وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة الزخرف - تفسير الآيات 1-8 ،القرأن الكريم لا يعلو عليه شيء وحكيم يضع الأمور في نصابها
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة الزخرف.


الحروف التي في أوائل السور هي دليل إعجاز القرآن وسبيل الإيمان به:


﴿ حم(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ(5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(7)﴾

[ سورة الزخرف ]

الحروف التي ترد في أوائل السور كما سبق أن قلنا إن من تفسيراتها أن الله أعلم بمرادها، ومن تفسيراتها أن هذا القرآن المعجز إنما نُظِم من هذه الحروف التي بين أيديكم، ومن معاني هذه الحروف أنها أوائل لأسماء الله الحسنى، ومن معاني هذه الحروف أنها أوائل لأسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقرآن كما قال الإمام علي كرم الله وجهه: "القرآن حمّال أوجه".

 على كلّ كما أن التراب نفخ الله فيه فإذا هو بشر سوي، إنسان يفكر وفي دماغه مليارات الخلايا، فيه أجهزة، فيه أعضاء، فيه عظام، فيه عضلات، فيه أوردة وشرايين وأعصاب حسّ وأعصاب حركة وغدد صماء، يعني شيء يعجز الفكر عن إدراكه، من تراب، فكذلك جعل من هذه الحروف كتاباً لله معجزاً وهي بين أيدينا، فالتراب بين أيدينا، وعندنا دليل قريب، فمثلاً هذه البقرة ماذا تأكل؟ الحشيش الأخضر، أو العلف، العلف بين أيدينا هل بإمكاننا أن نُصنِّع منه حليباً؟ الدجاجة ماذا تأكل؟ تأكل هذا الطعام الذي نضعه لها، هل بإمكاننا أن نأخذ هذا الطعام ونصنع منه بيضاً؟

 هناك إعجاز في الخلق، فكما أن الله سبحانه وتعالى صنع من مواد بين أيدينا شيئاً معجزاً، كذلك هذه الحروف بين أيدينا، لكن هذا القرآن الكريم سبيل الإيمان به إعجازه.

﴿  قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا(88)﴾

[ سورة الإسراء ]


الإيمان هو حقائق مدعمة بالأدلة والبراهين وليس كلاماً يُلقى:


 قد يقول قائل: المؤمن ينبغي أن يعلم علم اليقين أن هذا كلام رب العالمين بالدليل، أما الإدراك الفطري البسيط فلم يعد قادراً على الوقوف أمام الشبهات، أمام الضلالات، أمام النظريات الهدّامة، ربما كان التقليد قبل خمسين عاماً ينفع صاحبه، أما الآن قولاً واحداً من كان إيمانه إيماناً تقليدياً فهذا التقليد لا ينفعه ولا يمنعه من أن ينحرف، إلا أن يكون له إيمان تحقيقي دقيق مُدعَّم بالدليل والبرهان، فالقضية دقيقة جداً، إنَّ هذا الكلام كلام الله، ويجب على كلٍّ منا أن يسأل نفسه: ما الدليل عندي على أنه كلام الله؟ لأنه لما يأمر الله فهو أمر خالق الكون، ولما ينهَى فهو نهيُ خالق الكون، ولو أن الإنسان تحقق أن هذا القرآن كلام خالق الكون فلا يمكن أن يعصيه، كما أنه لا يمكنك أن تعصي مخلوقاً قوياً، إذا تحققت أن هذا الإنسان قوي وهو يفعل ما يقول لا يمكن أن تعصيه، فهذا الذي يتجرأ ويعصي أمر الله عز وجل في هذا القرآن فهو بحاجة إلى تحقُّق وإلى تثبُّت.

وأنا لا أريد أن أقول لكم أنه يجب ألا نقرأه قبل أن نؤمن بأنه من عند الله، لا، لكن احذروا أن يكون إيمانكم إيماناً ساذجاً، إن كان عندك دليل قطعي أن هذا القرآن كلام الله فهذا أحد أبواب الإيمان، وأحد أركان الإيمان أن تؤمن بوجود الله وكماله ووحدانيته، وأحد أركان الإيمان أن تؤمن بكتبه، وأحد أركان الإيمان أن تؤمن بأنبيائه، وأحد أركان الإيمان أن تؤمن بأن القدر خيره وشره من الله عز وجل، هذه أركان الإيمان، فأحد أركان الإيمان الخمسة الإيمان بالكتاب.

 على كلٍّ ليس موضوعنا في هذا الدرس الأدلةُ التي يقوم عليها الإيمان بهذا الكتاب، ولكن هذا موضوع ينبغي أن نفكر به، وإذا وصل الإنسان إلى دليل قطعي تخضع له النفس على أن هذا القرآن كلام الله فقد قطع شوطاً في الإيمان، الإيمان حقائق مُدعَّمة بالأدلة والبراهين وليس كلاماً يُلقى، وليس موضوعاً يُقبل من دون أدلة وبراهين.

 يعني مثلاً: إن الله عز وجل يشهد لنا أن هذا القرآن كلامه، كيف؟ خذ آية من كتاب الله:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[  سورة النحل ]


بعض الأدلة على أن القرآن هو كلام الله:


 لو أن شاباً استقام على أمر الله واصطلح معه، وفعل ما أمر الله، وانتهى عما نهى عنه وزجر وعاش حياة طيبة، هذه الحياة الطيبة التي ذاقها وعاشها هي شهادة الله له أن هذا القرآن كلامه، وإليك مثلاً آخر إذا دخل الطلاب إلى قاعة التدريس، ورأوا أنه قد كُتب على السبورة: غداً الأحد الساعة الأولى مذاكرة في مادة الجبر، فحينما دخلوا ورأوا هذا الكلام على السبورة، ترى أهذا كلام الأستاذ أم أن طالباً يمزح معهم؟! ما الذي يؤكد أن هذا كلام الأستاذ؟ يوم الأحد الساعة الثامنة، إذا دخل أستاذ الرياضيات وذكرهم بالمذاكرة وطلب أن يهيئوا الأوراق والأقلام، وأن يضعوا الكتب بعيداً عنهم، وأملى عليهم الأسئلة هذا الحدث يؤكد أن الكلام الذي كُتب البارحة هو كلام الأستاذ، وهذه الآية أحد الأدلة على أن القرآن كلام الله فاقرأ:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(124)﴾

[ سورة طه ]

 فأيّ إنسان إذا كان يحيا حياة ضنكاً لأنه أعرض عن ذكر الله، هذه المعيشة الضنك هي شهادة الله له أن هذا القرآن كلامه، هذا دليل كما قال الله عز وجل:

﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ(39)﴾

[ سورة يونس ]

 وتأويل القرآن وقوع وعده ووعيده، إتلاف مال المرابي شهادة الله لعباده أن القرآن كلامه، الحياة الطيبة التي يحياها المؤمن شهادة الله لعباده أن القرآن كلامه، المعيشة الضنك التي يحياها الكافر شهادة الله للعباد أن هذا القرآن كلامه، نمو مال الصدقة شهادة الله لعباده أن القرآن كلامه، المال إذا نما بعد صدقة وبعد إنفاق، فهذا دليل أن القرآن كلام الله، لأن الله عز وجل قال:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ(276)﴾

[  سورة البقرة ]

 فأية آية في القرآن الكريم حينما تأتي الأحداث الكونية أو غير الكونية لتؤكدها فهذا دليل على أن القرآن كلامه.

﴿  وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾

[ سورة هود ]

 إن رأيت قرية انغمست في الرذيلة والفساد والانحطاط والعدوان، ثم أهلكها الله بوباء أو بحرب أهلية، أو بحرب كونية أو بمشكلة، أو بفيضان، أو بزلزال، أو بصاعقة فهذا الذي وقع دليل أن هذا القرآن كلام الله.


إيمان المؤمن بكتاب الله كإيمانه بوجوده:


 وإني أتمنى على كل أخ كريم أن يكون إيمانه بهذا الكتاب كإيمانه بوجوده، كيف قال ديكارت: أنا أفكر فأنا موجود، كذلك إيمان المؤمن بهذا القرآن ينبغي أن يكون كإيمانه بوجوده، وإذا كان الإنسان لديه ارتياب بالقرآن الكريم فما عليه إلا أن يشمر ويبحث عن الحقيقة، لأنه من جاهد في سبيل هذه الحقيقة وصل إليها.

﴿  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(69)﴾

[ سورة العنكبوت ]

 ليس معقولاً أن يتعامل الإنسان مع أموره الدنيوية بحزم وبتدقيق وبحث ودرس واستنباط وتوقع، ونشاطه في الحياة الدنيا منضبط، أما أن يتعامل مع أمور الآخرة، مع أمور الدين بتهاون وعفوية فهذا غير معقول: 

((  ابن عمر، دينك دِينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا.   ))

[ الألباني بسند ضعيف ]

 أن يتعامل الإنسان مع أمور الدين ببساطة وعفوية ومن دون تدقيق، ومن دون تحقيق فهذا شيء غير معقول.

 ذات مرة قال لي شخص كلمة: ما ذنب الإنسان لو التقى صدفة بعالم متساهل في موضوع ما، وسأله في مثل هذا الموضوع فأفتى بتساهل في فتواه فالذنب عليه، قلت له: لا، فأنت المسؤول وفي عنقك إثم، قال: كيف؟ قلت له: لو أن عندك بيتاً وأردتَ أن تبيعه، وفي اليوم الذي أردت أن تبيع هذا البيت التقيت صدفة بدلال وقال لك ثمنه مليونان، فهل تبيعه هذا البيت عند أول تثمين؟ لا، فلماذا في أمر البيت تسأل دلالين أو أكثر، وتسأل أصدقاءك والجيران، تدّعي أنك تريد أن تشتري بيتاً بالمساحة نفسها وبالمنطقة نفسها لتعرف كم ثمنه، فلماذا في أمور بيع البيت تأخذ الاحتياطات، وتتأكد، وتطلب التواتر، وتطلب الحل الوسط؟ وهكذا لتكن آخرتك غالية عندك: (ابن عمر، دينك دِينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا)

ربنا سبحانه وتعالى يقسم تارة ولا يقسم تارة أخرى:

 إذاً ربنا سبحانه وتعالى يقسم بالكتاب المبين، وكما تعلمون أن الله يقسم أو لا يقسم،

يقول أحياناً:

﴿ والشمس وضحاها(1)﴾

[ سورة الشمس ]

 ويقول أحياناً:

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)﴾

[ سورة الواقعة ]

 فإذا أقسم فليلفت نظرنا إلى عظمة هذا الشيء بالنسبة إلينا لا بالنسبة إليه، وإذا لم يقسم فليلفت النظر إلى أن هذا الشيء بالنسبة إلى الله لا شيء، وبعضهم قال: أنه إذا قال فلا أقسم لها معنى آخر، بمعنى أن هذا الشيء بنصاعته ووضوحه وثبوته لا يحتاج إلى قَسَم، الإنسان أحياناً يقول: هذه القضية لا تحتاج إلى نقاش يعني واضحة كالشمس. 


المنهج الذي أنزله الله على أنبيائه كتاب مبين له صفة الديمومة:


 ربنا عز وجل يقول هنا: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ هذا يعني أن ربنا عز وجل لما خلق الإنسان أعطاه منهجاً، والمنهج مكتوب، والكتابة للثبات والديمومة، وبحسب مفهومنا إذا الشيء وثِّق بالكتابة فهو يعني أنه ثابت ودائم، وإذا الشيء كان شفهياً فهو متبدل وزائل، فالكلام الشفهي مشكلة، قلت هذا ولم تقل هذا، بينما لو كان هناك عقد وتوقيع فهو أثبت، والإنسان ألِفَ أن الشيء المكتوب أثبت، فربنا عز وجل يخاطبنا بحسب مفهوماتنا، فهذا المنهج الذي أنزله الله على أنبيائه كتاب مبين، يعني شيء واضح ثابت له صفة الديمومة والثبات.

 وقال بعض العلماء: الكتاب في الآية أي كتاب سماوي، فكلمة الكتاب إذا أُطلِقت انصرفت إلى كل الكتب السماوية، وأما المبين: واضح البيان يعني معظم آيات القرآن الكريم بيّنة وواضحة، يعني مُحكمة لا لبْسَ فيها، لا تحتاج إلى تفسير، ولا إلى زمخشري، ولا إلى قرطبي، ولا إلى خازمي بل هي واضحة وضوح الشمس، لكن بعض الآيات المتعلقة بالذات الإلهية فهذه الآيات قد تحتاج إلى بيان، قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ ۚ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)﴾

[  سورة النحل ]

 أما آيات الحلال والحرام، وآيات التكاليف، والآيات التي تُبنى عليها أصول العقيدة فهذه آيات واضحة وضوح الشمس ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾


اللغة العربية واسعة التعبير وتعبر عن أدق المعاني:


 ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ هذا القرآن الكريم بلسان عربي مبين، يعني ربنا سبحانه وتعالى شرّفنا حينما جعل كلامه باللغة العربية، ويبدو أن اللغة العربية في أعلى مستويات اللغات الإنسانية، وقد درسنا في الجامعة أن هذه اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية، ليس هذا قول العرب أنفسهم ولكنه قول الأجانب، قول علماء اللغة، وليس المجال الآن مجال الحديث عن خصائص اللغة العربية، فهذه اللغة تتمتع بصفات مذهلة من أولى هذه الصفات: 

التصريف، يعني خذ الفعل مثلاً، فمنه؛ الفعل الماضي والمضارع والأمر، ومنه فعل ماض ثلاثي، وماض رباعي، وماض خماسي، وماض سداسي، وكل حرف يُزاد على الفعل يقابله زيادة في المعنى، فكتب: لها مدلول، لكن (كاتَبَ) لها مدلول آخر، (كاتَبَ) فعل يفيد المشاركة يعني كتبت إليه وكتب إليّ، أما (كتب) فمن جهة واحدة، (تكاتب) تعني شيئاً آخر، (استكتب) مدلولها مدلول آخر، وعندنا اسم فاعل، واسم مفعول، واسم زمان، واسم مكان، واسم تفضيل، واسم آلة، ومصدر مرّة، ومصدر هيئة، كل هذه الصيغ سواء كانت فعلية أو اسمية جاءت من فعل (كتب) .


بنية الكلمة تتبدل وتعطي عدة معان:


 وهناك طرق كثيرة تتبدل فيها بنية الكلمة وتعطي معنى آخر، وأحياناً ضمة تغير المعنى، يعني يُثني غير يَثني، أثنى عليه مدحه، أثنى يُثني، لكن ثَنى القضيب يثنيه، فالضمة غير الفتحة، فهناك شواهد دقيقة جداً، أحياناً تقول في اللغة العربية: 

نظر إلى الشيء، وأحياناً تقول: 

لمح ، فلمح تفيد أنك نظرت ثم أعرضت، لو أن باباً مفتوحاً ومن خلفه امرأة فالمؤمن لمحها بمعنى أنه بمجرد أن عرف أن هناك امرأة غض بصره عنها، هذا معنى لمح. 

لكن معنى: لاح شيء ظهر واختفى، التبدل في لمح من الناظر، والتبدل في لاح من المنظور.

 وهناك: حدَجَ: "حدّث القوم ما حدجوك بأبصارهم" ومعناها النظر مع المحبة. 

وهناك: شَخَصَ وهو النظر مع الخوف.

﴿ وَٱقْتَرَبَ ٱلْوَعْدُ ٱلْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَٰخِصَةٌ أَبْصَٰرُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَٰوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍۢ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَٰلِمِينَ (97)﴾

[ سورة الأنبياء ]

 وهناك رنا : وهي النظر مع السرور، إنسان نظر إلى منظر طبيعي، شيء جميل، مثلاً سهل أخضر ووراءه جبل مسنن والجو لطيف، يقول رنوت إلى المنظر. رنا غير حدّج غير لاح غير لمح،

وهناك: حملق يعني ظهر حِملاق عينه الأحمر. 

وهناك: بحْلقَ اتسعت حدقة العين. 

وهناك: استشرف تمطّى مع النظر. 

وهناك: استشف حرك يديه مع النظر. 

وهناك: نظر شزراً مع الاحتقار. 

وهناك خمسون فعلاً للنظر في اللغة العربية، اللغة العربية كما يقول علماء اللغة واسعة التعبير، فممكن أن تعبر عن أدق المعاني، فلما قال الله عز وجل:

﴿  وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18)﴾

[ سورة طه ]

 لو أننا بدلنا كلمة (أهشّ) بكلمة (أضرب) لما أمكن، لأن (ضرب) غير (هشّ) ، (لوحّ) غير (هشّ) ، (هشّ) أي وضع العصا على كتف الدابة من دون أن يؤلمها، أهشّ بها على غنمي، معنى دقيق جداً، وليس لدينا مجال لبحث هذا الموضوع لأن هذا علم قائم بذاته اسمه فقه اللغة العربية، وموضوعه الحديث عن خصائص اللغة العربية في التعبير، وهناك خصائص أخرى دقيقة جداً منها أن الفعل الثلاثي مثل (علم) له ستة تقاليب: علم، لمع، ملع، وهذه التقاليب لا بدّ من أن نلمح فيها معنىً واحداً، قاسماً مشتركاً بين كل التقاليب، وهذا يترك للاختصاصيين في اللغة العربية. 


ثبات اللغة العربية واتساعها:


  هناك ظاهرة الإعراب في اللغة، وظاهرة الاشتقاق، والثبات، ثبات اللغة العربية في التعبير، هل تصدقون أن آداب اللغة الإنكليزية التي كتبها شكسبير وأمثاله في القرن السادس عشر الميلادي لا يمكن أن تُقرأ اليوم أبداً إلا مترجمةً من اللغة الإنكليزية إلى اللغة الإنكليزية معنى ذلك أن هذه الإنكليزية متبدلة، سريعة التبدل، بينما اللغة العربية ليست كذلك؛ طلابنا في الصف العاشر يقرؤون شعر امرئ القيس الذي قيل قبل ألف وخمسمئة عام، في حين أن ما كتبه أدباء الإنكليزية في القرن السادس عشر لا يمكن أن يُقرأ اليوم إلا مترجماً، من اللغة الإنكليزية إلى اللغة الإنكليزية، لكن ما كتبه شعراؤنا في الجاهلية يقرؤه طلابنا في المرحلة الثانوية:

ألا أيـها الليل الطويل ألا انجلِ    بصبح وما الإصباح منك بأمثــل

فيا لك مـن ليـل كأن نجـومـــه    بكـل مُغـــار الفـتْل شُدّت بيذبــل

[ امرؤ القيس ]

 هذا شعر قيل قبل ألف وخمسمئة عام، فثبات العربية في التعبير واتساعها في التعبير، وظاهرة الإعراب، يعني حركة واحدة:

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)﴾

[ سورة فاطر ]

 هذه الفتحة على كلمة (الله) تعني مفعولاً به مقدماً انتهى الأمر.

 على كل أحياناً كلمة واحدة مثلاً: (حسَب) يعني عدّ، بينما (حسِب) بالكسرة ظنّ، و(حسُب) يقول لك أنا ابن فلان أي افتخر بحسبه، وأما (حسبُك) اكتفِ، و(قدَم) سبقه بقدمه، (قدِم) حضر، (قدُم) أصبح قديماً، حركة واحدة اختلفت فغيرت المعنى، وكذلك بين (منصِب رفيع) و(منصَب) هناك اختلاف في المعنى، والاختلاف كبير بين الكلمتين، فاللغة العربية دقيقة جداً، والإنسان حينما يتبحر في اللغة يرى شيئاً لا يقدر بثمن.


إتقان قواعد اللغة والتعبير شرط أساسي ولازم لفهم النصوص القرآنية:


 ربنا عز وجل شرّفنا حيث جعل كلامه باللغة العربية، لكن ماذا يُستنبَط من قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ يُستنبط أن هذا القرآن لا يُفهَم إلا وفق قواعد اللغة، يعني إتقان قواعد اللغة وإتقان مدلولات الكلمات وإتقان أساليب العرب في التعبير شرطٌ أساسي ولا أقول: (شرط كافٍ) بل هو شرط لازم غير كاف لفهم النصوص القرآنية. 


فهم كلام الله يتم وفق قواعد اللسان العربي المبين ثم الحكم الشرعي:


﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ شيء آخر، إذاً لا يجوز أن نفهم كلام الله عز وجل الذي أنزله بلسان عربي مبين إلا وفق قواعد هذا اللسان العربي المبين أولاً، ثم الحكم الشرعي ثانياً، أنه لا يمكن أن نأتي نحن بفهم جديد لكتاب الله، وقد قرأ كتاب الله خمسة عشر جيلاً قبلنا، وفهموه على نحو واضح وصريح، يعني أنّ كل نظرية تبني تفسير القرآن على ما لم يُعهد عند الصحابة والتابعين وتابع التابعين فهي فهم خاطئ، فحين سمع هذا القرآن الكريم أجدادنا في العصور الأولى (وهم خير من يفهم اللغة) فإنهم فهموه على نحو معين، أما أن نأتي نحن الآن ونقول قراءة معاصرة ونفهم كلام الله على نحو مغاير لما فهمه السلف من قبل فهذا ابتداع شيطاني لا علاقة له بأصل اللغة.

﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ يعني الأمور مُيسَّرة، والقرآن واضح ذو أدلة، وتعليلات وهناك آيات كونية، وآيات تكوينية، وآيات تشريعية، وآيات تاريخية، وآيات علمية. 

﴿  وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)﴾

[ سورة الزخرف ]


القرآن يصدر عن مبادئ أساسية اعتمدها الله سبحانه:


 أيها الإخوة ﴿أُمِّ الْكِتَابِ﴾ بعضهم قال: يعني اللوح المحفوظ، وقد تكون ﴿أُمِّ الْكِتَابِ﴾ هذه المبادئ الأساسية التي صدر عنها هذا الكتاب، فمثلاً هناك عشرات المراسيم التشريعية، لكن كل هذه المراسيم التشريعية إنما تنطلق من مادة واحدة في الدستور، هي أن التعليم حق لكل مواطن مثلاً، من حق المواطن الحرية، ففي الدستور مبادئ أساسية وهذه المبادئ تُترَجم إلى عشرات بل مئات القوانين التشريعية.

 فهذا القرآن على ما فيه من سور وآيات هو في النهاية يصدر عن مبادئ أساسية اعتمدها الله سبحانه وتعالى لتكون علة الخلق وغاية الخلق.

﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ يعني: القرآن عليٌّ لا يعلو عليه شيء، أي إذا وفِّق الإنسان في حياته الدنيا إلى قراءة القرآن، إلى تلاوته حق التلاوة، وإلى فهمه حق الفهم، وإلى العمل به فما فاته شيء في الحياة الدنيا، فاعلم أن أعلى درجات العلم أن تفهم كلام الله، لأن فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، كم هي المسافة بين الخالق والمخلوق؟ هي نفسها بين كلام الخلق وكلام الخالق.

 فالذي يمضي وقته في قراءة قصة لكاتب قصصي، أو قراءة مسرحية، أو قراءة مقالة، ليس هناك مانع من أن تقرأ، لكن أن تنصرف إلى قراءة ما كتبه البشر وتُعرِض عن قراءة كلام خالق البشر فهذه خسارة كبيرة جداً، أن تنصرف إلى قراءة ما كتبه البشر وهم ضعاف يتناقضون أحياناً، يجهلون أحياناً، لا يتعمقون أحياناً، ترى التناقض في كلامهم أحياناً، ترى اختلافاً في كلامهم، وقد ترى كتاباً غير وافٍ أو غير متوازن، فصل فيه تعمّق شديد وفصل هزيل، وقد يكون الكتاب سطحياً وليس فيه أدلة، ومن دون تطبيقات، وقد يكون مليئاً بالمتناقضات، هذا شأن كلام البشر، لكن لكلام خالق البشر شأن آخر أي لا ريب فيه البتة.

﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)﴾

[ سورة النساء ]


القرآن عليٌّ لا يعلو عليه شيء وحكيم يضع الأمور في نصابها:


 لقد مضى على نزول هذا الكتاب ألف وأربعمئة عام ونيف، فهل في العلوم الكونية كلها حقيقة علمية واحدة تتعارض مع كلام الله؟ مستحيل، هذا كلام الله، سأعطيكم مثلاً من القرآن، ربنا قال:

﴿  وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)﴾

[ سورة النحل ]

 لو أن واحداً ركب طائرة جامبو أو كونكورد، أو ركب باخرة حمولتها مليون طن، أو ركب الحوامة فوق البحر، أو ركب قطاراً سرعته 360كم/سا، وقرأ قوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ ولأنه كلام خالق البشر قال: ﴿وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ لأن الله عز وجل يعلم ما سيكون، لو كان هذا القرآن من عند رسول الله ما كان يعرف أن هناك وسائل أخرى سوف تكون، كذلك حينما تقرأ القرآن تشعر أنه كلام خالق الكون، ولديك إحساس فطري يدفعك إليه.

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ(12)﴾

[ سورة يس ]

 من يجرؤ على أن يقول هذا الكلام من بني البشر جميعاً؟ هذا من اختصاص الخالق، إذاً: عليٌّ لا يعلو عليه شيء، حكيم يعني يضع الأمور في نِصابها، الآية الدقيقة أيها الإخوة: 

﴿  أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ(5)﴾

[ سورة الزخرف ]


دليل قربك من الله عز وجل هو عقابه كلما أذنبت والتدقيق في الحساب معك:


 والله إن هذا الكلام دقيق المعنى جداً، ما من مصيبة أشد على الإنسان من أن يكون خارج العناية الإلهية، يعني ضرب عنه الذكر صَفْحاً، كأن يقول لك: أنا حذفت اسمك من جدولي، بالتعبير الآخر وضعت إشارة إكس على اسمك انتهى، فلما يكون الإنسان منصرفاً إلى الدنيا مصرّاً على الشهوات فالأمر مخيف جداً أن يخرجه الله عز وجل من العناية المشددة.

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾

[ سورة الأنعام ]

 إخواننا الكرام، المؤمن الذي يعاقبه الله كلما أذنب، الذي يعاتبه دائماً، الذي يدقق عليه دائماً فهذا مؤمن قريب من الله عز وجل،

(( إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ الخَيرَ عجَّلَ له العُقوبَةَ في الدُّنيا. ))

[ أخرجه الترمذي ]

(( إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا عاتَبهُ في منامِهِ. ))

[ ضعيف الجامع ]

إذا أحبّ الله عبده ضيَّق عليه أحياناً، فكم يثلج الصدر أن تكون في عناية الله، بل أن تكون في عنايته المشددة، فإذا الإنسان كلما أخطأ عاقبه الله فلا يتبرّم بل ليفرح؛ لأن هذا يعني أنه مقبول ومرغوب فيه، ويُنتظر منه أن يكون مؤمناً كاملاً، والدليل هذه المعالجة وهذه التربية وهذا الاهتمام، وأخطر شيء أن ينساق الإنسان وراء شهواته دون أن يعاقبه الله عز وجل، بل، هذا حصل معه قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾


أخطر شيء أن يطرد الإنسان من العناية الإلهية:


 اخطر شيء أن يُطرَد الإنسان من العناية الإلهية، وأن يطرد من العناية المشددة، وأن يفعل كل المعاصي دون أن يصيبه الله بمصيبة، هذه هي المصيبة، لكن إذا كلما غلطنا تحدث مشكلة، كلما نسينا يوجد تأديب، كلما أشركنا نشعر بالإحباط، كلما أسرفنا في الإنفاق يقتّر الله علينا، كلما قلنا نحن تأتينا ضربة تعيدنا إلى الله، فهذا دليل العناية المشددة ، وكمثال على العناية والاهتمام: أبٌ له ثلاثة أولاد؛ ولد متفوق في الدراسة، وولدٌ ذو عاهة في دماغه، وولد ذكي ولكنه مقصر في الدراسة، تجد الأب ترك الأول والثاني، الأول تركه؛ لأنه يسير وفق الهدف، وهو متفوق في قدراته العلمية، ومتفوق في تحصيله الدراسي، لا يحتاج سوى للدعم، والثاني مادام عنده ضعف في قدراته، ولديه عُته وخلل في دماغه فالأب لا يحاسبه إذا لم يدرس، أما الثالث الذي يتمتع بقدرات عالية لكنه مقصر، فيهتم به أبوه غاية الاهتمام.

 فالله عز وجل إذا كان الإنسان مصرّاً على الدنيا، وليس فيه خير إطلاقاً يعطيه الصحة والجاه والمال والقوة، يعني بالتعبير العامي: "خذها وانمحق" ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾ .


من غفل و انحرف عن منهج الله عالجه الله بعقاب و هذا دليل خير:


 أما الإنسان الذي يُحاسب حساباً عسيراً، ويُدقق معه ويُعاتَب، مرّة بمنام مخيف، ومرة بمشكلة تحدث معه، كلما غفل وكلما انحرف يأتي العقاب فهذا دليل طيب جداً أنك في العناية المشددة، وأنك في مجال رحمة الله، هذه رحمة الله.

﴿  فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)﴾

[ سورة الأنعام ]

 بَأْسُ الله من رحمته، هنا: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ يعني رحمة الله تقتضي ألا يضرب الذكر عنّا صفحاً إذا أسرفنا بل يعالجنا. 


لهذه الآية عدة معانٍ:


1 ـ المعنى الأول استنكاري:

 لهذه الآية عدة معان:

المعنى الأول أن هذا الاستفهام استفهام استنكاري، يعني رغم أن بعض الناس يسرفون في المعاصي فالله سبحانه وتعالى يؤدبهم ويقربهم، يسوق لهم من الشدائد ما يحملهم على طاعة الله. 

2 ـ المعنى الثاني تهديدي:

 المعنى الآخر تهديدي يعني إذا أسرفتم في المعاصي نضرب عنكم الذكر صفحاً. 

﴿  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38) إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)﴾

[ سورة التوبة ]

 الله عز وجل يسوق الشدائد، ويسوق التوجيهات إلى أن يصر العبد على المعصية يصرّ على ما هو فيه عندئذ يفتح الله له باب الدنيا إلى أن يأتي أجله فيقصمه قصماً.


عقاب الله للمؤمن كلما أغضبه هو رحمة بالمؤمن ليكون في مرتبة عالية:


 فإخواننا الكرام، الأخ المؤمن الذي كلما أخطأ أدبه الله، فهذه رحمة من الله، وهذه عناية مشددة، وهذا لطف، وهذا يعني أنك مطلوب، وأنه مرغوب فيك، وأن فيك خيراً، وأنك مؤهل لتكون في مرتبة عالية، اسمعوا الآية الكريمة:

﴿  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ(5)﴾

[ سورة القصص ]

 هذه الآية تكفي المستضعفين، فما دام الله عز وجل يريد بنا الخير، وأن يرقى بنا، وأن يُعرِّفنا الحقيقة، وأن يحملنا على طاعته فمرحباً بهذا الذي يسوقه لنا، لكن الأكمل أن نسير إلى الله من دون سلاسل،

(( عجِب ربُّنا عزَّ وجلَّ من قومٍ يُقادونَ إلى الجنةِ في السلاسلِ. ))

[ صحيح أبي داوود ]

الأكمل أن نذهب إليه دون أن نُساق بالسلاسل.


العاقل من أتى ربه بمبادرة منه مختاراً لا مقهوراً:


 إذا كنتم ترغبون في أن نلخص دروس عشرين سنة فاسمعوا هذا التلخيص: إما أن تأتيه مسرعاً، أو أن الله سبحانه وتعالى يجلبك راكضاً، والأكمل أن تأتي من تلقاء نفسك، أي بمبادرة منك ومختاراً لا مقهوراً.

فهذه الآية لها معنيان؛ يعني ولو كنتم قوماً مسرفين فرحمتنا تقتضي ألا نخرجكم من عنايتنا المشددة، وهذا استفهام إنكاري: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمْ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ﴾ .

 والمعنى الثاني إذا أسرفتم في المعاصي نضرب عنكم الذكر صفحاً وهذا تهديد، فإما أن يكون المعنى استفهاماً إنكارياً أو تهديداً. 

﴿  وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6)﴾

[ سورة الزخرف ]

 و(كم) هذه التكثيرية، يعني أرسلنا أنبياء كثيرين ﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا﴾ فأحياناً تقول: كم كتابٍ عندي! وقد تقول كم كتاباً عندك؟ فهذه استفهامية، لكن كم كتابٍ عندي! هذه اسمها خبرية أو تكثيرية.


خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت وليس خيار قبول ورفض:


﴿  وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ(6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ(8)﴾

[ سورة الزخرف ]

 معنى ذلك أن بالنهاية الإنسان مهما كذب، واستهزأ، فلا بدّ من أن يعترف بالحق، لكن بعد فوات الأوان، هذه الحقيقة أقولها كثيراً، وهي خطيرة جداً، خيارك مع الإيمان ليس خيار قبول أو رفض، الكأس أمامي فأنا أشرب أو لا أشرب، هذا اسمه خيار قبول أو رفض، لكن حيال فكرة الإيمان، فخياري مع الوقت، وليس خيار قبول أو رفض، الوقت يمشي شئت أم أبيت، بعد حين يؤذن العشاء فأنا خياري مع الوقت خيار انتظار، أما خياري مع هذا الكأس خيار شرب أو عدم شرب، خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط، يعني إما أن يؤمن في الوقت المناسب، فيستفيد من إيمانه أشد الاستفادة، ويسعد في الدنيا والآخرة، وإما ألا يؤمن، فيؤمن عند الموت؛ لكن هذا الإيمان لا قيمة له ولا ينفعه أبداً، إذ جاء بعد فوات الأوان.


إن لم نؤمن عاجلاً فلا بد أن نؤمن متأخرين فنخسر الدنيا والآخرة:


 هذه الفكرة أخطر فكرة يمكن أن تحرك الإنسان نحو الله عز وجل، فما من إنسان أشد كفراً من فرعون، يكفيه أنه قال: 

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ(24)﴾

[ سورة النازعات ]

ومع ذلك حينما أدركه الغرق ماذا قال؟

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ(90)﴾

[   سورة يونس  ]

 وهناك آيات كثيرة تحمل ذات المعنى، ﴿آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ وحّد الرجل، لكن متى؟ وهو يغرق، إذاً فرعون نفسه هل كان خياره مع الإيمان خيارَ قبولٍ أو رفض؟ لا بل كان خيار وقت، لأنه ما آمن حينما دُعي إلى الإيمان، بل آمن حينما أدركه الغرق، ونحن إن لم نؤمن عاجلاً، فلا بدّ أن نؤمن متأخرين، لكن إن آمنا الآن نكسب الدنيا والآخرة معاً، وإن أخّرنا الإيمان لحين الأجل نخسر الدنيا والآخرة معاً، إما أن تربح الدنيا والآخرة معاً وإما أن تخسرهما معاً، فالفرق بين أن تؤمن في الوقت المناسب أو أن تؤمن في الوقت غير المناسب ﴿وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون*فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾


الحكمة من بقاء آثار الأقوام الطاغية:


 ربنا عز وجل شاءت حكمته في أن يترك هؤلاء الأقوام العتاة الطغاة الأقوياء آثاراً، تشهد لهم بقوتهم، يعني هل عندنا مهندس يستطيع أن يفتح نافذة في بناء تدخلها الشمس يوماً واحداً في العام كله، وهو يوم ميلاد إنسان ما، بناء نافذةٍ ضيقة بزوايا معينة بحيث تدخلها الشمس في العام كله مرة واحدة، هذا شيء مذهل، من السهل جداً صنع نافذة عرضها مترين وطولها ثلاثة أمتار، وأن يكون لها جرار من الألمنيوم وانتهى الأمر، أما نافذة تدخلها الشمس في العام مرة واحدة! فهذه ترمز إلى تاريخ محدد.

 إذا ذهب زائر إلى الأهرامات ونظر إليها، فإنه يشاهد كلّ حجر تقريباً طوله خمسة أمتار وأحياناً ثمانية أمتار، عرضه أربعة أمتار، ارتفاعه متران، وقد حُمل من صعيد مصر، فعلى أي مركبات نُقِل؟ والمسافة من النيل إلى منطقة الهرم كبيرة، حوالي اثني عشر كيلو متراً فكيف نقل هذا الحجر؟ وعلام نقل؟ ثم كيف وضع في قمة الهرم؟ فالأهرام تعد من عجائب الدنيا السبع.

 وأما الأنباط، فقد نحتوا الجبال بيوتاً وعملهم أيضاً من عجائب الدنيا السبع، هؤلاء أقوام، ولما دخلنا إلى المتحف الفرعوني الخبز الذي كانوا يأكلونه قبل سبعة آلاف عام رأيناه بأم أعيننا، وكذلك اللحم الذي كانوا يأكلونه قبل سبعة آلاف عام وجدناه محنطاً، ورأينا بعض القبور كقبر توت عم خانون، شيء لا يصدق، كل شيء يحتاجه هذا الإنسان موجود في القبر، مركبات، أطعمة، لحوم، ألبسة، مُذَهّبات، مما يذهل الإنسان، فهؤلاء أقوام لهم حضارات بينما حضارتنا كلها إسمنت مُسلح، تقوم بجَبْل الإسمنت وتُعمّر به الأبنية.

 وكذلك قلعة بعلبك التي فيها أعمدة ستة، كل عمود من قطعة حجر واحدة، كيف نُحتت؟ وكيف قُطعت؟


قراءة التاريخ تؤكد أن هؤلاء الأقوام كانوا أكثر قوة وبطشاً ومع ذلك أهلكهم الله بكفرهم:


﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ*وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون*فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾ يعني إذا قرأ الإنسان التاريخ أو شاهد الآثار يقف أمام حقائق ناصعة تؤكد أن هؤلاء الأقوام كانوا أشدّ منا قوة، وأكثر بطشاً ومع ذلك أهلكهم الله، قال تعالى:

﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(19)﴾

[ سورة سبأ ]

 دخلنا قاعة في آثار الأنباط لا تقل عن حجم هذا المسجد منحوتة بالجبل الصخري، بأبعاد هندسية دقيقة جداً، مكعب كامل، ليس بناء ولكنه نحت في الجبل، الأعمدة منحوتة من الجبل، التيجان منحوتة من الجبل، البيوت، الحمامات كلها منحوتة من الجبل، وبيوت منحوتة في الجبل ولها نوافذ تهوية، وغرف عديدة ليس هناك بناء إطلاقاً، وإنما جبل منحوت!

﴿وَتَنْحِتُونَ مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ(149)﴾

[ سورة الشعراء ]

 الأهرامات دليل، عاد وثمود دليل آخر. 


الاعتراف بوجود الله لا يكفي بل لا بد من الالتزام بمنهجه سبحانه وتعالى:


 ﴿فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ﴾ المشكلة أن هؤلاء الذين بطش الله بهم وأهلكهم ودمرهم لو سألتهم: 

﴿  وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9)﴾

[ سورة الزخرف ]

 فهل الاعتراف بوجود الله يكفي؟ لا، لا يكفي، الاعتراف بوجود الله لا يكفي ولا ينجّي، لا بدّ من أن تلتزم منهج الله عز وجل، فإيمانهم هذا اسمه إيمان إبليسي، إبليس قال لربه:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)﴾

[ سورة ص ]


الاستقامة على أمر الله والتزام الأمر والنهي هو الذي ينجي من عذاب الله:


 إبليس اعترف بوجود الله، واعترف بعزته، واعترف بربوبيته قال: ربي، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ، إذاً الاعتراف بوجود الله لا يُنجّي من هلاك الدنيا وعذاب الآخرة، الذي ينجي منهما أن تستقيم على أمر الله، وأن تلتزم الأمر والنهي، ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الأمر والنهي.

﴿  وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10)﴾

[ سورة الزخرف ]

 هذا موضوع للتفكر، كيف أن الله عز وجل جعل هذه الأرض ممهدة لحياتنا؟ وجعلها منبسطة، فلو كانت الأرض كجدران مائلة من الصخور كيف نتحرك عليها؟ وكيف نبني عليها البيوت؟ لكنه سبحانه جعلها مسطحة، وجعلها ذات تربة هشة، ولو أنها كانت صخرية فكيف نأكل ونشرب؟ وجعل الأشياء مرتبطة بها عن طريق الجاذبية، هذا الكأس له وزن، ما معنى الوزن؟ يعني لو تركناه لانجذب إلى مركز الأرض، يعني له قوة جذب، فكل شيء على سطح الأرض ينجذب إلى مركزها، لولا هذه القوة لما استقر شيء عليها، وهذا يبدو واضحاً في مراكب الفضاء، فإذا تجاوزت المركبة الفضائية مركز الجاذبية الأرضية، ولم تدخل في جاذبية القمر تصبح الحياة فيها صعبة جداً، الأشياء تطير لانعدام الوزن، فحالة انعدام الوزن صعبة جداً، الحاجات تصبح عند السقف إذ ليس هناك وزن، لكن ما دام هناك وزن فالأشياء مستقرة، وهذا الوزن له حدّ؛ لو كان الكأس وزنهه مئة كيلو فليس باستطاعتي أن أملأها، يعني أن هناك وزناً معقولاً يتناسب مع قدرة الإنسان، كما يتناسب مع قوة الجذب.


للأرض قوانين تحكمها لتناسب حياة الإنسان:


 إذاً الأرض ممهدة، فهي مسطحة أولاً، ومؤلفة من تربة ثانياً، وثالثاً فيها هواء نتنفسه، وفيها ماء نشربه، والماء لا لون له ولا طعم ولا رائحة، عذب فرات، وعلى سطحها بحيرات، وبحار، وجبال وكلها ذات آثار كبيرة في الطقس والمناخ، إضافة إلى النباتات والحيوانات، ويوجد سماء صافية، وحيوانات نستفيد منها، هذا معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا﴾ ممهدة، مهيأة، وفيها المعادن من الرخيص المبذول كالحديد مثلاً، ومنها الثمين النادر كالذهب والفضة، وفيها معادن لينة كالرصاص سريعة الانصهار، ومعادن بطيئة الانصهار لها استعمال آخر، وفيها أشباه معادن، وفلزات، الحديد كان بشكل فلزات كي يسهل استخراجه، هذا كله يندرج تحت قوله تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ وفيها وسائل لكسب الرزق، وفيها الممرات والوديان، ولها قوانين تحكمها، مثلاً قانون أرخميدس، فإذا وضعنا جسماً في الماء يطفو على سطح الماء بقدر وزن الماء المُزاح، يوجد قوة دفع نحو الأعلى، إذاً لولا أن الماء يمتاز بهذه الخاصة لمَا أمكننا السفر عبر البحار والمحيطات، ولا نقل البضائع، إذاً يوجد سبل؛ فممكن أن نزرع ونأكل، وممكن أن نصيد السمك، ونبني البيوت فهناك مواد أولية للبناء، وهناك مواد نكتسي بها ونلبسها، فهذه سبل للكساء، وتلك سبل للغذاء، وسبل للبناء، وسبل لكسب الرزق، وسبل زراعية، وسبل صناعية، وسبل تجارية، وبحار، وبلاد، وشعوب، وأنهار، هذا معنى قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا﴾ يعني: طرقاً، وهي إما طرق تعبرونها، أو طرق لكسب العيش. 

﴿ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)﴾

[ سورة الزخرف ]


آيات ودلائل على وحدانية الله سبحانه:


 تجد الأرض في الشتاء قاحلة، الأشجار يابسة، المنظر مُكفهِر، تهطل الأمطار الوفيرة، فتهتز الأرض، وتُنبِت النبات الأخضر، والأشجار تزهر وتورق وتثمر، كانت حطباً أصبحت أشجاراً مثمرة ذات أنواع منها التفاح والكمثرى، وفيها الفواكه التي تطيب بها النفوس، إذاً: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ الشتاء جعله الله موتاً مؤقتاً؛ التربة قاحلة، الشجر يابس فهو ينام في الشتاء، يصبح حطباً تماماً إلى أن يأتي الربيع فيسري فيه هذا النسغ، فتصبح الشجرة كالعروس ترتدي حُلّة قَشيبة بيضاء، ثم تصبح مُخضرّة، ثم تحمل الثمار ذات الألوان الزاهية، والطعوم الطيبة، من خلق هذا كله؟ هذه آيات صارخة لكن الإنسان الغافل لا يراها، والله هناك آيات في النبات تكفي لتجعل الإنسان يركع لله عز وجل، وهناك آيات في خلقِ الإنسان كافية، وآياتٌ في طعامه وشرابه وفي أولاده، وفي الحيوانات التي حوله، في النباتات التي يعيش منها، وفي كل شيء. 

﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12)﴾

[ سورة الزخرف ]


الآيات الكونية في القرآن هي موضوعات للتفكر:


 فتجد هذه الدابة تستعين بها في الحرث، وتركبها، وتأكل من لحمها.

أيها الإخوة الكرام، مرة ثانية أذكركم بأن القرآن الكريم كثيراً ما يذكر الآيات الكونية، وهذه الآيات يمكن أن تكون موضوعات للتفكر فيها، فعلينا أن نفصل فيها: 

﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ ظاهرة الماء هذه من أضخم الموضوعات للتفكر. 

﴿وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا﴾ نظام الزوجية في الخلق. 

﴿وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ﴾ كيف أن الماء يحمل هذه السفن فهذا موضوع للتفكر، وكيف أن هذه الحيوانات التي سخرها الله لنا نركبها وننتفع بها، ونأكل من لحمها. 

﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13)﴾

[ سورة الزخرف ]

 ولنا عودة إلى هذه الآيات في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور