحبه إلى أبدِ الآبدين، لما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أحبّ إليّ منك، بك آخذ، وبك أعطي، الحديث عن العقل ذو شجون، المعرفة الإنسانيَّة، أنواع العلوم التطبيقيَّة والمحضة، هذا الذي تراه عينك في كل موضوع يوجد آلاف المراجع، آلاف المصادر، علماء، بحوث، تجارب، هذا العقل، هذه الطاقة الهائلة صُرِفَت إلى الدنيا فكانت هذه ثمراتها، فلو صُرِفَت إلى الآخرة ما تكون ثمارها؟ سعادة أبدية.
سعادة النفس وشقاؤها سرٌّ من أسرار الخَلق:
هذه النفس البشريَّة، ما فيها من مشاعر، من أحاسيس، كيف تغضب، كيف ترضى، كيف تسعد، كيف تشقى، كيف تخجل، كيف ينشأ فيها الصراع، عالَم قائم بذاته، عِلم النفْس لازال في البدايات، لازال يحبو علم النفس، أساساً ألَّف رجل كتاباً: وسمَّاه: الإنسان ذلك المجهول، لا تزال هذه النفس ذات طبيعةٍ مجهولة.
امرأةٌ في بلدٍ أوروبي، وهي في المطبخ ترى ابنها قد دُهِس، ابنها في باريس، تصف الحادث وصفاً دقيقاً، رأته بعينها، وبعد أيامٍ جاء نعشه إلى البيت مع تقريرٍ تفصيلي بالحادث كما رأته هي، كيف؟ لا أحد يدري، سَمُّوا هذه الظاهرة: التخاطر النفسي، سيدنا عمر وهو على المنبر رأى سارية الجبل خلف الجبل في بلاد فارس، قطع الخطبة وقال: << يا ساريةُ الجبلَ الجَبلَ>> سيدنا سارية قال:
الروح من أمر الله لا يعلم عنها الإنسان شيئاً:
أما الروح فلا نعلم عنها شيئاً، أما آثارها فواضحةٌ جداً، الإنسان يفكِّر، يحل معادلة، يحل مسألة، يخطِّط، يؤسس بفكره، يهيِّئ كلمة، يتذكَّر، يتصوَّر، يتخيَّل، يراجع موضوعاً، يأكل، له غدد لعابيَّة، المريء، المعدة، الأمعاء، البنكرياس، الغدد الدرقية، النخاميَّة، الكبد، العضلات، القلب، أي أعقد آلة في الكون هو الإنسان، لو قُطِعَ عنه إمداد الله عزَّ وجل، أو سُحِبَتْ منه الروح، يضع أهله له لوحين من الثلج في نفس اليوم لكي لا تفوح رائحته، الدنيا شديدة الحرارة ستفوح رائحته، لا نستطيع، قبل دقيقتين كان مصدر حيويَّة في البيت، كان في البيت يتكلَّم، ويمزح، ويضحك، ويعطي أوامر، ويستقبل ضيوفاً، ويصدر توجيهات، والناس بين يديه خاضعون، ما الذي حدث بعد ثوان صار يحتاج إلى لوحين من الثلج؟ هذه هي الروح..
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾
لا نعلم شيئاً عن الروح، بالروح الكبد يقوم بخمسة آلاف وظيفة، فإذا انسحبت الروح يصير كيلو سوداء، ثمنه ثمانون، أو تسعون، أو مئتا ليرة.
بالروح ترى العين ثمانمئة ألف لون أخضر مع التفريق بين الدرجات، بين درجتين، بدون روح توضع العين، أو عين الدواب توضع في القمامة، ليس لها استعمال إطلاقاً، بالروح هذا الدماغ يخترع، يكتشف، يُحَلل، يركِّب، من دون روح يصبح نخاعاً ثمنه كذا.
جسم الإنسان سرٌّ أيضًا:
من دون روح الإنسان كما قلت لكم سابقاً فيه حديد يصنِّع مسماراً واحداً، وفيه كلس يطلي بيت دجاج، وفيه مواد تصنِّع لوح صابون، وبالمئة سبعون من وزنه ماء، فالإنسان كمواد لا يزيد ثمنه على خمس وعشرين ليرة كله، أمّا يأتي إنسان كالأنبياء العظام يقلبون وجه التاريخ، يبثّون الفضيلة والهدى في الأرض، هناك إنسان وحده بعد ربع قرن كما فعل النبي عمَّ الإسلام في الخافقين، جهد، فالإنسان عظيم؛ أما الإنسان الخاسر فهو الذي لا يعرف قيمة نفسه، هو الذي يعيش على هامش الحياة، هو الذي يأتي يقول: نعيش لنأكل، هذا مستوى منخفض جداً، هناك مستوى أعلى يقول: نأكل لنعيش، لكن مستوى فيه جهل، أما المؤمن فيقول: نعيش لنعرف الله، ولنعمل عملاً صالحاً يسعدنا إلى الأبد، فهذا الإنسان روحه سِر، نفسه سرّ، جسمه لا يزال الطب في بحوث جبَّارة، ولم يتقدَّم إلا القليل، لا زال القلب سراً، الأعصاب سر، لا تزال طبيعة الموت سرَّاً.
طبيعة الموت سِرّ:
ما هو الموت؟ توقُّف القلب؟ لا، الآن يوصلون الأوعية عن طريق قلب صناعي، الدم يجري في الجسم إلى ما شاء الله، والإنسان مَيِّت، ليس توقُّف القلب هو الموت، يا ترى توقُّف نشاط الدماغ؟ ربَّما، أي كلمة ما الموت؟ إلى الآن غير معروفة.
ما هو المنام؟ الإنسان ينام في غرفة قميئة، مظلمة، يرى نفسه في جنان مع أحبابه، يقوم من الفراش وهو من أسعد الناس، ما الذي حدث؟ قد ينام رجلان في غرفةٍ واحدة، فيرى إنسان نفسه مع الثعابين، ومع الوحوش، ومع أعدائه، وقد وقع من على سطحٍ، وقد دهسته سيارة، وقد نُقِلَ إلى مكانٍ بعيد، وقد مات ابنه فيبكي في الليل، وإنسان آخر يرى نفسه من أسعد الناس، وهو نائم، ما هو النوم؟ ما هو الحُلُم؟ ما تفسير هذه الأحلام؟
لابدّ للإنسان من كتاب ومنهج:
إذا تحرَّك الإنسان من دون علم سيغلط، سيتحرَّك حركة عشوائيَّة، سيأخذ ما ليس له، سيطغى، سيعتدي، إذاً لابدَّ من منهج، لابدَّ من كتاب، لابدَّ من توجيه، لابدَّ من افعل ولا تفعل، لابدَّ من هذا الشيء حلال وهذا حرام، هذا يجوز وهذا لا يجوز، هذا ينبغي وهذا لا ينبغي، هذا يُرضي الله وهذا لا يرضي الله، فإنسان بلا كتاب وأكبر دليل أن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
يا رب أيعقل أن تعلِّم الإنسان القرآن قبل أن تخلقه؟ لا، يخلقه ويعلِّمه، ولكن قدَّم القرآن على خلق الإنسان لأن حياة الإنسان من دون قرآنٍ لا معنى لها، حياة حيوانيَّة، حياة عشوائيَّة، تخبُّط، تحرُّك أعمى، نشاط فارغ، نشاط غير هادف، إذاً لا شيء في الحياة كلها يعلو على فهم كلام الله، حينما تأتي إلى مجلس علمٍ لتفهم كلام الله إياك أن تتوهَّم أنك استهلكت الوقت، إنَّك تفعل المهمَّة التي من أجلها خُلِقْتَ، إياك أن تتوهَّم أنك حينما تفرغ من الأعمال تأتي إلى حضور هذا الدرس، لا، هذا هو العمل الأول، هذا هو العمل الذي لا يعلو عليه عمل، أن تفهم منهجك، كلام الخالق، أي كتابٍ على وجه الأرض فيه الحق وفيه الباطل، فيه الخطأ وفيه الصواب، فيه الجيد وفيه السيئ، فيه الصحيح وفيه غير الصحيح، فيه الصالح وفيه الطالح، فيه انسجام وهناك كتاب فيه تناقض، فيه بحث وافٍ وبحث غير وافٍ، فيه معالجة عميقة ومعالجة سطحيَّة، هذا شأن كتب البشر، لكنك إذا أقبلت على كتاب الله لا ريب فيه، لا خلل، لا نقص، لا سطحية، لا بساطة، لا تناقض، لا انحراف، لا مبالغة، لا تصغير، لا تهويل.
﴿
كيف أن الكون كاملٌ في خلقه، كيف أن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ
إذا رأيت عظمة الخالق في خلقه فهذا كلامه، ففي هذا الكلام من العظمة والدقَّة والوضوح والنفع والخير بقدر ما في هذا الكون من إتقان، هذا كلامه.
لا شيء في الحياة يعلو على فهم كلام الله:
لذلك الذي دعاني لهذه المقدِّمة أن الله عزَّ وجل يقول:
القرآن معجزة إلى قيام الساعة:
يا أيها الإخوة الأكارم، كلَّما تاقت نفسي إلى موضوعٍ آخر غير القرآن الكريم لا أجد موضوعاً أجدى، ولا أنفع، ولا أقوى، ولا أقوم من كلام الله عزَّ وجل، كلام خالق الكون، قال: ﴿تِلْكَ﴾.. وهذا من رحمة الله بنا، أن الأنبياء جميعاً أتوا بمعجزاتٍ حسيَّة، أي العصا صارت أفعى، هذه من رآها؟ رآها نفرٌ قليل، وأصبحت خبراً يروى، سيدنا عيسى أحيا الميِّت، من رآه فعل هذا؟ نفرٌ محدود، ثم أصبح خبراً يصدَّق أو لا يُصدَّق بحسب إيمان الإنسان، لكن النبي عليه الصلاة والسلام جاء بمعجزةٍ هي بين أيدينا، منذ أن جاء وإلى قيام الساعة، هذه المعجزة بين أيدينا، اقرأ وتأمَّل، اقرأ ودقِّق، اقرأ وتدبَّر.
موافقة العقل والفطرة للقرآن:
هل في الأرض كلها كتابٌ يمضي على نزوله من السماء خمسة عشر قرناً والعلوم تقدَّمت في هذه الحقبة تقدُّماً مذهلاً؟ بل إن بعض العلماء يقول: "إن التقدُّم العلمي كله للبشريَّة منذ أن وجِدَت وإلى قبل خمسين عاماً في كفَّة، ومن خمسين عاماً وحتى الآن في كفَّة ثانية"، ومع ذلك لم يظهر لا في علم الفلك، ولا في علم الطب، ولا في علم الجيولوجيا، ولا في علم النبات، ولا في علم الحيوان، حقيقةٌ علميَّةٌ قطعيَّةٌ تتصادم مع آيةٍ قرآنيَّة، هذه هي، لأنه كلام خالق الكون.
دائماً وأبداً أقول لكم: هذا الخالق العظيم، الكون خلقه، والقرآن كلامه، والحوادث أفعاله، والعقل مقياسه أودعه فينا، والفطرة أيضاً خَصِيصَةٌ خصَّ الإنسان بها، فيجب أن يلتقي الكون مع القرآن مع العقل مع الفطرة مع الحوادث، هذا الانسجام لابدَّ منه، ما يفعله الله في القرآن، وما في القرآن يفعله الله، وما يفعله الله وما في القرآن يقرُّه العقل، وما يقرُّه العقل ترتاح له الفطرة، أبداً، الحوادث والخلق والكتاب والعقل والفطرة من أصلٍ واحد، من عند الله.
موضوعات القرآن تامة عدداً كاملة نوعاً:
الآن طريقة معالجة أي موضوع طريقةٌ كاملة، وافية، لا فيها اختصار مخل، ولا فيها إطناب ممل، كتابٌ حكيم، طريقة عرض القصص فيه حكمة بالغة، طريقة إيراد الأوامر والنواهي فيه حكمة بالغة، طريقة تحريم الخمر بالتدريج فيه حكمة بالغة، سكوته عن أشياء فيه حكمةٍ بالغة، تفصيله في أشياء فيه حكمةٍ باللغة، إيجازه في أشياء فيه حكمةٍ بالغة، تجاوزه عن أشياء فيه حكمةٍ بالغة، لو أن هناك وقتاً طويلاً، لو تناولت القصص القرآنيَّة، الآيات الكونيَّة، لماذا اختار ربنا عزَّ وجل الآيات الكونيَّة من بين آلاف ملايين الآيات؟ لحكمةٍ بالغة، لماذا عرض علينا هذه القصَّة بهذه الطريقة؟ لحكمةٍ بالغة، لماذا جاءت الأوامر هكذا؟ لحكمةٍ بالغة.. ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ فكِّر، تدبَّر، لا تشعر إلا أن هذا الكلام كلام خالق الكون، وأن هذا الكلام يحتاج منك كل وقتك، وكل جُهدك، وكل طاقتك، وكل قلبك، وكل اهتمامك.
الخالق هو الذي يدل خلقه على الخير:
قال هذا الكتاب:
ولكن الذي يَدُل، من هي الجهة المؤهَّلة أن تدلَّ الخلق؟ أي هل يصح لإنسان أن يهدي إنساناً في معزل عن هدى الله عزَّ وجل؟ لا يصح، الإنسان جاهل، وعاجز، وأُفُقُه محدود، علمه محدود، له مصالح، مثلاً لو قلت لإنسان لا دين له: دُلَّني على قماشة مناسبة؟ يدلَّك على الكاسدة، لأنه يريد أن يصرِّفها، هل يصح لإنسان في معزل عن كتاب الله أن يهدي الناس؟ أي هل هناك هدى أرضي؟ الجواب: لا، لا توجد جهة في الأرض بإمكانها أن تهدي لأنها عاجزة، لأنها محدودة، لأن آفاقها محدودة، لأنها ليست خبيرة بطبيعة النفس البشريَّة، لأن لها مصالح، لأن لها قضايا، لأنها طرف، إذاً لا يمكن للهدى إلا أن يكون سماوياً.
محدودية المخلوق تدل على محدودية أساليبه وأهدافه:
حينما كان الهدى أرضياً رأيتم بأعينكم كيف يتصارع الناس، ويتقاتلون، وهذه الأهداف التي بقيت سنوات وسنوات أصبحت أهدافاً غير صحيحة، وتلاشت بعد سبعين عاماً، أي إذا اخترع الإنسان لنفسه هدى، إذا اخترع أهدافاً، إذا رسم الإنسان أهدافاً، وسار نحوها هناك مغالطة كبيرة، قد يكتشف بعد قرون أنه كان واهماً، وأن هذا الكلام مخالفٌ لطبيعة النفس البشريَّة، قد يكتشف بعد فوات الأوان، وبعد أن يدفع الثمن باهظاً، وبعد أن يدفع الغالي والرخيص أنه كان واهماً، وأنه كان مخطئاً، وأنه كان جاهلاً، وأحداث التاريخ بين أيديكم، هؤلاء الذين ابتعدوا عن الله وقالوا: لا إله، ووضعوا أهدافاً أرضيَّة وساروا نحوها، بعد سبعين عاماً رأوا أن هذه الأهداف غير صحيحة، وأنها باطلة، وأنها تشقي، ولا تسعد، أليس كذلك؟
الهدى لا يمكن إلا أن يكون من الله:
إذاً: الهدى لا يمكن إلا أن يكون من الله، لماذا؟ لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
لو أن عندك آلة غالية الثمن، أو عقلاً إلكترونياً، جهازاً معقداً جداً صنعته أرقى شركة، أيعقل أن تذهب إلى بائع الخضار في حَيِّك تقول له: تعالَ أخبرني عن طريقة عمله، أو عن طريقة صيانته، لا، مع احترامنا الشديد لأي إنسان، لكن هذا الإنسان ليس مؤهلاً أن يعرف دقائق هذا الجهاز،
الإنسان بضعة أيام:
أما إذا طلب الإنسان من الله عزَّ وجل أن يضع له الهدف، فالله عز وجل قال لك:
﴿ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)﴾
يا عبدي، افعل ما شئت فأنت في خسارة، لأنك وقت، والوقت يمضي، لأنك بضعة أيام، ولابدَّ من أن تمضي، افعل ما شئت، فأي عملٍ لا يتصل بإيمانك بي، وبعملك الصالح، وبالدعوة إليّ، وبصبرك على أمري فهذا عملٌ خاسر، يمكن أن تتملك أكبر شركة في العالم، وأنت في خُسر، يمكن أن تصل إلى أعلى منصب في العالم وأنت في خُسر، يقول لك: حصل اضطراب بنظم القلب، سَيَّر الجيوش، حَرَّك ثلاثين دولة، اضطراب بنظم القلب، لآن إنسان ضعيف،
قصص من حرص السلف على عدم اتباع أقوال الرجال المخالفة للشرع:
فلذلك:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
ارجع إلى من أناب إليّ، اتبع سبيل من عَرَّفَكَ بهذا الكتاب، لا يوجد إنسان في الأرض يحق له أن يقول لك: هذا من عندي، من أنت؟ أنت مثلي عبدٌ لعبد، لا يحقُّ لإنسان إلا أن يقول لك: قال الله عزَّ وجل، أنا عبد، إلا أن يقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا حديث صحيح قاله النبي فقط، أما أن يقول لك إنسان: هذه من عندي خذها، من أنت؟ هذه ضعها برقبتي؟ من أنت، هذه بذمتي، وبرقبتي، وضعها في الخُرْج، ولا تسأل، وأنا أقول لك هكذا، من أنت؟
ألم يقل سيدنا عمر لأحد ولاته عندما جاءته رسالة منه يقول فيها:
سيدنا الحسن البصري كان عند أحد ولاة بني أمية، كان والياً ليزيد، جاءه توجيه من يزيد فيه انحراف، أو فيه مخالفة لأمر الله عزَّ وجل، فالوالي احتار، وعنده الحسن البصري، قال له: "ماذا أفعل؟"، والله قال له كلمة تكتب بماء الذهب، قال له: "إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله".
إذا أطعت الله عزَّ وجل فإنه يحميك من يزيد، ولكن إذا أطعت يزيد وعصيت الله فإن يزيد لا يستطيع أن يحميك من الله، هذه اجعلها في أعماقك.
لا أحدَ يردُّ عنك قضاء الله:
أي إنسان، زوجتك، لو أطعتها في معصية لا تستطيع أن ترد عنك مرضاً عُضالاً، هي تبكي فقط، صديقك، شريكك، أعلم منك، لو أطعته في معصية هؤلاء جميعاً لا يستطيعون أن يردوا عنك شيئاً أراده الله، قال عليه الصلاة والسلام لابن عباس: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ :
(( أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا غُلامُ، إِنِّي مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَلْتَسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ . ))
من كمال التوحيد العلاقة مع الله وحده:
روعة الإيمان أن علاقتك مع جهة واحدة، مساكين أهل الدنيا، متمزقون، علاقته مع فلان وفلان، إذا أرضى فلاناً يغضب فلان، لا حول الله يجب أن أزوره ولا يراني، إن زار فلاناً، وعلم فلان يغضب مني، إن قدم نحو زيد يغضب عُبيد، إن أعطى فلاناً يغضب عِلان، هناك تمزق، أما المؤمن فعلاقته مع جهةٍ واحدة، اعمل لوجه واحد يكفك الوجوه كلها، أبداً، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ قَالَتْ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( من التمس رِضا اللهِ بسخَطِ الناسِ؛ رضِيَ اللهُ عنه، وأرْضى عنه الناسَ، ومن التَمس رضا الناسِ بسخَطِ اللهِ، سخِط اللهُ عليه، وأسخَط عليه الناسَ. ))
هذا هو التوحيد، أقول لك بصراحة: العلم كله في التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، التوحيد أن ترى الله في كل شيئاً، وألا ترى معه شيء، أن تراه في كل شيء؛ في كل تصرُّف، في هطول الأمطار، وفي شُح السماء، وفي إقبال الدنيا، وفي إدبارها، في الصحة، في المرض، في القوة، في الضعف، في الالتقاء، في التفرُّق، أن ترى الله في كل شيء، وألا ترى معه شيئاً، هذا هو التوحيد.
البداية بالهدى والنهاية بالرحمة:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ
لأنه هو الخالق، لا توجد جهة تستحق العبادة.
بالمناسبة وليس في الكون كله جهة تستحق أن تهبها حياتك، ولا أن تهبها عمرك، ولا أن تهبها قوَّتك، ولا أن تهبها شبابك، ولا أن تهبها علمك، إلا الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
هل من المعقول أن يقدم إنسان كل حياته لإنسان؟! هذا الإنسان ماذا يفعل معه؟ لا أملك لكم ضراً ولا نفعاً، فالهدى الدلالة، فبالنهاية؟ البداية الانتساب للجامعة، النهاية طبيب، البداية فتح محل تجاري، النهاية أصبحت غنياً، نريد النتائج..
المراقبة سبيلٌ للهدى:
يجب أن تعلم علم اليقين أن أية حركة تتحركها، مثلاً لو فرضنا إنساناً يتناول الطعام في بيته، وفي قميصه فرضاً زر مقطوع، لا يهمه ذلك، أو كان جالساً جلسة غير نظامية، لابأس، أما لو كان في عقد قران، ويُصوّر تراه يعتدل على الفور، لا يفتح فمه في أثناء التصوير، بل يغلقه، لماذا؟ لأن هذه مسجلة عليّ، غداً يعرضونها، لماذا فلان يجلس هذه الجلسة، لا، هذه الجلسة ليست جيدة، فأنت إذا حضرت عقد قران تصحح وضعك، يقول لك: يصورونني، يجب أن تعلم أن أي حركة، وأي سكنة، وأي موقف، وأي غضب، وأي رضا، وأي إعطاء، وأي منع، وأي تساهل، وأي تفلُّت، وأي انضباط كله مسجل إلى الأبد.
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾
جاؤوا بجهاز تصوير راداري لمخالفات السير، جاؤوا به حديثاً، وضعوه بطريق المطار، ضبطوا سائقاً بمخالفة سرعة زائدة، فأحبوا أن يمتحنوه، أنك أنت كنت في المطار يوم كذا وكنت مخالفاً، الله يصلحه ويهديه، حلف بدينه، بربه، لم يكن بالمطار إطلاقاً، تفضل الصورة، أليست هذه السيارة ملكك؟ هذه التاريخ عليها مع الصورة، فسكت، هكذا الآخرة، لا يوجد مجال، شريط مسجل بالصورة والصوت، تفضل ألم تفعل كذا؟ ألم تقف هذا الموقف؟ ألم تنظر إلى فلانة من ثقب الباب؟ عليك تصوير، ولا تدري بنفسك، أنت تتصور، ألم تفعل كذا؟ ألم تُضِف الماء للحليب داخل بيتك؟ ألم تقل كذا وأنت في هذا ليس صادقاً؟ فأين أنت ذاهب؟ كله مسجل، لذلك الإيمان أن ترى أن الله معك، الإيمان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذا الإيمان، تحت المراقبة. والله إذا عرف الإنسان نفسه أنه مراقب تجده يأخذ احتياطات بالغة جداً، إذا كان في طريق يقول لك: هذا لا أريد أن أمشي فيه، فأي شيء تجده قد أخذ احتياطاً بالغاً، إذا راقبك إنسان تجد أنك ضبطت لسانك، وضبطت حركاتك، وسكناتك، وكلماتك، وهاتفك ضبطته كله، فكيف لو راقبك الواحد الديان؟ أنت تحت المراقبة، أبداً، في بيتك، مع أولادك، مع زوجتك، وأنت تأكل، أكلت اللحم وحدك، ألا يراك الله؟ يراك، يا ترى بالعدل أطعمت من حولك ؟ كنت موضوعياً؟ فكلمة هدى إذا عرفت أن الله يطّلع عليك استقمت، فإذا استقمت جاء التجلي، شعرت بسعادة، شعرت بسرور، شعرت برقي، أنت إنسان كريم على الله عزَّ وجل، مخلوق مكرَّم، مخلوق عالي المقام، جالس لمهمة خطيرة جداً، جاء الله بك إلى الدنيا كي تتعرف إليه، كي تهدي خلقه، تجد عملك موظَّفاً لله، مصلحتك، لا يوجد عندك أخذ ما ليس لك، لا، هذه مصلحتك بخدمة المسلمين، تربح وتعيش، لكن الهدف الأول أن تخدم المسلمين، وأن تنفق على نفسك وأهلك.
طبيب لخدمة المسلمين، مهندس، مدرس، بائع، صانع، عامل، دخلت بيتك، هذا البيت ليس للمتعة، لهداية الزوجة والأولاد والبنات، هؤلاء خلفاؤك من بعدك، هؤلاء عملك الصالح، هؤلاء استمرارٌ لك بعد مماتك، فإذا خلّف الرجلُ ابناً متفوقاً في العلم الديني مثلاً، إذا كنت قد تركت أثراً كبيراً، فأنت تعيش في زمن دقيق جداً، كل شيء فيه مسجل عليك، فإياك أن تضِّيع ساعةً، أو دقيقةً، أو ثانيةً، هدىً، البداية الهدى، والنهاية الرحمة، وكلمة رحمة فيها كل شيء، تبدأ من الطمأنينة إلى الاستقرار النفسي إلى الشعور بالسعادة إلى الشعور بالقرب من الله عزَّ وجل إلى الشعور بالتفوق والفلاح.
مجالات الإحسان:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين