- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (031)سورة لقمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن من سورة لقمان.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
أيها الإخوة؛ هناك قاعدةٌ أصولية، وهي أن: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب". إن قلتُ لإنسان: كن طبيباً، آمرك أن تكون طبيباً، فمن ضِمْنِ هذا الأمر أن تنال الثانوية بدرجاتٍ عالية، ومن ضمن هذا الأمر أن تنتسب إلى كلية الطب، لأنك لن تكون طبيباً إلا إذا دخلت كلية الطب، ولن تدخل كلية الطب ما لم تحمل الشهادة الثانوية، ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، هذه قاعدة أصولية.
لا صلاة إلا بالإيمان والإحسان والاستقامة:
ربنا عزَّ وجل حينما أمرنا أن نصلي لا يمكن أن تصلي إلا إذا كنت مستقيماً محسناً، ولا يمكن أن تستقيم وأن تحسن إلا إذا عرفت الله، وآمنت باليوم الآخر، إذاً معرفة الله عزَّ وجل، والإيمان باليوم الآخر، والاستقامة، والعمل الصالح من لوازم الصلاة، فإذا أمرك الله عزَّ وجل بالصلاة فمن لوازم الصلاة أن تعرفه، أن تعرف من تصلي له، أن تأتمر بأمره وأن تنتهي عما عنه نهى، وأن تقدِّم شيئاً يسمح لك أن تُقْبِلَ عليه وهو العمل الصالح، إذاً ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
الأمر بالصلاة مقرون بإقامتها دائمًا:
مِن هنا جاء الأمر بالصلاة مقترناً في أكثر الآيات مع إقامة الصلاة، كإقامة البناء، أي هناك مراحل كثيرة تسبق الصلاة منها ما هو من طرف الصلاة العمل الصالح، منها أن تأتمر بما أمر، وأن تنتهي عما عنه نهى وزجر، منها ما هو بعيدٌ عن الصلاة أن تعرف الله عزَّ وجل، لذلك أحبّ أن أؤكد لكم - وهذا كلامٌ دقيقٌ جداً - أن العلم والعلم وحده هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله، إذا عرفت الله عرفت ما عنده من ثواب أو من عقاب، عرفت أن الأمر كله بيده، توجهت إليه، إذا عرفت أنه هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، إذا رأيت الله في كل شيء، وأنه ما من شيءٍ يقع إلا بأمر الله، وبإذن الله، وما من عملٍ يُنَفَّذُ إلا بتوفيق الله، إذا رأيت هذه الرؤية، هذه الرؤية وتلك المعرفة وهذا العلم حملك على أن تطيع الله، وحملك على أن تفعل الصالحات تقرباً إليه، الآن يمكنك أن تصلي.
فصل الاستقامة عن الصلاة تضييع للدين:
لذلك حينما فصل الناس الصلاة عن استقامتهم، وعن أعمالهم الصالحة، وحينما فصلوا العمل عن معرفة الله، ضاع الدين وضاع الناس في متاهات الصلوات الشكلية الجوفاء، ولم تقدم لهم شيئاً ذا بال، وقاموا إلى الصلاة وهم كُسالى، ورأوها عبئاً، وقالوا بلسان حالهم: أرحنا منها، ولم يقولوا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ:
(( رجلٌ من خُزاعةَ: لَيْتَنِي صَلَّيْتُ فاستَرَحْتُ، فكأنهم عابوا ذلك عليه، فقال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم - يقولُ: أَقِمِ الصلاةَ يا بلالُ! أَرِحْنا بها. ))
منزلة الصلاة في الإسلام:
الشيء العجيب أن في السنة المطهرة أحاديث كثيرةً جداً جدَاً عن الصلاة، يكفي أن الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، قد يسأل سائل: هذه الصلاة التي يصليها عامة الناس هذه عماد الدين؟ هذه من أقامها فقد أقام الدين؟ هذه من هدمها فقد هدم الدين؟ بالتأكيد لا، لأن هذه الصلاة التي يرافقها الكذب، يرافقها الغش، ترافقها المعاصي، ترافقها الفواحش، هذه بالتأكيد ليست صلاةً أرادها الله عزَّ وجل، لأن الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل تنهى عن الفحشاء والمنكر، لأن الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل نورٌ في قلب المؤمن يريه الحق حقاً والباطل باطلاً، لأن الصلاة التي أرادها الله عزَّ وجل طَهور، أن اجتمع في قلب مصلّ حقدٌ، حسدٌ، كبرٌ، استعلاءٌ، أن يتكلم المصلي كلاماً فاحشاً بذيئاً، أن يأخذ المُصلي ما ليس له، هذا شيء مستحيل.
الصحابة أقاموا الصلاة ففتحوا البلاد:
لذلك قد يسأل سائل: ما سِرُّ أن أصحاب النبي عليه رضوان الله كانوا قلةً قليلة، ومع ذلك فتحوا الآفاق، والبلاد شرقاً وغرباً، ونحن نَعُدُّ ألفاً وزيادة من الملايين، قبل سنوات ألف مليون، والآن سمعت أن المسلمين يبلغون ألفاً ومئتي مليون، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
(( خَيْرُ الصَّحَابَةِ أَرْبَعَةٌ، وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُ مِائَةٍ، وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلافٍ، وَلا يُغْلَبُ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ.))
من حيث العدد لن يغلب في حديثٍ صحيح..
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)﴾
ليس كلُّ مُصلٍّ مقيمًا للصلاة:
من باب التقريب، إنسان يحمل أعلى شهادة في الطب، بورد مثلاً، هذا ممتلئٌ علماً، ممتلئ خبرةً، يتقن اللغة الأجنبية كإتقانه العربية، يفهم دقائق اختصاصه، له تجارب غنية جداً، له ذكاءٌ كبير، له اطلاعٌ واسع، شكله الخارجي أنه يرتدي ثوباً أبيض اللون، ويضع على عينيه نظَّارتين، وعلى أذنه سَمَّاعة، فإذا جاء إنسانٌ جاهل، وارتدى ثوباً أبيض اللون، ووضع على عينه نظارة، وفي أذنيه سماعة، صار طبيباً؟ أهذا هو الطب؟ أن ترتدي هذا الثوب الأبيض؟ وأن تضع السماعة على أذنيك؟ وأن تضع ورقةً بيضاء على الطاولة؟ فرقٌ كبير بين المصلي حقيقةً، وبين الذي فكر في الكون حتى استقرت في نفسه حقيقة وجود الله، وحقيقة أسمائه الحسنى، وحقيقة كماله، وحقيقة وحدانيته، واستقر في نفسه أن الإنسان خُلِقَ ليسعد في الأبد، إذاً استقر في ذهنه أحقية اليوم الآخر، ثم بدأ يبحث عن أمر الله؛ في مأكله، ومشربه، في زواجه، في عمله، في أخذه، في عطائه، في كل شؤون حياته، إلى أن طبق السنة النبوية تماماً وبدأ يجعل من طاقاته، من إمكاناته، من ذكائه، من خبرته، من وقته، من جهده، من ماله، كلها وظفها في طاعة الله، وتَقُرُّبَاً إلى الله عزَّ وجل، عندئذٍ وقف ليصلي فرأى الطريق إلى الله سالكةً، وقف ليصلي فاستراح في الصلاة، وقف ليصلي فشعر أنه قريبٌ من الله عزَّ وجل، وقف ليصلي شعر أن هموماً قد انزاحت عن كاهله، من هنا الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات، وغرة الطاعات، ومعراج المؤمن إلى رب الأرض والسماوات.
الصلاة فرض لا يسقط إلا بالموت:
من هنا قال العلماء: الفرض الوحيد المتكرر الذي لا يسقطُ بحال، من أركان الإسلام أن تشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويكفي أن تشهد هذه الشهادة مرةً واحدة.
من أركان الإسلام الحج على المستطيع، قد تؤديه مرةً واحدة، وقد لا تؤديه أبداً وأنت مسلم.
من أركان الإسلام الصيام، وقد يصاب الإنسان بمرضٍ يمنعه من الصيام، وقد يسافر فيؤجِّلَ الصيام إلى ما بعد السفر، والزكاة على المستطيع، إذاً: الحج قد يسقط، والصيام قد يسقط إلى حين، والزكاة قد تسقط، والشهادة تؤدَّى مرةً واحدة، أما الفرض العَيْنِيّ الذي يتكرر ولا يسقط بحالٍ فهو الصلاة، لذلك لا يستطيع الإنسان ألا يصلي ولو كان في ساحة الحرب، ولو هُدِّدَ بالقتل إن لم يصلِّ، عليه أن يصلي صلاة الخائف، وصلاة الخائف تقصر نوعاً لا كَمَّاً، لك أن تصلي بأية طريقةٍ تشاء، وأنت مستلقٍ على السرير، وأنت واقف، في أي وضعية، إذا هددت بالقتل إن صليت فهناك صلاة الخائف، معنى ذلك أن الدين كله قائمٌ على الصلاة، من ترك الصلاة جحوداً بحقها فقد كفر، فقد كفر، أما الذي أشعر به أن آيات الصلاة في أكثرها قالت:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
أي أقم البناء؛ شراء الأرض، تخطيطها، ترحيل الأتربة، هدم الأنقاض، ترحيل الأنقاض، حفر الأساسات، بناء الأساس، بناء الطابق الأول، الطابق الثاني، الكسوة الداخلية، الكسوة الخارجية، تأمين الماء والكهرباء، هذا كله منطوٍ في كلمة إقامة البناء، إقامة الصلاة تستلزم معرفة الله، تُصلي لمن؟ تقول: الله أكبر، هل عرفته أكبر؟ فهذا الذي يتذوَّقه المؤمن من قوله تعالى:
﴿ فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ(7)﴾
إذاً: نرجع إلى القاعدة الأصولية وهي أنه: "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فإذا أمرك الله عزَّ وجل بنص القرآن الكريم أمراً قطعي الدلالة، أمرك أن تصلي، أو أمرك أن تقيم الصلاة فابحث عن موجبات الصلاة، فابحث عما لا تتم الصلاة إلا به؛ معرفةٌ بالله عزَّ وجل، واستقامة على أمره، وتقربٌ إليه، عندئذٍ ترى الطريق إلى الله سالكاً.
السبيل الوحيد إلى معرفة الله استعمال العقل الذي هو مناطُ التكليف:
قد يسأل سائل: كيف تتم معرفة الله؟ الله عزَّ وجل لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، إذاً السبيل الوحيد إلى معرفة الله أن تستعمل العقل الذي هو مناطُ التكليف، الله عزَّ وجل الكون كله تجسيدٌ إن صح التعبير، أو مظهرٌ لوجوده، ومظهرٌ لوحدانيته، ومظهر لكماله، فأسماء الله كلها لها متعلَّقات؛ قدرته ظاهرةٌ في خلقه، رحمته ظاهرةٌ في خلقه، لطفه ظاهر في خلقه ، وحدانيته ظاهرةٌ في خلقه، كماله ظاهر في خلقه. إذاً: كل أسمائه الحسنى، وكل صفاته الفضلى إنما هي مبثوثةٌ في خلقه في الكون، إذاً يكفي أن تنظر إلى الكون، إلى خلقك، إلى طعامك، إلى شرابك، إلى ما تحتك، إلى ما فوقك، إلى عن يمينك، إلى عن شمالك، يكفي أن تنظر، وأقرب شيءٍ إليك جسدك.
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)﴾
ما الذي جعله يكفر؟
﴿ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)﴾
نطفة لا ترى بالعين، في اللقاء الواحد يخرج من الرجل ثلاثمئة مليون حوين مَنوي، وواحدٌ من هذه الثلاثمئة مليون هو الذي يُلَقِّحُ البويضة، ومن يُصَدِّق أن على هذا الحوين معلومات مبرمجة بأزمان معينة تزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة، الرقم دقيق جداً تأكدت منه إلى أقصى درجة، خمسة آلاف مليون أمر مودع في هذا الحوين الذي لا يرى بالعين، كيف لقَّح هذا الحوين البويضة؟ وكيف فتح له الباب ثم أغلق؟ وكيف مُنِعَ من الدخول آلاف مئات الألوف بل عشرات الألوف، دخل هذا الحوين القوي إلى البويضة، وكيف تلقّحت هذه الخلية الأنثوية الأولى؟ وكيف انقسمت إلى عشرة آلاف جزيء وهي في طريقها إلى الرحم؟ وإذا قرأت علم الأجنة، أو قرأت المبادئ الأولى لعلم الأجنة وجدت العجب العجاب..
﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)﴾
ماذا ينتظر؟
إلى متى أنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول؟
* * *
إلى متى؟!!
تــعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال بديعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعـــتـــــه إنّ المحب لمن يحب يطيعُ
* * *
الصلاة ميزان:
الذي أراه أنك إذا تأمَّلت في خَلْقِكَ، إذا تأمَّلت في طعامك، إذا تأمَّلت في شرابك، إذا تأمَّلت في المخلوقات من حولك، إذا تأمَّلت في الجبال، إذا تأمَّلت في البحار، إذا تأمَّلت في الأطيار، إذا تأمَّلت في الأسماك، لابدَّ من أن تعود من هذه الجولة وقد خشع قلبك، ورأيت نفسك صغيراً جداً أمام عظمة الله عزَّ وجل، عندئذٍ لا تملك إلا أن تبادر إلى طاعته، وإلى نفع عباده، وإلى خدمة مخلوقاته، فإذا كنت عارفاً به، مستقيماً على أمره، محسناً إلى خلقه، استقبلك الله عزَّ وجل في الصلاة، وأقبل عليك، وتجلّى على قلبك، وملأ قلبك نوراً، وملأ حياتك حبوراً، وجعلك من المقربين المنعمين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ألا ترى معي أنه في بعض أحيانك، في بعض ساعات صفائك، عقب أعمالك الصالحة، عقب التضحيات، عقب البذل، عقب العطاء، ألم تقف مرةً بين يدي الله عزَّ وجل تنهمر دموعك، ويخشع قلبك، وتتمنى أن تدوم الصلاة ساعات طويلة؟ إذا كنت صَلَّيْتَ هذه الصلاة فهذه هي الصلاة التي أمرنا الله بها، هذه هي الصلاة التي نرقى بها،
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إذا تلوت القرآن في الصلاة ربما شعرت كأنك تسمع القرآن أول مرة، وكأنه نزل من تَوِّهِ على النبي عليه الصلاة والسلام، هذه هي الصلاة، فالصلاة ميزان، من وّفَّى استوفى، من وفّى الاستقامة حقها استوفى من الصلاة ثمراتها، خالقٌ عظيم، ربٌ كريم، خالق السماوات والأرض يأمرك أن تقف بين يديه هكذا وأنت ساهٍ ولاهٍ؟ وأن تنحني وتنحني، وأن تقعد وتسلم، وانتهى كل شيء؟ أهذا أمر الله عزَّ وجل؟ هذه الذات الكاملة، هذا الرب الكريم، هذا الإله العظيم هذا أمره؟ أترضى لمخلوقٍ أن تؤدي أمره أداءً شكلياً؟ أترضى من ابنك إذا أمرته أن يدرس أن يقعد وراء المنضدة، وأن يفتح كتاباً، ويقلبه أمامك وعينه نحوك ولا يقرأ شيئاً؟ أترضى منه هذا؟ ألا تتهمه بالنفاق إذا فعل هذا؟ فكيف ترضى أن تؤدي هذه العبادة العظيمة أداءً شكلياً؟ أداءً أجوفاً؟ لكن أنَّى للمنحرف أن يقف بين يدي الله عزَّ وجل؟ وأنى للمذنب أن يقبل على الله؟ أنّى للمسيء إلى خلقه أن يتجلى الله على قلبه؟ هذا القلب بيت الرب، والله عزَّ وجل أغنى الأغنياء عن الشرك، إذا كان في القلب شرك فالله عزَّ وجل يَدَعك وشأنك، فأن يستحق قلبك أن يتجلَّى الله عليه في الصلاة، أن يستحق قلبك أن يمتلئ نوراً من الله عزَّ وجل في الصلاة، لابدَّ من أن يكون طاهراً، القلب بيت الرب، القلب منظر الرب، فيا عبدي طهرت منظر الخلق سنين أفلا طَهَّرْتَ منظري ساعة؟ هكذا.
الصلاة عماد الدين:
لذلك الصلاة عماد الدين، العماد في اللغة الخيام كما تعرفونها لها عمودٌ كبير في وسطها، الخيمة الدائرية لها عمودٌ كبير، ما قيمة هذه الخيمة بلا عمود؟ قماش ملقى على الأرض، هل تصلح هذه الخيمة أن تُسْكَن؟ هل يُجْلَسُ فيها؟ هل تستعمل كخيمة بلا عمود؟ فهذه الصلاة إذا كان الدين خيمةً فالصلاة عماد الدين أو عمودها، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، لاحظ أنت مُخَيَّماً حينما يُزْمِعُ أصحابه الرحيل يبدؤون بسحب الأعمدة، حينما يسحب عمود الخيمة تتداعى على الأرض، تصبح قماشاً بعضه فوق بعض وانتهى الأمر، تشبيهٌ نبويٌ رائعٌ جداً: الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، الصلاة طهور، المصلي طاهر النَفْس، المصلي لا يغشّ أحداً، لا يكذب، لا يتلاعب، لا يحتال، لا يخدع، ولا يسيء في كلامه، مصلّ، طاهر، أي إنسان متصل بالله، ومكارم الأخلاق كلها مخزونةٌ عند الله تعالى، فإذا أحبّ الله عبداً من خلال الصلاة منحه خلقاً حسناً، هذا كلام قطعي، كل أخلاقك، كل كمالك، كل حلمك، كل رحمتك، كل إنصافك، كل لطفك إنما هو تشتقه من الصلاة، فبقدر اتصالك بالله عزَّ وجل تأخذ من كماله.
تقريباً إن كان لك اتصال بهذا المُجَمَّع الأساسي للكهرباء، بقدر ما تأخذ من هذا المُجَمَّع تكون قوة التيار عندك، فإذا كان الآخذ ضعيفاً جداً ثمانون فولطاً، أكثر مئة وعشرة، أكثر مائتان وعشرون، كلما علا قطر الآخذ اشتدت قوة التيار، وهكذا.
من ازداد علماً ازداد قرباً من الله عز وجل:
لذلك الوقفة الآن عند:
احرصْ على يومك قبل أن يفوتك:
شيئان احرص عليهما كل يوم كما قيل:
الزمن أخطر شيء يملكه الإنسان:
إن أخطر ما تملكه هو الزمن، إنك زمن، أو إن رأس مالك هو الزمن، أو إن أخطر ما تملكه هو الزمن، فإما أن تنفقه إنفاقا استهلاكياً سخيفاً، وإما أن تنفقه إنفاقاً استثمارياً، فإذا حرصت على معرفة الله عزَّ وجل، وعلى حضور مجالس العلم، وعلى فهْمِ كتاب الله، وعلى فهْم أمر الله ونهيه، وعلى فهم السُنَّةَ المطهرة، وعلى أن تقف على سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، إذا حرصت على طلب العلم، طلب العلم يجعلك من طُلاب العلم، وطلاب العلم أغلب الظن إذا كانوا صادقين يطبقون علمهم، فإذا طلبت العلم، وتعلَّمت العلم، وطبقت العلم، صار الطريق إلى الله سالكاً، فإذا اتصلت بالله عزَّ وجل لك أن تقول مع من يقول: يا رب، ماذا فَقَد من وجدك؟ والله ما فَقَد شيئاً، وماذا وجد من فَقَدك؟ والله ما وجد شيئاً.
ملخّص الملخص أن ترى الله في كل شيء، وأن تسعى إليه في كل شيء، وهؤلاء التائهون، الشاردون، البعيدون، هؤلاء ما أتعسهم! وما أشد خسارتهم حينما يأتيهم ملك الموت!
﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)﴾
العمل الصالح المكسب الوحيد للإنسان:
هناك أخبار تأتي للإنسان كالصاعقة، أي إذا اكتشفت فجأةً أن هذا البيت الوحيد الذي لا تملك غيره قد بعته بعملةٍ مُزَيَّفَة، وأن هذه العملة المزيفة فضلاً عن أنه لا قيمة لها سوف تحاسب عليها حساباً كبيراً، أليس هذا الخبر صاعقاً؟ إذا اكتشفت فجأةً أن هذا البيت الذي اشتريته ليس للذي باعك إياه، وأن الذي يملكه شخص آخر، وأن هذا المبلغ الذي دفعته له ذهب على الأرض، أليس هذا الخبر صاعقاً؟ فإذا كشف الإنسان في لحظة ما أن كل عمله في الدنيا لا قيمة له، وأن كل سعيه قد ذهب أدراج الرياح، وأن الله عزَّ وجل جعل من عمله هباءً منثوراً، وأنه قادمٌ على حياةٍ أبدية لا يملك مالاً للتداول فيها.
أنت إذا ذهبت إلى بلدٍ غربي أول شيءٍ تفكر به أن تشتري عملة ذلك البلد، في فرنسا الفرنك ، في انكلترا الجنيه، فإذا كنت مُزْمِعاً أن تسافر إلى الدار الآخرة ألا ينبغي أن تفكِّر ما العملة الرائجة هناك؟ إنها العمل الصالح، لذلك:
الدنيا ساعـة اجعلها طاعة والنفس طماعة عودها القناعة
* * *
هذه المعاني المستنبطة من قوله تعالى:
منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
أما:
ترْكُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خشية منكر أكبر منه:
لكن إذا نتج عن أمرك بالمعروف، أو نهيك عن المنكر فتنة أشدّ من فعل هذا المنكر، عندئذٍ قال العلماء: "في مثل هذه الحالة لا ينبغي أن تفعل ذلك"، لأن سيدنا عمر يقول:
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمَن له ولاية على غيره:
لكن أغلب الظن أن الأب أولاده، الزوج زوجته، صاحب المعمل عمَّاله، صاحب المتجر موظفيه، مدير المؤسسة موظفيه أيضاً، الله عزَّ وجل جعل أشخاصاً تحت رعايتك، في إشرافك، أنت قيّمٌ عليهم، أمرهم بيدك، هؤلاء الذين أناط الله بك مصالحهم ومقدّراتهم، هؤلاء ينبغي أن تأمرهم بالمعروف، وأن تنهاهم عن المنكر، أقرب مثل عندك محل تجاري عندك موظف، أخلاقه عالية ونشيط ومخلص لكنه لا يصلي، ألا ينبغي أن تأمره أن يصلي؟ ألا ينبغي أن تشجعه على الصلاة؟ ألا ينبغي أن تحضَّه على معرفة الله؟ لأن هذا سيحاسبك، يقول لك: خدمتك ثلاثين عاماً ما ذكرتني مرة بالصلاة، لم تأمرني أن أصلي، لم تدفعني إلى معرفة الله عزَّ وجل، اعتصرت مني قوَّتي، وألقيتني في جهالةٍ وفي ضلالة، إذاً:
ضابط المعروف والمنكر شرعي لا مجال للعقل فيه:
المؤمن الصادق قيمُهُ من قيَم كتابه، ومقاييس الفوز عنده هي مقاييس الفوز عند الله عزَّ وجل.. عن عبد الله بن عمرو:
(( لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به. ))
لا يوجد عنده مقاييس خاصة، مثلاً: إنسان لا يصلي، بعيد عن الدين، منكر للدين، تقول عنه: لبق، لطيف، أخلاقه عالية، فهيم، حذق، فأنت تطعن في الدين، إذا أثنيت عليه كل هذا الثناء وهو لا يصلي، وهو لا يعتدّ بالدين، فكأنك ألغيت الدين، ولم تعبأ به، إذاً ينبغي لك تكون القيم التي تتعامل بها نابعةً من كتاب الله، لا أن تكون نابعة من مجتمعك، ولا من تقاليدك، ولا من عاداتك.
من نتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معاداة الناس:
لكنك إذا أمرت بالمعروف، وإذا نهيت عن المنكر فالطريق في ذلك ليس محفوفاً بالورود؛ ولكن محفوفٌ بالأشواك، لأن الذي يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر يتصدى له أشخاصٌ شهوانيّون يتضررون من هذه الدعوة، إذاً لابدَّ أن يناصبوها العِداء، لابد من أن يقفوا عقباتٍ في طريق الدعوة إلى الله، لأنهم تضرروا؛ إن في شهواتهم، وإن في مصالحهم، إذاً: لابدَّ من أن تؤذى، إذاً: جاء الأمر الإلهي الثالث:
﴿ بَلْ قَالُوا
يقول لك: نحن تربينا هكذا، لا يوجد عندنا هذا التستر، ستفرق الأسرة! أقرب الناس إليك، من يقول لك: إن أخذ الفائدة حرام؟ هل من المعقول أن يترك المال هكذا من دون فائدة؟! أدخلك في متاهات الربا، فلذلك لابدَّ من معارضة، لابد من تجريح، لابد من حَسَد، لابد من وضع العصي بالعجلات.
مِن العزم عدمُ التردُّدِ:
أحياناً يكون دخلُ الإنسان محدوداً جداً، لكن يصاب ابنه بمرض، وقد يقتضي هذا المرض أن ينفق عليه عشرات الألوف، بل مئات الألوف، تراه طائعاً يبيع بيته من أجل معالجة ابنه، لأن معالجة الابن من عزم الأمور، هكذا، أحياناً ينهدم حائط بالبيت بفعل الأمطار، فيصبح البيت مكشوفاً، فيضطر صاحبه أن يقترض من أية جهةٍ ليشيد هذا الجدار، أن تقيم هذا الجدار ليس هو أمرٌ مخيرٌ فيه، لا، من عزم الأمور، أصبحت مع الطريق.
الصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من عزم الأمور:
أنا أضرب أمثلة، ما معنى من عزم الأمور؟ أنت في حياتك أشياء كثيرة تتردد بها، تقدم أو تحجم، توازن أفعل أو لا أفعل، لكن هناك أشياء كثيرة أيضاً حينما تقع ترى نفسك مندفعاً إلى فعلها دون تردد، دون سؤال، دون تريُّث، دون استشارة أبداً، التهبت الزائدة عند ابنه، وصاح من شدة الألم، وقال له الطبيب: لابدَّ من أن تجرى العملية اليوم، انتهى الأمر، يقول لك: والله ليس معي مالٌ، فيستدين، يضع الذهب رهناً، إجراء العملية لابنه
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
إذاً: لابدَّ من أن تبتلى، ومع الابتلاء لابدَّ من أن تصبر، ولابدَّ من أن تحتسب،
الابتعاد عن التكبر:
تعظيمُ النعمة مهما دقَّتْ:
سيدنا عمر جاءه رسولٌ من أذربيجان، وأذربيجان الآن تابعة للاتحاد السوفياتي، وقد كانت ولايةً تابعةً لسيدنا عمر، العاصمة كانت المدينة، وليست موسكو، بل المدينة، جاءه رسول من أذربيجان، فكرِه هذا الرسول أن يطرق بيته ليلاً فتوجه إلى المسجد، فسمع بكاءً ومناجاةً، يقول هذا الرجل الذي يناجي ربه:
قيل لملِكٍ عظيم: يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس من الماء إذا منع منك؟ قال: بنصف ملكي- قرأت قصةً عن باخرةً غرقت في عرض المحيط، أحد قوارب النجاة، أكبر قارب نجاة كان فيه حوالي سبعين إنساناً، وفي هذا القارب مستودع للماء لا يكفي لإنسانين، فوزع الماء بملعقة الشاي، كل واحد باليوم له ملعقة شاي من الماء، هل تصدقون أن ركاب هذا المركب قتل بعضهم بعضاً، ولم يصل إلى الشاطئ إلا اثنان، من أجل شربة ماء، من أجل أن يشرب ملعقتين من الماء بدلاً من ملعقة- قال له: يا أمير المؤمنين، بكم تشتري هذا الكأس إذا منع منك؟ قال له: بنصف ملكي، قال: فإذا مُنِع إخراجه، قال: بنصف ملكي الآخر، قال له: ملكك يساوي كأس ماء.
إذا شرب الإنسان الماء، وكانت الكليتان سليمتين، والحالب والمثانة، وكله يعمل بانتظام، أليست هذه نعمة كبرى؟
التواضع مع الناس وعدم التعالي عليهم:
لذلك:
آيةً واحدة؛ إذاً إذا دعوت إلى الله، أو أمرت بالمعروف، أو نهيت عن المنكر، أو في أية حالةٍ من حالاتك..
الفرح بطاعة الله فقط:
﴿
أما أن تفرح بالدنيا فليس لك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، والباقي ليس لك.
القصدُ في المشي لأن المتكبر المختال لا يعرف الله عزَّ وجل:
آخر آية:
ورد في بعض التفاسير معنى أخر أي واقصد في مشيك رضاء لله عزَّ وجل، في مشيك إلى دكانك، إلى عيادتك، إلى معملك، إلى أهل بيتك، إلى زيد، إلى عُبيد، كل حركةٍ من حركاتك اقصد بها رضاء الله عزَّ وجل، هذا ورد في بعض التفاسير.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين