وضع داكن
01-07-2024
Logo
الدرس : 8 - سورة الزخرف - تفسير الآيات 67-79 الصداقة تُبنَى إما على محبة الله أو على المصلحة والمعصية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثامن من سورة الزخرف.

الخلة هي الصداقة الحميمة التي تتنامى بين المؤمنين إذا قامت على طاعة الله:


 مع الآية السابعة والستين وهي قوله تعالى:

﴿  الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67)﴾

[ سورة الزخرف ]

 الخُلّة هي الصداقة الحميمة، والصداقة الحميمة أو الخُلّة تُبنى على نوعين: إما على طاعة الله، وإما على معصية الله، فإذا بُنيَت على معصية الله فهي على نوعيَن: إما على مصالح، أو على شهوات، وعلى كلٍ فأية خلة، وأية صداقة، وأية علاقة تُبنى على معصيةٍ أو على مصلحةٍ لا ترضي الله عز وجل هذه الخلة تنتهي بالأخلاء إلى العداوة، لأن كل منهما يُلقي اللوم على الطرف الآخر، ويظن أن الطرف الآخر هو السبب في هذا الشقاء الذي وصل إليه.
 أما خُلة المؤمنين؛ فالعلاقة بينهم، والأخوّة بينهم، هذه أخوّة متنامية، ويزداد نماؤها بعد الموت، لذلك ربنا عز وجل قال:

﴿ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47)﴾

[ سورة الحجر ]

 فهؤلاء المؤمنون ما بينهم من مودة ومحبة، هذه المودة والمحبة تتنامى، حتى إن هذا النماء يصل إلى الدار الآخرة، فلذلك من بعض ما يسعد المؤمن في الجنة أن يلتقي مع أخيه المؤمن، مما يسعد المؤمن في الجنة تلك الأخوة التي كانت بين المؤمنين في الدنيا واستمرت.

الخلة بين غير المؤمنين تدوم ما دامت المصلحة قائمة:


 ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾ الحقيقة أن هذه الخلة، مادامت المصلحة قائمة هناك علاقة، فإذا زالت هذه المصلحة زالت تلك العلاقة، هذه الخلة وتلك المودة الظاهرة، أو هذه الصداقة تدوم مادامت هذه المصلحة، تدوم مادامت هذه الشهوة التي تجمع بين الخلّين، إلا أنها إذا انقطعت هذه الشهوة لسبب أو لآخر، وزالت تلك المصلحة لسبب أو لآخر تلاشت هذه المودة، وأصبحت عداوة؛ لأن الثمن الباهظ الذي يدفعه كِلا الطرفين يعزوه كل منهما إلى الطرف الآخر.
 والله سبحانه وتعالى؛ يسأل العبد عن صحبة ساعة، فليس هناك علاقة في الأرض أشرف من علاقة بين مؤمنَين، وما من علاقة أدوم من علاقة بين مؤمنَين، وما من علاقة أكثر نماءً من علاقة بين مؤمنَين، والأيام لا تزيد هذه العلاقات إلا متانة، ولا تزيد الصلات بين المؤمنِين إلا وثوقاً ومحبةً، وربنا سبحانه وتعالى في آية أخرى يقول:

﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ۩ (24)﴾

[ سورة ص ]

 الخُلطة تعني شراكة أو علاقة عابرة أو علاقة دائمة أو علاقة زواج. 

الخلة بين المؤمنين هي عدل وإنصاف وخارج نطاق الإيمان هي بغي وعدوان:


﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ﴾ يُستنبَط من هذه الآية التي لها علاقة بالآية الأولى أن كل خُلّة، أو كل اختلاط بين شخصين، فلا بدّ أن يشوب هذه العلاقة بغيٌ أو عدوانٌ أو ظلمٌ إذا كانت خارج نطاق الإيمان، أما إذا كانت هذه الصحبة وهذه العلاقة والخلة والخلطة بين مؤمنَين فهناك العدل والإنصاف.
 على كلٍّ؛ الإنسان عليه أن يختار إخوانه وأصدقاءه بعناية فائقة، لأن الصاحب ساحب، والإنسان يُعرف مِن قرينه، والتأثير الذي يكون من الأصحاب والخلان والأصدقاء تأثير كبير جداً، وقيل: لا تصاحب من لا ينهض بك إلى الله حاله ولا يدلك على الله مقاله ، يعني هذا الصاحب يجب أن تختاره بحيث إذا تكلم تزداد علماً من كلامه، إذا تكلم تقتبس من علمه، وإذا التقيت معه لقاءً عفوياً وصارت خلطة بينك وبينه تشعر بالراحة من نفسيته الطاهرة، وحاله الطيبة.
اختيار الصديق أمر أساسي في حياة كل إنسان:
  إذاً شيء دقيق جداً أن نُحسِن اختيار أصدقائنا أو أخواننا؛ لأن هذا الصديق وهذا الأخ إما أن يكون له تأثير إيجابي وهذا المُرجَّح والمطلوب، أو أن يكون له تأثير سلبي وهذا هو المحذور، طبعاً المتقون: الطائعون لله عز وجل هؤلاء خُلّتهم تتنامى.
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ وبهذه المناسبة النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن كل عملٍ من شأنه أن يُضعِّف هذه العلاقة، وكلّ عملٍ من شأنه أن يُمتِّن هذه العلاقة أمر به، ولو استعرضت الأحاديث التي تحضّ المؤمنين على أن يُحسنوا معاملة إخوانهم لرأيت العَجب العُجاب، ما من شيءٍ يضعف هذه العلاقة إلا نهى النبي عنه، نهى عن الغيبة لأنها تمزق العلاقة بين المؤمنين، نهى عن النميمة لأنها تفسد ما بينهم، نهى عن السخرية، نهى عن أن يحتقر المسلم أخاه، نهى أن يُسلِمه، نهى أن يخذله، نهى أن يغتابه، نهى أن يفسد العلاقة فيما بينهما، فلو تتبعت الأحاديث ذات الطابع الاجتماعي من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام لرأيت أن كل شيء يضعف العلاقة بين المؤمنين نهى النبي عنه، نهى أن يحاكي المؤمن أخاه المؤمن أي يقلّده، فإذا قلّده في مشيته فقد اغتابه، إذا قلده في حركاته فقد اغتابه، فإذا قلده في نبرة صوته فقد اغتابه، التقليد ممنوع، قالت عائشة عن ضرتها: إنها قصيرة، قال: 

((لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْه))

[  رواه أبو داود والترمذي عن عائشة  ]


على المسلم أن يعمل بالأسباب التي تقوي علاقته بأخيه المسلم:


 إذاً انتبه لأي شيء يضعف العلاقة بينك وبين أخيك، كـأن الله يريد أن نكون كالبنيان المرصوص:

(( المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كالْبُنْيانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. ))

[ صحيح البخاري ]

(( مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى. ))

[ صحيح البخاري ]

إن الله يريد أن نكون كتلة واحدة، وهذه الكتلة الواحدة لا تكون إلا بأن نراعي حقوق بعضنا بعضاً،

(( المسلمُ أخو المسلمِ لا يَظْلِمْه، ولا يَخْذُلْه، ولا يَحْقِرْه. ))

[ البيهقي ]

ولا يأكل ماله.

(( كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

مال أخيك مُحرَّم عليك أن تأخذه بأي طريقة، محرم عليك أن تنال من عرضه، وعِرضُه سمعته.
 (كُلُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ حَرامٌ؛ دَمُهُ، ومالُهُ، وعِرْضُهُ) إذاً: على المسلم أن يعمل بالأسباب التي تقوي علاقته مع المؤمنين، من هذه الأسباب؛ أن تبدأه بالسلام، من هذه الأسباب أن تعوده إذا مرض، أن تهنئه إذا أصابه خير، أن تعزيه إذا أصابه شر، أن تعينه إذا طلب العون، أن تقرضه إذا طلب القرض، أن تدافع عنه إذا نال الناس منه، إذاً دقق يد الله مع الجماعة، وربنا سبحانه وتعالى في سورة الحجرات اقرؤوها فهي تبين الآداب الاجتماعية يقول:

﴿  يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ(11) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)﴾

[ سورة الحجرات ]

 اقرأ سورة الحجرات وانظر إلى هذا الأدب الرفيع الذي يريد الله أن نتأدب به.

من أحد أسباب سعادة المؤمن في الجنة أن يكون مع إخوانه المؤمنين:


 إذاً نحن الآن في موضوع الخُلّة، فهذه المودة التي بين الإخوة المؤمنين إن كانت قائمة على الدنيا تنتهي بالعداوة، وإن كانت لله وحده وعلى طاعة الله تنتهي بالتنامي والازدياد حتى إن أحد أسباب سعادة المؤمن في الجنة أن يكون مع إخوته المؤمنين على سرر متقابلين.
﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ اللهم اجعل أخوّتنا خالصة لوجهك الكريم، ودائماً عندنا قاعدة؛ أخوان مؤمنان أقربهما إلى الله عز وجل أشدهما حباً لصاحبه، أضعفهما إيماناً أقلهما حباً، كلما نما حبك لله نما حبك لأوليائه، ونما حبك لإخوانك المؤمنين، والمؤمن يبني حياته على العطاء لا يقول: ماذا أخذت؟ بل يقول: ماذا أعطيت؟ دائماً يبحث عمن يعطيه، وأن يقدم لإخوانه كل ما يستطيع، لذلك العلاقة بين المؤمنين: الكل للواحد والواحد للكل، لكن يجب أن يكون إيمان حقيقي:

(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به. ))

[ الحاكم في المستدرك ]

 ما آمن، التطبيق العملي لهذه الآية اختر إخوانك بعناية فائقة، سهل عليك أن تختار أخاً مؤمناً، لكن البطولة أن تحافظ على أخوّته، الاختيار سهل، وأن تقوم علاقة عابرة بين مؤمنَين فالقضية سهلة جداً، كمن كان في نزهة أو سفر أو في المسجد فيصافحه، ويسأله عن اسمه، يجده لطيفاً فيقيم معه علاقة، فسهل جداً أن تقيم علاقة مع مؤمن، لكن البطولة أن تحافظ على هذه العلاقة، والأكثر بطولة أن تنمّي هذه العلاقة إلى أن تغدو علاقة مثالية لا يفصُمها شيء. 

ابتعد عن الأمراض النفسية التي تشتت العلاقة بين المؤمنين:


  الحقيقة كلما رأى الإنسان المؤمنين على محبة، ومودة، وتعاون، ومؤاثرة، وتضحية، وكلهم يحافظ على مودة أخيه، يدافع عن أخيه، فهذه علامة طيبة، أن الجميع بخير، أما إذا كان هناك غيبة، ونميمة، وسخرية، ومحاكاة، واحتقار، وترفّع، ونظرة عليا إلى الآخرين وعلى أنهم دونك، فهذه كلها أمراض نفسية، وهذه الأمراض النفسية من شأنها أن تفتّت العلاقة بين المؤمنين، فلذلك قال تعالى:

﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ(46)﴾

[ سورة الأنفال ]

 تفشلوا: تضعفوا، وتذهب ريحكم: هذه السمعة الطيبة التي لكم بين الناس تتلاشى بمنازعتكم ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ وقد ترى الناس جميعاً قال تعالى: 

﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ (14)﴾

[ سورة الحشر ]

  فحينما تكون العلاقة على غير حب الله ورسوله تجد مودة ظاهرة، لكن في الخلفيات هناك عداوات وحسد وبغضاء، وكل شخص يحيك للطرف الآخر مَطبّاً ليقع فيه، فالعلاقة بين الناس البعيدين عن الله عز وجل علاقة لا يُحسَدون عليها أبداً، والله سبحانه وتعالى وصفها بهذا الكلام البليغ، وقال: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ بالمقابل قال:

﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)﴾

[ سورة الأنفال ]


الألفة بين المؤمنين من خلق الله تعالى:


 فما قولك بأن الأُلفة التي بين المؤمنين من خلق الله، ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ فقد يبدو لبعضهم أن إنفاق المال يؤلف القلوب، فإن دعوت واحداً إلى طعام نفيس، أو أمَّنت له بيتاً، أو أعطيته معونة كبيرة جداً، فالشيء المعروف عند الناس والمنطقي والواقعي أن إنفاق الأموال من شأنه أن يؤلّف القلوب، وكل الجهات في العالم إذا أرادت أن تستميل رجلاً، أو أن تشتري رجلاً بالتعبير المعاصر تمده بالمال، المال تشتري به الرجال، وتشتري به المودة، فربنا عز وجل يقول: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ لو أنفقتم مئات الملايين من أجل تأليف القلوب لا تستطيعون، وهذا المال يُنفَق وتبقى العداوة بينهم قائمة، وربما انقلبت إلى صراع عنيف، لذلك:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]


كلما كثرت نقاط التشابه بين شخصيتين ازدادت الألفة بينهما:


 الآية دقيقة المعنى جداً، ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ من أموال ﴿مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ يا محمد ﴿وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ ، إذاً هذه المودة بين أخوين مؤمنَين بفضل الله، قد يزور أحد أخاه ولا يبتغي من هذه الزيارة أي شيء إلا أنه يحبه في الله، والنبي عليه الصلاة والسلام علّمنا أنك إذا أحببت أخاً في الله يجب أن تعلمه، قل له: إني أحبك في الله، وعليه أن يقول لك: أحبَّك الذي أحببتني من أجله.
 وأنا أقول لكم: والله إنها علامة طيبة جداً وجود هذه المودة الكبيرة بين المؤمنين، فأحياناً ألاحظ أن أخوين يجلسان فيسعدان سعادة كبيرة بهذا اللقاء، وقد لا يحس كلاهما بالوقت كيف ينقضي يقول: مكثنا ساعات ونحن في قمة السعادة، التفسير سهل جداً؛ هو التوافق، لأنه كلما كثرت نقاط التوافق بينك وبين أخيك ازداد الحب بينكما، فالمؤمنون من طبيعة واحدة، من سجيّة واحدة، من جِبِلّة واحدة، أهدافهم واحدة، وسائلهم واحدة، طريقهم واحد، الله ورسوله جمع بينهما، فتجد أنه كلما كثرت نقاط التشابه بين شخصيتين ازدادت الألفة بينهما، وقد أكد النبي عليه الصلاة والسلام هذا الكلام حينما قال:

(( الأرواحُ جُنودٌ مُجَنَّدَةٌ فمَا تعارفَ منها اِئْتَلفَ وما تناكرَ منها اِختَلفَ. ))

[ صحيح مسلم ]

 وكما قيل: رب أخ لك لم تلده أمك، يعني أخ من بلد بعيد، هذا البلد له عاداته وتقاليده من اختصاص آخر، من جِبلّة خاصة، لكن جمعك به الإيمان، فترتاح إليه وتركن إليه أضعاف ما تركن إلى قريب بينكما قرابة نسبية لكن له اتجاه آخر، إذاً القانون العلمي: كلما كثرت نقاط اللقاء بينك وبين أخيك ازدادت المحبة بينكما، إذاً فهناك محبة عفوية وحتمية وقطعية بين كل مؤمنَين على وجه الأرض، لو دخل مؤمن على مائة رجل منافق، وفيهم مؤمن واحد لحنَّ أحدهما للآخر تلقائياً من بين المائة، ولو دخل منافق على مائة مؤمن بينهم منافق واحد لحنَّ هذا المنافق لمن يشاكله في نفاقه.
لا تكون الخلة متينة بين رجلين إلا إذا كان أساسها طاعة الله عز وجل:
  إذاً الأخوّة الإيمانية شيء ثمين جداً، وإذا قرأتم الحديث الشريف المتعلق بالعلاقات الاجتماعية تجدون هذه الحقيقة، مثلاً إفشاء السلام ينمّي المودة، أن تنادي أخاك بأحب الأسماء إليه، أن تلبي دعوته إذا دعاك، أن تزوره من حين لآخر، أن تسلم عليه، أن تعينه في حاجته، أن تهنئه، أن تعزيه، أن تقرضه، أن تتعامل معه، فهذا كله ينمي العلاقة، في الطرف الآخر أن تزدريه، أن تحتقره، أن تُسْلِمه، وأن تأكل ماله، وأن تنال من عِرضه، وأن تحقره، وأن تغتابه، وأن تنمّ بينه وبين الآخرين هذا كله يضعّف العلاقات.
 أردت من هذه الكلمة السريعة أن أوضح أن الخلة هي العلاقة المتينة الوشيجة بين رجلين لا تكون وشيجة ومتينة ومستمرة ومتنامية إلا إذا كان أساسها طاعة الله عز وجل.
 مرة سمعت كلمة أعجبتني؛ أن أشخاصاً لهم اجتماع أسبوعي، أكثر الناس هكذا يجتمعون في بيت واحدٍ، وفي يوم معين في الأسبوع، هذا اللقاء بقي يتجدد سبعة عشر عاماً، والشيء العملي أن هذه اللقاءات سريعاً ما تتلاشى، قد تدوم شهراً، أو شهرين، تتوقف، فسأل سائل ما سرّ هذا اللقاء الذي استمر لمدة سبعة عشر عاماً؟ فقالوا: لأنه ليس فيه غيبة، ولا نميمة، ولا نساء، فسرّ المودة طاعة الله عز وجل، فإذا أخذ كل واحد ما له وأعطى ما عليه، فأحياناً قد تقوم علاقة في سفر فإذا دفع أحدهم والآخر لم يدفع انتهت العلاقة، لكن إذا أدى كل إنسان ما عليه على مستوى الإنفاق، وعلى مستوى الخدمة، فالعلاقة تستمر.

تطبيق السنة يقوي العلاقة بين المؤمنين ومخالفتها يمزق هذه العلاقة:


 كما قلت قبل قليل ببساطة بالغة يمكن أن تقيم علاقة مع مؤمن، لكن ببطولة كبيرة يجب أن تحافظ على هذه العلاقة، تحافظ عليها بأداء الحقوق، ألا تبقي عليك شئياً له، تحافظ عليها بالمشاركة في الأعمال، إذا سافرت معه، إذا شاركته، فالمشاركة في الأعمال تستوجب العدالة بأن تأخذ ما لك وأن تعطيه ما له، أن تزوره، أن تسلّم عليه، أن تناديه بأحب الأسماء إليه، ألا تغتابه، لو نفّذنا السنة لكنا كالبنيان المرصوص يشد بعضنا بعضاً، لو طبقنا سنة النبي الكريم في تعاملنا؛ الاعتذار إذا أخطأت فاعتذر، أخوك أخطأ التمس له العذر، التمس لأخيك عذراً ولو سبعين مرة، هكذا النبي عوّدنا، من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، قضية خاصة به لا تتدخل بشؤونه، لا تسأله فتحرجه، كم تتقاضى في الشهر؟ هو لم يقل لك، يأخذ من مكان عمله دخلاً، فهناك إنسان يتدخل بما لا يعنيه، يريد أن يعرف كم دخله، وزوجتك كم كان مهرها؟ هذه الأسئلة والتدخلات في شؤون الغير تحدث نفوراً، فإذا كنت تحب أن تحافظ على علاقة طيبة مع إخوانك المؤمنين يجب أن تطبق السنة، تجد أنك كلما طبقت السنة قويت العلاقة أكثر، كلما خالفت السنة تمزقت العلاقة.
يكفي أن النبي علمنا أنك إذا كنت تسير مع أخوين وأسرّ أحدهما للآخر حديثاً، وسمع وقْع أقدام من بعيد، فإذا التفت هذا الإنسان المتكلم أي خشي أن يسمعه أحد فهذا المجلس صار بالأمانة، حتى لو لم يقل لك احفظ هذا السر، المؤمن يستر، إذا أفشى لك أحدهم سراً من أسرار حياته، أفشى لك مشكلة داخلية في بيته، فهذه المشكلة سر ينبغي ألا تشيع بين الناس.

(( إذا حَدَّثَ الرجلُ الحديثَ ثم التَفَتَ فهي أمانةٌ. ))

[ سنن الترمذي  ]


ربنا عز وجل يشرف عباده حينما ينسبهم إلى ذاته بقوله يا عبادي:


 إخواننا الكرام اقرؤوا السنة فيما يتعلق بالعلاقة مع المؤمنين، وطبِّقوها تقطفوا ثمارها، والله في القريب العاجل تقطفوا ثمارها حباً ومودة وإخلاصاً وتضحية، وكان أصحاب النبي عليهم رضوان الله مثلاً أعلى في العلاقة الطيبة فيما بينهم.

﴿  الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ(67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)﴾

[ سورة الزخرف ]

 هذه هي السعادة المطلقة، ثم إن ربنا عز وجل يشرّف العباد حينما ينسبهم إلى ذاته فيقول: يا عبادي، لو تذوقنا هذه الكلمة "يا عبادي" ، الله عز وجل نسب العباد إلى ذاته، فقال: "يا عبادي"، هؤلاء الذين عبدوا الله في الدنيا، هؤلاء الذين عرفوه، هؤلاء الذين أطاعوه، هؤلاء الذي آثروا مرضاته على ما سواه، هؤلاء الذين وقفوا عند الأمر والنهي، هؤلاء الذين ما تجاوزوا أمره، كان سيدنا عمر وقّافاً عند كتاب الله، هذا يستحق هذا الشرف العظيم، يا عبادي. 

الحياة الدنيا مركبة على الخوف مما سيأتي:


ما العطاء الآن: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ الحزن على ما مضى والخوف لمَا سيأتي، فبهذه الآية غُطِّي الماضي والمستقبل في آن واحد، يا عبادي أنتم في ظلي، أنتم في جنتي، لا خوف عليكم اليوم مما سيكون، الحياة كلها مخاوف، الحياة الدنيا طبيعتها كلها مخاوف، مَن منا يضمن ألا يصيبه مرض عُضال.
 كل الذين أصابهم مرض عضال كانوا أصحاء مثلنا، ثم فجأة ظهر هذا المرض، إذاً هناك قلق، مَن منا يضمن أن دخله سيكون مستمراً دائماً؟ لا أحد، قد تنشأ ظروف مفاجئة، فيقلّ الدخل، أو تبور التجارة وتكسد البضاعة، تقدم الزمن عليه ليس في صالحه، كلّما تقدم به العمر ضعفت قواه، قلّ استمتاعه بالدنيا، فالحياة كلها مُقلِقات، كلها مخاوف، والخوف ليس خاصاً بغير المؤمنين، سيدنا موسى خرج منها خائفاً، الحياة فيها خوف، وفيها قلق، وفيها حزن.

﴿  وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرْ الصَّابِرِينَ(155)﴾

[ سورة البقرة ]

 قد يخاف الإنسان المؤمن أن يعصي ربه، يخاف على هذه الصلة التي بينه وبين الله أن تنقطع، فالحياة مُركَّبة على الخوف، إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترَحٍ لا منزل فرح، فيها موت، فيها مرض، فيها فقر، فيها هَمّ، فيها حزن، مثلاً شخص يتزوج ويختار أفضل زوجة، وينجب ولداً يحتل مكانةً كبيرةً في قلبه، يسخن، ويمرض، فإذا بالأب والأم يتألمان ألماً لا حدود له لأن حرارته ارتفعت، والطبيب قال: لعله مصاب بالتهاب سحايا، فماذا دهى الأب والأم؟ هذه الحياة كلها متاعب، كلها هموم، وكلها أحزان. 

الدنيا دار كدح وسعي وابتلاء وكل هذا يتلاشى عند الموت:


فالآية يا عبادي كنتم في دار ابتلاء وانتهت، كنتم في دار عمل وانتهت هذه الدار، كنتم في دار بَذل، وفي دار كدح.

﴿  يَاأَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ(6)﴾

[ سورة الانشقاق ]

 كنتم في دار سعي.

﴿ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا(19)﴾

[ سورة الإسراء ]

 فالدنيا دار سعي، ودار كدح، ودار ابتلاء، ودار عمل، ودار تكليف، وكلها متاعب، والعمر قصير، والهموم كبيرة، وترى الإنسان يصيبه مئات الأمراض، فساعة يخاف من أمراض في قلبه، وساعة من جلده، وساعة من نمو الخلايا نمو عشوائي، قد يخاف من أن يمرض ابنه أو زوجته، أو يقلّ دخله، أو يفقد حريته، أو يتعرض لحادث.
﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾  انتهى الخوف، انتهى القلق، انتهى الحزن، انتهى الضياع، انتهت الحيرة، كل متاعب الدنيا تنتهي عند الموت للمؤمن.

مهما كنت مُنعّماً في الدنيا فالجنة أعظم:


 ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ لو فرضنا أن شخصاً كانت دنياه من أعلى مستوى، مال وفير، قصر منيف، زوجة رائعة، أولاد أبرار، أصلاً هذا شيء مستحيل، ولكن أفسحوا لخيالكم أن يحلق، ولو أنه انتقل إلى الجنة، والأمر ليس نحو الأدنى بل نحو الأعلى، فالإنسان طبيعياً إذا انتقل من بيت إلى بيت أرقى لا يتألم، لهذا ورد عن النبي الكريم أن المؤمن حينما يموت ينتقل من ضيق الدنيا إلى سَعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سَعة الدنيا، هذا معنى ﴿وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ فمهما كنت مُنعَّماً في الدنيا، مهما كنت في صحة جيدة، مهما كنت موفقاً في حياتك، مهما تناولت أطيب الأطعمة، سكنت في أجمل البيوت، ركبت أجمل المركبات، فالجنة أعظم.
﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ لا عطاء أعظم من هذا العطاء، هذا هو الفوز العظيم، هذا هو النجاح الحقيقي، يقول لك فلان ناجح في عمله ومتألق، هذا نجاح مؤقت لكن عطاء الآخرة هو الفوز الأكبر، هذا هو النجاح، هذا هو التفوق، هذا هو الفلاح، هذه هي البطولة، 

لَيـسَ مـنْ يَقطعُ طُـرقاً بَطـلاً     إنمـا مـنْ يتَّقِـي اللهَ البَطَـلْ

[ ابن الوردي ]

اتقِ الله، وأَوصِل نفسك لهذا المقام ليخاطبك الله عز وجل بقوله: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ .

ترى الآخرين يوم القيامة في حال لا يحسدون عليه:


لكن الآخرين يوم القيامة هذا حالهم الذي لا يحسدون عليه:

﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾

[ سورة الحج ]

 أنت ترى هؤلاء الذين كانوا في الدنيا مستمتعين منغمسين في شهواتهم تراهم يتحرّقون بالنار، وأنت في مأمن ويقول الله لك: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ ﴿وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ تغطّي الماضي، ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ تُغطّي المستقبل، من هم عباد الله عز وجل بتعريف جامع مانع مختصر مفيد؟ قال:

﴿  الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)﴾

[ سورة الزخرف ]


ثمن الجنة الإيمان بآيات الله وهو ثمن متاح لكل إنسان:


 آمن بآيات الله الكونية، آمن بآياته القرآنية، آمن بآياته التكوينية، آمن بأفعاله، فكلها عدالة، آمن بخلقه، آمن بقرآنه، ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ طائعين، مستسلمين لأوامرنا، هذا الثمن، هذا ثمن غير تعجيزي، ثمن مُتاح لكل إنسان، عطاء الله عظيم، قد يكون هناك شروط تعجيزية، أما إذا كان هناك عطاء وكرم وعدالة فالشروط مبذولة لكل إنسان، فمن هم العباد الذين ناداهم الله فقال: ﴿يَا عِبَادِ﴾ نسبهم إلى ذاته وشرّفهم بهذه التسمية، والذين:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)﴾

[ سورة يونس ]

 قال: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ﴾ والآيات بين أيديكم، هذا القرآن بين أيديكم، وهذا الكون بين أيديكم، وهذه أفعال الله بين أيديكم، فكروا فيها.

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)﴾

[ سورة الأنعام ]


يوم القيامة ترى الفرح والحبور على وجه المؤمن حينما يرى الجنة وما فيها:


 فكِّر في أفعال الله، وفكِّر في كلامه، وفكِّر في خلقه، يعني آمِن بالله، آمن بالله أولاً واستسلم لأمره ثانياً، ائتماراً وانتهاءً، تستحق أن تكون من هؤلاء العباد الذين طمأنهم الله عز وجل يوم القيامة وقال:

﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70)﴾

[ سورة الزخرف ]

 تُحبرون قال العلماء: هناك فرح حقيقي، الفرح إذا ازداد في القلب ظهر على الوجه، قد يفرح إنسان في قضية ولكنه لا يظهر فرحه، كأنه فرح من الداخل، قد يعقد صفقة رابحة جداً، ولكن لا يظهر عليه أثر فرح، يقال له: لا بأس، هذه الصفقة من نصيبك، ولكن هي في الحقيقة صفقة رابحة خمسمائة بالمئة، يفرح ويكتم فرحه، لكن تُحبرون لها معنى دقيق في اللغة، يعني الفرح إذا بلغ مرحلة كبيرة جداً يظهر على الوجه، يتألّق وجهه، تصبح عيناه زئبقيّتان، تبرُق عيناه، الحُبور أن يظهر الفرح على وجهك، فالمؤمن لما يرى الجنة، لا قلق فيها، ولا خوف، ولا حزن إلى أبد الآبدين، لا يخشى كِبراً في السن، ولا أمراضاً كأسيد أوريك أو التهاب المفاصل فبعد عمر الخمسين تظهر الأمراض والعلل وتتزايد، فتجد الإنسان يحمل حقيبة أدوية دائماً، هذه انتهينا منها، رأى الجنة رضوان من الله عز وجل، الحور العِين، جنات وفواكه مما يشتهون، أي شيء يخطر في البال يكون بين يديك. 

﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ(35)﴾

[ سورة ق ]

 فمن شدة فرح المؤمن حينما يرى إكرام الله له ويرى الجنة وما فيها يُحبَر، يعني يظهر فرحه على وجهه. 
كلما ارتقيت درجة في الجنة ازددت شأناً ومكانة:
وقال: ﴿يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ*ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ﴾ طبعاً قد يأكل الإنسان بصحن من كرتون في وليمة؛ لأنه لا يحتاج إلى غسيل، أما إذا كان الضيف كبير القدر والمقام فالصحون من الدرجة الأولى.

﴿ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71)﴾

[ سورة الزخرف ]

 إذا كان الضيف كبير المكانة، رفيع المنزلة جداً يصبح مستوى الأواني فخماً جداً، أحياناً تكون الملاعق من الذهب الخالص، الأكواب من فضة، فكلما كان الضيف كبير الشأن، وله قدْر كبير تكون الأدوات أرفع مستوى.

في الجنة كل أنواع النعيم ويسمح الله لهم بالنظر إليه:


 ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ سعادة متنامية، يعني إكرام، وكل أنواع النعيم في الجنة، وفوق كل هذا، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة كالبدر تماماً فيغيبون من نشوة النظرة خمسين ألف عام، ﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ من حور عين، من فواكه، من أنهار، من جِنان ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ يسمح الله لهم أن ينظروا إليه.

﴿  يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(72)﴾

[ سورة الزخرف ]

 حضور مجالس العلم، طلب العلم، تلاوة القرآن، ذكر الله، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، صلاة الليل، إنفاق الأموال، غض البصر، هذه حرام لا أفعلها، هذه أخاف منها، هذا الموقف الأديب في الدنيا، طاعة الله عز وجل، التوجه إلى المساجد، طلب العلم، إقامة أمر الله في البيت، هذا ثمن الجنة.

﴿  إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16) كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ(19)﴾

[ سورة الذاريات ]


كلما كان جهدك وتعبك أكثر في الدنيا كلما نلت العطاء الأكبر في الجنة:


 ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ﴾ هذه لها أسباب يعني مثلاً لتقريب الفكرة: إنسان عمله توقيع فقط يقول لك عشرة آلاف، وواحد يعمل اثنتي عشرة ساعة ويأخذ مئتي ليرة، هذا نال شهادة دكتوراه هو خبير في اختصاص نادر جداً، عندما كان يدرس وقد أمضى ثلاثاً وثلاثين سنة أين كنت أنت؟ وأيام دراسته يبقى إلى الساعة الثالثة صباحاً كل يوم، أين كنت أنت؟ كنت نائماً، فالإنسان الذي يجاهد نفسه لابد أن يقطف الثمار، هذه في الدنيا قد تراها، هناك مهن الجهد فيها بسيط، والدخل كبير، لكن قبلها كان الإعداد ثلاثاً وثلاثين سنة، لكن إذا كان الإعداد بسيط فالعمل اثنتي عشرة ساعة وبمئتي ليرة مثلاً، إن العمل شريف، وأنا لا أنتقص من قيمة الفاعل، لكن لما يكون جهد الإنسان كبيراً ودخله قليلاً فمعنى ذلك أنه ليس عنده خبرة فنية أي أنه ذو خبرة عضلية فقط، جهد عضلي، أما إذا كانت هناك خبرة فنية فنظرة أو توقيع يوجب خمسة آلاف مثلاً.
 في الجنة الآن هذا العطاء الكبير له سبب: ﴿كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ*وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ*وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ كذلك قال الله تعالى:

﴿  فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه(20)﴾

[ سورة الحاقة ]


في الآخرة كل شيء بحسابه:


 في الدنيا هذه الساعة لم تغب عن ذهني والناس نيام، ساعة اللقاء، ساعة الحساب، ما غابت عن ذهني أبداً.

﴿  إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيه(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾

[ سورة الحاقة ]

 كل شيء بحسابه،

﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ ۚ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ۚ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ ۙ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ ۙ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ۚ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (20)﴾

[ سورة المزمل ]

﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ*يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ*وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الجنة بالعمل وبرحمة الله عز وجل. 

﴿ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ(73)﴾

[ سورة الزخرف ]

 الفاكهة دليل الإكرام، المبالغة في الإكرام.

المجرمون يحتارون من شدة الألم في الآخرة:


 صورة أخرى:

﴿  إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(75)﴾

[ سورة الزخرف ]

 أي أنّ الإنسان قد يحتار من شدة الألم، الإبلاس هو الحَيرة، قد تأتي الإنسان نوبات ألم شديدة، وقد يصيح، وأحياناً يكزّ على أسنانه، ويشدّ على المقعد، وقد يضجر، وقد يسكت، إنه محتار ماذا يفعل؟ ألم لا يحتمل.

﴿  إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(76)﴾

[ سورة الزخرف ]


محاسبة كل إنسان على عمله يوم القيامة:


 لا ظلم اليوم، قال تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[ سورة النساء ]

 وقال:

﴿  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

 لا ظلم اليوم، وقال:

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[ سورة الأنبياء ]


الإنسان اختار بنفسه حمل الأمانة فإن أداها بحقها فله عطاء يفوق الخيال:


 وقال: ﴿لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ*وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ بساعة من ساعات الألم الشديد الذي لا يُحتَمل:

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)﴾

[ سورة الزخرف ]

﴿ ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ(13)﴾

[ سورة الأعلى ]

الحالة لا تُطاق، لا يوجد يموت فيستريح، ولا حياة مريحة، الموت ينهي، والحياة مقبولة لكن: ﴿وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ الإنسان خُلِق ليبقى، خُلِق من نور الله، وهو اختار بنفسه حمل الأمانة.

﴿  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا(72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

 لقد حمل الإنسان الأمانة، فلو أنه أدى هذه الأمانة فله عطاء يفوق حدّ الخيال، المؤمن إذا أدّى الأمانة يبلغ في سعادته أضعاف الملائكة، يتجاوز الملائكة المُقرّبين لأن فيه شهوة، ويتعرض لمخاطرة، فالموظف دخله محدود لكن ليس لديه مسؤولية، ولا يعاني قلقاً ولا خوفاً، فلماذا التاجر أحياناً يربح أرباحاً باهظة؟ فهذه الأرباح ثمن المغامرة يمكن أن يفلس، يمكن أن يخسر، دائماً قرار المغامرة فيه احتمالان؛ إما أن يربح ربحاً فاحشاً، وإما أن يخسر ويفلس. 

الإنسان إما أن يكون خير الخلق أو أنه شر الخلق لا يوجد حل وسط:


  الإنسان قبل حمل الأمانة، فهو إما أن يبلغ في سعادته أضعاف ما تبلغه الملائكة، وإما أن يهوي إلى أسفل سافلين، لا يوجد حل وسط، "رُكِّب المَلَك من عقل بلا شهوة، ورُكِّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة فإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان" ، لذلك:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ(7)﴾

[ سورة البينة ]

 على الإطلاق:

﴿  إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ(6)﴾

[ سورة البينة ]

 فالإنسان إما أنه خير الخلق، وإما أنه شر الخلق، لا يوجد حل وسط، ونحن ما دمنا أحياء فهناك بحبوحة، ونحن حملنا الأمانة وقبلناها، وكل شيء محاسبون عليه. 

السعيد من عرف حقيقة ذاته وحقيقة الأمانة التي يحملها واستغل الوقت كله للعمل للآخرة:


  السعيد من عرف حقيقة ذاته وحقيقة الأمانة التي يحملها واستغل الوقت كله في العمل للآخرة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( يا رَسولَ اللهِ، أيُّ المؤمنينَ أفضَلُ: قال: أحسَنُهم خُلُقًا، قال: فأيُّ المؤمِنينَ أكيَسُ؟ فقال: أكثَرُهم للموتِ ذِكرًا وأحسَنُهم له استِعدادًا. ))

[ سنن ابن ماجه ]

 ألا وإن من علامات العقل التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والتزود لسكنى القبور، والتأهب ليوم النشور، وقال: 

((  الكَيِّس مَنْ دانَ نفسَه، وعَمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفَسَهُ هَواهَا وتمنَّى على الله الأماني.  ))

[ أخرجه الترمذي ]

 قال تعالى:

﴿  إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(78)﴾

[ سورة الزخرف ]


على الإنسان أن يفكر بشكل صحيح وأن يتحمل مسؤولية قراره:


 في الدنيا بلغك الحق، دُعِيتَ إلى الحق، ودُعِيت إلى معرفة الله، دُعيت إلى طاعته، دُعيت إلى بذل المال في سبيله، دُعيت إلى الائتمار بأمره، ولكنك كرهتَ الحق، وقلت إن هي إلا أساطير الأولين.

﴿  لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79)﴾

[ سورة الزخرف ]

 أحياناً الإنسان يفكر ويتخذ قراراً أحمق، هكذا اتخذ قراره، وربنا عز وجل يتخذ قراراً بمعاقبته ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ الله هو القوي، فإذا أنت اتخذت قراراً بأن هذا الدين لغير هذا الزمان، أو كله غيبيات، ونحن في عصر علم، فلابد من أن تتحمل المسؤولية، لذلك الله عز وجل قال: ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ .

الإنسان قد يتخذ قراراً في معصية لكن الله أكبر من قراراته وهو له بالمرصاد:


 أحياناً قد تكون قصة بليغة في التعبير عن معنى آية، حدثني رجل اشتغل في شراء الصوف في البادية، كان صغير السن، وليس فقيهاً في أمور التجارة فخطر في باله أن يتلاعب في الوزن، فاشترى كمية من الصوف من أحد تجار البضاعة، وأعطاه أوزاناً كلها مغلوطة، فبعد أن شعر البدوي أن هناك تلاعباً في الميزان تألّم، وقال له: إن شاء الله تجدها في صحتك إن خدعتني في الوزن وغششتني، قال لي: وبعد أن قال صاحب البضاعة هذه الكلمة، فأنا غششته بمبلغ كبير، فدخلت مع نفسي في صراع من لحظة شرائي الصوف وانطلاقي بالسيارة وأنا بصراع، وأقول لنفسي: أأرجع وأعطيه الفرق، أم أبقى ساكتاً، ماذا أفعل؟ لقد دعا عليّ، قال لي: وقبل بلدة (الضمير) القريبة من البادية اتخذت قراراً ألا أرجع إليه، فما الذي سيحدث، فأبرم أمراً، فقال: فو الله ما أكملت القرار في نفسي حتى وجدت نفسي في بركة من الدماء، إذ انقلبت السيارة والبضاعة تبعثرت، والسمن سال، وأصابني نزيف، وأخذوني إلى بعض الخيام ليسعفوني.
 إذاً؛ فالإنسان قد يبرم أمراً، أو يتخذ قراراً فيه معصية، أو يتخذ قراراً بعدوان على أموال الناس، يتخذ قراراً بأكل الحقوق، يتخذ قراراً بسحق خصمه، لكن الله أكبر منه.

انتبه أن تتخذ قراراً في معصية لأن الله عز وجل يدمرك بالمقابل:


 ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ كنت في العمرة وحدثني شخص بدوي من أطراف جدة، له أرض لمّا توسّعت جدة أصبحت أرضه ضمن دائرة التنظيم، فأحب أن يبيعها لمكتب عقاري، فتلاعب أصحاب المكتب عليه وأخذوها بثلث قيمتها، وبنوها بناية من ثلاثة عشر طابقاً، كانوا ثلاثة شركاء، أول شريك وقع من أعلى سطح البناء فنزل ميتاً، الشريك الثاني مات بحادث سيارة، أما الثالث فانتبه أن القضية كبيرة، وأنه احتال مع شريكيه على صاحب الأرض بالثلثين تقريباً، فبقي يبحث عن صاحب الأرض أكثر من ستة أشهر حتى عثر عليه ونقده الفرق، فقال له البدوي: أنت أدركت نفسك.
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ آية تتضمن كل معاني التخويف والتهديد، انتبه أن تتخذ قراراً في معصية، في عدوان، لأن الله عز وجل يتخذ قراراً بالمقابل يدمرك به، يتلف مالك كله، فتكون الخاسر ﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ . هذا الذي ستفعله؟ إذاً هيئ نفسك للعقاب.
 إذا الإنسان لم يقبل الاستقامة، ولم يقبل أن يعطي الناس حقوقهم، بل أخذ أموال الناس بالباطل، فأمامه عقاب كبير. 

انتبه أن تتخذ قراراً مغلوطاً لأن الأمر كله بيد الله:


  أصيب شخص بمرض عضال، وبينما يقود سيارته، فاجأته أزمة قلبية، فأُخذ إلى المشفى، وهناك طلب مسجلة، بدأ يذكر المتجر لفلان، وذاك المحل الآخر لفلان من خوفه، لكنه بعد أن صحا مما هو فيه ومضى عدة أيام طلب الشريط وكسّره، ورجع إلى ما كان عليه، وبعد ثمانية أشهر عادت إليه الأزمة القلبية، ومات على أثرها، هذه الآية دقيقة جداً!
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ انتبه أن تتخذ قراراً مغلوطاً، فيه عدوان، أو معصية، أو أكل أموال بالباطل، أو عدوان على الأعراض، أو إشاعة الظلم، إياك
﴿أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ الأمر بيد الله عز وجل، فالآية هذه تنطبق عليها والله آلاف القصص، أحياناً الإنسان يتخذ قراراً فيه ظلم، ويظن أن الله عز وجل لن يتدخل، فتجد بعد حين قد قصمه الله قصماً، فعُدّ للمليون قبل أن تتخذ قراراً بأكل أموال بالباطل، عدّ للمليون قبل أن تتخذ قراراً بأن تتهم إنساناً وهو بريء، قبل أن تظلم؛ أحياناً إنسان يظلم أهله وأقرب الناس له، يظلم شريكه أحياناً، فربنا بالمرصاد. 

اعلم أن الله يعلم سرك ونجواك واجعل من هذه الآية شعاراً في تعاملك مع الآخرين:


وكخلاصة؛ اجعل هذه الآية شعاراً.

﴿  أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)﴾

[ سورة الزخرف ]

 وفي درس قادم إن شاء الله تعالى نتابع هذه الآيات.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور