وضع داكن
29-03-2024
Logo
إتحاف المسلم - الدرس : 03 - هدي النبي عليه الصلاة والسلام في الصدق مع الله ومع النفس ومع الغير .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

قصة الصحابي الجليل كعب بن مالك :

 أيها الأخوة الكرام, في قصة سيدنا كعب بن مالك ـ رضي الله عنه ـ الذي تخلف عن غزوة تبوك, والذي أنزل الله في حقه قرآناً:

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾

[سورة التوبة الآية:118]

 لقصة هذا الصحابي مغزى عميقاً, لا شك أنكم تعلمون هذه القصة, ولكن سأقف عند فقرة صغيرة منها؛ هي لبها ومغزاها:
 لما قفل النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ عائداً من غزوة تبوك, ووصل إلى المدينة, جاءه المنافقون, واعتذروا له واحداً واحداً بعذر بليغ, النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قَبِل معذرتهم, واستغفر لهم, وانتهى كل شيء ـ دققوا في التوحيد ـ أما هذا الصحابي, يقول: قد توجه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قافلاً من تبوك, حضرني بثي ـ أي حزني ـ فطفقت أتذكر الكذب, وأقول: بمّ أخرج من سخطه غداً؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي, فلما قيل: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أظل قادماً, زاح عني الباطل, حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء, فأجمعت صدقه ـ قرر أن يكون صادقاً ـ وصبّح رسول الله قادماً, وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد, فركع فيه ركعتين, ثم جلس للناس, فلما فعل ذلك: جاءه المخلفون, فطفقوا يعتذرون إليه, ويحلفون له, وكانوا بضعة وثمانين رجلاً, فقبل منهم علانيتهم, وبايعهم, واستغفر لهم, ووكل سرائرهم إلى الله, حتى جئت, فلما سلمت تبسم تبسُم المغضب, ثم قال: تعال, فجئت أمشي حتى جلست بين يديه, فقال لي: ما خلفك! ألم تكن قد ابتعت ظهراً ـ أي جملاً ـ؟ قلت: يا رسول الله! إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا, لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر, لقد أعطيت جدلاً ـ يسمونها قدرة خاصة, قوة إقناع, عنده قوة إقناع يقنع الناس بها ـ لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا, لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر, لقد أعطيت جدلاً, ولكني والله لقد علمت لئن حدَّثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يُسْخِطَك عليّ، ولئن حدثتك حديث صِدْق تَجدُ عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفوَ الله.
 أي هذا الصحابي الجليل لو أرضى النبي بلسانه ولم يكن صادقاً الله عز وجل سيسخطه عليه, فنحن عندما نصل إلى هذا المستوى من التوحيد حلت كل مشكلاتنا, رأى أن رضاء النبي دون أن يرضي الله لن ينجيه .

 

الصدق ينجي الإنسان من كل مشكلة يقع بها :

 الآن: أشخاص كثيرون؛ إذا أرضى شخصاً تعتقد أن مشكلته حلت, مشكلتك مع الله:

(( .....وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))

[ البخاري ومسلم عن أم سلمة]

 و إني لأرجو فيه عفوَ الله.
 يا رسول الله! والله ما كان لي من عذر، طبيعة الصدق الإنسان إذا كان صادقاً مع الله, وصادقاً مع نفسه, وصادقاً مع الآخرين, ولم يكذب أبداً؛ هذه القضية تنجيه من كل مشكلة, وعندما يكذب انتهى .
 المؤمن قد يغلب, لكن لا يكذب؛ لأن الكذب خبث ـ ليس الكذب شهوة يغلب بها ـ قبل قليل قَبِل عذر ثمانين رجلاً, وعندما قال: أما هذا فقد صدق أي هؤلاء جميعا كاذبون، فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أوتي فطنة, وأوتي فراسة, فقبل معذرتهم, وقَبِل علانيتهم, ووكل سرائرهم إلى الله.
 هذه القصة على طولها النقطة الدقيقة فيها: لئن حدَّثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يُسْخِطَك عليّ، ولئن حدثتك حديث صِدْق تَجدُ عليّ فيه، إني لأرجو فيه عفوَ الله.
 فالإنسان عندما يرى الله وحده, لا يرى معه أحداً, يرى أنه إن أرضى الله يرضى عنه كل شيء, وإذا أغضب الله يغضب عنه كل شيء, وعلاقته مع الله عز وجل.
 عندما تنفى صفة الكذب في حياتنا, تحل كل مشكلاتنا, فالإنسان علاقته مع الله, والحديث الذي نثرته قبل قليل:

(( .....وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا ))

[ البخاري ومسلم عن أم سلمة]

 عندما كان صادقاً ـ رضي الله عنه ـ تولى الله تربيته, فالنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر بمقاطعته خمسين يوماً, والإنسان اجتماعي؛ لو كان في مجتمع مسلم صادق إنسان منحرف, أو مقصر, أو كاذب, و ابتعد الناس عنه لهذه المعصية, تصبح الحياة الاجتماعية راقية جداً, الآن إنسان يرتكب المعاصي كلها, والموبقات كلها, فإذا دخل إلى مجلس معزز, مكرم, محترم.

 

المؤمن الصادق يدخل ضمن العناية الإلهية :

 المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ينتهي كلياً: "....فقال: قم حتى يقضي الله فيك, فقمت, وسار رجال من بني سلمة فاتبعوني, فقالوا: والله, ما علمناك أذنبت ذنباً قبل, لقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله بما اعتذر منه المخلفون, قال: فو الله! فما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله, فأكذب نفسي, ثم قلت لهم: هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا: نعم, لقيه معك رجلان, قالا مثل ما قلت, قال: قلت: من هما؟ قال: مرارة بن ربيعة العامري, وهلال بن أمية الواقفي, فذكروا لي رجلين صالحين, قد شهدا بدراً، فيهما أسوة, قال: فمضيت حتى ذكروهما لي قال: ونهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن كلامنا من بين من تخلف عنا"
 معنى هذا أن الله تعالى ما أمر النبي أن يقاطع المنافق ، أما هذا المؤمن لأنه صادق دخل ضمن المعالجة, معنى ذلك أن الله عز وجل إذا عالج الإنسان فهذا الإنسان فيه خير.
 هذا الصحابي الذي تخلف, وكان صادقاً, أمر أن يقاطع خمسين يوماً, أما هؤلاء ما أمر النبي أن يقاطعهم؛ أيهما أفضل عند الله؟ هذا أفضل بمليون مرة, هؤلاء كذبوا, وتواقحوا, وما قال النبي كلمة, قال: أما هذا فقد صدق, أما الصادق فتولى الله معالجته.
 نقطة جديدة: أنا ممكن أن أكون ببحبوحة, ولا يوجد عندي مشكلة, ومقيم على المعصية, يأتي إنسان يرتكب معصية صغيرة جداً تساق له كل الشدائد, معنى هذا أن الخاضع للمعالجة أفضل بكثير لأنه يوجد أمل من شفائه, أما الذي لا يخضع للمعالجة ميئوس من شفائه, فأنت أفضل ألف مرة عند الله .
 إذا الله عز وجل ساق لك بعض المشكلات, ولم يسقها لغيرك, لا تقل: أنا ماذا فعلت؟ أنت فيك خير, أنت بالعناية المشددة, فكل إنسان فيه أمل بالشفاء التام تساق له الشدائد كلها حتى ينجو .

 

السرور ليس بالمال ولا بالدنيا :

 آخر القصة: لما أنزل الله عز وجل التوبة عليهم, قال: سلّمت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال وهو متألق الوجه من السرور: أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك, قال: فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله عز وجل, وكان رسول الله إذا سرّ, استنار وجهه, حتى كأن وجهه قطعة قمر".
 المعنى: أن السرور ليس بالمال, ولا بالدنيا, عندما تاب الله عز وجل على هذا الصحابي, أشرق وجه النبي, فالإنسان الصالح يفرح لك بالتوبة, يفرح لك بقبول الله عز وجل, أما هذه الدنيا زائلة, يجب ألا تفرح للدنيا, قال تعالى:

﴿ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾

[سورة القصص الآية:76]

 حينما تفرح بالدنيا دليل قصور تفكير بالإنسان, قال: "فلما جلست بين يديه, قلت: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله".

 

الصدق مفتاح النجاة :

 هناك نقطة دقيقة: إذا كان هناك من يودك من المؤمنين لأنك مستقيم, هذه نعمة كبيرة, لكن عندما يكشف الإنسان أو يخرق ستر الله للمؤمنين الصادقين, يبتعدون عنه, إذا أنت التقيت بمؤمن, وودك مودة كبيرة, واحترمك, وقدّر علمك, واستقامتك, وأخلاقك, هذه نعمة كبيرة, أما إذا إنسان ودوه أهل الدنيا المنحرفين, فهذه المودة لا قيمة لها, فقال عليه الصلاة والسلام: "أمسك عليك بعض مالك, فهو خير لك, قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر, قال: وقلت: يا رسول الله! إنما أنجاني الله بالصدق, وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت ـ أي سبب نجاته الصدق ـ قال: فو الله, ما علمت أن أحداً أبلاه الله في صدق الحديث, منذ ذكرت لرسول الله ذلك إلى يومي هذا, أحسن مما أبلاني الله, والله ما تعمدت كذبة, منذ قلت ذلك لرسول الله إلى يومي هذا, وإني لأرجو الله أن يحفظني الله فيما بقيت", قال: فأنزل الله قوله تعالى:

﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾

[سورة التوبة الآية:117]

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾

[سورة التوبة الآية:118]

من كان صادقاً وتولاه الله بالمعالجة فهذا وسام شرف له لا وصمة عار في حقه :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾

[سورة التوبة الآية:119]

 قال كعب: "والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط, بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا أكون كذبته, فأهلك مما أهلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد":

﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾

[سورة التوبة الآيات :95-96]

 أيها الأخوة: القصة كلها مفتاح للصدق, قال له: لا يوجد عذر لتخلفي عنك، فالله عز وجل أدخله في العناية الإلهية المباشرة, ونجاه بهذا الصدق, وكان من المؤمنين الكبار, فإذا كان الإنسان صادقاً, والله تولاه بالمعالجة؛ ليكن هذا وسام شرف له, لا وصمة عار في حقه, وصمة العار أن تحلف كذباً, وأن يمقتك الله عز وجل.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور