الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
الملائكة عباد مكرمون :
أيها الإخوة المؤمنون ؛ مع الدرس الخامس من سورة الأنبياء .
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى : ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ أي هؤلاء الذين ظنَّهم الكفَّار بنات الله ليسوا كذلك ، إنما هم عبادٌ مكرمون أي مقرَّبون ﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ ، ومعنى لا يسبقونه بالقول أي أنهم في مرتبة العبوديَّة ، فلا يقولون إلا ما يُقالُ لهم ، وهم منصاعون لأمر الله سبحانه وتعالى .. ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ أي علم الله سبحانه وتعالى محيطٌ شامل لما هم فاعلون ، بما قد فعلوا ، وما خلفهم .
كل شيء بيد الله سبحانه وتعالى :
﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ .. أي الشفاعة الزوج ، الشفعُ هو الزوج ، والشفاعة أن تضمَّ شيئاً إلى شيء ، فما من شيئين على وجه الأرض يجتمعان إلا بإذن الله سبحانه وتعالى ، ما اجتمع شيئان لنفعٍ أو ضُر إلا بإذن الله سبحانه وتعالى ، لذلك المؤمن يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله سبحانه وتعالى هو بيده كل شيء ، حتى لو أنه قد وصل إليك خيرٌ على يدِ إنسان ، أو قد استطاع إنسان أن ينالك بالأذى ، لا هذه ولا تلك من عند زيدٍ أو عُبيد ، إنما هما من أمر الله سبحانه وتعالى ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى ﴾ أي هذا الإنسان الذي يملك الخيرات بحسب الظاهر لا يستطيع أن يعطيك منها شيئاً إلا أن يأذَنَ الله ، وهذا الذي يملك القدرة على الأذى لا يستطيع أن يؤذيك إلا بعد أن يأذن الله ويرضى ، إذاً الحقيقة أن علاقتك كلَّها بيد الله سبحانه وتعالى ، لكن عن أنس بن مالك :
(( إن من الناسِ مفاتيحُ للخيرِ ، مغاليقُ للشرِ ، وإن من الناسِ مفاتيحُ للشرّ ، مغاليقُ للخيرِ ، فطوبى لمن جعلَ اللهُ مفاتيحَ الخيرِ على يديهِ ، وويلٌ لمن جعلَ الله مفاتيحَ الشرِّ على يديهِ . ))
[ السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : حسن بمجموع طرقه ]
إذاً : ﴿ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ أي من بطشه ، أو من عقابه مشفقون أي يخافون ، هذه الآيات شُرِحَت في الدرس الماضي ، وقد مررت عليها تمهيداً للآيات التي بعدها ، إذاً هؤلاء الملائكة الذين زَعَمَ كفَّار قريش ، والوثنيون أنهم بناتُ الله سبحانه وتعالى ليسوا كذلك ، إنما هم عبادٌ مكرمون أي مقرَّبون ، أوكل الله إليهم بعض المهمَّات التي تتناسب وإمكاناتهم ، وطبيعتهم ، وهم في مرتبة العبوديَّة المطلقة .
الملائكة عباد طائعون خائفون لا يعصون الله :
﴿ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ ، وهم أيضاً يخافون الله سبحانه وتعالى ، ويخشون عقابه ، والله سبحانه وتعالى مُحِيطٌ بهم إحاطةً كاملة ، ﴿ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ أي هـذا الذي يتطاول على مرتبته ، ويدَّعي أنه إله - من باب الفرضيَّة - هم لا يفعلون ذلك ، الملائكة فوق ذلك ، إنهم مُنَزَّهون ، إنهم مكرَّمون ، إنهم لا يعصون الله ما أمرهم ، ولكن فرضاً ﴿ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ أي هذا قانون ، الذي يدَّعي ما ليس له ، الذي يدَّعي الألوهيَّة ، الذي يدَّعي أن بيده أمور الناس هذا متطاولٌ على مقام الألوهيَّة ، لذلك لابدَّ من أن يُعذَّب في الدنيا والآخرة .
بعض مظاهر الإعجاز العلمي :
ربنا سبحانه وتعالى بعد هذه الآيات المتعلِّقة بالملائكة بيَّن لنا إحدى أكبر الآيات الكونيَّة قال تعالى : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ أحياناً تجر الآية جراً لتعبِّر عن نظريَّةٍ لم يتمَّ تحقيقها ، فمن النظريات - وإذا قلت : نظريَّة ، معنى ذلك أنها لم تصبح حقيقة ، إنها فرضيَّة ، النظريَّة شيء والحقيقة شيءٌ آخر - لذلك لا يمكن لحقائق الدين أن تتناقض مـع حقائق العلم ، لماذا ؟ لأن الدين من عند الله ، ولأن العلم من قوانين الله ، والإله واحد ، هذا خـَلْقه ، وهذا شرعه ، فمن المستحيل أن تجد تناقضاً بين القرآن وبين حقائق العِلم ، هذا مستحيل ، ومن عظمة القرآن الكريم ، ومن إعجازه أنه لم توجد حقيقةٌ علميَّةٌ منذ أن أُنْزِلَ هذا القرآن على النبي الكريم وحتى الآن تتناقض مع آياته ، وهذا مما يؤكِّد أن هذا الكلام كلام الله .
أي من كان يظنُّ أن الإنسان سيصعد إلى الفضاء ؟ وأن الصعود في الفضاء يسبِّب قلَّةً في الضغط الجوي وضيقاً في النفس ؟ الله سبحانه وتعالى أشار إلى هذه الآية قبل أن يغزو الإنسان الفضاء - على حدِّ قول الإنسان - وماذا غزا من الفضاء ؟ غزا ثانيةً واحدة ، بين الأرض والقمر ثانية واحدة ، بين الأرض والشمس ثماني دقائق ، طول المجموعة الشمسيَّة ثلاث عشرة ساعة ، طول مجرَّة درب التَبَّانة مئةٌ وخمسون ألف سنة ضوئيَّة ، بعض المَجَرَّات تبعد عنَّا ستة عشر ألف مليون سنة ضوئيَّة ، ماذا غزا الإنسان ؟ غزا ثانيةً ضوئيَّةً واحدة ، وملأ الدنيا صياحاً وضجيجاً ، وكلَّفت هذه الرحلة آلافاً مؤلَّفةً من الأموال التي كان من الممكن أن تسهم في نشر الرخاء على وجه الأرض .
على كل ، لا يمكن لحقيقةٍ في القرآن أن تعارض حقيقةً في العلم ، ولكن إذا كان هناك تناقض فبين نظريةٍ وبين حقيقةٍ في القرآن ، أو بين خرافةٍ في الدين ، أو حقيقةٍ في العلم ، أو بين نظريَّةٍ لم تَثْبُت صحَّتها ، وبين حقيقةٍ في القرآن ، أما أن نجد بين حقائق القرآن وبين حقائق العِلم تناقضاً فهذا مستحيل ، لأن العلم اليقيني الذي وصل الإنسان إليه عن طريق التجربة هو عِلْمٌ ثابت ، وهو تعبيرٌ عن خلق الله ، وهو تعبيرٌ عن علاقاتٍ ثابتة بين الأشياء ، وأن الحقيقة القُرآنية هي وحيٌ من السماء ، وهل يُعْقَل أن يتناقض كلام الله مع خَلْقِهِ ؟ مستحيل ، لكن هناك علماء في الأصول يُحَذِّرون من أن تَجُرَّ الآية إلى تفسير نظريةٍ لم تَثْبُت صحَّتها ، أو أن تجرَّ الحقيقة العلميَّة إلى أن تلتقي مع آيةٍ ، الآية لها معنىً آخر ما أراده الله سبحانه وتعالى لتكون مطابقةً لهذه الحقيقة .
على كل هناك من يَزْعُمُ أن منشأ الأجرام السماويَّة ، أو أن منشأ الكواكب السيَّارة هو دوران كتلة الشمس الشديدة حول ذاتها ، فبحكم القوَّة النابذة انفلت منها بعض الكواكب ثم تبرَّدت فكانت الأرض ، فمن يؤمن بهذه النظرية يرى أن هذه الآية تناسب هذه النظريَّة : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ الشيء الغريب ما دامت المجموعة الشمسيَّة والشمس كانت جميعاً كتلةً واحدة إذاً ينبغي أن تكون هذه المجموعة من طبيعةٍ واحدة ، فلمَّا صعد الإنسان إلى القمر ، وجاء ببعضٍ من تراب القمر ، وُجِدَ أن بين تراب القمر وبين تراب الأرض فَرْق في النوع ، هذه العينات من تُراب القمر لم تؤكِّد تلك النظريَّة ، والذي يُبْعِدُ أن تكون هذه الآية تأكيداً لهذه النظريَّة أن الله سبحانه وتعالى صَدَّرها بقوله الكريم : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ هذا شيءٌ حصل قبل ألوف ألوف ملايين السنين ، قبل أن يُخْلَقَ الإنسان على وجه الأرض ، فجواب الذين كفروا على هذا التفسير أنهم لم يروا ذلك ، ولكنَّ الآية في أوجه تفسيراتها تشير إلى أن السماوات والأرض كانتا رتقاً أي شيئًا متجانسًا ، السماء لا تُمطر ، والأرض لا تُنبت.. ﴿ فَفَتَقْنَاهُمَا ﴾ فتقنا السماء عن المطر ، وفتقنا الأرض عن النبات ، السماء انفتقت فنزل منها المطر ، والأرض انفتقت فخرج منها النبات ، ويُعَدُّ النباتُ أكبر آيةٍ كونيَّةٍ تحت سَمْعِ الإنسان وبصره ، تعدُّ ظاهرة النبات أكبر آيةٍ كونيةٍ موضوعةٍ تحت سمع الإنسان وبصره .
ظاهرة النبات تُعدّ أكبر آيةٍ كونيةٍ موضوعةٍ تحت سمع الإنسان وبصره :
إن النبات داخلٌ في حياتنا دخولاً صميمياً ، فأنت تأكل الخُبز وهو من نبات القمح ، وتشرب الحليب ، والحليب من نتاج الحيوان ، والحيوان غذاؤه النبات ، وأنت تأكل الخضراوات ، والبقول ، والمحاصيل ، والفواكه ، والثمار ، وأنت تستخدم الأخشاب في أثاث بيتك ، وفي النوافذ والأبواب ، والأخشاب من النبات ،
وأنت تستخدم الدواء ، ومعظم الدواء من النبات ، وأنت تستخدم بعض الحاجات ، الليف من النبات ، والسواك من النبات ، والخُلَّة من النبات ، وهناك أشجارٌ تستفيد من جذوعها ، ومن أخشابها ، وتعدُّ أنواع الأخشاب بالغة التعقيد ، هناك أخشابٌ لها ميزاتٌ خاصَّة ، أخشابٌ لا تتأثَّر بالشمس والأمطار ، أخشابٌ ليَّنة الاستعمال ، أخشابٌ صَلدة ، أخشابٌ مرنة ، فالأخشاب كلُّها من ظاهرة النبات ، هناك نباتاتٌ حدوديَّة جعلها الله حاجزاً بينك وبين جيرانك ، هناك نباتات الزينة ، هناك نباتاتٌ كالمظلات ، هناك نباتاتٌ تستخدم أخشابها ، هناك نباتاتٌ تستخدم جذورها ، هناك نباتاتٌ تستخدم أوراقها ، هناك نباتاتٌ تستخدم أزهارها ، فظاهرة النبات تُعَدُّ أخطر ظاهرةٍ ، وأوضح آيةٍ بيِّنةٍ موضوعةٍ بين يدي الإنسان على وجه الأرض ، لذلك : ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ هذه الطاولة من النبات ، هذه الوردة من النبات ، هذا السجاد الذي تجلسون عليه ما كان ليكون كذلك لولا النبات ، إنه من الصوف ، وهذه الثياب من القطن ، أي لو استعرضت الحاجات التي تستعملها كل يوم لرأيت النبات يدخل في معظمها ، الفراش الوثير ، اللحاف الذي تتغطَّى به ، كل حاجةٍ تقريباً أصلُها من النبات .. ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ أليست هذه الآية أمامهم ؟ أليست هذه الآية تحت سمعهم وبصرهم ؟ أليسـت هذه الآية في متناول حواسِّهم ؟ أليسـت هذه الآية واضحةً أمامهم ؟ أليسـت هذه الآية داخلةً في حياتهم حيثُما كانوا ؟ أليسـت هذه الآية دائرة معهم حيثما داروا .. ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً ﴾ هذه الأرض البُنية اللون كيف أصبحت في الربيع ذات بساطٍ أخضر يبعث البهجة في النفس ؟
من أين جاءت هذه الأزهار ؟ عدد الحشائش لا يعلمها إلا الله ، عدد أنواع الحشائش التي تظهر في فصل الربيع لا يعلمها إلا الله ، عدد الأزهار - أزهار الزينة - لا يعلمها إلا الله ، من أين جاءت ؟ على اختلاف أشكالها ، وألوانها ، وروائحها ، وطبائعها ، وخصائصها ، وبُنيتها ، وأزهارها ، وأوراقها ، وثمارها .. ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً ﴾ لو أن السماء بقيت رتقاً فلم تنفتق عن المطر ماذا حلَّ بنا ؟ أقطارٌ في قارَّة إفريقيا أصابها الجفاف سبع سنواتٍ متتالية ، لم يبقَ فيها شيء ، جميع الأشجار ماتت ويبست ، وجميع النباتات أصبحت كالهشيم ، وتبعتها الحيوانات ، وتبعها الإنسان ، البقيَّة الباقية هاجرت إلى أقطارٍ أخرى ، ماذا كان من الممكن أن يكون لولا الماء الذي انفتقت عنه السماء ؟ إن الله عزَّ وجل جعل من الماء كل شيءٍ حي ، ومع ذلك فقد قلت لكم في خطبةٍ سابقة إن الله سبحانه وتعالى يقول :
﴿ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)﴾
[ سورة المدثر ]
يتحدَّثون عن الجراد ، والجراد يستطيع أن يأكل كل يوم بقدر وزنه تماماً ، فإذا كان هناك بعض أسراب الجراد التي يزيد وزنها عن ثمانين ألف طن ، إنها تأكل في كل يوم ثمانين ألف طن ، إن الكيلومتر المربَّع من أسراب الجراد يَعُدُّ مئتي مليون جرادة ، هناك إحصائيَّاتٌ خطيرة ، الله سبحانه وتعالى يقول : ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ قد يأتي الجراد على بلد فيؤخِّرَهُ ثلاثين عاماً ، أي لا تعود النباتات إلى ما كانت عليه إلا بعد ثلاثين عاماً ، اللهمَّ اصرف عنَّا الجراد والوباء يا ربَّ العالمين .
ظاهرة الماء وخصائصه وأهميته :
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ هذا الماء تلك الآية العظيمة ، هل فكَّرت في خصائصه ؟ هل فكَّرت لماذا كان الماءُ لا لون له ؟ ولماذا كان الماء لا طعم له ؟ ولماذا كان الماء لا رائحة له ؟ ولماذا كان الماء يتبخَّر بدرجة أربعة عشرة ؟ ولماذا كان الماء ذا سيولةٍ دقيقة بحيث ينفُذُ في أدقِّ المَسام ؟ ولماذا كان الماء يتمدَّد في التسخين وينكمش في التبريد إلا في درجة واحدة تنعكس معها الآية ؟ لماذا يتمدَّد الماء في الدرجة زائد أربع ؟ لولا هذه الظاهرة لما بقي مخلوقٌ على وجه الأرض أبداً ، لأصبحت البحار محيطاتٍ متجمِّدة ، ولانعدم التبخُّر ، ولانعدم هطول الأمطار ، ولمات النبات ، وتبعه الحيوان ، وكان الإنسان مصيره الهلاك ، لو أن الماء لا يتمدَّد في الدرجة زائد أربع ، هذا الماء بهذه الخصائص لماذا تثبُتُ درجة غليان الماء ؟ الزيت ليس كذلك ، الزيت ترتفع درجته إلى أرقامٍ عالية ، بينما الماء لو استمرَّ يغلي عشرات الساعات لا تزيد حرارته عن مئة درجة ، درجة غليانه ، درجة تبخُّره ، درجة ذوبانه ، درجة تجمُّده ، درجة انكماشه ، درجة توَسًّعه ، لا لون له ، لا طعم له ، لا رائحة له ، درجة نفوذيته ، من جعل الماء بهذه الصفات ؟ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ من منَّا يُصدِّق أن سبعين بالمئة من وزن الإنسان ماء ؟ ومن منَّا يصدق أن بعض الفواكه سبعةٌ وتسعون بالمئة من وزنها ماء ؟ البطيخ ماء مجمَّد ، ولكنه مجمَّد لا على أساس التبريد ، على أساس التكوين ، فهذا البطيخ ماءٌ مجمَّد مُحَلَّى ، فيه مواد مفيدة ، فيه معادن ، فيه فيتامينات ، فيه مواد سكرَّية ، ومجمَّد من دون تبريد ، فلذلك أراد ربنا عزَّ وجل أن يلْفِتَ النظر إلى أن الماء أساس الحياة ، وأن الإنسان لا يستغني عن الماء أكثر من أيامٍ ثلاث ، وبعدها يموت ، ولا يستغني عن الهواء أكثر مـن دقائق ثلاثة ، وبعدها يموت ، لذلك الهواء في كل مكان ، والماء في أماكن متفرِّقة ، أما الطعام فقد يستغني عنه الإنسان أيَّاماً عديدة تزيد عن ثلاثين يوماً ، لذلك يحتاج الطعام إلى كَسْب ، أما الماء والهواء فهو مبذولٌ لجميع الناس من دون ثمن ﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ أليست هذه الآية كافيةً ؟
اطلعت مرَّة على كتاب مؤلَّف من ثمانية عشرَ جزءًا ، كل جزءٍ تزيد أوراقه عن ثمانمئة صفحة ، في كل صفحة صورةٌ لوردةٍ تختلف عن أختها ، فإذا كان الكتاب ثمانية عشر جزءًا ، وكل جزء فيه ثمانمئة صفحة ، وكل صفحةٌ نباتٌ يسبِّح الخالق ، إذاً هذه النباتات كلُّها من أجل إمتاع النظر ، لا من أجل القوت ، أليس هذا إكراماً إلهياً ؟ أليس في هذا تودُّدٌ للإنسان ؟ أليس هذا مسخَّراً للإنسان ؟ فالإنسان حينما يرى أن الله سبحانه وتعالى كرَّمه . .
﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾
[ سورة الإسراء ]
كم أنواع الشراب الذي تشربه ؟ وكم أنواع الطعام الذي تأكله ؟ وكـم أنواع الفواكه التي خلقها الله سبحانه وتعالى ؟ كـم ؟ كم هي كثيرة ! ﴿ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ ماذا ينتظر الإنسان حتى يؤمن ؟
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَتَاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ(32) ﴾
[ سورة عبس ]
﴿ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾ ..
﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) ﴾
[ سورة الطور ]
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) ﴾
[ سورة يوسف ]
الجبال آيةٌ من آيات الله العُظمى :
﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ هذه السلاسل الجبليَّة العظيمة كيف جعل الله في منتصفها سُبُلاً ومضائق وممرَّات ؟ لولا هذا لكان انتقال الناس من سَفْحٍ إلى آخر شيئاً مستحيلاً ، فإذا وجدت الجبلين بينهما وادٍ هكذا ، أو بينهما ممر جبلي ، فليس هذا صدفة ، إنه آيةٌ واضحةٌ على رحمة الله بالإنسان .. ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ أمَّا أن تكون الجبال رواسي أن تميدَ بهم فلأن الجبال جعلها الله سبحانه وتعالى في أماكن دقيقة جداً من الأرض ، بحيث إذا دارت الأرض حول نفسها دورةً سريعة كانت محصِّلة هذا الدوران استقراراً ، آيةٌ من آيات الله العُظمى .
﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)﴾
[ سورة النمل ]
من جعلها ساكنة ؟ لو أن هناك اضطراباً طفيفاً لما بقي هذا المسجد على ما هو عليه ، لم يبقَ على وجه الأرض بناء ، لولا أن الله سبحانه وتعالى جعل الأرض قراراً ، مستقرَّةً مع حركةٍ تأخذ بالألباب ، نحن جئنا إلى هذا المسجد ، وبدأ الدرس في تمام الساعة الثامنة وخمس دقائق تقريباً ، والآن الساعة الثامنة وخمسٌ وثلاثون دقيقة ، أي مضى على بدء الدرس ثلاثون دقيقة ، من منكم يصدِّق كم من الكيلومترات قطعتها الأرض في هذه النصف ساعة ؟! في كل ثانيةٍ تقطع الأرض ثلاثين كيلو متراً ، ففي الدقيقة ثلاثون في ستين ، أي ألف وثمانمئة ، ففي الثلاثين دقيقة ألف وثمانمئة ضرب ثلاثين ، ألف وثمانمئة ضرب عشرة ، ثمانية عشر ألفاً زائد ثمانية عشر ألفاً زائد ثمانية عشر ألفاً ، أربعة وخمسون ألف كيلومتر قطعت الأرض منذ أن بدأت كلامي وحتى الآن ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ ، الأرض تنتقل حول الشمس بسرعة ثلاثين كيلو متراً في الثانية ، وفي دورتها حول نفسها بسرعة ألف وستمئة كيلو متر في الساعة ، إذاً هذه الدورة وهذه الحركة تحتاج إلى استقرار ﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً﴾ تجد بناء يقول لك : هذا مُعَمَّر من ثمانين سنة ، لا يوجد فيه ولا شَق ، ما معنى لا يوجد فيه شق ؟ أي لا يوجد اهتزاز ، أي اهتزازٍ أصاب الأرض لكان أثره واضحاً في الأبنية ﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ ﴾ مرَّة وضحت ذلك ، أن العجلة التي يصنعها الإنسان ، مهما كان القالب الذي صُبَّت فيه هذه العجلة دقيقاً محكماً متوازناً ، لابدَّ لهذه العجلة من أن تضطرب على السرعات العالية ، يأتي الإنسان ويضع هذه العجلة في الميزان ، فيخبره الميزان أنها في هذا المكان تحتاج إلى قطعةٍ من الرصاص مقدارها حوالي خمسين غراماً ، توضع هذه القطعة في العجلة ، فإذا دارت العجلة بسرعةٍ بالغة بقيت مستقرَّة دون اضطراب ، هذا المثل اللطيف يمكن أن يُطَبَّق على الأرض .
﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ الفجاج أي الطرُق بين الجبال ﴿ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ إلى أهدافهم ، وإلى ربِّهم ، لعلَّ هذه الجبال الشامخة ، وهذه الأرض المستقرَّة ، وهذه السماوات المنفتقة عن الأمطار ، وهذه الأرض المنفتقة عن النبات ، لعلَّ في هذا دليلاً قاطعاً على وجود الله ، وعلى عظمته ، وعلى تربيته ، وعلى تسييره ، وعلى مَحَبَّته ، وعلى إكرامه .
عظمة خلق السماوات :
﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ أي هذه السماء سقف ، قال العلماء : محفوظة من أن تُنَالَ بأذى ، أو محفوظة من أن تتبدَّل طبيعتها ، أي يكفي أن تعلموا أن في الجو طبقةً من الأوزون ، هذه الطبقة لا تزيد سماكتها عن المليمترات ، هذه الطبقة تمنع وصول الأشعَّة التي تؤذي الإنسان ، الأشعَّة الشمسيَّة فوق هذه الطبقة تؤذي الإنسان ، ولكنَّها بعد هذه الطبقة لا تؤذي الإنسان ، إنَّ هذه السماء كأنَّها سقفٌ محفوظٌ ، أي حافظٌ للإنسان ، محفوظةٌ من أن تُمَسَّ بأذى ، من أن تتبدَّل طبيعتها .. ﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ عن آيات السماء ، عن مذنَّباتها ، المذنَّبات آية ، والكويْكبات آية ، والنيازك آية ، والثقوب السوداء آية ، والكازارات آية ، والمجرَّات آية ، والنجوم آية ، والكواكب آية ، والأقمار آية ، وحركة الكواكب آية ، والتجاذُب فيما بين الكواكب آية ، وقانون الجاذبيَّة آية .. ﴿ وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا ﴾ السماء لها آيات ، هي آيةٌ واحدة ولها آياتٌ كثيرة . ﴿وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ﴾ .
آية الليل والنهار :
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(33)﴾ ، ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ﴾ الليل يُخْلَق ، ومن آياته الليل والنهار ، الليل والنهار من دوران الأرض حول نفسها ، والليل والنهار آيةٌ عُظمى على رحمة الله بالإنسان ، ساعةُ نومٍ في الليل لا تعدلها ثلاث ساعاتٍ في النهار ، لماذا ؟ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الليل سَكَنَاً ، جعل الليل مُظلماً ، وجعل الكائنات كلِّها تأوي إلى أوكارها في الليل ، لذلك إذا استيقظ الإنسان في منتصف الليل يُحسُّ بسكونٍ يُخَدِّرُ الأعصاب ، هذا هو الجو المناسب للنوم ، أصواتٌ قليلة ، وضوءٌ خافت ، أمـا النوم في النهار فقلَّما يرتاح الإنسان فيه ، فالليل جعله الله سكناً ، وجعله سِتْرَاً ، أخي نقلنا لليل ، الإنسان له أغراض بعضها مقبول ، بعضها غير مقبول ، جعل الله الليل ستراً ، وجعله سكناً ، وجعله وقتاً مناسباً لمناجاة الله عزَّ وجل ، لذلك :
﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) ﴾
[ سورة القدر ]
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)﴾
[ سورة المزمل ]
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) ﴾
[ سورة الإسراء ]
الليل مناسبة للعبادة والمناجاة :
جعل الله الليل مناسبة لمناجاته ، مناسبة لعبادته ، مناسبة لذكره ، مناسبة لتلاوة كتابه ، وفي الحديث : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
﴿ لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لَاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ ، وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا . ﴾
[ صحيح البخاري ]
فقم في الدجى لا تخشَ وحشةً
* * *
هؤلاء الذين يمشون إلى المساجد في الليل هؤلاء في أعيننا ، وهؤلاء لهم عند الله أجرٌ كبير ، فلذلك يقول ربنا عزَّ وجل : ﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ ﴾ ، وخلق النهار ، هذا الضياء ، هذه الحرارة ، هذه الشمس التي تبعث الدفء ، والنور ، والتطهير في الأجسام ، هذه من آيات الله العُظمى ، لذلك قالوا : " كل مخلوقٍ يموت ، ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت " .
الليل مـهـما طـال فلابدَّ من طلوع الفجر والعمر مـهما طـال فلابدَّ مـن نزول القبر
* * *
أي لولا أن هناك ليلاً ونهاراً ، أخي : كم عمرك ؟ لا أعرف ، لكـن ليل ونهار صار عندنا سبت ، وأحد ، واثنين ، وثلاثاء ، وأربعاء ، وخميس ، وجمعة ، أسبوع ، أربعة أسابيع شهر ، ثلاثة أشهر فصل ، أربعة فصول سنة ، أربع سنوات سنة كبيسة ، العقد الأول ، يقول لك : أنا ولدت في الأربعينات ، وهذا بالخمسينات ، وثالث بالستينات ، ورابع بالسبعينات ، وخامس بالثمانينات ، وسادس بالتسعينات ، بالقرن ، صار عندنا قرن ، بعد القرن يوجد حِقَب ، وبعد ذلك:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) ﴾
[ سورة الرحمن ]
أي لولا دورة الأرض حول نفسها لما كان الليل والنهار ، ولما كان الزمن .
إذاً الليل سَكَن ، والنهار للكسب ، والليل مأوى ، والليل ستر ، والليل ذكرى ، والنهار لنعلم عدد السنين والحساب .
الشمس والقمر آيتان تدلان على عظمة الخالق سبحانه :
﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ﴾ هذه الشمس التي تكبُر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة ، أي مليون أرض وثلاثمئة ألف أرض تدخل في جَوف الشمس ، والشمس حرارتها في نواتها أكثر من عشرين مليون درجة ، بينما حرارتها على سطحها تزيد عن ستَّة آلاف درجة ، أما ألسنة اللهب المُنْبَعِثَة منها فيزيد طول بعضها عن مليون كيلو متر ، والشمس مُتَوَقِّدةٌ بتقدير بعض علماء الفلك منذ خمسة آلاف مليون سنة ، ولو أن الأرض أُلقيت في الشمس لتبخَّرت في ثانيةٍ واحدة ، ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ يقول لك : الطاقة الشمسيَّة ، الآن أجهزة كثيرة للتسخين على الطاقة الشمسيَّة ، هناك سيَّارات تتحرَّك على الطاقة الشمسيَّة ، هناك مواقد تعمل على الطاقة الشمسيَة ، مرآة مُقَعَّرة ولها مكان تضع عليها القدر ، هذه المرآة بحسب أشعَّة الشمس ، وانعكاسها ، وِمْحَرَق هذه المرآة المقعَّرة تستطيع أن تسخِّن الماء ، وأن تطهي الطعام ، إذاً هذه الشمس شيءٌ عظيمٌ جداً ﴿ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ طبعاً كلٌ نَكِرَة ، العلماء استنبطوا أن هذه الآية تنطبق على الذرَّة ، وعلى المجرَّة ، بدءاً من الذرَّة ، وانتهاءً بالمجرَّة ، نظام الكون يقوم على أن كل جرمٍ فيه يسبح في فَلَكٍ حول نواته ، لماذا ؟ لولا أن الكواكب تتحرَّك في مساراتٍ بيضويَّةٍ أو دائريَّة حول كواكب أخرى لأصبح الكون كلُّه كتلةً واحدة ، لأن هذه الحركة ينتج عنها قِوىً نابذة ، هذه القُوى النابذة محسوبةٌ حساباً دقيقاً كي تكافئ القِوى الجاذبة ، كل جِرمٍ سماوي ينجذب إلى جِرمٍ آخر ، لماذا لا ينجذب ؟ لأنه يدور ، وماذا إذا دار ؟ من دورته تنشأ قوَّةٌ نابذة ، هـو ينجذب إلى النواة ، ومن دورته تنشأ قوَّةٌ نابذة ، من توازن قِوى الجذب مع قِوى النبذ ، من توازن هاتين القوتين ينشأ هذا الاستقرار الحركي ، فلذلك : ﴿ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ أي كل كوكبٍ له مسارٌ حول كوكبٍ آخر ، وشيءٌ لا يُصدَّق أن هذا الكون مستقرُ على مبدأ التجاذب ، تجاذب حركي ، أي الكوكب ينجذب بحسب الكُتلة ، وبحسب مُرَبَّع المسافة ، وبحسب السرعة ، وبحسب أشياء كثيرة ، كلُّها متداخلة ، والمُحَصِّلة استقرارٌ في الكون ، هذه : ﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً ﴾ توجد آية قرآنيَّة أخرى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) ﴾
[ سورة الرعد ]
لكنَّ هذا العمود لا ترونه ، ما قولك أن يُنْشَأ بناءٌ من مئة طابق بعيدٌ عن الأرض مسافة خمسين متراً من دون أعمدة ؟ هذا فوق طاقة البشر ، هناك أعمدة ولكنَّها شَفَّافة تخترقها هكـذا : ﴿ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ هناك عَمَد ، أي القمر مجذوبٌ إلى الأرض بما يساوي كبلاً فولاذياً مضفوراً ، قطرُه خمسون كيلو متراً ، لو كان ربنا عزَّ وجل رَبَطَ القمر بالأرض بكبلٍ فولاذي ، وربط الأرض بالشمس بكبلٍ أكبر ، والشمس بالقمر بواحد ، لرأيت السماء شبكةً سوداء ، شيءٌ مستحيل ، قال : ﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ﴾ أي بِعَمَدٍ ولكنَّكم لا ترونها ، هذه قِوى التجاذب ، شيءٌ لا يُصدَّق ، من آيات الله الكُبرى الدالَّة على عظمته .
كل إنسان يموت ولا تبقى إلا المواقف :
﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ(34)﴾ كفَّار قريش تَمَنَّوا أن يموت النبي عليه الصلاة والسلام فتنتهي دعوته ، وتنتهي هذه الرسالة ، وتنتهي هذه المشكلة ، فهم ينتظرون موته ، لذلك قال الله عزَّ وجل : ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ﴾ أتكون الشماتةُ بالموت ؟ لأن الناس جميعاً سيموتون ، والقائلون سيموتون ﴿ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ الإنسان أحياناً يمشي في جنازة يقول لك : مسكين مات ، وكأنه هو لا يموت ، مسكين ، وأنت مسكين كذلك ، شيء طبيعي ، ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾ :
﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) ﴾
[ سورة القصص ]
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ ..
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلةٍ حدباءَ محمولُ
فإذا حملت إلى القبور جـنــــــــازةً فاعلـــــــم بأنَّك بـعــدها محمولُ
* * *
﴿ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ لا تبقى إلا المواقف ، الخير يزول والشر يزول ، هناك حديث شريف دقيقٌ جداً :
" فاعل الخير خيرٌ من الخير ، وفاعل الشر شرٌ من الشر " . لماذا ؟ لأنك لو أنشأت مسجداً ، وصلَّى فيه الناس إلى يوم القيامة ، بعدئذٍ سوف ينتهي هذا المسجد ، ولكن ما الذي يبقى ؟ هذا العمل الطيِّب الذي تسعد به إلى الأبد ، لو أنَّك أنشأت دار أيتام ، لو أنك أنشأت سُبْلاناً للماء ، لو أنك أطعمت الناس ، كل هذه الأفعال الطيِّبة على عِظَم شأنها تنتهي مع نهاية الحياة ، وكل الأفعال الشريرة مهما تكن شريرة تنتهي مع نهاية الحياة ، ما الذي يبقى ؟ تبقى نيِّة الخير ، نيَّة فعل الخير ، بهذه النيَّة تسعد بها إلى الأبد ، وتبقى نيَّة فعل الشر ، بهذه النيَّة يشقى بها الإنسان إلى الأبد ، لذلك : " فاعل الخير خيرٌ من الخير ، وفاعل الشر شرٌ من الشر " .
أصول الابتلاء الخير والشر :
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ أحياناً يبتلي الله عزَّ وجل الإنسان بالخير ، يعطيه مالاً ، أينسى الله عزَّ وجل ؟ أيستعلي به على خلق الله ؟ أيمسكه ؟ أيبخل به ؟ أينسيه دينه كما فعل ثَعْلَبَة ؟ أحياناً الإنسان يُبْتَلى بالفقر ، أيكفر ؟ أيعترض ؟ أَيَلِج أم ماذا يقول ؟ الإنسان يُبتلى بالزوجة ، ويبتلى بزوجة صالحة ، ويبتلى بزوجة سيِّئة ، ويبتلى بعمل مريح ، ويبتلى بعمل مُتعب ، يبتلى بجـار طيِّب ، يبتلى بجار سيئ ، يبتلى بصحَّةٍ طيِّبة هل قوي بها على طاعة الله ؟ ويبتلى بمرضٍ هل صبر فيه على قضاء الله ؟ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ﴾ أي الشر والخير يظهرانكم على حقيقتكم .
سنة الكفار الاستهزاءُ بالأنبياء والدعاة :
﴿ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ﴾ أي إذا اسْتُهْزئَ بمؤمن فله في النبي أسوةٌ حسنة ، سيِّد الخلق وحبيب الحق ، الذي قال الله عنه :
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾
[ سورة القلم ]
استهزأ به قومه . .
﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)﴾
[ سورة هود ]
فالبطولة للساخر الأخير ، وليس للأول ، طبعاً الإنسان أحياناً يسخر من أهل الإيمان لجهله ، ولعدم معرفته ، ولكن :
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) ﴾
[ سورة المطففين ]
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) ﴾
[ سورة المؤمنون ]
فالبطولة للأخير ، لمن يسخر آخر الأمر لا لمن يُسْخَرُ منه أول الأمر .
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) ﴾
[ سورة القلم ]
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)﴾
[ سورة هود ]
إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على المشركين عبادتهم لأصنامهم :
﴿ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ أي هذه الآلهة التي صنعوها من تَمْر ، أو من حجارة ، أو من خشب لأن النبي عليه الصلاة والسلام نبَّههم إلى أنها لن تكون آلهة ، إنها من صنع أيديهم ، هؤلاء غضبوا وقالوا : ﴿ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ ، أي بسوء ﴿ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ لأن النبي عليه الصلاة والسلام لفت نظرهم إلى أن هذه الأصنام من صنع أيديهم ، انزعجوا ، وزمجروا ، وثاروا ، وغضبوا ، وهم لا يغضبون حينما يكفرون بالرحمن خالق كل شيء .
الإنسان مطبوع على العجلة والضعف :
﴿ خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ هناك آياتٌ ثلاثة ؛ الأولى :
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) ﴾
[ سورة النساء ]
وضعفه لمصلحته ، لو أن الله سبحانه وتعالى خلقه قوياُ لاستغنى بقوَّته فشقي باستغنائه عن الله .
﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) ﴾
[ سورة المعارج ]
ولأنه خُلِقَ هلوعاً إنه شديد الإنابة إلى الله ، لو لم يكن هلوعاً لما التجأ إلى الله عزَّ وجل ، لكنَّه هلوع يخاف كثيراً فيأوي إلى الله سريعاً .
﴿ وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) ﴾
[ سورة الإسراء ]
ومعنى عجولاً أي طبيعته يحبُّ أن يأخذ الشيء القريب ، ويدع الشيء البعيد ، فإذا خالف الإنسان طبيعة نفسه ، وآثر الآخرة على الدنيا عندئذٍ يرقى عند الله سبحانه وتعالى ، يرقى بمخالفة طبيعة بُنْيَتِهَ .
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) ﴾
[ سورة النازعات ]
الهوى يدعوك أن تأكل هذه الأكلة ، ولكنَّها من حرام ، الهوى يدعوك أن تجلس هذه الجلسة وفيها مُنكرات ، الهوى يدعوك أن تذهب لهذه الرحلة وفيها معصية الله سبحانه وتعالى ، الهوى يدعوك أن تأخذ هذا المبلغ وهو من حرام ، فالإنسان لأنه خُلِقَ عجولاً يسعدُ بعمله الصالح إلى الأبد ، لماذا ؟ لأن عمله الصالح يكون مدافعةً لطبيعة نفسه ، لولا هذه المدافعة والمشادَّة بينه وبين نفسه لما كان لهذا العمل الصالح مـن عظيم أجرٍ ، وعظيم ثواب .
إذاً : ﴿ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً﴾ وضعفه لمصلحة إيمانه ، وخلق الإنسان ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً﴾ وأن يكون هلوعاً لمصلحة إيمانه ، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً﴾ وأن يكون عجولاً لمصلحة إيمانه ، لو أن الله خلقه ليس بعجول ، اختار الدنيا وفق طبيعته هكذا ، أما الإنسان فيمشي في طريق مريح ، ويَدَع الطريق الوعر ، فهل له أجر ؟ لا ، ليس له أجر ، هذا أريح ، لأن طبيعة الإنسان هكذا ، أما عندما يخالف الإنسان هوى نفسه يرقى عند الله سبحانه وتعالى ، فالله عزَّ وجل خلقنا في الدنيا كي نرقى إليه بعملٍ طيبٍ يُكَلِّفُنا جهداً ومخالفةً لطبيعتنا .
مصير المستهزئين بالأنبياء والدعاة :
﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ العلماء قالوا : معنى الآيات هنا وعدُ الله ووعيده ، أي وعد الله المرابي بمحق المال ، فيقول المرابي : متى هذا الوعد ؟ متى سيُمْحَق مالي ؟ عندي آلاف مؤلَّفة لا تأكلها النيران ، يسـخر ، يستهزئ ، هذا السؤال ليس سؤال استفهام إنما هو سؤال سُخْرِيَة ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ ، الله عزَّ وجل قال : ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ﴾ وعد الله واقعٌ لا محالة ، وعيد الله واقعٌ لا محالة ، قل : إن لكل حسنةٍ ثواباً ، ولكل سيئةٍ عقاباً .
﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ أيضاً هنا يستهزئون ﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ﴾ هذا الذي يستهزئ بوعيد الله لو يعلم حالته يوم يأتي هذا الوعيد ويُلقى في النار ، كيف أن النار تلفح وجهه ، وكيف أنه يعضُّ على إصبعه ، وكيف أنه يقول :
﴿ وَيَوْمَ يَعضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28)﴾
[ سورة الفرقان ]
﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)﴾
[ سورة الزمر ]
﴿ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي الساعة ، ساعة العقاب ، أو ساعة الموت ، أو ساعة الحريق تأتيهم بغتة فتبهتهم .
المؤمن وحده يُعِدُّ نفسه للموت منذ معرفته بالله عزَّ وجل :
لذلك المؤمن وحده يُعِدُّ نفسه للموت منذ معرفته بالله عزَّ وجل ، يعلم علم اليقين أن هذه الساعة في حقِّه ساعةٌ مباركة ، وأن عُرْسَهُ في هذه الساعة ، وأن هذه الساعة ساعة انتقالٍ من ضيق الدنيا إلى سَعَةِ الآخرة ، ومن هموم الحياة إلى نعيم الآخرة ، من الابتلاء إلى الجزاء ، مـن التكليف إلى التشريف ، من التعب إلى الرخاء ، من الهَم إلى الطمأنينة ، أي كل الخير بعد الموت ، فالمؤمن يعرف ذلك ، وينتظر ذلك ، ويعدُّ العُدَّة لهذه الساعة ، ولكنَّ الكافر وضع كل اهتمامه في الدنيا ، وضع كل آماله في الدنيا ، وضع كل طاقاته في الدنيا ، وضع كل إمكاناته في الدنيا ، فإذا أُخِذَ منها فجأةً كان أخذه منها كالصاعقة ، لذلك يقول الله عزَّ وجل :
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) ﴾
[ سورة الزخرف ]
التأدب مع الله عز وجل :
﴿ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ هذا الاستهزاء نفسه كان مدمِّراً لهم ، أحاط بهم ودمَّرهم ، فالإنسان يتأدَّب مع الله سبحانه وتعالى ، يتأدَّب مع كتابه ، يتأدَّب مع رسله ، يتأدَّب مع من لهم صِفَةٌ دينية ، ليجعل سخريَّته في موضوعاتٍ أخرى ، أما أن يجعل الأمور المُقَدَّسة موضوعاتٍ لسخريته فربَّما كانت هذه السخرية نفسها مدمِّرةً له .. ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴾ كتب أحدهم مصحفاً في ثلاثة أيَّام ، فلمَّا دُهِش إنسان أنه كُتِب في ثلاثة أيام فقال الكاتب مستكبراً : " وما مسَّنا من لغوب" ، أي أعطى نفسه صفة الإله ، فَشُلَّت يمينه فوراً ، كلام الله لا يُسْتَهْزأ به ، ولا يُستعار لذاته ، من أنت ؟ فالإنسان إذا أنجز إنجازاً يقول : الحمد لله الذي وفَّقني لهذا العمل ، إذا حقَّق الله عزَّ وجل له آماله فيقول : الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات ، إذا رزقه الله عزَّ وجل زوجة صالحة ، وبيتاً ، وأولاداً ، كلَّما دخل البيت يقول : الحمد لله رب العالمين ، هذه نعمة الله ، هذا من فضل ربي ، هكذا المؤمن ﴿ قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ(43)﴾ .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين