وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 152 - لمحة عن الجزء الثلاثين من القرآن الكريم.
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

لمحة عن الجزء الثلاثين من القرآن الكريم :

 أيها الأخوة الكرام، في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم سور في معظمها مكية، والسور المكية تتحدث عن الإله العظيم، وعن الدار الآخرة، لأن أركان الإيمان هي الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، فأبرز أركان الإيمان الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالله يمنعك أن تعصيه، والإيمان باليوم الآخر يمنعك أن تؤذي مخلوقاً، فكأن أركان الإيمان في مقدمتها الإيمان بالله واليوم الآخر، فهذه السور التي في الجزء الثلاثين من القرآن الكريم تتمثل هذه المعاني الكبرى في الإيمان، فالآية الأولى:

﴿عَمَّ يَتَساءَلونَ﴾

[ سورة النبأ: ١]

 عن هي حرف جر، وحروف الجر كثيرة، جمعت في هذين البيتين:

با من إلى عن لام على  في رب حتى واو وتاء
مذ منذ حاشـــــــــــا كاف عدا  لولا لعـــــــل كي خلا
***

 هذه كلها حروف الجر، فعنّ حرف جر أما الما فقد تأتي استفهامية، تقول لإنسان: ما اسمك؟ وقد تأتي حرفاً موصولاً، لو سأل إنسان طالباً متفوقاً بمَ نلت هذا المجموع؟ يقول: بما بذلت من جهد، فما الأولى استفهامية، فإذا أضيف حرف الجر إلى ما الاستفهامية حذفت ألفها:

إلام الخلف بينكمــــــا إلام؟  وهذه الضجة الكبرى علام؟
وفيم يكيد بعضكم لبعض؟  وتبدون العداوة والخصاما؟
***

 إلام: هي إلى وما، ما الاستفهامية تحذف ألفها إذا سبقت بحرف جر، على حرف جر وما الاستفهامية، فيم: في حرف جر وما استفهامية حذفت ألفها، فعمّ عن أي شيء تسألون.

 

بطولة الإنسان أن يطرح على نفسه أسئلة مصيرية :

 يوجد ملمح دقيق في الآية؛ إنسان يعيش له من العمر ثلاثون عاماً، متزوج له زوجة وأولاد وحرفة، يوجد أسئلة كبيرة، ويوجد أسئلة يومية، ماذا نأكل؟ اليوم أين نذهب؟ هناك مئات الأسئلة اليومية المتعلقة بحياتنا، بمعاشنا، بتربية أولادنا، بصحتنا، بمستقبلنا، لكن يوجد هناك أسئلة خطيرة متعلقة بمصيرنا.
 ما الموت؟ ماذا بعد الموت؟ وماذا بين الموت وبين يوم القيامة؟ يوجد برزخ، ما البرزخ؟ ما حال الإنسان في البرزخ؟ وما الجنة؟ وكيف يدخلها الإنسان؟ وما النار وكيف يتجنبها الإنسان؟
 هذه أسئلة تسمى أحياناً مصيرية، متعلقة بمصيرنا، فالبطولة أن تطرح أسئلة جزئية متعلقة بحياتك، لكن البطولة الكبرى أن تكون جرئياً وأن تطرح على نفسك أسئلة كبرى من أنا؟ من حرف استفهام طبعاً، أنت الإنسان، من الإنسان؟ المخلوق الأول عند الله عز وجل.
 لأن الله عندما عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال أبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان، ولأن الإنسان قبِل حمل الأمانة كان عند الله المخلوق الأول رتبة، لذلك سخر الله لهذا الإنسان ما في السموات والأرض جميعاً منه تسخير تعريف وتسخير تكريم، من أين أخذ هذا المعنى؟ من قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى هلالاً فقال عليه الصلاة والسلام:

(( هلالُ خَيْرٍ ورُشْدٍ))

[سنن أبي داود عن قتادة]

 هلال خير ننتفع بنوره، أو بضوئه، وهلال رشد يرشدنا إلى الله، ويستنبط من هذه المقولة أن كل شيء في الدنيا من دون استئناء له وظيفتان؛ وظيفة نفعية ووظيفة إرشادية، أي شيء خلقه الله.
 العالم الغربي والحق يقال انتفع من الوظيفة الأولى انتفاعاً ما بعده انتفاع، أي طاقات الأرض استهلكت ووظفت لمصلحتنا، وأنشئت السدود، وكشفت المعادن، غاص الإنسان في أعماق البحار، صعد إلى طبقات الجو، فالوظيفة النفعية للكون تحققت في أعلى مستوى في هذا العصر، أي التطور من بداية البشرية إلى ما قبل خمسين عاماً في كفة والتطور من خمسين عاماً إلى الآن في كفة ثانية، أي طاقة التواصل، الاتصالات، هذا الهاتف الذي أمامي، هذا الهاتف يمكن أن يرسل هذا الدرس إلى القارات الخمس بضغطة زر، العالم كان خمس قارات أصبح قارة، بلداً، مدينة، قرية، بيتاً، غرفة مكتب، العالم الآن سطح مكتب، فيوجد تطور كبير جداً:

﴿عَمَّ يَتَساءَلونَ*عَنِ النَّبَإِ العَظيمِ﴾

[ سورة النبأ: ١-٢]

 الموت المغادرة، ماذا بعد الموت؟ ماذا في القبر؟ ماذا بعد يوم القيامة؟ ما الجنة؟ ما النار؟ ما الذي يسعدني؟ ما الذي يشقيني؟ ما الذي يرضي ربي؟ ما الذي يغضبه؟
 أخواننا الكرام؛ مادامت اهتمامات الإنسان بشأنه الخاص؛ ببيته وأهله وأولاده ورزقه ومكتسباته، مادام اهتمامه بالشأن الخاص فهو صغير عند الله، فإذا اهتم الإنسان بالشأن العام ارتقى.
 الإنسان همه حاله الشخصي، همه مصيره، همه موته، همه ما بعد موته، همه ما إذا كان من أهل الجنة أم من أهل النار، فالإنسان ما لم يتوقف قليلاً عند الأسئلة المصيرية فهو سوف يواجه خطراً كبيراً.

 

طرق الوصول إلى الإيمان :

 الآن لو سألنا أهل النار: لماذا أنتم في النار؟ الجواب في القرآن:

﴿وَقالوا لَو كُنّا نَسمَعُ أَو نَعقِلُ ما كُنّا في أَصحابِ السَّعيرِ﴾

[ سورة الملك: ١٠]

 لو كنا نسمع في الدنيا، نسمع الحق، أو نعقله، نسمع أو نعقل، هاتان الكلمتان تشبهان أن تطبخ طعاماً بيدك أو أن تشتريه جاهزاً، قد تستمع إلى آيات القرآن الكريم، الحقائق جاهزة، قد تقرأ الأحاديث الشريفة، الحقائق جاهزة، أو أن تتأمل وتفكر في خلق السموات الأرض وتصل من تفكرك إلى وجود إله عظيم، أسماؤه حسنى، صفاته فضلى، هذا الكون بيده.
 ممكن أن تصل إلى الإيمان بأن تقرأ القرآن، وتقرأ سنة النبي العدنان، أو أن تتأمل ذاتياً، التأمل الذاتي تغطيه الآية الكريمة:

﴿إِنَّ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ وَاختِلافِ اللَّيلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الأَلبابِ*الَّذينَ يَذكُرونَ اللَّهَ قِيامًا وَقُعودًا وَعَلى جُنوبِهِم ﴾

[ سورة آل عمران: ١٩٠-١٩١]

 الآن دققوا:

﴿ وَيَتَفَكَّرونَ في خَلقِ السَّماواتِ وَالأَرضِ رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطِلًا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّارِ﴾

[ سورة آل عمران: ١٩١]

 ويتفكرون أي نفكر في طعامنا وشرابنا وثيابنا وبيوتنا وزوجاتنا وأولادنا وبناتنا وفي نزهاتنا وكسب أمولنا وفي.. وفي.. ألا ينبغي لهذا الأبد، لهذا المستقبل الذي لا نهاية له أن نفكر فيه؟ ما مصيرنا بعد الموت؟
 لذلك كنت في أمريكا ألهمت أن هذه البلاد الشاسعة الكبيرة القوية الغنية الناس فيها يعيشون لحظتهم فقط، وهدفهم الرفاه، أما الآخرة، الموت، البرزخ، الجنة، النار، القبر، هذه المعاني كلها ليست داخلة في حساباتهم.
 في بلادنا المتواضعة يوجد شيء يقلق الناس، إيمانه يا ترى هل أنا مؤمن؟ هل الله عز وجل راض عني؟ يا ترى أنا أستحق الجنة؟ مادمت في تفكيرك اليومي، وفي جزيئات حياتك، وفي الأشياء اليومية التي لا تنقضي- لا يوجد إنسان مات، إن فتشنا دفاتره لوجدنا قائمة أعمال لم تنجز- تفكر في الموت، الموت يأتي فجأة، والقبر صندوق العمل.

 

العاقل من يعد لساعة الموت عدتها :

 الذي أتمناه من خلال هذا اللقاء الطيب بعد العطلة أن الإنسان يفكر ما الذي أمامي؟ ماذا يعني الموت بالنسبة لي؟
 شخص يسكن في منزل، غرفة ضيوف، صالون، غرفة طعام، غرفة نوم، يوضع في النعش تحت التراب، أعتقد أن طول القبر متران، وعرضه خمسون سنتمتراً، يهال التراب عليه، انتهى الأمر، الذكاء والعقل والحكمة والتوفيق والتفوق أن تعد لهذه اللحظة التي لابد منها، ولا يستطيع أحد من الحاضرين وأنا واحد منكم أن يقول: أنا لا أموت، أو بتعبير آخر: لا يستطيع أحد كائناً من كان أن يستيقظ كل يوم كاليوم السابق، مستحيل، كيف بالمطار يوجد بوابة خروج وكل شخص منا له بوابة خروج، يا ترى كيف؟ لا نعلم، لا نعلم كيف ولا متى، يموت في بيته، يموت بين أهله، يموت وهو في السفر.
 كنت بأمريكا أخ من أخواننا الكرام ينتظر والده في المطار، بعد ركوب الطائرة مدة خمس عشرة ساعة تقريباً وصل إلى شيكاغو، وضع قدمه في المطار وانحنى على بطنه، وسلم روحه، من السماء.
 أعرف شخصاً نائماً في الفراش مست زوجته يده وجدتها باردة، غير طبيعية، استيقظت مذعورة، فإذا هو ميت.
 يا ترى إذا الشخص نام هل يستيقظ؟ لا أحد يعلم، استيقظ هل ينام؟ لا أحد يعرف، إذا سافر يعود؟ لا أحد يعرف، الموت يأتي فجأة، والقبر صندوق العمل، هذا الموت شيء مخيف، وللمؤمن جنة:

(( الموت تحفة المؤمن))

[الحاكم في مستدركه]

 والموت عرس المؤمن، كيف إذا طالب سافر إلى بلاد بعيدة لينال الدكتوراه، درس ودوام بالجامعة، وعمل في المطعم حتى يؤمّن مصروفه، وقضى سبع سنوات كالموت، ثم نال الدكتوراه، أخذ الشهادة صدقها، سافر ووضع قدمه في سلم الطائرة، لو تصورنا أن هذا الإنسان، الطالب الذكي جداً الذي نال مؤهلاً علمياً كبيراً جداً، ينتظره منصب وزير، أي بالدول النائية الوزير منصب رفيع، يوجد عنده مركبة، بيت، ودخل معقول جداً.

 

الدنيا دار عطاء و الآخرة دار جزاء :

 المؤمن عندما يموت يكون قد وضع قدمه في الحياة الآخرة، حياة العطاء في الدنيا، قال تعالى:

﴿يا أَيُّهَا الإِنسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدحًا فَمُلاقيهِ﴾

[ سورة الانشقاق: ٦]

 أما في الآخرة:

﴿لَهُم ما يَشاءونَ فيها وَلَدَينا مَزيدٌ﴾

[ سورة ق: ٣٥]

 إلى متى؟ إلى أبد الأبدين، ما هو الأبد؟ والله شيء لا يمكن تصوره، واحد هنا وأصفار من هنا إلى نهاية هذا المسجد، فكيف إذا كان من هنا إلى نجم القطب؟ فكيف إذا كان من هنا إلى الشمس التي تبعد عنا مئة و ستة و خمسين مليون كيلو متر وكل ميلمتر صفر؟ هذا الرقم إذا وضع صورة لكسر عشري وضع في المخرج لا نهاية، قيمته صفر، أي رقم إذا نسب إلى اللانهاية صفر.
 فالإنسان يعيش سنوات محدودة بين الستين و السبعين، إذا تجاوز الستين يكون قد اقترب من النهاية، فإذا كنا سنغادر الحياة إلى القبر، والقبر فيه برزخ، بعده جنة أو نار، أليس من الذكاء والعقل والتوفيق أن تفكر في الحياة الأبدية؟ ما مستلزماتها؟
 شخص يريد أن يسافر سفرة بسيطة، يكتب قائمة من ثمانين بنداً، سفرة إلى الأبد ما الذي ينفعني بعد الموت؟ تنفعني الاستقامة في الدنيا، ينفعني أن يكون مالي حلالاً، ينفعني أن أربي أولادي تربية دينية، ينفعني أن أحجب بناتي، ينفعني أن أدل زوجتي على الله لتكون شفيعة لي يوم القيامة.
 فالإنسان مادام يفكر في الشأن الخاص، بالعمل اليومي، الروتين إن صح التعبير، باهتمامات أهل الأرض كلها، لو كشفت عن مكنونات أهل الأرض؛ أكل وشرب وزواج ونوم واستمتاع وملذات وسفريات وبيت فخم ومركبة فاخرة، أما المؤمن فله شأن آخر، المؤمن يعد لمستقبله، لذلك ورد: عبدي رجعوا وتركوك، وبالتراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت.

 

التساؤل عن النبأ العظيم :

 إذاً أول كلمة في أول سورة من الجزء الثلاثين في القرآن الكريم جزء عمّ،

﴿عَمَّ يَتَساءَلونَ﴾

 عن أي شيء يتساءل البشر؟ ينبغي أن نتساءل عن النبأ العظيم، عن النبأ الخطير، النبأ الذي تقشعر له الأبدان، قال تعالى:

﴿وَقِفوهُم إِنَّهُم مَسئولونَ﴾

[ سورة الصافات: ٢٤]

 وقال تعالى:

﴿كُلُّ نَفسٍ بِما كَسَبَت رَهينَةٌ*إِلّا أَصحابَ اليَمينِ﴾

[ سورة المدثر: ٣٨-٣٩]

 وقال تعالى:

﴿في جَنّاتٍ يَتَساءَلونَ*عَنِ المُجرِمينَ*ما سَلَكَكُم في سَقَرَ*قالوا لَم نَكُ مِنَ المُصَلّينَ*وَلَم نَكُ نُطعِمُ المِسكينَ*وَكُنّا نَخوضُ مَعَ الخائِضينَ*وَكُنّا نُكَذِّبُ بِيَومِ الدّينِ*حَتّى أَتانَا اليَقينُ*فَما تَنفَعُهُم شَفاعَةُ الشّافِعينَ﴾

[ سورة المدثر: ٤٠-٤٨]

 أخواننا الكرام، الموضوعات خطيرة جداً، وإن شاء الله نوفق في تفسير هذا الجزء الأخير من كتاب الله، لأن آياته في مجملها تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهذان ركنان كبيران من أركان الإيمان، وإذا صحت عقيدة الإنسان صح عمله، وإذا صح عمله سلم وسعد في الحياة الدنيا والآخرة، إن صحت عقيدته صح عمله، وإن صح عمله سلم وسعد في الدنيا والآخرة.
 اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

إخفاء الصور