- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (043)سورة الزخرف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع من سورة الزخرف.
العقل والشهوة متناقضان فمن يتبع شهوته يضعف عقله:
مع الآية السابعة والخمسين، ولكن قبل أن نمضي في شرح هذه الآية أود أن أقف قليلاً عند قوله تعالى حينما قص علينا ربنا جل جلاله قصة فرعون، ففي نهاية القصة قال:
﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)﴾
وكأن هناك علاقة بين الفِسْق وبين خِفّة العقل، استخفهم لأنهم كانوا فاسقين، والإنسان حينما يتبع شهوته يضعف عقله، لأن اتباع الشهوة مناقض للعقل، إما أن تتحرك وفق عقلك أو أن تتحرك وفق شهوتك، وحينما توعَّد الله هذه الأمة بالهلاك وصف سبب هذا الهلاك فقال تعالى:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)﴾
كلمة المسلمين ليست هي العليا الآن لأنهم أخلفوا وعدهم لله:
إذا أردت أن تحلل أسباب ضعف المسلمين وهم يزيدون على ألف ومئتي مليون في العالم، إذا أردت تحليلاً قرآنياً لضعف المسلمين، وكيف أن كلمتهم ليست هي العليا، وكيف أن الله فيما يبدو تخلّى عنهم، لا لأنه أخلف وعده معهم، ولكنهم هم الذين أخلفوا وعدهم مع ربهم، قال:
الله أودع في الإنسان الشهوات وجعل لها قنوات نظيفة:
أما موضوع الشهوات؛ فما من شهوة أيها الإخوة –وهذا كلام دقيق جداً- أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة، شهوة النساء، وشهوة المال، وشهوة العزّ والعلو في الأرض، هذه الشهوات الأساسية لها قنوات، لك أن تكسب المال الحلال، ولك أن تتزوج من شئت، ولك أن ترتفع لا عن طريق إيقاع الأذى بالآخرين، ولكن عن طريق نفعهم ومعرفة ربك، إذاً ما من شهوة أودعها الله عز وجل إلا وجعل لها قناة نظيفة، فاتباع الشهوات المقصود به من دون منهج الله عز وجل، والإسلام واقعي، كما أنه دين الفطرة.
على الإنسان أن يحسن استخدام عقله:
خُلِق العقل ليكون أداة لمعرفة الله فهو أصل الدين:
أيها الإخوة ما من عطاء –وهذا كلام دقيق- على وجه الإطلاق يفوق هذا العقل الذي ميّز الله به الإنسان على بقية المخلوقات، وهذا العقل إنما خلقه الله من أجل أن تتعرف إليه به، معظم الناس يستخدمون عقولهم لغير ما خُلِقت له، خُلِق العقل من أجل أن يكون أداة لمعرفة الله، فاستخدم الإنسان العقل للوصول إلى مآربه الخسيسة، ولجمع الأموال بأساليب غير مشروعة، لذلك فإن العقل كما أنه عطاء كبير، فهو في الحقيقة وَبالٌ كبير، فيما لو لم يُستخدَم وفق منهج الله عز وجل.
آية دقيقة الدلالة، فالإنسان حينما يقبل شيئاً من غير دليل، شيء غير منطقي، وغير واقعي، ويتناقض مع الفطرة، ويتناقض مع العقل، يقبله ويعطّل عقله، ويتعامى عن فطرته، ويتجاهل الواقع فهذا إنسان خفيف العقل، أو بلا عقل، إذاً فرعون ما كان له أن يعطي أوامره لهؤلاء الذين كانوا معه لولا أنهم ضعاف العقول، وهؤلاء الذين كانوا معه ما كانوا ليكونوا ضِعاف العقول لو أنهم اتبعوا الحق، بل اتبعوا شهواتهم فضعفت عقولهم، فاستخف بهم فأمرهم فنفذوا أمره.
يعني ما من شيءٍ يرفع شأن الإنسان في الحياة الدنيا ويميزه عن بقية المخلوقات كالعقل، والآيات التي تتحدث عن العقل والعلم في القرآن الكريم تقترب من ألف آية، وما من أمرٍ إلهيٍّ إذا عرضته على العقل السليم إلا ويقبله، وما من نهيٍ إلا إذا عرضته على العقل السليم يقبل هذا النهي، فديننا دين العقل، إنما الدين هو العقل، العقل أصل الدين:
﴿ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ
﴿
﴿ قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ۚ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ
﴿ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ
﴿ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍۢ ۚ
الآيات التي تتحدث عن الفكر والعقل والتأمل والتدبر والتفكر تقترب من ألف آية في القرآن الكريم.
العقل أصل الدين وفرعون استخف قومه لأنه وجد عقولهم سقيمة:
إذاً فهذه الآية دقيقة المعنى جداً، لماذا استخف قومه؟ وجدهم ضعاف العقول، لماذا ضعفت عقولهم؟ لأنهم اتبعوا شهواتهم، إذاً اتباع الشهوة يتناقض مع العقل، تقريباً لو جعلت العقل نقطة هنا والشهوةَ نقطةً هناك، وأنت بينهما، فإذا اقتربت من الشهوة ابتعدت حكماً من العقل، وإذا اقتربت من العقل ابتعدت حكماً من الشهوة، وأنا حينما أتحدث عن الشهوة لا أتحدث عن الشهوة التي تُمارَس وفق منهج الله، لا، فهذه انطلقت في قناتها الطبيعية المشروعة.
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)﴾
لا لوم عليك، إذا كسبت المال الحلال ليس عليك لوم، إذا اقترنت بامرأة وأنجبت منها أطفالاً ليس عليك لوم، وإذا ابتغيت الرفعة بين العباد عن طريق طاعة الله عز وجل ليس عليك لوم، اللوم حينما تتبع الشهوة من دون منهج، وحينما يُتَّبَع الهوى من دون أصل.
هذا تعليق على الآية السابقة:
لا بد من وقفة تسأل بها نفسك أيعقل أن يُخلق هذا الكون عبثاً ؟
إذاً أيها الإخوة الكرام لابد من وقفة متأنية، لابد من وقفة تحاسب بها نفسك حساباً عسيراً، كي يكون حسابك يوم القيامة يسيراً، لابد من موقف تتوقع فيه المتوقَّع وهو المغادرة، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( كنتُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عاشِرَ عَشرةٍ، فذكر حديثًا طويلًا، فيه: فقال فتًى: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ المؤمنينَ أفضَلُ: قال: أحسَنُهم خُلُقًا،
وقفة، فحضور مجلس العلم جيد جداً، لأنه:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ
والتفكر أجود قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190)الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾
ولابد من سؤال تلقيه على نفسك يومياً؛ هذا الكون العظيم أيعقل أن يخلق سُدَىً؟
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(38)﴾
ليس معقولاً، فاللعب عمل عابث بلا هدف.
﴿
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول:
ما هو الحق؟ الحق الشيء الثابت والهادف، المخلوقات خُلِقت لتبقى والموت عرَضٌ يصيبها.
﴿
خُلِقت لتبقى إلى أبد الآبدين.
﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)﴾
خُلقتَ لتبقى إلى أبد الآبدين، إما في جنة يدوم نعيمها، أو نار لا ينفد عذابها.
أيها الإخوة الكرام، كلام دقيق؛ خيارك مع الإيمان خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، خيارك متى تؤمن؟ لأنه لابدّ من أن تؤمن، فاحذر أن تؤمن بعد فوات الأوان، فرعون آمن عند الموت، طبعاً فالإنسان عند الموت:
﴿ لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا
على المؤمن أن يتأمل ليعرف إلى أين هو ذاهب:
المؤمن حينما يأتيه الموت ويرى مقامه في الجنة يقول: لم أرَ شراً قط، كل المصائب التي ساقها الله له من أجل أن يطهره ويرقى به بها، ويكرر لم أر شراً قط، والكافر حينما يرى مقامه في النار يقول لم أرَ خيراً قط ولو كان في الدنيا بأعلى درجات التنعم والغنى والقوة.
فيا أيها الإخوة الكرام مزيداً من التأمل، تأَمّل، صلِّ الفجر واجلس وتأمل إلى أين أنت ذاهب؟ الله عز وجل قال:
﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ(26)﴾
نهاية الطريق مسدود، هناك أناس جمعوا أموالاً طائلة، ووصلوا إلى مراتب عالية، وجاءهم ملك الموت فكانوا صفر اليدين، انظر فهل الطريق الذي أنت فيه سالك أم غير سالك؟ أم يوصل إلى مطب كبير، وإلى شقاء كبير؟
﴿ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ ۚ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ۗ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لَّا يَهِدِّي إِلَّا أَن يُهْدَىٰ ۖ
وقال:
﴿ خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ۚ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ
على المؤمن أن تكون عقيدته ثابتة وأن يبتعد عن الاعتقادات الفاسدة:
ننتقل الآن إلى الآيات التي تبدأ بقوله تعالى:
﴿ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ(57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)﴾
أيها الإخوة هذه القصة تبين أن عقيدة الإنسان شيءٌ خطيرٌ في حياته، والخطأ في العقيدة مشكلته أنه خطأ لا يتوب الإنسان منه ، لأن المعتقِد خطأ يظن أنه على صواب، أما المذنب إذا عرف أنه مذنب فقد يتوب من ذنبه، لذلك إبليس لا يفرح بالمعصية، بل يفرح بالابتداع وهو أن تعتقد اعتقاداً فاسداً، فكل واحد من المؤمنين الطيبين يجب أن يعرف بالضبط ما عقيدته؟ هل عقيدته مطابقة لكتاب الله عز وجل، ولِمَا جاء به النبي عليه الصلاة والسلام؟ إن لم تكن كذلك عليه أن يصحح قبل فوات الأوان.
هؤلاء العرب في الجاهلية اعتقدوا اعتقادات فاسدة، وكذلك أهل الكتاب اعتقدوا اعتقادات فاسدة، ومناقشتنا حول موضوع في العقيدة، والإنسان حينما يعتقد اعتقاداً جازماً أن لهذا الكون خالقاً ومربياً ومسيِّراً موجوداً وواحداً وكاملاً، وأسماءه كلها حسنى، وصفاته كلها فضلى، وأنه أنزل كتباً من عنده إلى البشر ليهتدوا بها، وأن القرآن الكريم قد حفظه الله من أن يُغيَّر أو يُبدَّل، وأن الأنبياء عباد مكرمون اصطفاهم الله عز وجل، وأنعم عليهم بالوحي، وأيّدهم بالمعجزات وهم معصومون قبل النبوة وبعدها، وأن هناك مخلوقات نورانية هي الملائكة سخرها الله عز وجل لمهمات كثيرة منها أنها تسجل على العبد أعماله الصالحة والطالحة، وأن هناك عالَماً بعد الموت أبدياً، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هذه أركان الإيمان ينبغي أن نتعلمها، ينبغي أن نعقِلها، ينبغي أن نتبناها، ينبغي أن تحرك مسرى حياتنا.
يجب أن نؤمن بالحساب يوم القيامة:
الشيء الملاحظ أنك قد ترى إنساناً مسلماً من أب وأم مسلمَين، ولا ترى في حياته اليومية ولا في أعماله، ولا في تصرفاته ما تشعر معه أنه يعمل للآخرة، بالعكس قد ترى في تصرفاته ما ينبئ أنه لا يحسب حساباً إطلاقاً لليوم الآخر، وأنه يتحرك وكأن هذا الكون لا إله له ولا خالق له، القوي يأكل الضعيف، الذكي يحتال على الغبي، الغني يزداد غنىً والفقير يزداد فقراً، فالقضية أخطر من أننا تعلمنا في المدرسة الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، إذا آمنت أن الملَك كما أخبرك الله عز وجل يسجل عليك كل شيء، فكيف تقول هذه الكلمة وهي كذب؟ كيف تحلف بالله كذباً؟ كيف تغش المسلمين؟ كيف تحتال لكسب المال؟ كيف تجحد الفضل؟ كيف لا تكون منصفاً مع الآخرين إذا حكّموك؟ فمعنى ذلك أن موضوع الملائكة لا تصدقه، وأن موضوع الحساب يوم القيامة لست مهتماً، ولذلك نحن نناقش قضية في العقيدة:
المعجزات مقبولة عقلاً لكنها غير مقبولة عادةً:
سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام عُبِدَ من قبل النصارى من دون الله، فلما قال الله عز وجل:
﴿
أتعجبون أن يُخلَق إنسان من غير أبٍ! فالله على كل شيء قدير، أن يُخلَق الإنسان من دون أب فهذا شيء غير مألوف عادة، لكنه مقبول عقلاً لأن الذي خلق الكون من عدم، الكون بأكمله، والمجرات بأكملها، مليون مليون مجرة، في كل مجرة مليون مليون نجم، هذا الكون بأكمله خُلِق من عدم، أيعجز الله عز وجل أن يخلق إنساناً واحداً من غير أب! فالمعجزات مقبولة عقلاً لكنها غير مقبولة عادة، فلماذا عُبِد من دون الله؟ لأنه من دون أب، من دون أب
الأسباب تقترن مع النتائج ولا تخلقها:
لما ربنا عز وجل خلق هذه القوانين ليُعْلِمَنا أن الله هو الخالق، وليس السبب هو الذي يخلق، الإنسان حينما يبتعد عن الله عز وجل يتوهم أن الأسباب تخلق النتائج، لكن علماء العقيدة يرون أن الأسباب تقترن مع النتائج ولا تخلقها، والدليل أن السبب قد يتخلّف، وتأتي النتيجة، كسيدنا عيسى، فقد تخلّف السبب وجاءت النتيجة، وقد توجد النتيجة بلا سبب، أو قد يوجد السبب؛ كأم وأب كاملَين ولا ينجبان أولاداً، إذ جعلهما الله عقيمَين.
إذاً فحينما تُخرَق العادات فهذا من أجل أن نعلم أن السبب وحده لا يكفي لخلق النتيجة.
حينما يستخدم العقل لغير ما خلق له فهو كثير الجدل والمناقشة:
لذلك:
الآن هناك آلات طابعة تطبع الصورة الملونة غالية الثمن جداً، يقترب ثمنها من مليون ليرة، هذه الآلة يمكن أن تستخدمها استخدامات تجعلك من الأغنياء من خلالها، أما إذا استخدمتها لتزوير العملة فقد تودَع في السجن، والآلة هي نفسها إن استخدمتها في الأغراض المشروعة اغتنيت منها، أما إن استخدمتها في الأساليب غير المشروعة أودت بك إلى السجن، والآلة هي هي، فكيف العقل؟!
المجادلة والافتراء و قلب الحق إلى باطل هذا كله نشاط عقلي ولكن لغير ما خلق له العقل:
فالمجادلة والمماحكة والإفك والافتراء وقلب الحق إلى باطل، والباطل إلى حق، وافتعال المبررات للصد عن سبيل الله، هذا كله نشاط عقلي ولكن لغير ما خُلق له العقل.
الجدل سلاح المنحرفين والمنافقين:
بالمناسبة ما أضلَّ الله قوماً بعد إذ هداهم إلا أُوتوا الجدل، الجدل سلاح المنحرفين، سلاح المنافقين، سلاح الكفار، سلاح الفُجّار.
أيها الإخوة، لو تبرّأ الإنسان وتنزّه عن مآربه الدنيوية، وعن عنعنات الجاهلية، وعن أهوائه، وعن مصالحه وابتغى الحقيقة لوجه الله عز وجل، فو الله لا يحتمل في مناقشته لنفسه أكثر من دقيقة واحدة، فالأمور واضحة كالشمس، كونٌ ينطق بوجود الله، وينطق بكماله، وينطق بوحدانيته، وينطق بقدرته، وكتاب بين أيدينا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنبياء كالشموس مُثُلٌ عليا، وقدوةٌ صالحة، ومنهجٌ واضح جداً، العقل يقبله، والفطرة ترتاح له، والواقع يؤيده، والنقل يدعمه، ماذا بقي إلا التحرك نحو الله عز وجل، فماذا ننتظر؟ شمروا فإن الأمر جد، وتأهّبوا فإن السفر قريب، وتزودوا فإن السفر بعيد، يعني وقته قريب، ومسافته بعيدة، وخفّفوا الأثقال فإن في الطريق عقبة كؤود، لا يجتازها إلا المخفون.
على الإنسان أن يستقيم على أمر الله وأن يلتزم بمقتضيات الإيمان:
الإنسان لا ينبغي أن يتأخر، إن سمع الحق فليُشمِّر، وليؤدِّ الصلوات، وعليه أن يستقيم على أمر الله، يراجع حساباته، يراجع بيته هل فيه مخالفة شرعية؟ يراجع عمله، يتوب من ذنب اقترفه ليصلح ما أفسد، إذا هناك حقوق عالقة فليؤدِّها قبل فوات الأوان، يجب أن يتحرك، فأحياناً يصدر قانوناً يحرك البشر حركة مذهلة، ويصدر تصريحاً أحياناً في مجلة يؤدي لبيع وشراء، ودفع وقبض وتسويات، مشروع قانون قد يغير معالم التجارة كلها والله يقول لكم:
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)﴾
ويقول:
﴿
اقرأ القرآن، يجب أن تشمر وأن تبادر وأن تتحرك، لذلك قال سبحانه:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ
هو آمن؛ لكنه لم يأخذ موقفاً عملياً، آمن لكنه لم يلتزم، آمن لكنه لم يحرك ساكناً، آمن لكنه قال: سبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ليس باليد حيلة، هذا إيمان إبليسي لأن إبليس آمن وقال: فبعزتك، اعترف بوجود الله، وبأنه عزيز، ولكن تحرك حركة معاكسة لمقتضيات الإيمان.
الخطأ في العقيدة مستمر أما الخطأ في السلوك فمنقطع:
أيها الإخوة الكرام، ليس المقصود تفاصيل هذه المناقشة بل المقصود أن تعتقد عقيدة صحيحة، لأن الخطأ في العقيدة مستمر، أما الخطأ في السلوك فمنقطع، تغلط فتتوب، أما الذي يعتقد اعتقاداً فاسداً هذا كيف يتوب؟ يظن أنه على حق.
(( خيرُ القُرونِ قَرْني ثمَّ الذين يَلُونَهم ثمَّ الذين يَلُونَهم. ))
هذه القضية الصحابة لم يلتفتوا إليها، ربنا عز وجل قال:
﴿
يجب أن ننظر إلى المضمون لا إلى الشكل:
بنص القرآن رضي الله عنهم، فهم خِيرَة الخلق، وحققوا الهدف من خلْقهم، وكانوا مع نبيهم، فالموضوعات التي لم يهتموا بها ينبغي ألا نهتم بها، ينبغي ألا نخوض في خلافات، وفي مماحكات، وفي مناقشات، الحياة قصيرة لا تحتمل، والأفكار فيها بسيطة جداً، خلاصتها هذا الإله خالق الكون وهذا كتابه وهذه سنة نبيه، فماذا تفعل أنت؟ تحرك يا أخي، تبْ إلى الله،
(( اعبدِ اللهَ كأنَّكَ تراهً، فإنْ لمْ تكنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ. ))
ولا تقحم نفسك في خصومات وخلافيات وترُّهات وجدل، إلى أن ينقضي العمر وأنت في جدل.
لو فرضنا؛ أن إنساناً قرأ إعلاناً على الجدار لمنع التجول تحت طائلة إطلاق الرصاص، ثم وقف عند الإعلان؛ هذا الخط رائع، والحبر لامع، والورق خشِن، والتوقيع جميل، بدأ يحلل هذا البلاغ إلى أن جاءت رصاصة فقتلته، انظر المضمون أولاً؛ أن تدخل إلى بيتك فقط، لكن اهتمامنا انصبَّ على الشكل حتى نسينا المضمون، الإنسان عليه أن يتحرك نحو النجاة، عليه أن يستقيم، واللهِ إن عدْل ساعة أفضل من أن تعبد الله ثمانين عاماً، أن تستقيم على أمر الله كما قال أحد العلماء:
(( لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجته -وأشار بأصبعه- أفضل من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرين.))
كن عملياً، الدين بسيط ولكن نحن عقدناه، قضاياه بسيطة، وربنا رب النوايا، النبي الكريم كلما سئل في الحج قال: افعل ولا حرج.
التاريخ لا علاقة لنا به نأخذ منه الإيجابيات فقط:
ليس القصد أن تقصّر، لا؛ لكن لا تدخل في مجادلات ومماحكات، والخلاف بين الفرق الإسلامية هذا لا ينفعك، هدفك واضح، والطريق سالك للهدف، واترك أي مشكلة وراء ظهرك، والغِ التاريخ كله بآية واحدة:
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(134)﴾
انتهى الأمر، هذا التاريخ ليس لنا علاقة به، نأخذ منه الإيجابيات، نأخذ منه ما يحفزنا إلى البطولة، أما ما كان عبئاً علينا ندعه، العبء تركناه والحافز أخذناه، المنهج واضح أنا أريد أن تكون عملياً.
﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ(50)﴾
العبرة بالتطبيق والقصد أن تتبع منهج الله عز وجل:
(( إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ))
يجب أن نعرف الصحابة الكرام بماذا ارتقوا؟ كيف رضي الله عنهم؟ كيف أحبوا النبي حباً جماً؟ كيف فدوه بأرواحهم وأموالهم؟ اتبعوا المنهج، لكن نحن لا نتبع المنهج ومازلنا نتناقش، تجده يؤيد العالم الفلاني لا الفلاني، والدعوة الفلانية لا الفلانية، يخوض في أعراض العلماء وهو لم يطبق شيئاً من دعواتهم كلهم، فكل واحد دعاك إلى الله على العين والرأس، دعاك إلى الله وفق منهج الله فلا تعقد الأمور، ولا تعمل انتماءات، وتطعن بهذا، وتسوّد هذا، وتُخطِّئ هذا، ليس هذا هو القصد، القصد أنهم كلهم يشرحون منهجاً مُوحّداً هو الكتاب والسنة بأساليب متنوعة، العبرة بالتطبيق، ممكن أن تكون عند أعظم داعية ولا تكون مطبقاً، هناك صحابي طلب قميصه، فسألوه لماذا؟ قال: إذا جاء الملكان وقالا: من نبيك؟ قلت: هذا قميصه، هذا موضوع آخر
القصد إذاً؛ لا هذه المظاهر، ولا القصد السلوك الذي يعبّر عن مكانة ما، بل القصد أن تكون مخلِصاً لله عز وجل، طاهر النية، طاهر السريرة، مُطبِّقاً لمنهج الله، فالإسلام يبدو لك بسيطاً، نحن عقّدنا الإسلام حتى أصبح فرقاً، وشيعاً، ومذاهب، واتجاهات، وخصومات، وأدلة، القرآن والسنة بين أيدينا، والكون ينطق بوجود الله، وعظمته، والله فطر الإنسان فطرة تؤهله للمعرفة الصحيحة.
﴿ بَلْ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
ابتعد عن الخصومات الفكرية وكن عملياً:
قد يجد شخص أمامه خمسمئة ليرة فينحني ليتناولها وفي نيته أن يبحث عن صاحبها إذاً هو عابد لله، بينما إنسان آخر ينحني ليتناولها وفي نيته أن يأخذها لنفسه فهو عاصٍ، الشكل واحد لكن اختلفت النوايا، قال سبحانه:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)﴾
أنعمنا عليه بالنبوة، أيّدناه بالمعجزات.
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ(60)﴾
نحن جميعاً في قبضة الله كن فيكون:
أنتم أيضاً في قبضة الله، كن فيكون، زل فيزول، يمكن أن نذهب بكم جميعاً وأن نأتي بملائكة مكانكم ولا تضرونه شيئاً:
﴿ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(17)﴾
وقال:
﴿ هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ
بمجموعكم خمسة آلاف مليون بشر، كن فيكون، زل فيزول، انتهوا وجعلنا مكانهم ملائكة.
الموت نوعان ؛ موت في النوم وموت عن طريق ملك الموت:
﴿
الهاء تعود على سيدنا عيسى، في هذه الآية أقوال كثيرة، من هذه الأقوال: إن القرآن الكريم ينبئ بقيام الساعة، يوم القيامة يعني، أو أن سيدنا عيسى مجيئه في آخر الزمان مُشعِر باقتراب الساعة، لأن سيدنا عيسى لم يمت بعد.
﴿
فسيدنا عيسى ما مات الموت الأبدي، الموت نوعان؛ موت في النوم، وموت عن طريق ملك الموت.
﴿
أما:
﴿
فالوفاة التي وُصِف بها سيدنا عيسى وفاة النوم، وسوف يعود سيدنا عيسى إلى الدنيا في آخر الزمان، وهذا شيء ثابت في القرآن.
على المؤمن أن يتنبه حتى لا يصده الشيطان عن سبيل الله:
قال تعالى:
﴿ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا
أي لا يصدنكم الشيطان عن سبيل الله عز وجل، لأن الإنسان حينما يسلك طريق الإيمان يأتي الشيطان ليصده عن هذا السبيل، فيقول: أنا قبل أن أتوب ليس عندي أي مشكلة، طبعاً لأنك كنت موافقاً للشيطان وهو راضٍ عنك، أما بعد أن تبت انزعج الشيطان، من الطبيعي أن الإنسان عندما يسلك طريقاً إلى الله عز وجل تتوارد على قلبه خواطر وأسئلة كبيرة فيحتار في أمره، لأن الشيطان بدأ عمله، وهذه الأشياء مثل اللقاح تأتي مخففة فتعطيك مناعة، لا أحد يتألم من خاطر سيئ أو شُبُهة طرحها الشيطان، هذه كاللقاح تماماً، جراثيم مخففَّة من أجل أن ينتج الجسم مَصْلاً واقياً من هذه الجراثيم، فالإنسان إذا خطر بباله خاطر وتألم لهذا الخاطر، فألمه دليل على أن هذا الخاطر هجين عليه أولاً وليس منه، وثانياً هذا الخاطر يبحث عن جواب مُحكَم لهذه الشبهة فيزداد إيمانه، وتتكون لديه قدرة ليرد أي خاطر آخر.
﴿ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(64)﴾
المعجزات تأتي لتوافق طبيعة العصر:
سيدنا عيسى جاء بالبينات، من البينات إحياء الميت، أبرأَ الأكمَهَ والأبرصَ كذلك بإذن الله، طبعاً إذا الله عز وجل أرسل نبياً فهذا النبي يحمل للناس منهجاً، والمنهج يحِدّ من شهوات الناس، ومن انحرافاتهم، ومن طغيانهم، فالإنسان لما يُحَدّ من انحرافاته صار عنده سبيل للدفاع عن نفسه فيكذب النبي ويقول له: أنت لست نبياً، أنت كاذب.
فلابدّ من معجزات يؤيد الله بها أنبياءه، المعجزات توافق طبيعة كل عصر، لو فرضنا أن عصراً لا يهتم بالطب، والنبي جُعِلت معجزته طبية فلن يفهم أحد منها شيئاً، فليس لها قيمة، إذاً لا بدّ من معجزة في موضوع تفوقَ فيه عصر ذلك النبي.
وفي زمن سيدنا موسى؛ كان السحر متفوقاً جداً، طبعاً أتوا بأفاعٍ وضعوا فيها زئبقاً، ووضعوها على سطح ساخن، فالزئبق تمدد، ولما تمدّد الزئبق تحركت الأفاعي، عمل السحرة مهارة وإتقان قال تعالى:
﴿ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(45)﴾
أكلتهم كلهم، وعلت الدهشة الوجوه، لو أفعى من الأفاعي تحركت كالأفاعي لا تكون واضحة تماماً، أما هذا الثعبان المبين أكل كل هذه الأفاعي التي اصطنعها السحرة، ففي عهد سيدنا موسى كان السحر متفوقاً جداً، فكانت المعجزة بالسحر.
في زمن سيدنا عيسى كان الطب متفوقاً، أما الطبيب مهما كان متفوقاً فإن مات شخص وطلب من الطبيب إحياءه فيقول: هذا ليس من شأني، وفوق طاقتي.
إنّ الطبيبَ له عِـلمٌ يُدِلُّ بــــــه إنْ كان للنّاس في الآجَالِ تَأخـــيرُ
حتّى إذا ما انتَهتْ أيّامُ رحلتِـه حَارَ الطّبيب وخـانتْـــــهُ العقاقِيــرُ
هذه فوق طاقة البشر إذ لا يستطيع طبيب أن يحيي ميتاً، فسيدنا عيسى أحيا الميت، وأبرأَ الأكمه والأبرص بإذن الله، هذه أمراض مستعصية، وأنبأَ الناس بما في بيوتهم من مُدّخرات، فهذه بينات واضحة، جاء بأدلة لتدل على أنه نبي من عند الله عز وجل.
الحكمة كلام الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه:
قال تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)﴾
الخلاف ليس من النص بل من النفوس الضعيفة:
وقال:
﴿
الخلاف فيما بينهم حسَداً وبَغياً وعدواناً واستعلاءً، وكِبراً، والخلاف ليس من النص، بل من النفوس، وهذه الآية دقيقة جداً، القرآن الآن واحد والسنة واحدة، والخلاف خلاف حسد، خلاف كِبر، خلاف بغي، خلاف عدوان، خلاف مصالح، ما هم عليه المسلمون اليوم من خلاف لا يعود إلى أصل دينهم، و لا إلى نصوصهم المقدسة، بل يعود إلى نفوس ضعيفة، هذه نقطة مهمة جداً، الاختلاف بين المسلمين دليل انحرافهم، دليل بعدهم عن الدين، لو أنهم أخلصوا لاتفقوا، ولو أنهم أخلصوا لاتحدوا، طبعاً الخط المستقيم بين نقطتين يمر خط مستقيم واحد، أريد خطاً ثانياً يأتي فوقه تماماً، وكذلك الثالث فوقه تماماً، لو رسمت ألفَ مليون خطٍ مستقيم بين نقطتين فكلها تتطابق، لأن الحق واحد لا يتعدد، لكن الباطل يتعدد.
﴿
﴿ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
الخلاف بين المسلمين ليس بسبب دينهم بل بسبب مصالحهم وانحرافاتهم:
والظلمات جمع، والنور مفرد، فالحق لا يتعدد، إذاً الخلاف أساسه الحظوظ النفسية، أساسه البغي، العدوان، الكبر، الحسد، المصالح المادية هذه تصنع الخِلاف، أما الدين فهو واحد، والقرآن واحد، والسنة واحدة، والهدف واحد، والمنهج واحد، والدستور واحد، فالخلاف الذي بين المسلمين الآن ليس بسبب دينهم لا، بل بسبب مصالح وأهواء وانحرافات وأمراض نفسية وكِبر وحسد.
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66)﴾
من يفتي بخلاف ما يعلم فهو آثم عند الله أكثر ممن يفتي بلا علم:
رجل في بلد إسلامي أفتى بمعصية، خرَّجها وأعطاها تعليلات، دخل عليه شخص -حدثني مباشرة بلسانه- وهو على فراش الموت، رفع أصبعيه إلى السماء وأشهد الله أنه بريء من كل فتوى أفتى بها سابقاً، متى؟ بعد فوات الأوان، فالإنسان وهو حي يجني مكاسب، ومطامع، ورغبات، ومالاً، ومظاهر، ومكانة عليّة، لكن حينما يقول ما ليس بحق، يفتي بخلاف ما يعلم، هناك مَن يُفتي بلا علم هذا آثم عند الله، لكن إثمه أقل من الذي يُفتي بخلاف ما يعلم، يعلم الحقيقة ويفتي خلافها لحظّ دنيوي، قال سبحانه:
((
ماذا تنتظرون من الدنيا؟ ماذا فيها؟ لو أردنا الدنيا، لو أعرض الإنسان عن الله وعن دين الله ولو انكبّ على الدنيا فماذا في الدنيا؟ هذه كلمة خطيرة جداً جعلتها محوراً لدرس طويل وهي: ثم ماذا؟ صرت غنياً وبعدها على باب صغير، صرت قوياً وبعدها إلى القبر، صرت أعلى درجة علمية ثم ماذا؟ هذه (ثم ماذا) تقصِم الظهر، ثم ماذا بعد الغنى إلا القبر، ماذا بعد القوة إلا القبر، طبعاً القول الشهير:
واللّيـــــلُ مهمـــا طــالَ فلا بدّ من طُلــــوعِ الفجْـــــرِ
والعُمــرُ مهمـــا طـَـــالَ فلا بدّ مـــن نُـــزولِ القَبـــــرِ
****
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
فـإذا حملتَ إلى القبـــــورِ جنــازةً فـاعلمْ بأنّك بعدَهـــــــا محمـولُ
المؤمن يتفوق إذا بقيت لحظة اللقاء مع الله في ذهنه دائماً:
ذكرت لكم في درس سابق أنهم سألوا طالباً نال الدرجة الأولى على جميع طلاب القطر: ما سبب هذا التفوق؟ قال: لأن لحظة الفحص لم تغادر مخيلتي طوال العام، أعجبتني هذه الكلمة، وأنا أقول لكم: المؤمن يتفوق إذا بقيت لحظة اللقاء مع الله دائماً في ذهنه، قبل أن يتكلم بأية كلمة يقول بينه وبين نفسه: معي الحق أم لا؟ ماذا أقول لله إذا سألني لِمَ تكلمت بكذا وكذا؟ لمَ أقمت هذه العلاقة؟ لمَ أعطيت؟ لمَ منعت؟ لمَ خاصمت؟ لِمَ عفوت؟ لمَ لمْ تعفُ؟ لِمَ طلّقت؟ لمَ غضبت؟ فكل حركة وسَكَنة سوف تُسأل عنها يوم القيامة:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
وقال:
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ(51)﴾
من تعلّم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت:
لن يأتيك إلا الخير، يعني مَن تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، أما أرذل العمر فهذه لغير المؤمنين، أما المؤمن يتألق تألقاً ما بعده تألق كلما تقدمت به السن.
﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ(66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67)﴾
هذه آية دقيقة الدلالة جداً، سنقف عندها وقفة مطولة في الدرس القادم إن شاء الله
الصداقة والإخوة التي أساسها معرفة الله وطاعته لا تتأثر بالظروف والأحوال:
وعدتكم في الدرس القادم أن نقف عند هذه الآية، لكن الخُلّة هي الصداقة والمودة، العلاقة بين شخصين إذا كانت أساسها المصلحة أو الشهوة هذه تنقلب إلى عداوة قطعاً، مع انقطاع المصلحة أو الشهوة تنقلب إلى عداوة، أما الصداقة والأخوّة التي أساسها معرفة الله وطاعته هذه علاقة تتنامى، وهي أثبت من كل شيء ثابت، ولا تتأثر أبداً بالظروف والأحوال، لذلك فالمؤمنون كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ
(( المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. ))
أما غير المؤمنين علاقتهم بحسب المصالح، إذا كان هناك مصالح فهناك علاقة بينهم، وإذا انقطعت المصالح انقلبت هذه العلاقات إلى عداوات، المصالح أو الشهوات، فمثلاً قد يكون بين زوجين حب أساسه قضاء حاجة كل منهما، فإذا ما كان هناك إيمان، وأُصيب الزوج أو الزوجة بمرض أو افتقر أحدهما قامت بينهما عداوة، إن عالم الإيمان عالم رائع جداً، لا يتأثر الإيمان وعلاقات الإيمان بأي متغير، المُتغيرات لا تقدم ولا تؤخر، لأن أساس العلاقة شريف.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.