وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 06 - سورة لقمان - تفسير الآيات 16 - 20 من وصايا سيدنا لقمان: اللين في الدعوة - التواضع - والصوت المعتدل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

الحكمةُ من النداء بلفظ البنوة:


أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس السادس من سورة لقمان.

وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ .. كلمة يا بنيَّ ماذا يستنبط منها؟ هذه اللفظة تلفت القلب، لفظة محبَّبة، أي كأن الله سبحانه وتعالى من خلال وصيَّة سيدنا لقمان يعلِّمنا أنه عليكَ أن تفتح قلب الإنسان قبل أن تفتح عقله، قل له: يا أخي، قل له: يا صديقي، قل لابنك: يا بني، هذه الكلمات تفتح القلب، فإذا فُتِحَ القلب صار الطريق سالكاً إلى العقل، القسوة لا تُجدي.

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران  ]


وجوب اختيار أحسن الألفاظ في الدعوة ومخاطبة الناس:


يجب على الأب أن يستخدم ألطف عبارةٍ مع أولاده، لأنه كأب لا يكفي أنه أب حتى يحبَّه أولاده، لا بدَّ من أن يكون كاملاً، حتى في كلماته، حتى في عباراته، فإذا قرأت قوله تعالى في سورة لقمان، وفي وصيَّة هذا الحكيم الذي هُناك خلافٌ في نبَّوته، على كل الحكيم أدق كلمةٍ تطلق على سيدنا لقمان..﴿يَا بُنَيَّ﴾ تعلَّم منها الكثير، تعلَّم منها أن تستخدم ألطف عبارةٍ مع الآخرين، تعلَّم منها أن تُنادي الإنسان بأحبّ الأسماء إليه، تعلَّم منها أن تقيم جسوراً من المودَّةِ قبل أن تقيم جسوراً من الفكر بينك وبين الآخرين، النبي عليه الصلاة والسلام رسولٌ، نبي، رسولٌ، معصومٌ، يوحى إليه، ومع كل هذه الميزات لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله، نبيّ، رسولٌ، معصومٌ، سيِّدُ ولد آدم، يوحى إليه..﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ فكيف بداعيةٍ من عامة الدعاة؟ فكيف بمؤمنٍ من عامةٍ المؤمنين؟ ليس لك أي ميزة، فإذا كنت قاسياً في دعوتك، هذه القسوة هي سدّ منيع بينك وبين الآخرين، إذاً:

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)﴾

[ سورة فصلت ]

أحسن: اسم تفضيل، انتقِ أحسن كلمة، وانتقِ أحسن تصرُّف، وانتقِ أحسن موقف، كي ينفتح القلب لك، فإذا انفتح القلب لك صار الطريق سالكاً إلى عقلهم، هذا مما يستنبط من قول الله عزَّ وجل في وصية سيدنا لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ﴾، يجب أنْ يعوّد الإنسان نفسه بأن يخاطب أهله، وأولاده، وجيرانه، وزملاءه، ومن حوله، بألطف كلمة، وبأحبّ أسمائهم إليهم. 

مرّ بنا اليوم في الخطبة أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما سأل زيد الخَيل: من أنت؟ قال: أنا زيد الخيل، قال: بل زيد الخير لا زيد الخيل، أراد أن يُبَدِّلَ اسمه، زيد الخير لا زيد الخيل، والنبي عليه الصلاة والسلام أمرنا أن نخاطب الناس بأحبّ أسمائهم إليهم، هذا من السنة، هذا من قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ﴾ .

 

العمل الصالح مهما تناهى في الصغر له وزن عند الله عز وجل:


﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا﴾ ..هذه الهاء على من تعود؟ قال بعضهم: إن الخَصْلَةَ الحسنة، أو إن الخصلة السيئة، أو إن الحسنة، أو إن السيئة، أو إن نصيبك من الرزق، كل هذه المعاني تحتملها الهاء، إنها، خصالك الحسنة، خصالك السيئة، حسناتك، سيئاتك، أرزاقك، بالمفرد، خصلتك الحسنة، تصرف حسن، موقف حسن، نظرة حُسْنَى، موقف حسن، عبارة حسنة، أي الحسنة مهما دقت، مهما صغرت، مهما تناهت في الصغر.. ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ﴾ إلى أن تصل هذه الحسنة..﴿مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ ، حبة الخردل لا وزن لها، هي لها وزن، ولكن لا يَرْجَحُ بها ميزان، مهما كان الميزان دقيقاً لصغر حجمها، وضآلة هيكلها، وصغر جرْمها، إذا وضعتها على ميزانٍ حسَّاس لا يتحرَّك، فعملك الحسن، مواقفك، أنقذت نملةً، نزعت قشةً من المسجد وضعتها في جيبك تنظيفاً له، ابتسمت في وجه صغير، ناولت حاجةً وقعت من إنسان، انتظرت أعطيت دورك لإنسان أشدّ منك حاجة، أنا أضرب هذه الأمثلة لأن..﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ أي العمل الصالح مهما تناهى في الصغر، الخصلة في الإنسان مهما دَقَّت، الحسنة مهما ضؤلت؛ بالمقابل الموقف السيئ، السيئة، الخصلة السيئة مهما ظننتها صغيرة، إذا أصررت عليها فليست صغيرة، إنها كبيرة..﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ أي جزء من حبة الخردل، وحبة الخردل لا وزن لها، وإذا كان لها وزنٌ لا يرجح بها الميزان، نحن مع المثال القرآني الكريم، المثال طريقةٌ رائعةٌ في التعبير، والله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم ضرب الأمثال، لا زلنا مع هذا المثل الرائع الذي ساقه الله عزَّ وجل تعبيراً عن علمه، وعن قدرته، قال: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ لك رزقٌ في حجم حبةٍ خردل لا بدَّ من أن يصل إليك. 

 

رزق الإنسان لو كان يعدل حبة خردل لجاء الله بها إليه:


بعض المفسرين قالوا: ما دام الله عزَّ وجل ذكر على لسان سيدنا لقمان وصيةً حكيمةً رائعةً، يقول فيها: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ اتبع سبيل من أناب إليّ.. الزم أهل الحق..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾

[ سورة التوبة  ]

قد يقول قائل: أنا مشغول، أنا مشغولٌ في طلب الرزق، من أين أطعم عيالي؟ من أين آتي برزقهم؟ ماذا نأكل؟ أين أسكن؟ كيف أتزوج لا بيت عندي؟ ليس في يدي عملٌ له دخلٌ وفير، أي إذا جاء الأمر الإلهي من خلال وصية سيدنا لقمان..﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ قد يقول قائل: أنا مشغولٌ بطلب الرزق، جاء الجواب: لو أن رزقك يعدل حبة خردل لجاء الله بها إليك، هذا معنى ثانٍ، لو أن لك رزقاً في حجم حبة الخردل لساقها الله إليك، هذا المعنى ورد في القرطبي، ما دام الله عزَّ وجل يقول: ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ أي الزم أهل الحق، احضر مجالس العلم، تفهَّم كلام الله عزَّ وجل، تفهم سنة نبيه، تفهم أحكام الفقه، اتلُ القرآن، تفقَّه في القرآن، هذا كله يحتاج إلى وقت، وإلى وقت للمواصلات، ووقت للجلوس، ووقت للصلاة، لا بدَّ من أن تستهلك وقتاً في معرفة الله عزَّ وجل، ومعرفة أمره، هذا الوقت الذي تستهلكه إيَّاك أن تقول: أنا لست فارغاً، أنا مشغول في طلب الرزق، جاء الجواب: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ .. إذاً: كلمة: ﴿حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ إما أنها تعني الحسنة مهما صغرت، أو السيئة مهما تضاءلت، أو الرزق مهما دَقَّ، هذا المثل إلى أي شيءٍ يصل بنا؟ قال: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ لو أن هذه الحبة الدقيقة التي قد لا ترى بالعين، والتي قد لا يرجِحُ بها ميزان، لو أن هذه الحبة الدقيقة كانت في جوف صخرةٍ فهي في حرزٍ حريز، وفي خفاءٍ عن الأعين، لا يوجد مكان أشدّ تحصيناً، وأشدّ احترازاً، وأشدّ خفاء من أن تكون هذه الحبة من الخردل في جوف صخرةٍ، لا يعلمها أحد.

 

الشيء بين الرؤية والتناول:


﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ﴾ ..هنا شيئان، قد يكون الشيء في متناول يديك، ولكنك لا تراه، وقد تراه، ولكن ليس في متناول يديك، حالتان دقيقتان، قد تقع قطعة معدنٍ صغيرةٍ جداً وسط آلة، ولا تملك وسيلةٍ لالتقاطها، هي في متناول يديك، ولكنك لا تملك أن تلتقطها، وقد ترى شيئاً واضحاً تماماً، ولكنه ليس في متناول يديك، أي هذه الحبة من الخردل لو أنها إلى جانبك، ولكن في صخرةٍ، في خفاءٍ عنك، إنك لا تراها، لكن الله يراها، الله عليم، أو أن هذه الحبة من الخردل على القمر، وقد نُقِلَت لك صورتها، إنك لن تستطيع أن تصل إليه إلا بأجهزة معقدةٍ جداً، إذاً: إما أن تكون قريبةً منك، ولكن في خفاءٍ عنك، وإما أن تكون بعيدةً عنك لا تطولها يداك، الله سبحانه وتعالى عليمٌ قدير، هذا للتعليم. 

 

لن تستقيم إلا إذا أيقنتَ بعلم الله:


أنت لن تستقيم على أمر الله عزَّ وجل إلا إذا أيقنت أنه يعلم، ولن تستقيم على أمر الله عزَّ وجل إلا إذا أيقنت أنه مع علمه يطولك بقدرته، يطولك بعلمه، ويطولك بقدرته، وحينما قال الله عزَّ وجل: 

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق  ]

أي اختار من بين أسمائه كلها التسعة والتسعين اسمين اثنين، القدرة والعلم، إذا أيقنت أنه يعلم، إذا أيقنت أنه يقدر، يعلم ويقدر، كيف تعصيه؟ إن كان يعلم ولا يقدر قد تعصيه، شخص أصدر قراراً وأنت أقوى منه، فإذا خالفت هذا القرار أمامه، هو يعلم أنك تخالفه، ولكن لا يقدر على أن يوقع فيك عقوبة، إذاً تخالفه، إذا كان يعلم ولا يقدر تخالفه، وإذا أصدر إنسان قراراً وهو يقدر أن يعاقبك، ولكن خالفته في مكانٍ لا يطولك علمه تعصيه، راقب نفسك أنت متى تخالف؟ إذا أيقنت أن علم هذا الآمر لا يطولك، أو أن قدرته لا تطولك، أما إذا أيقنت أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك فلا يمكن أن تعصيه. 

الطريق مثلاً مراقب بالرادار، فإذا تجاوزت السرعة المقررة التُقطت لك صورة، ولست قوياً تستطيع أن تتفادى هذه المخالفة، إنك أضعف ممن سيوقع بك العقوبة، إذا أيقنت أنه يعلم، وأنه يقدر لا يمكن أن تعصيه..﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا﴾ علَّةَ خلق السماوات والأرض أن تعلموا، لذلك العلم هو الطريقُ الوحيدُ الموصل إلى الله عزَّ وجل، ليس هناك من طريقٍ آخر، العلم هو القيمة الوحيدة التي اعتمدها الله في القرآن الكريم، وجعلها قيمةً مرجحةً بين خلقه، قال تعالى:

﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)﴾

[ سورة الزمر  ]

إذاً ماذا أراد الله بهذا المثل؟ ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ تطولها يدك، لكنك لا تعْلمها..﴿أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ يطولها علمك، ولكن لا تقدر أن تصل إليها، لكن الله يعلم ويقدر، يا بني إنها حسناتك، سيئاتك، أرزاقك.

 

لا يضيع شيء عند الله تعالى:


﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ ..إن كانت حسنةً يأتي بها ليجزيك عليها، وإن كانت سيئةً يأتي بها ليجازيك عليها، وإن كان رزقاً يأتي به إليك، لكن سياق الآيات ما دام الله عزَّ وجل أمرنا أن نتبع سبيل من أناب إليه لا ينبغي أن نحتجَّ بضيق الوقت أو بكسب أرزاقنا، لأن الرزق يصل إليك، بل إن الرزق مما تكفَّل الله به. 

 

الأرزاق مضمونة فاشتغلوا باتباع سبيل الله:


نقطةٌ مهمةٌ جداً؛ شيئان أحدهما تكفل الله لك به، والثاني أمرك به، الأول: لا يحتاج إلى همّ كبير، ولا إلى جهدٍ كبير، ولا إلى قلق، ولا إلى انشغال بال، الثاني: يحتاج إلى سعي منك، الرزق تكفَّل الله لك به، والسعي في طلب الآخرة تركه لك، قال تعالى: 

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾

[ سورة النجم  ]

ليس لك إلا ما سعيت، أما الأول:

﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)﴾

[ سورة الذاريات ]

﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)﴾

[ سورة الذاريات ]

﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)﴾

[ سورة الزمر ]

آياتٌ كثيرة تكَفَّلت بأرزاقنا، وآياتٌ كثيرة حثتنا على العمل من أجل الآخرة.

  

لا تشتغلوا بالمضمون لكم وتتركوا ما وجب عليكم:


ما قولكم بإنسانٍ عكس الآية؟ الذي طُلِبَ منه تركه، والذي ضُمِنَ له سعى إليه، طالب داخلي في مدرسة ثانوية داخلية، مُكلف أن يدرس، قاعة المطالعة مجهزة بالوسائل المريحة، بالإضاءة، بالمكتبة، بالمقاعد الوثيرة، بالمناضد المستوية، بالماء البارد، والإدارة تكفَّلت بتقديم الطعام الجيِّد النفيس في أوقات محددة، فهذا الطالب بدل أن يقبع في غرفة المطالعة ليدرس ما طلب منه، توجَّه إلى المطبخ، وسأل: ماذا فعلتم بالشيء الفلاني؟ هل أنجزتم هذا الطعام؟ هذا الطعام موكولٌ إلى غيرك، وقد تكفِّل لك به، وأنت عليك أن تدرس، ترك ما طُلِب منه، واشتغل بما ضمن له، هذا مرض المسلمين، تركوا ما طلب منهم، واشتغلوا بما ضُمِن لهم، فالمؤمن ينطلق ساعياً فيما طُلِبَ منه، ويتَّكِلُ على ما ضمن له، طبعاً الاتكال لا يعني ألا تسعى، ولكن يعني ألا تنسحق من أجل الرزق، يعني ألا تعصي الله من أجل الرزق، تعني ألا تنسى الآخرة من أجل الرزق، هذه المعاني المستنبطة من قوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ ، إذاً أي عملٍ تعمله سُجِّل لك، أي سيئةٍ تقترفها سُجِّلَت، لذلك إذا أيقنت أن الله يعلم، وأنه يقدر، لابدَّ من أن تستقيم.

 

عدم الاستقامة دليل على خلل في العقيدة:


السؤال الآن: إن لم تكن مستقيماً فما تفسير ذلك؟ إن لم تكن مستقيماً فاعلم علم اليقين أن هناك خللاً في عقيدتك، إن لم تكن مستقيماً يجب أن تعلم أن إيمانك بعلم الله ضعيف، وأن إيمانك بقدرته ضعيف، جدد إيمانك، لأن الإيمان الذي لا يعقبه عملٌ لا قيمة له، بل إن حجم الإيمان لا يُعَدُّ كافياً إلا إذا حملك على طاعة الله، حجم إيمانك، إن كان للإيمان حجم، إذا أردنا أن نقيس الإيمان بوحدات، وحدات الإيمان لا تغدو كافيةً منجِّيةً إلا إذا حملتك على طاعة الله عزَّ وجل، هذا المعنى المستفاد من قوله تعالى: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ ..أي يعلم من دون أن تشعر، إذا أراد الإنسان أن يعلم أوقع فيك الخوف، راقبك، الله سبحانه وتعالى لطيف، يعلم من دون أن تشعر، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، يعلم السر، يعلم ما خفي عنك، يعلم ما أعلنت، يعلم ما أسررت، يعلم دبيب النملة السمراء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، يعلم ما في أعماق البحار، يعلم ما في أقطار السماوات والأرض، إذا آمنت بعلم الله عزَّ وجل، وآمنت بقدرته، حملك إيمانك هذا على طاعته، ماذا تنتظر إذاً ؟ ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ .

 

الجانب العملي من وصية لقمان لابنه:


 إذاً:﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ .. ليس لك إلا الله، هو العليم وهو القدير، وإليه المصير، ماذا تنتظر؟ لابدَّ من أن تقيم علاقةً طيبةً معه، لابدَّ من حسن علاقةٍ مع هذا الخالق العظيم، ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ ، الأمر كله بيده، والمصير إليه، وعلمه مطلق، وقدرته مطلقة، وأمرك إليه، بيده ملكوت السماوات والأرض، إذاً: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ اتصل معه. 

أحياناً حديث عادي بيد من الأمر؟ إذاً: زُره، لك قضية عنده، لك قضية بهذه الدائرة، من الرجل القوي بهذه الدائرة؟ من بيده التوقيع؟ من الذي يقرر؟ من صاحب القرار؟ فلان، إذاً: زُر فلاناً، الاستنتاج منطقي، ما دام الله يعلم، وقدير، وبيده كل شيء، إذاً: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ إياك أن تتجه إلى غيره، إياك أن تنصرف إلى سواه، إياك أن تعلق الآمال على إنسانٍ مثلك ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ﴾ .

 

الحكمة من اقتران إقامة الصلاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:


لماذا قال الله عزَّ وجل: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ .. لِمَ لمْ يقل: أقم الصلاة، وآتِ الزكاة، وصم رمضان، وحج البيت؟ لمَ جاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد إقامة الصلاة؟ قال: لأنك بالصلاة تصلح شأنك، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصلح غيرك، ولن تستطيع أن تصلح غيرك إلا إذا أصلحت شأنك، إذاً أقم الصلاة لإصلاح ذاتك، ثم ائمر بالمعروف، وانْهَ عن المنكر لإصلاح غيرك، المؤمن كالوعاء، إذا امتلأ الوعاء لابدَّ من أن يفيض، فإذا لم يفض معنى ذلك لم يمتلئ بعد، مؤمن عرف الله عزَّ وجل، ذاق طعم قربه، ذاق حلاوة الإيمان، ذاق حلاوة التيسير في الحياة الدنيا، شعر بالأُنس ويبقى ساكتاً!! مالي وللناس، لا، مستحيل، ما دمت قد عرفت الله عزَّ وجل لابدَّ من أن تذكره كما ذكرك، لابدَّ من أن تُعَرِّفَ به كما عُرِّفْتَ به، لابدَّ من أن تهدي الآخرين كما هُدِيت إليه، إذا امتلأ الوعاء لابدَّ من أن يفيض، أن يفيض الوعاء هذا دليل امتلائه، فإن لم يفِضْ هذا دليل عدم امتلائه، إذاً: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ِ﴾ كلمة: (ليس لي علاقة) ، كلمة: (ما لي وله)، (له رب يحاسبه) ، (لا أحب أن أدخل في أشياء تتعبني) ، (دعِ الناس للناس) ، هذا كلام إبليس، يجب أن تحاول أن تهدي الآخرين، أهلك، زوجك، أولادك، جيرانك، أقرباءك، زملاءك في العمل، إنسان توسَّمت فيه الخير، لأنك مأمور بذلك.

 

تعريفٌ بالمعروف والمنكر:


﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ ..المعروف هو ما شرعه الله عزَّ وجل من طاعات وأوامر، والمنكر ما نهى الله عنه، المعروف والمنكر هو الشرع الحكيم، لكن ما دام الإنسان مخيراً، وما دام بين الحق والباطل معركةٌ أبديةٌ أزلية، قديمةٌ قِدَمِ الإنسان، مستمرة إلى نهاية الدوران، فلابدَّ لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من أن يعارض، ومن أن توضع العقبات أمامه، لابدَّ من أن يحارب، لابدَّ من أن يُتَّهم، لا بدَّ من أن يُكاد له. 

 

الناس معادن ومشارب مختلفة:


إذاً: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ لأنك إذا واجهت الصِعاب، واجهت المشاق، كَبُرْتَ عند الله عزَّ وجل، الشيء الذي يأتيك بسهولة لا قيمة له، الله عزَّ وجل لابدَّ من أن يمتحنك، لابدَّ من أن يمتحن صدقك في طلب الحق، لابدَّ من أن يمتحن صدقك في طلب الهداية للناس، لابدَّ من أن يمتحن مقدار ما تتحمَّل في سبيل الله، إذاً: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ ..الناس معادن، هناك معدن لا يتأثر لا بالأحماض، ولا بالحرارة، وهناك معادن سريعة التأثُّر، هذا معدن خسيس، فالناس معادن، من أجل أن يظهر معدنك النفيس لابدَّ من أن تمتحن بمحكٍ دقيق، فالمحك يكشف ما إذا كان المعدن نفيساً أو خسيساً.


  لنا في الأنبياء والصحابة والصالحين أسوةٌ في الصبر:


إذاً: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ ..لك في رسول الله أسوةٌ حسنة، لك في أصحابه الكرام أسوةٌ حسنة، لك في العلماء العاملين أسوةٌ حسنة، لأنك إذا تحمَّلت المشاق في سبيل الله شعرت أن الله يحبك، وأن الله راضٍ عنك، وأنك بأعين الله عزَّ وجل، لا ترقى إلا بتحمُّل المشاق، لكن تأكَّد أن الله في النهاية سينصرك، لما دخل النبي مكة المكرمة بعد أن خذله أهل الطائف، وبعد أن شمتوا به، وبعد أن كذَّبوه، وبعد أن سخروا منه، وبعد أن آذوه، وبعد أن أغروا به سفهاءهم، وكان قد خرج من مكة يائساً من هداية أهل مكة، عاد إليها، وكأن بعض الناس قد غمزوا ولمزوا، وكان في أدنى درجة من الضعف، إن صَحَّ أن يكون للدعوة النبوية خطّ بياني، الخط البياني وصل إلى الحضيض عَقِبَ ذهابه إلى الطائف صلى الله عليه وسلم، حينما شمت به بعض الناس، ما زاد عن أن قال: إن الله ناصر نبيه، انظر إلى الثقة بالله عزَّ وجل، وأنا أقول لكم: قد يمتحن الله بعض المؤمنين، لكن اصبر، واستبشر، وتيقن أنك إذا كنت على الحق فالله معك..

﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾

[ سورة النمل ]

لماذا تتوكل ؟ لأنك على الحق، لأن الله مع الحق. 

 

النهي عن الكبر والفخر والعجب واحتقار الآخرين:


الآن: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ .. ما دام الله عزَّ وجل قد أمرك أن تأمر بالمعروف وأن تنهى عن المنكر، فإذا صَعَّرْتَ خدك، ملتَ خدك كنايةً عن الكبر والفخر والعجب واحتقار الآخرين، أي مرضٌ قبيح، مرض شنيع، مرضٌ يصيب بعض الناس، يفخر بنفسه، ويعجَب بشخصيته، وأفكاره، ومواقفه، ويرى كل الناس دونه، ويحتقر الآخرين، جمع الله عزَّ وجل كل هذه المعاني الذميمة في كلمة: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ لا تَمِل رأسك عُجْباً، وفخراً، وكبراً، واستعلاء، وغطرسةً، واحتقاراً للآخرين.


  الابتعاد عن الكبرياء والعلوّ في الدنيا:


﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ .. أي إذا جاءت الدنيا كما تشتهي إيَّاك أن تحملك الدنيا على أن ترقص طرباً..

لكل شيءٍ إذا مـا تمّ نقصــان         فـلا يغرَّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دولٌ         مـن سره زمنٌ ساءته أزمـــان

وهذه الدار لا تبقي على أحـــدٍ         ولا يــدوم على حالٍ لها شان

[ أبو البقاء الرندي ]

* * *

قال مَلِكٌ لوزيره: قل لي كلمةً إن كنت فرحاً أحزن بها وإن كنت حزيناً أفرح بها؟ قال له: كل حالٍ يزول، الدنيا تزول، لو أن إنساناً مصاب بمرض عضال، ثم يموت وينتهي هذا المرض، يزول، زوجة سيئة، لابدَّ من أن تتركها أو أن تتركك، سيأتي وقت يحصل فيه فصل، عندما أمر ربنا عز وجل من خلال وصية لقمان الحكيم أن يأمر بالمعروف وأن ينهى عن المنكر، هذا الآمر بالمعروف وهذا الناهي عن المنكر لابدَّ من أن يكون محبباً إلى الناس، متواضعاً، لطيفاً، خافض الجناح لهم، يعيش معهم، يتحسس آلامهم، يعيش مآسيهم، يعيش أفراحهم، يعيش مسرَّاتهم، لابد‍َّ من أن تكون مع الناس، لا أن تكون في برجٍ عاجي، أنت في واد والناس في واد، ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ أي لا تستخفك الدنيا، لا تفرح بها، لا تجعلها منتهى آمالك، لا تجعل الدنيا أقصى نوالك، لا، الدنيا مؤقَّتة، كن كمسافرٍ استظل بظل شجرة، كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل.


  خطورة الكِبر:


﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ .. أي كِبْرَاً، وعجباً واختيالاً، واحتقاراً..﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً﴾ أحياناً تجد شخصاً نجح في التجارة، أو نجح في وظيفته، أو نال مركزاً حسَّاساً، تجد من حركاته، وسكناته، وابتساماته، وتعليقاته اللاذعة، واستعلائه على الآخرين، تجده في مكانٍ لا تتمنى أن تكون مكانه، ماذا حصل له؟ استخفَّه هذا المنصب، أو استخفَّه هذا الدخل الكبير، أو استخفَّته هذه التجارة الواسعة، أو استخفَّه هذا المنزل الفخم، فجعل يَعْرِضُ ما عنده على الناس، ويستجدي مدحهم وثناءهم، ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ .. مختال على الناس، فخور بنفسه، أحد أصحاب النبي عليهم رضوان الله، عندما قال النبي: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ:

(( لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِهِ مثقالُ ذرَّةٍ مِن كبرٍ فقالَ رجلٌ : إنَّ الرَّجلَ يحبُّ أن يَكونَ ثوبُهُ حسنًا ونعلُهُ حسنةً ؟ فقالَ: إنَّ اللهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ الكِبْرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمْطُ النَّاسِ. ))

[ صحيح مسلم  ]

بطر الحق أن ترد الحق، أن ترفض الحق، ألا تقبل الحق، هذا كلام الله، دعك من هذا، هذا أمر الله، هذا توجيه النبي، هذه سنة رسول الله، فإذا رفضت الحق وجدت نفسك أكبر منه، وجدت أن الحق يقيِّدك، وتحبّ أن تكون طليقاً، بطر الحق أي ردّ الحق، وغمط أو غمص - بروايتين - وغمص الناس أي احتقارهم، فتعريف الكبر عند النبي عليه الصلاة والسلام بطر الحق و غمص الناس. 

  

من علامات آخر الزمان قيمة الرجل مِن متاعه:


﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ..لذلك من علامات آخر الزمان أن قيمة الرجل متاعُهُ، يستمد الإنسان الآن شخصيته من مساحة بيته، من موقع بيته، من أثاثه، من نوع ثيابه، يقول لك: هذا أجنبي، كنت ساكتاً، فهو ينبِّهك بقوله: هذه أجنبية، لا يوجد عنده شيء ثانٍ، يستمد مكانته من متاعه، من أثاثه، من أذواقه، من رحلاته، من إنفاقه..

﴿ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)﴾

[ سورة البلد ]

كلفتني هذه النزهة كذا ألف، كلفني هذا العرس كذا مئة ألف، كلفتني هذه الحفلة، هذه الوليمة، يستمد قيمته من متاعه، ومن إنفاقه.

 

أثمن شيء عند المؤمن معرفةُ الله:


أما المؤمن فهو عنده شيء ثمين جداً، عنده معرفة الله عزَّ وجل، يحدثك عن الله عزَّ وجل حديثاً مُمْتِعَاً، يستغني به عن حديث الدنيا، لذلك: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:

(( مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا فَتَفَرَّقُوا عَنْ غَيْرِ ذِكْرٍ إِلا تَفَرَّقُوا عَنْ مِثْلِ جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَجْلِسُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَة. ))

[ تخريج المسند لشعيب : إسناده صحيح على شرط مسلم  ]

ألزم نفسك أن يكون لسانك رطباً بذكر الله، أينما جلست ذَكِّر بآيةٍ كونية، بآيةٍ قرآنية، بموعظة، بحديثٍ شريف، بحكمٍ فقهي، بسيرة صحابي جليل، بسنةٍ نبوية، ذَكِّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد تنقذ إنساناً بكلمة..

﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)﴾

[ سورة إبراهيم ]

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾

[ سورة المائدة ]

أنت هل ذقت مشاعر إنسان ساهم في هداية مخلوق؟ هذا المخلوق أسس أسرة، وهذه الأسرة مؤمنة، صالحة، مستقيمة، أنجبت ذريةً صالحة، كل هذا الخير في صحيفتك، هل شعرت بهذه المشاعر؟ ابذل جهداً من أجل ذلك.

 

القصد في المشي والغض من الصوت:


قال: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ .. القصد هو الاعتدال، لا تمش في الأرض متطامناً، ذليلاً، خانعاً، ولا تمش مفتخراً، مختالاً، متكبراً، بين أن تكون خانعاً وبين أن تكون متعجرفاً، ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ اقصد حد الاعتدال في مشيك، في ركوب مركبتك، في حركاتك، في سكناتك، لا تكن متعجرفاً، لا تصعر خدك للناس، ولا تكن ذليلاً تسارع إلى تقبيل أرجلهم بلا سبب، لا، ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ كن بين هذا وذاك..﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ ..لا ترفع صوتك، لأن الصوت المرتفع من دون سبب، من دون مبرر مذمةٌ بالإنسان، حتى لو دعوت الله عزَّ وجل، إنك لا تدعو أصماً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، الدعاء من آدابه أن يكون بصوتٍ معتدل، إن الله لا يحب المعتدين في الدعاء. 

 

احذرْ أن تكون ممّن يشبه هذا المُمَثَّلَ به:


إذاً:﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ .. الله عزَّ وجل ضرب هذا المثل لئلا ينساق الإنسان وراء صوته الجهوري، وراء حبال صوته المرتفعة، ليصيح بالناس، ليوقع فيهم الخوف، أو الفزع، أو الاستغراب..﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصوْتُ الْحَمِيرِ﴾ ، وفي مثل آخر قال ربنا عزَّ وجل:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)﴾

[  سورة الجمعة  ]

أي لا تكن علاقتك بكتاب الله عزَّ وجل علاقة حَمْل من دون فهمٍ، افهم كلام الله، ولا يكن صوتك مرتفعاً، صيَّاحاً، صَخَّاباً، طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن صيَّاحاً، ولا صخّاباً، ولا فاحشاً، كان ليّن العريكة، كان جَمَّ التواضع، كان وافر الأدب، يبدأ الناس بالسلام، ينصرف بكله إلى محدثه صغيراً كان أو كبيراً، يجلس مع العبد والخادم، يقضي حاجة الضعيف والبائس، استوقفته امرأةٌ فوقف معها طويلاً تكلمه في حاجتها، قال عدي: "والله ما هذا بأمر مَلِك إنه نبيٌ مرسل" . ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾


المؤمن يُعرَف من خُلُقه الحسن:


هذه آدابٌ عاليةٌ جداً، أي المؤمن في حركاته، وسكناته، في أخلاقه، في مواقفه، في تصرُّفاته متميِّز، إيَّاك أن يعرفك الناس من صلاتك فقط، يجب أن يعرفوك لا من صلاتك فقط؛ من تعاملك، من حديثك، من لهوك، لهو بريء، من مزاحك، مزاح لطيف لا يجرح أحداً، من أقوالك، من أفعالك، من إتقان عملك، من حرفتك، من مهنتك، من جيرتك، يجب أن تُعْرَفَ لا من صلاتك أنك مسلم، يجب أن تعرف من معاملتك، إذا عُرِفت من معاملتك أحبَّ الناس صلاتك، أما إذا رأوك تصلي وتسيء إليهم كره الناس صلاتك، وكرهوا مع صلاتك دينك، ونَفَّرْتَ من الدين، فأنت إما أن تكون داعية ؛ وإما أن تكون منفِّراً، بأخلاقك العلية تجذب الناس إليك، وبالأخلاق الفَظَّةِ الغليظة تبعد الناس عنك، وإذا بعدوا عنك بعدوا عن دينك، وعن صلاتك.

 

من قواصم الظهر:

 

1 ـ الجمعُ بين المَظهَر الديني والسلوك المنفِّر:

إنّ أخطر إنسان في المجتمع هو الإنسان الذي له مظهر ديني، أو هوية دينية، أو خلفية دينية، أو انتماء ديني، ويسيء إلى الناس، هذا أخطر إنسان، لأنه مِعْوَلٌ يُهدم به الدين، وأهل الدنيا يسلِّطون الأضواء كلها على المؤمن، فإذا تَنَفَّسَ، قال: تنفس، نعم تنفس، مؤمن يريد أن يتنفس، فإذا أكل، فكيف إذا فعل المنكرات؟! أي إذا مارس حياته الطبيعية يراقبونه ويحسبون عليه أنفاسه فكيف لو فعل السيِّئات؟ يُشَهِّرُون به، ويجعلون من دينه خرافةً، أنت على ثغرةٍ من ثُغَرِ الإسلام فلا يؤتيَنّ من قِبلك، أنت حارس، أنت سفير تمثل هذا الدين، يجب أن يعرفك الناس بالتعامل، بالصدق، بالأمانة، بالتواضع، بالإنصاف، إيَّاك أن تقيس الناس بمقياسين.

2 ـ ازدواجية المعايير في التعامل:

ما من شيءٍ أقبح منظراً من أن يمشي الإنسان عارياً كما خلقه الله، الإنسان وهو عارٍ بشعٌ جداً، وليس أقل بشاعةً فيما لو استعمل مقياسين في وقتٍ واحد، أي عامل زوجة ابنه بمقياس، وعامل ابنته بمقياس، هذه ابنته ذنبها مغفور، أما زوجة ابنه فلا يغفر لها ذنب، أن تقيس موضوعاً واحداً بمقياسين، ابنك في المحل التجاري إذا حمل شيئاً ثقيلاً تصيح به، تقول: أخاف على ظهرك يا بني، ضع هذا الحمل، وعندك صانعٌ في سن ابنك، تقول له: احمل، أنت شاب، ألا تستحي من الله عزَّ وجل أن تعامل ابنك بطريقةٍ وابن الناس بطريقة؟ أأنت مؤمن؟ لا ورب الكعبة، إن لم تعامل الناس جميعاً بمقياسٍ واحد، قال: يتيم عندي يا رسول الله أأضربه؟ قال له: نعم (ضمن مقياس) قال له: اضربه مما تضرب منه ولدك، إذا فعل ابنك فعلاً يستحق الضرب، وفعل هذا اليتيم فعلاً مشابهاً، اضرب هذا اليتيم لأنه لو فعل ابنك مثلما فعل لضربته، هذا المقياس. أنت بائع، يأتي إنسان كبير ناضج تحسب له حسابًا، تعطيه أجود بضاعة بسعر معتدل، تأتي امرأةٌ ضعيفة فقيرة تستغل ضعفها، وفقرها، وجهالتها، وتبيعها أسوأ بضاعة بأعلى سعر، وأنت مؤمن! فإذا أذن المؤذن توجهت إلى المسجد أهذا هو الدين؟ جاءك طفلٌ صغير فبعته أسوأ بضاعة بأغلى سعر، وجاءك الكبير فحسبت له حساباً، ليس هذا هو الإيمان، يجب أن تعرف بمعاملتك، باستقامتك، بطهرك، بتواضعك، بإنصافك، بإعطاء كل ذي حق حقه، حتى يرضى الله عنك، حتى تكون سفيراً لهذا الدين، حتى تكون داعيةً صادقاً له.

 

الدعوة بالصمت والسلوك:


أنا أقول لك مرةً ثالثة ورابعة وخامسة: يمكن أن تكون أكبر داعيةٍ في الأرض وأنت ساكت، بدون أي كلمة، بمعاملتك، بمواقفك المُشَرِّفَة، بمواقفك الأخلاقية، بمواقفك المُنصفة، هذا هو الدين، إنسان يرفع الدين بنظر الناس إلى السماء، وإنسان يضعه في الوحل، وكلاهما يصلي، هذا في كذبه واحتياله وغِشِّه جعل الدين في الوحل، وهو لا يدري، وهذا باستقامته وصدقه جعل الدين في السماء وهو لا يشعر.

 

التفكّر في الكون:


﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .. أنت المخلوق الأول، أنت المخلوق المُكَرَّم، ماذا أقول لك؟ ألست مصدقاً أن كل هذه السماوات من أجلك؟ ما موقفك؟ ما رد فعلك؟ ما شعورك تجاه هذا الخالق العظيم؟ مجرة تبعد عنا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية مسخرةٌ لك، الشمس، القمر، الهواء، النبات، الأطيار، الأسماك، أنواع الفواكه والخضراوات، قال لي أحد الإخوة الأكارم زار معرض فراشات في بلد أجنبي قال: والله دُهِشْت، عشرات الألوف بل مئات الألوف من أنواع الفراشات ذات الألوان الزاهية التي تحار لها العقول، كلها خلقت من أجلنا كي نُمَتع بها أبصارنا. 

عند صديقي كتاب، ثمانية عشر مجلداً، كل مجلدٍ يزيد عن أربعمئة صفحة، في كل صفحةٍ صورةٌ لزهرةٍ أساسها من الأبصال فقط، أنواع الأبصال التي تنبت الأزهار من أجل ماذا؟  من أجل أن نأكلها؟ لا والله.

يروى أن إنساناً أعطى دابة وردة لتشمها، فأكلتها الدابة. كم نوعاً من النبات المخلوق من أجل أن تمتع نظرك به فقط؟! من أجل رائحته؟﴿أَلَمْ تَرَوْا﴾ أصوات العصافير ألا تكفي؟ أسماك الزينة، لمن خلقت هذه؟ أسماك الطعام بحث آخر؟ أسماك الزينة شيء يحيِّر العقول، عند بائعي أحواض الأسماك، سمك أسود فاحم، سمك فسفوري، سمك شفاف، سمك صغير، سمك مُجَنَّح، سمك بَيْضَوي، أنواع الأسماك، أنواع الأطيار، أنواع البلابل، هذا كلُّه من أجل أن تُمَتِّعَ سمعك وبصرك، ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ﴾ ، ﴿لَكُمْ﴾ ، أي خصيصاً لكم.. ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ .. هذا الماء، هذا الماء الشفاف، لا لون، لا طعم، لا رائحة، انسيابي، نفوذ، تبخره بدرجات منخفضة، غليانه ثابت، هذا الهواء ليس له حجم، الهواء بيننا، لكن لا يحجبنا عن بعضنا، لكنه من القوة أنه يحمل طائرة وزنها ثلاثمئة وخمسين طناً، من أين هذا الهواء؟ هذا الهواء الذي بيننا، لا يحجبنا عن بعضنا، يحمل طائرةً تزن ثلاثمئة وخمسين طنًّا، إذاً شيء مهمّ، هذا الماء اللطيف إذا أراد أن يتمدد – مجازاً-ـ كما قال الله عزَّ وجل:

﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)﴾

[ سورة الكهف ]

هذا الماء إذا أراد أن يتمدد لا يستطيع معدنٌ من أقسى المعادن في الأرض أن يقف في وجهه، بل إنّ طريقة شقّ الصخور الآن تكون بثقب في الصخر وإملائه بالماء، ثم يبرد الماء، فالصخر ينشق ويتصدَّع، هذا الماء إذا أراد أن يتمدد بفعل البرودة الشديدة لا يمكن لمعدنٍ مهما قسا في الأرض أن يقف في وجهه، لذلك محرك سيارة أحياناً ينشق، إذا كان الماء ليس فيه مادة مضادة للتجمُّد، إذا ذهبت إلى فلندا، الحرارة هناك سبعون تحت الصفر في الشتاء، أعلى درجة قرئت في البرودة سبعون تحت الصفر، فأنت بإمكانك أن تضع ليديك أشياء تقيها البرد، ليديك، وأذنيك، ورأسك، وكل شيء، إلا العينين ترى بهما الطريق، ليس بإمكانك أن تضع فوقهما شيئاً تحفظهما من البرد، وفي العين ماء، كيف لا يتجمد ماء العين؟ قال: إنّ الله عزَّ وجل أودع في ماء العين مادةً مضادةً للتجمد، حتى لا يفقد الإنسان بصره إذا كان في بلد شديد البرودة، هذا الماء، جاؤوا بمكبس يزن ثمانين طناً، وضعوا متراً مكعباً من الماء، وضغطوا، لم تتمكن ثمانون طنًّا أن تضغط هذا المتر مكعب ولا مليمتراً واحداً، الماء لا ينضغط، أساس الهيدروليك أن السائل لا ينضغط، فتنتقل الحركة من مكان إلى آخر. إذاً: هذا الماء، هذا الهواء، هذه الأطيار، هذه الأسماك، هذه الأزهار، هذه الأفلاك، البحار، البحر أزرق، النبات أخضر، السماء زرقاء، الأزهار حمراء وصفراء، ما هذا؟ قال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾ .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور