وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 4 - سورة الأنبياء - تفسير الآيات 19 - 25 أهمية علم التوحيد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .


  الملائكة في عبادة دائمة لله عز وجل :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الرابع من سورة الأنبياء .

يقول الله سبحانه وتعالى في الآية التاسعة عشرة من هذه السورة : ﴿ وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ .. هؤلاء الذين عنده الملائكة يسبحونه بالليل والنهار ، لا يسأمون ، ولا يستكبرون ، ولا يستحسرون ، معنى ذلك أن الإنسان إذا سَبَّحَ الله سبحانه وتعالى دخل في سعادةٍ لا توصف ، إذا دخل في هذه السعادة لن يتكبَّر عليها ، ولم يسأم منها ، ولم يستحسر عليها ، حينما يعمل الإنسان عملاً لا جدوى منه ، حينما يُقَدِّمَ جهداً كبيراً ليأخذ مردوداً صغيراً يستحسر ، يتحسَّر على الوقت الذي بذله من أجله ، يتحسر على الوقت ، وعلى الجهد ، وعلى المال ، الإنسان متى يستحسر ؟ إذا رأى المردود أقلَّ من الجُهد ، إذا رأى النتائج أقلَّ من المُقَدِّمات ، إذا رأى الأرباح أقلَّ من رأس المال ، عندئذٍ يستحسر ، فهؤلاء الملائكة يسبحون الليل والنهار ، لا يفترون ، لا يستكبرون ، لا يستحسرون ، لا يسأمون ، وكأن الله سبحانه وتعالى بهذه الآية يدعونا بشكلٍ غير مباشر إلى أن نسبِّحه ، فإذا سبَّحناه لن نستحسر على هذا التسبيح ، ولن نسأم هذا التسبيح ، ولن نستكبر على هذا التسبيح . 

 

معنى التسبيح :


 والتسبيح هو التنزيه ، والتسبيح هو التمجيد ، من معاني التسبيح أن تنزِّه الله عن كل صفةٍ لا تليق به ، وعن كل حالٍ لا يليق به ، الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء ، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك ، الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار ، الله سبحانه وتعالى صَمَد . 

﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) ﴾

[ سورة الإخلاص ]

 

أهمية علم التوحيد :


لذلك علم التوحيد علمٌ مهمٌ جداً في الدين ، بل إن رأس العلومِ كلِّها علم التوحيد ، لأنك إذا عرفت الله عرفت كل شيء ، " ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحبّ إليك من كل شيء "

أحياناً يتعَرَّف الإنسان على شخص له مكانة ، على جانب من العلم ، على جانب من الكَرَم ، على جانب من الحكمة ، تراه غارقاً في سعادةٍ لا توصف ، لأنه تعرّف إليه ، فكيف إذا عرف الله سبحانه وتعالى ؟ إذا عرف عن أسمائه الحسنى ، وعرف عن صفاته الفُضلى ، إذا عرف عن جلاله ، وعن كرمه ، إذا عرف عن جماله ، وعن غناه ، وعن قدرته ؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :  

(( إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا ، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا ، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ . ))

[ متفق عليه ]

 معنى  : ((مَنْ أَحْصَاهَا )) أي من عرفها اسْماً اسماً ، فمعرفة أسماء الله الحسنى جزءٌ أساسيٌ من الدين ، بل جزءٌ أساسيٌ من علم العقيدة ، وفي كل كتب علم التوحيد وكتب علم العقيدة فصلٌ كبيرٌ جداً عن أسماء الله الحسنى ، وأنت امتحن نفسك ، قل :  ماذا تعرف عن اسم الرحيم ؟ ما الدلائل والوقائع والمعلومات والمشاهدات التي تؤكِّد اسم الرحيم ؟ الله سبحانه وتعالى رحيم ، إلى أي درجة تظنُّه رحيماً ؟ هو أرحم بالخلق من الخلق ، الله سبحانه وتعالى لطيف ، الله غني ، الله كبير ، لهذا شُرِعَ التكبير يوم العيد . .

﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)﴾

[ سورة البقرة ]

 

حقيقة الله أكبر :


ما من مسلمٍ على وجه الأرض إلا وهو في طريقه إلى المسجد ليؤدِّيَ صلاة العيد إلا ويكَبِّر ، يقول :  " الله أكبر ، الله أكبر " ، هذه كلمات قالها أصحاب رسول الله فتحوا العالم بها ، ويقولها الآن ألف مليون وهم على ما تعلمون ، لماذا ؟ لأن المسلمين اليوم يقولون :  الله أكبر ، من دون أن يروا أن الله أكبر من كل شيء ، لمجرد أن تعصي الله سبحانه وتعالى إرضاءً لمخلوق فأنت لم تر أن الله سبحان وتعالى أكبر من هذا المخلوق ، لو رأيت الله أكبر من هذا المخلوق لم تعصِ الله من أجل هذا المخلوق ، لذلك  من قال : الله أكبر ألف مرة ومرة ، وعصى الله سبحانه وتعالى ما قالها ولا مرة .

إنّ الفرق بين أصحاب رسول الله وبين المسلمين في هذا العصر كبيرٌ جداً ، أي أقوالهم تعبِّر عن إيمانهم ، ولكن أقوال المسلمين يقولون :  الله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، هذه الباقيات الصالحات لو عرفها المسلمون حق المعرفة لطاروا إلى سماوات المعرفة ، وسماوات السعادة .

فلذلك لما ربنا عز وجل يجب ألا تكون كلماتنا عادات ألفناها ، الله أكبر ، هذه الذي يطيع زوجته ، ويعصي ربه ما قال : الله أكبر ولا مرة ، ولو قالها بلسانه ألف مرة ، هذا الذي يغش ، رأى أن الربح الناتج من الغش أغلى من طاعة الله سبحانه وتعالى ، فالذي يغُش في البيع والشراء ما قال : الله أكبر ولا مرة ، ولو قالها بلسانه ألف مرة ، والذي يَدَعُ عبادةً لله عزَ وجل خوف إنسانٍ ما ، هذا ما قال :  الله أكبر ولا مرة ، ولو قالها بلسـانه ألف مرة ، الذي يدع عبادة لله خوف إنسان ما هذا ما قال : الله وأكبر ولا مرة و لو قالها بلسانه ألف مرة ، فلذلك نحن مقدمون على أيام العيد ، وفي العيد نُكّبِّر ، ويجب أن تعلموا ماذا يعني التكبير ، التكبير يعني أن الله أكبر من كل شيء ، من كل ربح ، وما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه في دينه ودنياه  .

من كل إنسان ، من كل مكسب ، من كل إنجاز ، من كل هَدَف ، هذا معنى الله أكبر.

ولها معنى آخر ، أنَّك كلما عرفت الله سبحانه وتعالى ترى أن الله عزَّ وجل أكبر مما عَرَفْتَ ، لا حدود لعظمته ، لا نهاية لجلاله ، لا نهاية لجماله ، لا نهاية لقدرته ، لا نهاية لكرمه. 

 

الله سبحانه وتعالى سميع عليم بصير :


﴿ أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ﴾ أي ما ادَّعى العرب أن هذه الآلهة تحيي الموتى ، ولكن الله سبحانه وتعالى لفت نظرهم إلى أن الإنسان إذا اتخذ إلهاً من دون الله فهل هذا الإله الذي اتخذه من دون الله قادرٌ على أن يحيي الموتى ؟ 

﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72)﴾

[  سورة الشعراء ]

الإله يجب أن يسمع ..

﴿ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)﴾

[ سورة الشعراء ]

ربنا عزَّ وجل يلفت نظرنا إلى أن الإله هكذا يجب أن يكون ، قادر على أن يحييك ، قادر على أن يشفيك ، قادر على أن يُطعمك ، قادر على أن يسقيك ، قادر على أن يسمع خَلَجَات قلبك ، سميعٌ عليم ، سميعٌ بصير ، هكذا يجب أن يكون الإله . 

﴿أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22)﴾ لو أن الله سبحانه وتعالى معه شريك لما انتظمت الحياة ، لما انتظم الكون ، لاختل نظامُ الكون ، لكانت المُنازعات ، لأن كل إلهٍ :

﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) ﴾

[  سورة المؤمنون ]

 

وحدة الكون تدل على وحدانية الخالق :


شيء آخر ؛ أنت إذا فكَّرت في آيات الله في الأرض ترى أن هناك وَحْدَةً في الكون .

 مثل نابع من حياتنا : قد تشتري دواءً مصنوعاً في بلدٍ يبعُدُ عنك عشرات الألوف من الأميال ، وقد يستعمل الدواء إنسان في قارة في طرف الأرض ، فإذا بهذه المواد الفعَّالة في الدواء تؤثِّر في بُنية هذا الجسد ، ما تفسير ذلك ؟ أن الخالق واحد ، الذي خلق الإنسان المولود في كندا هو نفسه الذي خلق الإنسان في أستراليا ، فإن إنسان أستراليا بإمكانه أن يشتري دواءً مصنوعاً في كندا مثلاً ، مع ما بين القارتين من بعدٍ شاسع ، هناك وحدة في الوجود ، بُنية الإنسان واحدة ، عاداته ، طباعه ، بُنيته النفسية ، قوانينه واحدة ..

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) ﴾

[  سورة المعارج  ]

﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) ﴾

[  سورة الأنبياء ]

﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)  ﴾

[  سورة النساء ]

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)﴾

[ سورة الأنعام ]

البُنية واحدة ، لذلك من وحدة البُنية ، ووحدة الخَلق ، ووحدة التربية ، ووحدة التسيير ، تتعرف إلى أن هناك إلهاً واحداً ، لكن كل إنسان له ملامح خاصة ، ما من مخلوقٍ إلا وله خطوطٌ في وجهه يتميَّزُ بها ، وبصماتٌ في أصابعه ينفرد بها ، ونبرة لصوته يتميَّز بها ، ونوعٌ لرائحة جسده يتفرَّد بها ، الآن مع تقدم العلوم كان العلماء يظنون أن في الإنسـان البصمة التي ينفرد بها ، كل إنسان له طبقة صوتية لا يشركه فيها أحدٌ من الناس ، من هنا تعرف على الهاتف فلاناً ، تقول له :  فلان ؟ معناها ربنا عزّ وجل أعطاك هويةً من صوتك ، أعطاك هويةً من رائحة جلدك ، كل إنسان له رائحة جلد خاصة يتميَّزُ بها ، أعطاك هويةً من تركيب دمك ، والدم في الإنسان له بنيةٌ خاصة ، أعطاك هويةً من ملامح وجهك ..

إذاً يا الله ! ستة آلاف مليون إنسان مع أن بنيتهم جميعاً متساوية ، ليس هناك إنسان واحد يشبه في ملامحه الخارجية ، ولا في نبرة صوته ، ولا في رائحة جلده ، ولا في بصمة أصابعه إنساناً آخر ، لذلك قال بعض العارفين بالله وأظنه الشيخ محي الدين رحمه الله تعالى : " والله يا رب لو تشابهت ورقتا زيتون لما سُمِّيتَ الواسع " ، فالله سبحانه وتعالى من جهةٍ واحد ، ومن جهةٍ واسع . 

 

التوحيد يريح الإنسان ويطمئن قلبه :


﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ سبحانه وتعالى أن يكون له شريك ، سبحانه وتعالى أن يكون له مُعِين :

﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)  ﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)﴾

[  سورة الكهف ]

لا يوجد غيره .

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)  ﴾

[ سورة الزم ]

وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد . . الإنسان بالتوحيد ترتاح نفسه ، ويطمئن قلبه ، وترتاح أعصابه ، بالتوحيد يدفع عنه القلق ، والخوف ، والحزن ، والسوداوية ، والتشاؤم . 

 

معاني قوله تعالى : لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ :

 

1 ـ مقام الألوهية يقتضي ألا يُسأل الله عز وجل :

﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ أي الله سبحانه وتعالى مقام الألوهية يقتضي أن أحداً من الخلق لا يستطيع أن يسأل الله سبحانه وتعالى ، مهما علا الإنسان فهو مسؤول ، لو أن هناك دائرة حكومية ، رأس هذه الدائرة يبدو للموظَّفين أنه لا يُحاسَب ، ولكن لو اطلعت على الواقع لرأيت أنَّه يخشى من هو فوقه ، مسؤول ، وكل مسؤول فوقه مسؤول ، لكن الله سبحانه وتعالى لا يُسأل عما يفعل ، مقام البشر أنهم مسؤولون . .

﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)  ﴾

[ سورة الصافات ]

مقام الألوهية أن أحداً لا يستطيع أن يسأل الله سبحانه وتعالى ، ليس معنى أن الله سبحانه وتعالى إذا كان لا يُسْأَل عما يفعل أنه ظالم ، سبحانه وتعالى هو عادل :

﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)  ﴾

[ سورة هود ]

أي هو من تلقاء ذاته أَلْزَمَ نفسه أن يكون على صراطٍ مستقيم ، الله سبحانه وتعالى ألزم نفسه برِزْقِ العباد . 

﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)﴾

[ سورة هود ]

(على) تفيد الإلزام ، إذا جاءت على في حق الله سبحانه وتعالى تفيد أنه ألزم نفسه .

﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)﴾

[ سورة النحل ]

أي الله عزَّ وجل ألزم نفسه أن يهدي العباد إلى سواء السبيل ، ألزم نفسه أن يهديهم إليه ، وأن يعرِّفَهُم به ، نَصَبَ لهم الآيات الدالة على عظمته ، بَثَّ في الأرض الآيات ، بثّ في السماء الآيات ، إذاً الله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل ، لأن هذا المقام مقام الألوهية ، وما من مخلوقٍ على وجه الأرض إلا ويسأل ؛ يُسأل ممن هو أعلى منه ، أو يسأل ممن هو أدنى منه ، يقول لك :  أخاف على سمعتي ، يسأل من أية جهة ، لذلك من شأن الإنسان أنه مسؤول ، ومن شان الله سبحانه وتعالى أنه لا يُسأل عما يفعل . 

2 ـ الله سبحانه وتعالى لعدالته وكرمه وإحسانه لا يُسأل عما يفعل :

المعنى الثاني :   هناك معنى آخر لهذه الآية ، أن الله سبحانه وتعالى لعدالته المُطلقة ، ولإحسانه الذي لا حدود له لا يُسأل عما يفعل ، لأن عدله يُسكت الألسنة ، ورحمته تسكت الألسنة ، أي إذا وزع المعلم على طلابه أوراق الامتحان ، وقد صُحِّحَت تصحيحاً متناهياً في الدقة ، ووزع عليهم السلالم ، وعرض عليهم الأوراق والعلامات ، وانتظر ، قد تمضي ساعة ولا أحد من الطلاب ينبس ببنت شفة ، لماذا ؟ لأن عدل المعلم أسكت الألسنة ، العدل يسكت ، فلفرط عدالته لا يسأل عما يفعل ، هذا معنى آخر . 

المعنى الأول :   أن مقام الألوهية يقتضي ألا يُسأل ، ولا أحد في الكون يسأله ، ليس بإمكانه أن يسأله ، وليس من حقه أن يسأله ، لأنك في مُلك الله عزَّ وجل . 

وفوق هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى لعدالته ، وكرمه ، وإحسانه ، لا يُسأل عما يفعل ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ .


  الإنسان لا يسعد إلا إذا عرف مقام العبودية :


لذلك ربنا عزَّ وجل قال على لسان سيدنا عيسى : 

﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) ﴾

[ سورة المائدة  ]

الإنسان إذا كان قد نسي الآية يكملها من عنده : فإنك أنت الغفور الرحيم ، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم ، الآية ليست كذلك ، أنت تألف أنها " فإنك أنت الغفور الرحيم " ، وهي : ﴿ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ما علاقة العزة هنا بالمغفرة ؟ قال : لأن الإنسان إذا غفر يخشى أن يُحاسب على هذه المغفرة ، لمَ لَمْ تطالب فلاناً بهذه الوثيقة ؟ لمَ تساهلت مع فلان ولم تتساهل مع فلان ؟ لمَ أعفيت فلانًا من هذا الرسم ؟ لماذا ؟ لماذا عفوت عن فلان ؟ هذا الذي يعفو محاسب ، لكن الله سبحانه وتعالى : وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ أي عزتك لا تنال ، لا يستطيع أحدٌ أن يحاسبك يا رب ، لماذا غفرت لفلان ولم تغفر لفلان ؟ فالقرآن كما قال سيدنا علي :  " حَمَّال أوجه " ، أي ذو وجوه ، فإذاً :  ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ﴾ ،  هذا مقام الألوهية ، ﴿ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾  هذا مقام العبودية ، والإنسان لا يسعد إلا إذا عرف مقام العبودية ، أنت عبدٌ لله ، ليس من شأنك أن تَحْشُرَ أنفك فيما هو من شأن الله ، أخي الله عزَّ وجل يعلم أو لا يعلم ؟ هذا من شأن الله ، الله عليمٌ حكيم ، وكلمة عليم مُطلقة ، والمُطلق على إطلاقه ، وسيدنا علي رضي الله عنه يقول :  " علم ما كان ، وعلم ما يكون ، وعلم ما سيكون ، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون " ، الله سبحانه وتعالى كيف يكون مع الخلق جميعاً في وقتٍ واحد ؟ هذا السؤال من شأن الله ، أنت عبد ، ليس من شأنك أن تحيط علماً بالله عزَّ وجل ، لا يعرف الله إلا الله ، فلذلك مقام العبودية يقتضي أن تعرف مقامك . . " رحـم الله عبداً عرف حده فوقف عنده ولم يتعدَّ طوره " .  هناك أسئلة مقبولة ، وهناك أسئلة غير مقبولة ، النبي عليه الصلاة والسلام قال :  عن أبي ذر الغفاري  : 

(( تفكَّروا في  خَلْقِ اللهِ ولا تفكَّروا في اللهِ فتَهلِكوا . ))

فلما يطرح الإنسان أسئلة متعلِّقة بذات الله يهلك ، لأن المحدود لا يستطيع أن يحيط باللامحدود ، وذو النهاية لا يستطيع أن يحيط باللانهاية ، والممكن الوجود لا يستطيع أن يحيط بالواجب الوجود ، والحادث لا يستطيع أن يحيط بالقديم ، والفاني لا يحيط بالأبدي السرمدي ، هو الأول بلا بداية ، والآخر بلا نهاية ، فالإنسان يجب أن يصنف الأسئلة لتصنيفين ، أسئلة يمكن أن تطرح ، وهذا من شأن الإنسان أن يفهمها ، وأسئلة أخرى لا يمكن أن تُطْرَح لأنها تطاولٌ على مقام العبودية ، مقام العبودية أن تقف عند هذا الحد دون أن تسأل .

 

العقل أعظم شيءٍ أودعه الله في الإنسان ولكنه ليس مؤهَّلاً ليتحكم بالعقيدة والعبادات :


﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ﴾ هاتوا برهانكم ، كأن التعامل مع الله عزَّ وجل وفق الأدلة ، وفق البراهين ، وفق الحجج ، خالق هذا العقل ، خالق المنطق ، ينبغي أن يكون في دينه المنطق كله ، العقل ، إذاً كل حكمٍ فقهي فيه دليلٌ نقلي ، وفيه دليلٌ عقلي ، خالق العقل دينه غير معقول ؟ مستحيل ، لا عقل لمن لا دين له ، ولا دين لمن لا عقل له ، " تبارك الذي قسم العقل بين عباده أشتاتاً ، إن الرجلين ليستوي عملهما ، وبرهما ، وصومهما ، وصلاتهما ، ويختلفان في العقل ، كالذرة جنب أُحُد ، وما قسم الله لعباده نصيباً أوفر من العقل واليقين "

ما دام العقل من خلقه ، والكون من خلقه ، فلابدَّ من أن يكون الكون معقولاً ، ولابدَّ من أن يكون الدليل العقلي أساساً في الإيمان ، لكن العقل على أنه أعظم شيءٍ أودعه الله فينا ليس مؤهَّلاً أن يتحكم في العقيدة ، ولا في العبادات ، لكنه مؤهَّلٌ أن يستنبط الأحكام التفصيلية من الأحكام الكلية ، العقل مسموح له أن يستنبط الأحكام الفرعية من الأدلة الأصلية ، من الكتاب والسنة ، العقل مؤهَّل لذلك ، لذلك بَرَعَ الفقهاء والمجتهدون في استنباط الأحكام التفصيلية من الأدلة الأصلية من الكتاب والسنة ، ولكن العقل لا ينبغي أن يُحَكَّمَ بالنقل ، بمعنى أن يسمح للعقل بإثبات ما صح وروده أو نفيه ، دور العقل في العقيدة أن يفهمها لا أن ينفيها ، فالعقل له حدود .

العقل ميزان ولكن الشرع ميزانٌ على الميزان ، العقل ميزان ، والشرع ميزان على الميزان ، تماماً كما لو أعطيت مسألةً رياضية ، فأنت بعقلك تَحُلُّ هذه المسألة ، ولكنه مع المسألة أعطي الجواب الصحيح ، فإذا جاء الحل مُطابقاً لهذا الجواب فالحل صحيح ، وإذا جاء الحلُّ مخالفاً لهذا الجواب فالحل غير صحيح ، إذاً الشرع ميزان على الميزان ، الإنسان من دون شرع قد يَضل ، قد يَغْتَرّ . 

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)﴾

[ سورة المدثر ]

 

الإنسان بالعقل يعرف الله عزَّ وجل وبالشرع يعبده :


العقل أيها الإخوة يشبه تماماً العَين ، بالغة التعقيد ، ولكن ما قيمتها من دون النور ؟ لو ألغي النور فجأةً هل نرى شيئاً؟ لو أن للإنسان عينين من أعلى درجة من الحساسية ، لو أطفأ الضوء هل يرى شيئاً في الغرفة ؟ كذلك العقل ، العقل جهاز فَذٌّ ، عظيم ، ما من جهازٍ أعقد من العقل في الكون ، وما من عطاءٍ أثمن من العقل في الكون ، ومع ذلك هذا العقل لا يُجدي إلا إذا كان هناك نورٌ إلهي ..

﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)  ﴾

[ سورة النور ]

﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) ﴾

[ سورة النور ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) ﴾

[ سورة الحديد ]

النور هو الهُدى ، والعقل من دون نور قد يُلْحِد ، قد يُنكر الدين ، قد يقول : هذا الكتاب ليس كلام الله ، قد يقول : إن الزنا أفضل من الزواج ، وإن السرقة أفضل من الكسب الحلال ، وهذه أوروبا أمامكم ، ألا ترى أوروبا الآن أن المتعة مهما تكن رخيصةً دنيئة فهي محببة عندهم ؟ ألم يصابوا بأمراضٍ وبيلة تفتك فيهم فتكاً ذريعاً ؟ هذا المرض العُضال- مرض الإيدز- حطَّمَهُم لماذا ؟ لأنهم اعتمدوا على عقلهم وحده في تخطيط حياتهم ، عقلهم ضَلَّ وأضل ، وأراهم أن اللَّذة هي كل شيء ، فانكبوا عليها ، فانهارت علاقاتهم الاجتماعية ، وانهارت قِيَمَهُم الأخلاقية ، وتحطَّمت الأسر عندهم ، وأصبحت حياتهم كالبهائم ، أحد الكتاب وصف أوروبا فقال :  " أوروبا عقلها من ذهب وقلبها من حديد " ، نفوس مُقْفِرَة من القِيَم ، لماذا ؟ لأنهم يبنون سعادتهم عل أنقاض الآخرين ، يبنون رفاه شعوبهم على جوع الشعوب الأخرى ، وعلى فقرها ، وعلى تدميرها ، إذاً هم ليسوا مُثُلاً عليا في الحياة .

 فيا أيها الإخوة الأكارم ؛ العقل وحده من دون الهدى لا يكفي ، العقل وحده قد يهتدي ، وقد يضل ، ولكن الشرع هو الحصن الحصين ، الإنسان بالعقل يعرف الله عزَّ وجل وبالشرع يعبده ، ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾ أي التعامل مع الله بالبرهان . .

﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)﴾

[  سورة المؤمنون ]

 

الأدلة إما عقلية أو نقلية أو واقعية أو تاريخية :


﴿ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ يوجد دليل عقلي ، ودليل نقلي ، ودليل واقعي ، ودليل تاريخي .. ﴿ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ﴾ هذا دليل تاريخي ، ﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ إذاً الإعراض يأتي من الجهل ، إذا لم يعرف الإنسان قيمة هذه الجوهرة يعرض عنها ، أو يرميها في الأرض ، لكنه إذا عرف قيمتها يَحْرَصُ عليها حرصاً شديداً ، فالحرص سببه المعرفة .

 

نهاية العلم التوحيد ونهاية العمل العبادة :


﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ .. والله هذه الآية من أدق الآيات ، لو أننا كلفنا إنساناً يقرأ الإنجيل ، والتوراة ، والزبور ، والقرآن الكريم ، وهذه الكُتُب السماوية الأربع يضغطها في سطرٍ واحد كلّها ، ربنا عزَّ وجل لَخَّصَ في هذه الآية جميع الرسالات السماوية .. ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي ﴾ نقطتان ﴿ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل العبادة ، فإذا عرفت أن الله وحده لا شريك له ليس معقولاً أن تطيع مخلوقاً وتعصيه ، أمرك كله بيده ، صحتك بيده ، زوجتك بيده ، بيده مستقبلك ، أولادك بيده ، جيرانك بيده ، رؤساؤك بيده ، مرؤوسوك بيده ، زبائنك بيده ، أقرباؤك بيده ، أعضاؤك ، قلبك ، الدسام بالقلب ، الشرايين التاجية بيده ، الكليتان ، أخي هبوط مفاجئ في وظائف الكليتين ،

هذه بيد من ؟ لا سبب لها ، مرض خطير بلا سبب ، هبوط مفاجئ ، تتوقف الكليتان على التصفية ، يحتاج في كل أسبوع مرتين تصفية ، معنى هذا أن الكليتين بيده ، ومعامل كريات الدم الحمراء بيده ، يقول لك :  فقر دم لا مُصَنِّع ، مرض خطير جداً ، أي معامل كريات الدم الحمراء بلا سبب معروف تَكُفُّ فجأةً عن صنع كريات الدم الحمراء ، هذه المعامل تصنع في الثانية الواحدة مليونين ونصف مليون كرية حمراء ، هذه المعامل تَكُفُّ فجأةً عن تصنيع كـريات الدم الحمراء ، إذاً المعامل بيده .

أخي الكلية توقفت ، البنكرياس توقَّف عن عمله ، ارتفعت نسبة السكر في الدم ، حصل انسداد بالشريان بالدماغ أصيب بشلل نصفي ، هذه الجلطة الدموية بيد من ؟ من جعلها تتجمد ؟ كان الدم سائلاً ، يوجد هرمون تجلط بالكبد ، وهناك هرمون تميُّع ، من إفراز هذين الهرمونين إفرازاً متوازناً يبقى الدم بهذه الحالة السليمة ، لو أن أحد الهرمونين أفرز زيادة عن اللزوم يصبح الدم مائعاً ، فيموت الإنسان من شكة دبوس ، يموت ، ينزف دمه كله ، أو يموت من تجلط الدم ، يصبح الدم كله كالوحل في الشرايين والأوردة ، الشريان بيده ، والقلب بيده ، والتجلط بيده ، والتميُّع بيده ، وعمل الكليتين بيده ، وعمل الغدة النخامية بيده ، والدرقية هذه مشكلة ، والطحال مشكلة ..

أعرف رجلاً شاباً في ريعان الشباب ، وهو في الصف الرابع بالطب ، على مشارف التخرُّج ، حدث معه فقر دم ، نزل التعداد إلى ثلاثة ملايين بالميليمتر المكعب ، صحته طيبة ، وغذاؤه جيد ، بعثوا عيِّنة من الطحال إلى بلد أجنبي لفحصه ، الطحال له مهمة ، مهمة الطحال أن يحلل الكريات الميتة إلى عواملها الأولى ، أي ربنا اقتصادي ، هذه كريات الدم الحمراء الميتة بدل أن تلقى خارج الجسد تذهب إلى الطحال ، وتحلل إلى هيموغلوبين ، وإلى حديد ، الحديد يعاد شحنه إلى معامل كريات الدم الحمراء في نقي العظام ، والهيموغلوبين يذهب إلى الكبد ليشكِّل الصفراء ، فالصفراء والحديد الذي يرسل إلى نقي العظام هذه من أنقاض كريات الدم الحمراء .

الآن يوجد معامل لضغط الحديد ، سيارة مستعملة ، انتهى استعمالها تضغط بمكعب ، وترسل مرة ثانية إلى معامل الحديد ، وعندنا معمل في مدينة حماة من أجل أنقاض الحديد أيضاً ، فربنا عزَّ وجل جعل كل كريات الدم الحمراء الميتة تذهب إلى الطحال ، الطحال يحللها إلى حديد وإلى هيموغلوبين ، هذا الشاب الذي في ريعان الشباب طحاله يعمل بنشاطٍ أكثر مما ينبغي ، بمعنى أنه يأخذ الكرية الحمراء الميتة فيحللها ، ويأخذ الحيَّة فيميتها ، صار معه فقر دم وتوفى بهذا المرض ، مرض غريب :  زيادة نشاط الطحال .

فنحن يهددنا خمسون خطراً ، إذا توقف الطحال مشكلة ، إذا اشتغل زيادة مشكلة ، البنكرياس ، الغدة الدرقية مشكلة ، إذا زادت تعمل فرط توتر ، تعمل تبدد طاقة ، تعمل مشكلات كبيرة جداً ، وإذا كسلت تجد أن الإنسان ازداد وزنه لوزن غير طبيعي ، لأن الغذاء عندئذٍ لا يتحول إلى طاقة ، فهل يجب أن نهتم ونخاف من الدرقية ؟ أم من النخامية ؟ أم من الكظر ؟ أم من البنكرياس ؟ أم من الصفراء ؟ أم من الكبد الذي له خمسة آلاف وظيفة ؟ أم من جهاز الهضم المعقد ؟ أم من ثقب بوتال بالقلب ؟ أم من تضخم الشرايين ؟ 

طبيب شَرَّح قلباً ، القلب فيه دَسَّامات ، والدسام هو أعقد ما في القلب ، ثلاث وريقات مع انقباض الأذين تنفتح هكذا فيمر الدم ، ترجع فجأةً فتغلق الطريق إغلاقاً محكماً ، لا يوجد في الأرض أي مضخة إلا وهي مبنية أساساً على أن تسمح للماء بالمرور في اتجاه واحد ، فالقلب فيه دسامات خطيرة جداً .

طبيب صنع دسَّاماً تقليداً عرضه بمئة وخمسين ألف ليرة ، فإذا شخص تعطل دسامه يركب دساماً اصطناعياً ، يخدمه سنتين فقط ، ويحتاج بعدها لعملية ثانية ، ولدسام آخر . . على كل تفتح الوريقات هكذا ، وتغلق .

طبيب رأى في ظهر الوريقة كرية لحم صغيرة ، لماذا هذه ؟ كرية لحم في ظهر الوريقة استأصلها من حيوان فتوفى الحيوان ، هل حياة الحيوان مرتكزة على هذه الوريقة الصغيرة ؟ بقدر رأس الدبوس ، ثم اكتشف بعد ذلك أن هذه الوريقة حينما تنفتح هكذا لئلا تشكل مع جدار الشريان سطح تماس فتلتصق ، هذه الكريَّة تشكل مع الجدار نقطة تماس فتعود إلى مكانها .. 

﴿ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)  ﴾

[ سورة لقمان ]

يوجد مليون جهاز ، ومليون قضية بجسمنا ، شيء معقد جداً ، هذا الطفل عندما يولد  مفتوح بين الأذينين ثقب بوتال ، في الرحم لا يوجد تنفس ، ولا يوجد هواء ، والرئتان معطلتان ، وجهاز التنفس معطل ، إذاً القلب كيف تتم الدورة الصغرى ؟ من أذين ، من بطين ، للرئة ، للأذين ، عن طريق الرئتين ، الرئة معطلة في الرحم ، إذاً الله عزَّ وجل فتح فتحة بين الأذينين ، يمر الدم مباشرةً ، حينما يولد المولود- هكذا قال الأطباء- تأتي جلطة فتغلق هذا الثقب ، أي يد تدخل إلى الداخل وسط الأذين ؟ تأتي جلطة هكذا كتبوا ، من ربُّها ؟ من سيَّرها ؟ تغلق ، وإذا لم يغلق الثقب ؟ ربنا عزَّ وجل أعطانا أدلة ، يترك لنا كل مئة ألف حالة ، حالة واحدة اسمها داء الزرق ، طفل لونه أزرق ، الدم بدلاً من أن يذهب إلى الرئة لينقى من غاز الفحم ، ويأخذ غاز الأكسجين ، يذهب إلى الأقرب لأنه يوجد ضغط ، يوجد انقباض وهناك فتحة صغيرة ، عندما يضغط القلب عوضاً من أن يذهب الدم إلى الرئتين يذهب للأذين الثاني فيصير دمه أزرق ، يظل الطفل دائماً لونه أزرق ، أعرف صديقاً لي ابنه أصيب بهذا المرض ، توفي وهو في الثانية عشرة ، يصعد الدرج كل ثماني درجات يصعد عليهم بساعة ، لا يوجد عنده قوة على الإطلاق ، يدُ من دخلت إلى القلب فأغلقت هذا الثقب ؟ الله سبحانه وتعالى ، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ﴾ مليون جهاز بيد الله عزَّ وجل ، إذا آمنت أن يد الله عزَّ وجل ، المطابقة هل هي سهلة ؟ عدسة مرنة ، يوجد عضلات هدبية دقيقة جداً ، هذا الشكل أو هذا الجسم على مدى أربعين متراً ، كأن هذه العضلات عاقلة ، المسافة أربعون متراً ، خيال الجسم يقع خلف الشبكية ، إذاً تنضغط هذه العدسة بحيث يقع الخيال على الشبكية ، يد مَن ؟ هذه علم ، المطابقة وحدها عملٌ معجز ، وكل إنسان عنده مطابقة . 

فيا أيها الإخوة الأكارم ؛ نهاية العلم أن ترى أنه لا إله إلا الله ، ونهاية العمل أن تعبده ، نهاية العلم أن توحِّدَهُ ، ونهاية العمل أن تعبده ، فإذا جمع الله عزَّ وجل في هذه الآية فحوى رسالات الأنبياء من دون استثناء فهذه هي الآية ، أخي لخّص لي فحوى رسالات السماء كلها ؟  ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ فإذا وحدته وعبدته نجوت من عذابه ، وسعدت بقربه ، وفي جنته .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور