وضع داكن
26-04-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة النجم - تفسير الآيات 1-4 - الغاية من إرسال الرسل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

على الإنسان ألا يعبد النجم من دون الله لأنه يتلاشى يوم القيمة:

 

أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة النجم:

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)﴾

[ سورة النجم ]

النَجم مُطْلَقُ النجم، ليس نجماً بعينه، هذا النجم الذي في السماء حينما يهوي، أي حينما ينزل وراء الأفق بحكم دورة الأرض حول نفسها، أو حينما يغيب، أو حينما ينتثر: 

﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)﴾

[ سورة التكوير ]

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)﴾

[  سورة الانفطار ]

حينما يغيب عن الأنظار، أو حينما ينزل وراء الأفق، أو حينما ينتثر، هذا النجم لا ينبغي أن يُعبَد من دون الله لأنه يغيب، لأنه يسقط، لأنه يتلاشى يوم القيامة.

 

الله رب كل شيء في الكون:


المعبود ينبغي أن يكون أزلياً أبدياً، لا أول له ولا آخر له، وقد قال بعض المفسرين: "إن النجم يقصد به نجم الشعرَى" ، هذا النجم كان يُعبَد من دون الله في الجاهلية، لذلك قال تعالى:

﴿ وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)﴾

[ سورة النجم  ]

الشعرى ليس رباً، الله ربه، فأي شيءٍ دون الله عزَّ وجل إذا عُبِدَ من دون الله فهو سيتلاشى، سيغيب. 

﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾

[  سورة الأنعام ]

معنى هذا أن أيَّ شيءٍ في الكون مهما بدا لنا عظيماً الله ربه، والفناء مآله، إذاً لا ينبغي أن يُعبَد من دون الله، هذه نقطة.

 

إرسال الله عز وجل الرسول الكريم لهداية الخلق:


النقطة الثانية:

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾

[ سورة النجم  ]

الواو واو القسم، فإذا أقسم الله بالنجم فلِيلفتَ النظر إلى عظمة هذه الآية التي تُجَسِّد أسماء الله الحسنى ؛ القوة والعلم والقدرة، هذا كلُّه يتضح من خلقه، فإذا تجاوزنا أن النجم إذا هوى أي إذا سقط، إذا غاب عن الأنظار، إذا انتثر يوم القيامة، هذا لا ينبغي أن يُعبَد من دون الله، وكأن القرآن الكريم أشار إلى الشِعْرَى بكلمة (والنجم)، وقبل نهاية السورة قال: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى﴾ أما المعنى الثاني أن هناك علاقةً بين هذا الرسول الكريم الذي جاءكم بهذا الكتاب الكريم وبين خالق السماوات والأرض، الذي خلق النجم حينما يهوي هو الذي أرسل هذا الرسول، شرفُ الرسالة من شرف المرسِل. 

 

رسول الله الذي بعثه الله للعالمين ينبغي ألا تتهموه بالضلال أو الغواية:


أنت أحياناً تقرأ آلاف الكتب، مئات الكتب لكيلا أبالغ، كل هذه الكتب من تأليف البشر، لكن هذا القرآن له شأنٌ آخر، هذا كلام خالق البشر، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، شتَّانَ بين من يقرأ كلام البشر وبين من يقرأ كلام خالق البشر، فالذي خلق الكون كامل، من لوازم كماله أن يبيّن، أن يرسِل، أن ينزِّل الكتاب، فإرساله للرسل، وإنزاله للكتب دليل رحمته، ودليل حرصه على هداية خلقه، ودليل إرادته أن يسعدهم في الدنيا والآخرة.

﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾ هذا الذي أمامكم هو رسولي، والذي بين يديه كتابي، فينبغي أن تصغوا إليه، وأن تقرؤوا كلامي، لا ينبغي أن تتهموه بالضلال، ولا بالغواية.

 

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى: آية لها عدة معان:

 

1 ـ الشيء مهما كان عظيماً لا ينبغي أن يُعبَدَ من دون الله:

المعنى الأول: أنَّ شيئاً مهما كان عظيماً لا ينبغي أن يُعبَدَ من دون الله، المعبود ينبغي أن يكون باقياً على الدوام، هو الحيُّ الباقي، ليس من شأن الفاني أن يُعبَد، إنك إن ربطت مصيرك به فحينما يفنى وحينما يغيب أين أنت إذاً؟ 

2 ـ النجم آية من آيات الله الدالة على عظمته ينبغي ألا يعبد:

المعنى الثاني: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى﴾ آيةٌ من آياته الدالة على عظمته، قد ترى نجماً بعيداً صغيراً، هذا النجم قد يتَّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، والشمس تكبر الأرض بمليون وثلاثمئة ألف مرَّة، وبين الشمس والأرض مئة وستةٌ وخمسون مليون كيلو متر، وهذا نجم العقرب (قلب العقرب) النجم الصغير الأحمر المتألِّق يتسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، هذه النجوم بعضها يبعد عنا سنوات طويلة، ربع سنوات ضوئية، بعضها كنجم القطب يبعد عنَّا أربعة آلاف سنة ضوئية، بعضها مليون سنة ضوئية، بعضها يبعد أربعة وعشرين ألف مليون سنة ضوئية.

 

لفت الله عز وجل أنظار الناس إلى آياته الدالة على قدرته:


المعنى الأول: لا ينبغي لشيءٍ في الكون مهما بدا لكم عظيماً أن يُعبَد لأن مصيره إلى الفناء، المعبود هو الحق هو الباقي على الدوام.

المعنى الثاني: إنّ النجم آية من آيات الله، فواو القسم إذا أقسم فبالنسبة إلينا، وإن لم يقسِم فبالنسبة إليه.

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)﴾

[  سورة الواقعة ]

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ(18)﴾

[ سورة التكوير  ]

إن لم يقسم فبالنسبة إليه، وإن أقسم فبالنسبة إلينا، وإن أقسم يخرج هذا القسم عن معناه الأصلي إلى معنى آخر، هو أن الله سبحانه وتعالى يلفت نظرنا إلى آياته التي يمكن أن تكون دليلاً على عظمته، ودليلاً على قدرته، وعلى علمه، وعلى رحمته.

 

معرفة قريش لصدق النبي الكريم وأمانته:


﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2)﴾

[ سورة النجم ]

لماذا قال صاحبكم؟ أي لأنكم تعرفونه، تعرفون صدقه، وتعرفون أمانته، وتعرفونه أنه ما كذب قط في حياته، ما جرَّبنا عليه كذباً قط، تعرفون نسبه، وتعرفون صدقه، وتعرفون أمانته، وتعرفون عفافه، وهكذا قال سيدنا جعفر بن أبي طالب، قال: عن أم سلمة:

(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء . ))

[ إسناده صحيح أخرجه أحمد ]

تعرفونه، هو بين أظهركم، نشأ بينكم، ما جرَّبتم عليه كذباً قط، ما وجدتم منه فاحشة ولا زلَّة قدمٍ، هذا صاحبكم تعرفونه ما ضلَّ وما غوى، ما ضلَّ عقله ولا انحرف سلوكه، وفي هذا تعريضٌ بقريش، أي أنتم ضللتم وغويتم، أنتم ضللتم وانحرفتم، أنتم ضللتم واعتديتم، هو ما ضلَّ وما غوى.

 

الإنسان إذا سار على منهج الله لا يضلّ عقله:


تعلمون أن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)﴾

[  سورة طه  ]

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[ سورة البقرة ]

أيْ أنت عقلٌ يدرك، وقلبٌ يحبّ، فإذا سرت على منهج الله لا يضلّ عقلك، ولا تشقى نفسك بانحرافك.

 

نعمة العلم أعظم نعمةٍ لأنها تؤدي إلى الصلاح:


أولى ثمار الإيمان إخواننا الكرام أن يستنير عقلك، المؤمن يتمتَّع بنعمة لا يعلمها إلا الله، ما هذه النعمة؟ أن الأمور واضحة في ذهنه، يعرف سرَّ وجوده، يعرف غاية وجوده، يعرف حقيقة الدنيا، يعرف الحلال والحرام، يعرف الحقَّ من الباطل، يعرف ما ينبغي وما لا ينبغي، يعرف الحكمة من كل شيء، نعمة العلم لا تعدلها نعمة، رتبة العلم أعلى الرتب، أن تعرف لماذا أنت في الدنيا؟ أن تعرف أثمن ما فيها.

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾

[ سورة الكهف ]

 

العمل الصالح أثمن شيء في الحياة الدنيا:


أن تعرف أن العمل الصالح هو أثمن شيءٍ في الدنيا، نعمة العلم أعظم نعمةٍ على الإطلاق، كن عالماً أو متعلماً أو مستمعاً أو محباً ولا تكن الخامسة فتهلك، الناس رجلان عالم ومتعلم ولا خير فيمن سواهما، يقول سيدنا علي كرَّم الله وجهه: الناس ثلاثة؛ عالمٌ ربَّاني، ومتعلمٌ على سبيل نجاة، وهمجٌ رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركنٍ وثيق، فاحذر يا كميل أن تكون منهم، اغْدُ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَاهُمَا ، لا يؤكِّد في الإنسان إنسانيته إلا طلب العلم، لا يرفعك عند الله إلا العلم. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾

[ سورة المجادلة ]


ثمرات الإيمان هي إنارة العقل وسعادة النفس:


أيُّ حظٍّ من حظوظ الدنيا الذي يعظِّمه الناس لا قيمة له عند الله، الله جلَّ جلاله في كتابه الكريم لم يعتمد أية قيمةٍ من قيم الناس، لا قيمة المال، ولا قيمة الذكاء، ولا قيمة القوَّة، ولا قيمة الجمال، لم يعتمد إلا قيمة العلم والعمل: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ .

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)﴾

[ سورة الأحقاف ]

﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾

[ سورة التوبة ]

أيها الإخوة الكرام؛ أولى ثمار الإيمان أن يستنير عقلك وأن تسعد نفسك.

 

ضلال عقل الإنسان من أكبر مساوئ البعد عن الله:


أكبر مساوئ البعد عن الله أن يضلَّ عقلك، وأن تشقى نفسك، ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى﴾ الإنسان إذا تصوَّر تصوُّراً خاطئاً وسار في طريقٍ مسدود، ثم اكتشف الحقيقة بعد فوات الأوان أنه كان مخطئاً، ماذا يحصل له؟ حدَّثني أخ كان في فرنسا، رجل من وجهاء الشعب الفرنسي، شغِل منصب رئيس وزراء سابقاً، من أرقى العائلات، غني، انتحر وهو في السبعين من عمره، وحار الصحفيون في تحليل انتحاره، صحفي واحدٌ اهتدى ولعلَّه أصاب، أنه اعتنق مبدأ لا أصل له سبعين عاماً، فلَّما اكتشف أن هذا المبدأ باطل، وأنه لا أصل له، وأنه قائمٌ على أوهامٍ لا على حقائق احتقر نفسه، أنت لو طلبت العلم الصحيح لن تجد عندك مفاجأة إطلاقاً في حياتك، أبداً، لن تأتي الأيام بمفاجأةٍ تنقض ما اعتقدته، مُضِيُّ الأيام لا يزيدك إلا يقيناً، كل الحوادث تؤكِّد ما تعتقد فيه، إن كان اعتقادك نابعاً من كلام الله وسنَّة رسول الله، هذا كلام الله عزَّ وجل، أنت حينما تقرأ القرآن، وحينما تأخذ منه عقيدتك، وحينما تأخذ منه منهجك أنت تأخذ من الجهة الصانعة، من الجهة الخبيرة، قال تعالى:

﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾

[ سورة فاطر ]

 

تعريض الله عز وجل بقريش بأنهم هم من غووا وضلوا:


لذلك: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ كأن الله سبحانه وتعالى يُعرِّض بقريش؛ أنتم الذين ضللتم، أنتم الذين غويتم، أنتم الذين جهلتم، أنتم الذين انحرفتم، أنتم الذين شقيتم، ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ تعريضٌ بقريش، بضلالها، وبغوايتها، وانحرافها وعدوانها، نبيٌّ كريم عقله مستنير، ونفسه صافيةٌ سعيدةٌ بلقاء الله عزَّ وجل، أكبر نعمةٍ على الإطلاق أن يكون عقلك مستنيراً بالحق، وأن تكون نفسك مطمئنَّة بصلتها بالله عزَّ وجل، كلام طيِّب، الإنسان عقل وقلب، العقل يدرك، القلب يطمئن، قال تعالى:

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)﴾

[ سورة الرعد ]

 

لحظة الموت أسعد لحظات المؤمن:


هل هناك من شعور يفوق شعور المؤمن بأن الله راضٍ عنه؟ وأن الله يحبُّه؟ وأنه على الطريق السوي؟ وأن الطريق ينتهي بجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض؟ وأن مضي الزمن لصالحه؟ وأن خطَّه البياني صاعدٌ صعوداً مستمرَّاً؟ وأن الموت عرس المؤمن؟ وأن لحظة الموت أسعد لحظات المؤمن؟ هذا الموت عند الناس أكبر مصيبة، يقولون لك: مسكين؛ مات، لا، ليس مسكين إذا كان مؤمناً، النبي رأى جنازة فقال:

(( عن أبي قتادة أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليه وسلم مرَّ عليْهِ جنازةٌ فقالَ: مستريحٌ ومستراحٌ منْهُ، فقالوا: ما المستريحُ وما المستراحُ منْهُ؟ قالَ: العبدُ المؤمنُ يستريحُ من نصَبِ الدُّنيا وأذاها، والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منْهُ العبادُ والبلادُ والشَّجرُ والدَّوابُّ. ))

[ متفق عليه ]

عام دراسي مثقل بالمتاعب، والدراسة، والتحضير، والتأليف، والمذاكرات الشفهية والتحريرية، والوظائف والدوام المرهق، والساعات الطويلة، إلى أن أدَّى الامتحان فنال الدرجة الأولى فاستحقَّ أعلى درجة تكريم، ساعة الامتحان ساعة سعادة، ورد في الحديث الصحيح: 

(( عن عبدالله بن عمر:  تُحفةُ المؤمنِ الموتُ . ))

[  أخرجه الحاكم : العراقي : تخريج الإحياء للعراقي : خلاصة حكم المحدث : مرسل بسند حسن ]

والموت عُرْسُ المؤمن، فالإنسان أحياناً يسعى ثلاثين عاماً من أجل أنْ يشتري بيتًا، يخطب ويتزوج، يوم عرسه بحسب مفاهيم الناس أجمل أيام حياته، أما المؤمن فعرسه ساعة لقاء الله عزَّ وجل، بكت ابنة سيدنا بلال وقالت: "واكربتاه يا أبت -وهو على فراش الموت-قال: لا كربَ على أبيك بعد اليوم غداً نلقى الأحبَّة محمداً وصحبه" ، شتَّان بين من يرى الموت أكبر مصيبة، وبين من يرى الموت ساعة اللقاء.

 

فرح المؤمن وندم الكافر عند الموت:


أيها الإخوة؛ لو قرأتم سِيَرَ صحابة رسول الله، سير مختلفة، مواقف مختلفة متباينة، لكنَّ فيها موقفاً متشابهاً، كان أصحاب النبي في أسعد لحظات حياتهم وهم على فراش الموت، سيدنا رسول الله تفقَّد أحد أصحابه لم يجده، قال: ابحثوا عنه في أرض المعركة، ذهبوا إلى هناك رأوه يَئِن، اسمه سعد بن الربيع، قيل له: يا سعد أمرنا رسول الله أن نتفقَّد شأنك، هل أنت بين الأحياء أم بين الأموات؟ أيْ أنت ما وضعك؟ قال: بين الأموات، انتهيت، ولكن بلغوا عني رسول الله: جزاك الله عنَّا خير ما جزى نبياً عن أمّته، أي هو مُمْتَن برسول الله الذي دَلَّه على الله والذي عَرَفَهُ، وبلِّغ أصحابه أنه لا عذر لكم إذا خُلِصَ إلى نبيُّكم وفيكم عينٌ تطرف، أي إذا العدو وصل إلى النبي وبقي منكم واحد لا عذر له، ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ أنت مؤمن، أنت عرفت الله، عقلك مستنير، عرفت سرَّ الكون، هذا الكون خُلِق لتعرف الله من خلاله، عرفت سرَّ الحياة إنها إعدادٌ لسعادةٍ أبدية، لحياةٍ أبدية، والدليل أنّ الإنسان عند الموت يقول:

﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾

[  سورة الفجر  ]

 

على المؤمن أن يطمئن قلبه بذكر الله:


أيها الإخوة؛ كلمة: ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ تعريضٌ بأهل الكفر، أي أنتم ضللتم، وأنتم غويتم، وانحرفتم، واعتديتم، وظلمتم، لكن هذا النبي الكريم ما تكلَّم كلمةً باطلة، ما ضلَّ أبداً، ولا زل، ولا اختل، ولا غوى، ولا انحرف، وصاحبكم تعرفونه، ما حكمةُ في أنَّ النبي ولد في قريش؟ لو جاء من الشام لا يعرفون ماضيه، يشكُّون، تربّى بينكم، نشأ بين ظهرانيكم، رأيتم صدقه، رأيتم أمانته، رأيتم عفافه، رأيتم نسبه، حينما هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكَّة إلى المدينة الكفَّار المشركون أماناتهم وأموالهم عند النبي لأنهم يثقون به، لذلك أبقى سيدنا علياً كرَّم الله وجهه ليردَّ الودائع إلى أصحابها، ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ المعنى المعاكس، المعنى المخالف هو: أي أنتم أيها المؤمنون ينبغي أن تستنير عقولكم وأن تطمئنَّ قلوبكم: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ .

 

من خصائص المؤمن قول الحق:


﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)﴾

[ سورة النجم ]

أيضاً في هذه الآية تعريضٌ بالكفَّار، أنتم إذا تكلَّمتم تكلّمتم عن أهوائكم، لو أنّ الإنسان راقب نفسه -طبعاً الإنسان غير المنضبط، غير الملتزم، المتفلِّت-تسعة أعشار كلامه غير موضوعي، عن الهوى، أي يتكلَّم كلاماً لمصلحته، إذا كانت البضاعة بضاعته يُثْني عليها ثناءً لا حدود له، أما إذا كانت بضاعة جاره يمكن لا يتكلَّم ولو كلمة، فقط يتحول، أي كأنها لا تعجبه، هذه الحركة لا ينطق عن الهوى، ينطق عن الهوى ويسكت عن الهوى، الإنسان يتكلَّم لصالحه، يمدح ما عنده، يذم ما عند غيره، يُحسِّن الشيء إذا كان يملكه، يُبَخِّس الشيء الذي لا يملكه، فتسعة أعشار كلام الناس كلامٌ غير موضوعي، غير حقيقي، ليس فيه دقَّة ولا فيه إنصاف، أما النبي فلا ينطق عن الهوى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ أيضاً الإنسان غير المؤمن ينطق عن الهوى، تجد أن الناس الآن كفروا بالكلمة، لماذا؟ لا توجد كلمة صادقة، كل الكلام ينطلق من مصالح، ويتَّجه نحو مصالح، الموضوعية شبه نادرة بين الناس، تتكلم الحقَّ ولو كان مرَّاً؟! تتكلم الحقَّ ولو كنت أنت المعنيَّ به؟! هذا شيء من خصائص المؤمن، أي يتكلَّم الحقيقة.

 

عدل وحكمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:


كان سيدنا عمر بين أصحابه، فأحد أصحابه تكلّم ولا أدري لماذا قال هذا الكلام، نظر إلى عمر، وقال: "والله يا أمير المؤمنين ما رأينا أفضل منك بعد رسول الله" ظنّ أنه قال صواباً، فنظر عمر إليه وأحدَّ فيه البصر فارتبك وتكهرب الجو، إلى أن قال أحدهم: لا والله يا أمير المؤمنين لقد رأينا خيراً منك، قال: ومن هو؟ قال: الصدّيق، فقال سيدنا عمر: لقد صدق هذا وكذبتم جميعاً -عدَّ سكوتهم كذباً- قال سيدنا عمر: والله كنت أضلَّ من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك" .

يوم كنت أضلّ من بعيري كان أبو بكر أطيب من ريح المسك، كان موضوعياً ، ما تكلَّم عن الهوى، لو أراد لنفسه الرفعة لأثنى عليه، قال له: "ما رأينا رجلاً أفضل منك بعد رسول الله - كلام طيّب يرفع شأنه-فقال لهم: كذبتم جميعاً، لكن هذا الذي قال: لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك، قال: كذبتم جميعاً وصدق، والله كنت أضلَّ من بعيري وكان أبو بكرٍ أطيب من ريح المسك

صعِد المنبر ليخطب أول خطبةٍ بعد تولّيه الخلاقة، وقف على الدرجة العُليا ثم نزل درجة، تعجَّب أصحابه!! قال: "ما كان الله ليراني أن أرى نفسي في مقام أبي بكر" ، هذه الدرجة لأبي بكر، أنا أنزل درجة، لكن سيدنا عثمان ما نزل درجة ولحكمةٍ أرادها، أحد خلفاء بني أمية سأل وزيره قال له: "لمَ لم ينزل عثمان درجة؟ قال: والله لو فعلها لكنت في قعر بئر" من غير المعقول أنّ كل واحد ينزل درجة، لاحتجنا إلى أن نحفر الأرض، سيدنا عمر نزل درجة تواضعاً وإعلاءً لمقام سيدنا الصديق، وسيدنا عثمان لم ينزل لأنه لو فعل لكانت سنَّة، ولانتهت هذه السنَّة إلى أعماق الآبار.

 

شدة ورحمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:


سيدنا عمر هاب الناس شدَّته، فقال: "كنت مع رسول الله خادمه وجلواذه وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي عني وهو عني راضٍ، الحمد لله على هذا كثيراً وأنا به أسعد -أنا أسعد الناس أن النبي توفي وهو عني راضِ-ثم كنت خادم أبي بكر وجلواذه وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء -كنت قوة بيده- عندما توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام قال سيدنا الصديق لسيدنا عمر: "يا عمر مدَّ يدك لأبايعك، قال: معاذ الله أنت أفضل مني، فقال له: أنت أقوى مني، فقال له: قوتي إلى فضلك" ، أنا خادم لك، أنت صاحب الفضل وأنا إن قلت: إنني قوي فقوتي لك.

قال: "وكنت خادم الصديق وجلواذه وسيفه المسلول، فكان يغمدني إذا شاء، وتوفي وهو عني راضٍ، والحمد لله وأنا به أسعد، ثم صارت الأمور إليّ، اعلموا أيها الناس أن تلك الشدَّة قد أُضعِفَت، أنا عندما كنت شديداً كان سيدنا رسول الله رحيماً، تجتمع رحمته مع شدَّتي فيتعادلان، لما كنت شديداً كان الصديق حليماً، أما الآن آلت الأمور إلي فاعلموا أن تلك الشدَّة قد أُضعِفَت، وإنما تكون على أهل البغي والعدوان، أما أهل التقوى والعفاف فإنني أضع خدّي لهم ليطؤوه، ثم قال: أيها الناس خذوا عني خمس خصال خذوني بهن -أيْ حاسبوني عليهن-لن آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقِّه، ولن أنفقه إلا بحقِّه، ولن أجمِّركم في البعوث -أيْ في الجهاد-ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، فإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا".

قال له سيدنا أبو ذر: "إن الناس خافوا شدّتك، قال: والله يا أبا ذر لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى"

 

المؤمن الصادق لا ينطق عن الهوى:


كان مرَّةً مع سيدنا عبد الرحمن بن عوف في المدينة يجوبان طرقها فرأيا قافلةً قد استراحت في ظاهر المدينة، فقال: "تعالَ نحرسها، ولم يلبث أنْ سمع بكاء طفلٍ، فذهب عمرٌ إلى أمه وقال: أرضعيه، فأرضعته، ثم بكى فقال: أرضعيه، فأرضعته، ثم بكى فقال لها: أرضعيه يا أمة السوء، قالت: وما شأنك بنا؟ إنني أفطمه، قال: ولمَ؟ قالت: لأن عمر لا يعطينا العطاء إلا بعد الفطام، فأمسك بيده وضرب رأسه وقال: كم قتلت من أطفال المسلمين يا عمر! ثم صلى صلاة الفجر ولم يستطع أصحابه أن يستمعوا إلى قراءته من شدَّة بكائه" .

﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ وقفت عند هذه الآية طويلاً، حياتنا كلها يوجد كلام يومياً؛ في البيع والشراء، واللقاءات والزيارات، قد تمدح إنساناً فتجعله ولياً، وإذا أساء إليك تجعله في الحضيض، لا الكلام الأول صحيح ولا الثاني صحيح، ليس هناك إنصاف، المؤمن الصادق لا ينطق عن الهوى، إنه موضوعي.

 

على الإنسان إنصاف الآخرين ولو كانوا خصومه:


سيدنا رسول الله رأى صِهرَه بين الأسرى، ما معنى أن يرى النبي صهره بين الأسرى؟ أي جاء يحارب النبي، ولو تمكَّن لقتله، رآه بين الأسرى نظر إليه وقال عليه الصلاة والسلام: والله ما ذممناه صهراً، أي صهر ممتاز، ما هذه الموضوعية؟! الآن إذا الإنسان خطب ولسبب أو لآخر لم تتم الخطبة، تجد الأسرتين يتكلَّمان على بعضهما كلاماً ما أنزل الله به من سلطان، لا يوجد إنصاف، والنبي قال: 

(( أحبِبْ حَبيبَك هَونًا ما عسى أنْ يكونَ بَغيضَك يومًا ما، وأبْغِضْ بغيضَك هَوْنا مَا عسى أن يكونَ حبيبَك يوماً ما.))

[ ابن القيسراني : معرفة التذكرة:  خلاصة حكم المحدث : الصحيح أنه من قول علي رضي الله تعالى عنه ]

أنصف، قل الحقَّ ولو كان مُرَّاً، قل الحق ولو كان على نفسك، الله عزَّ وجل قال: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)﴾

[ سورة المائدة ]

 

أخطر شيء على الإنسان الشرك الخفي:


عندك إمكانية أن تنصف عدوك، لك في العائلة خصم وورد ذكره في مجلس، وتعرفه مُتقناً لعمله، تعرفه صادقاً في كلامه، عندك جرأة أن تتحدَّث عن صفاته الراقية؟ هذا المؤمن، أما والله إن لم يكن لنا مصلحة نذمه، وإن كانت لنا مصلحة نمدحه، هذا الإنسان ليس له قيمة عند الله عزَّ وجل، غير موضوعي، ينطق عن الهوى، النبي الكريم قال:

(( عن أبي موسى الأشعري  يا أيها الناسُ! اتَّقوا هذا الشِّركَ؛ فإنه أخفى من دبيبِ النَّمل . فقال له من شاء اللهُ أن يقولَ : وكيف نتَّقِيه وهو أخفى من دبيبِ النَّملِ يا رسولَ اللهِ ! قال: قولوا: اللهم إنا نعوذُ بك من أن نُشرِكَ بك شيئًا نعلَمُه، ونستغفرُك لما لا نعلمُه. ))

[  صحيح الترغيب : خلاصة حكم المحدث : حسن لغيره  ]

الشرك أخفى من دبيب النملة السمراء على الصخرة الصمَّاء في الليلة الظلماء، وأدناه أن تحبَّ على جور وأن تبغض على عدل، أي أن تحبَّ شخصاً منحرفاً لأن لك مصلحة معه، هذا شرك بالله، إنسان آخر نصحك نصيحة بأدب، ومعه الدليل، هذه الآية، وهذا الحديث،  هذا العمل غلط يا أخي، أنت أخ كريم، أنت مؤمن، تألَّمت، لمجرَّد أنك تألَّمت من نصيحةٍ مخلصةٍ عادلةٍ فأنت مشرك، طبعاً شرك ليس جلياً ولكنَّه خفي، وأخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي.

 

الإنسان من دون إيمان عبد لمصالحه:


لذلك: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ هل تستطيع أن تعاهد نفسك على ألا تتكلَّم كلمة إلا أن تكون حقًّا؟ النبي قال: عامل الناس كما تحبُّ أن يعاملوك.

هل تستطيع أن تعامل زوجة ابنك كما تعامل ابنتك؟ إذا كنت مؤمناً هكذا يجب أن تعمل، ليس الابنة مهما أخطأت تتلقَّى خطأها بصبر وحلم وطول بال، وإذا أخطأت زوجة ابنك خطأ صغيراً تقيم عليها النكير، هل هذا هو الإنصاف؟ هل تعامل الذي في محلِّك التجاري في سنِّ ابنك كما تعامل ابنك؟ ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ هذه آية دقيقة جداً، قبل أن تنطق هل تقول الحق أم الباطل؟ هل تبالغ؟ هل تقلل من شأنه لأنه خصم؟ هل تُكبِّر في حجمه لأنه محبٌّ لك؟ لأنه يمدحك، يعطيك، الإنسان من دون إيمان عبد مصالحه، فالجهة التي فيها مصلحته يضخِّم، يمدح، يثني، الجهة التي ليس له فيها مصلحة يصغِّر من شأنها، هذا كلَّه صادر عن الهوى، لا قيمة له.

 

الحق عظيم من دون تضخيم والباطل أحقر من أن تصغِّره:


﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ هل من الممكن أن تتكلَّم كلاماً صحيحاً وأنت متهم؟ إذا كنت متلبِّساً بمعصية وسألك شخص: ما حكم هذا الشيء؟ ماذا تقول له؟ هل تحاول أن تبرِّر وتسوغ؟ لا، يجب أن تقول: هذا الحكم هكذا وأنا مقصِّر، لا تبرِّر، لا تغطِّ، لا تجُرَّ الحق لصالحك، الحق أكبر وأعظم أن تكذب له، أكبر وأعظم من أن تكذب عليه، لا تكذب له ولا تكذب عليه، الحق أكبر من أن يحتاج إلى تضخيم، هو عظيم من دون تضخيم، والباطل أحقر من أن تصغِّره، صوِّرْه بحجمه لأنه صغير.

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)﴾

[ سورة الإسراء ]

أي كن موضوعياً، لا تبالغ، لا تقلل، لا تطمس، لا تبرز، لا تعتِّم، تكلَّم الحق،  الحقُّ قويٌّ، الحقُّ لا يحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا أن تُضَخِّمه، ولا أن تقلل خصمه، الباطل: ﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ و:

﴿ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)﴾

[ سورة يونس ]

 

عامل الناس كما تحب أن يعاملوك:


أنا وقفت عند هذه الكلمة: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ راقب نفسك، ضمن البيت أخطأت اعترف بخطئك، كما تريد أن يعترف الطرف الآخر بخطئه اعترف بخطئك، والحقيقة أنّ هناك مقياساً دقيقاً جداً، هذا المقياس ميزان لا يخطئ وهو: عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، دائماً اعكس الصورة، أنت وراء الطاولة موظَّف، أمامك مراجع، اعكس الحالة، لو كنتَ مكانه ما الذي يرضيك أن تُعامل به؟ أنت عندك زوجة ابن في البيت، لو أن ابنتك في بيتٍ آخر كم تتمنى أن تُعامل بالإحسان واللطف والعطف؟! عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، من أجل أن تكون موضوعياً.

 

النبي الكريم معصوم في أفعاله وأقواله وإقراره:


﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

[ سورة النجم ]

﴿هو﴾ تَعُودُ على مَن؟ قال: تعود على القرآن في بعض التفاسير، وعلى نطق النبي في بعض التفاسير، إذا أعدنا: ﴿إن هو﴾ على نطق النبي يعدُّ كلام النبي وَحْيَاً، لذلك علماء الأصول يقولون: "الوحي وحيان؛ وحيٌ متلوٌّ ووحيٌّ غير متلوٍّ ، الكتاب والسنَّة" الكتاب حقٌّ كله، والسنَّة حقٌّ كلها، لكن الكتاب قطعي الثبوت كله، أما السنَّة فبعضها قطعي الثبوت وبعضها ظنّي الثبوت، أي هناك حديث ضعيف، هناك حديث موضوع، أما السنَّة الصحيحة فكأنها وحيٌّ إلهي، ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ إن أعدنا ﴿هو﴾، إلى القرآن فالقرآن وحيّ يوحى، إن أعدنا ﴿هو﴾ إلى نطق النبي فإن نطقه وحيٌّ يوحى، لكن الشيء الثابت أن النبي معصوم في أقواله، وفي أفعاله، وفي إقراره، وفي صفاته، لأن الله أمرنا أن نتبعه، لو لم يكن معصوماً لكان أمرُ الله لنا بالمعصية، لذلك قال له أحد أصحابه: "أنكتب عنك يا رسول الله في غضبك؟" قال: والذي نفسي بيده هذا اللسان لا ينطق إلا بالحق في الغضب والرضا، أناسٌ كثيرون في حالة الغضب ينطقون بالباطل، يبالغون، يتهجَّمون، يسيئون، النبي عليه الصلاة والسلام معصومٌ في كل أقواله، وفي كل أفعاله، وفي إقراره، وفي صفاته.

 

نزول الوحي على النبي الكريم وهو في أعلى درجات اليقظة:


﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ﴾ ما معنى كلمة: ﴿يُوحَى﴾ ؟ أحياناً الكلمات لها مجاز، أي أنّ الوحي فعلاً وحي؟ قال: ﴿وَحْيٌ يُوحَى﴾ مثلاً هذا طعام، أكلٌ يؤكل، هذا كتاب، كتابٌ يُدْرَس، كلمة يوحى تفيد دفع توهُّم المجاز، وحي حقيقي، لذلك عندما جاء الوحيُ إلى النبي صلى الله عليه وسلَّم جبريل ضمَّه ضمَّةً اختلفت معها أضلاعه، لماذا؟ أيْ هذا الوحي لم يأته في المنام، وهو نائم، ضمَّه ضمَّةً اختلفت معها أضلاعه ثم أرسله، ثم ضمَّه، ثم أرسله، ثم ضمَّه، قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ؟ قال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ؟ قال:  

﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)﴾

[ سورة العلق  ]

إذًا الوحي جاءه وهو صاحٍ، في أعلى درجات اليقظة، وهذه الضَمَّة حكمتها أنه كان يقظاً وكان صاحياً.


  الوحي كيان مستقلٌّ عن كيان النبي:


القضية: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ والدليل؛ الوحي انقطع:

﴿ وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)﴾

[ سورة الضحى ]

النبي ظنَّ أن الله قد ودَّعه وقلاه، فقال له: لا، ﴿مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى﴾ لكن تأخُّر الوحي له معنى عميق جداً، لو كان الوحي كما يتوهَّم المتوهمون من فعل النبي لما انقطع أبداً، الوحي كيان مستقلٌّ عن كيان النبي، لا يملك له جلباً ولا دفعاً.

 

دين الإسلام أساسه الوحي من الله تعالى:


لذلك لمّا قال المرجفون في المدينة ما قالوا عن السيدة عائشة، واتهموها، وافتروا عليها، انقطع الوحي شهراً، ماذا يفعل النبي؟ لو كان الوحي من عند النبي لأتت بعد ثانية آيةٌ بتبرئتها، بقي ثلاثين يوماً وقيل: أربعين يوماً، والنبيُّ لا يملك دليلَ إثباتٍ ولا دليلَ نفي، لماذا تأخَّر الوحي؟ ليعرف الناس قاطبةً أن الوحي لا يملكه النبي أبداً، الوحي مستقلَّ عن النبي لا يملك جلبه ولا دفعه، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ديننا أساسه الوحي، إذاً نقف عند قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ .

 

الوحي أصل من أصول الدين والسنة فرع له:


إخواننا الكرام؛ يجب أن نعلم علم اليقين أن هذا الدين العظيم في الأصل هو وحي، الدين نقل، والعقل لفهم النقل، الأساس أنّ الله جلَّ جلاله أنزل هذا القرآن، والنبي بيَّن، هذا الدين، الله أنزل والنبي بيّن، نحن دورنا دور التلقي فقط، إنما أنا متبع ولست بمبتدع.

عقلنا لا ينبغي أن يشرِّع، عقلنا يفهم، العقل يتأكَّد من صحَّة النقل ويفهم فقط، لذلك الوحي هو الذي يُعدُّ أصلاً من أصول هذا الدين، الأصل الوحيد، السنَّة فرع له، السنَّة وحي لكنه غير متلو، القرآن وحي متلو، والسنة وحي متلو، لذلك قال عليه الصلاة و السلام:

(( عن أبي هريرة: تركت فيكم شيئين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي. ))

[ إسناده حسن : منزلة السنة ]


على الإنسان أن يرد أي خلاف إلى القرآن والسنة:


لذلك الله عزَّ وجل قال: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ أي بينكم وبين أمرائكم، أو بينكم وبين علمائكم. 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾

[ سورة النساء ]

أيْ إلى القرآن وإلى السُنَّة، والله عزَّ وجل قال: 

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[ سورة الأنفال ]

ومعنى: ﴿وأنت فيهم﴾ أيْ أن سنَّتك في حياتهم مطبَّقة، ما داموا مطبقين لمنهج الله عزَّ وجل فهم في بحبوحةٍ من أن يُعذَّبوا.

 

على الإنسان أن يكون موضوعياً في كل أمر:


وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع موضوع:

﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)﴾

[ سورة النجم ]

﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾

[ سورة النجم ]

والتطبيق العملي لهذه الآية: احرص على ألا تنطق بالهوى، تكلم الحقيقة، قل الحق ولو كان مُرَّاً، الحق يرفعك، والكذب يسقطك، لا تمدح شيئاً بما ليس فيه، كن موضوعياً، العلم الوصف المطابق للواقع مع الدليل، لا ينهِضُنا إلا الموضوعية، لا يخلِّصنا مما نحن فيه إلا الصدق، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كل كلمةٍ قالها كانت حقَّاً، لا مجال لا إلى التضخيم، ولا إلى التقليل، كن موضوعياً تكن مُطَبِّقاً لهذه الكلمة، وكن منصفاً أبداً، لو خصمك ذُكِر أنصفه.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور