- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (053)سورة النجم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الجزاء أساس الاستقامة:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس من سورة النجم، ومع الآية الواحدة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)﴾
أيها الأخوة الكِرام؛ مما تقتضيه ألوهية الله عزَّ وجل الذي يملك السماوات والأرض، وشؤون السماوات والأرض، وملكوت السماوات والأرض، أن يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والإنسان أيها الأخوة حينما يوقِن أن لكل حسنةٍ ثواباً ولكل سيئةٍ عقاباً يستقيم، أي فكرة الجزاء هي أساس الاستقامة، حينما تؤمن بعبثية الخلق عندنا حالتين؛ إما أن تؤمن بعبثية الخلق:
﴿
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
وإما أن تؤمن بالجزاء.
الإنسان العاصي ينطلق من عبثية الخلق:
فكرةٌ أساسيةٌ في الدين، أساسيةٌ في العقيدة، أساسيةٌ في فلسفة الحياة، أن تؤمن بالجزاء، أن إنساناً يسيء لن يتفلت من يد الله عزَّ وجل:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
أيها الأخوة الأكارم؛ الإنسان الذي يعصي، والذي يسيء، والذي يعتدي، والذي يأخذ ما ليس له، والذي يطغى، والذي يبغي، إنسان حتماً ينطلق من عبثية الخلق، هكذا، بلا ضابط، بلا حساب، بلا مسؤولية، بلا جزاء، بلا جنة، بلا نار، بلا ثواب، بلا عقاب.
عدم استواء المحسن والمسيء يوم القيامة:
أنت أمام خيارين؛ إن آمنت بالجزاء استقمت على أمر الله، وإن لم تؤمن بالجزاء وتوهَّمت العبثية، عندئذٍ تنحرف، عندئذٍ تعدُّ الذكاءَ أن تأخذ ما ليس لك، عندئذٍ تعدُّ الذكاءَ أن تبغي على حقوق الآخرين، وأن تظلم، وأن تستغل، وأن تحتكر، وأن تسيء، كل أنواع التفلُّت، كل أنواع المعاصي أساسها توهُّم العبثية، توهُّمُ أن الإنسان سيترك بلا حساب:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ
مستحيل.
عدم نجاة أي مخلوق من قبضة الله يوم القيامة:
﴿ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)﴾
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾
﴿
﴿
أنت بين إيمانين؛ إما أن تؤمن بالجزاء، وإما أن تؤمن بالعبثية، إن توهَّمت العبثية عندئذٍ قد لا تستقيم، قد تعدُّ نفسك عاقلاً وشاطراً بالتعبير الدارج إذا أخذت ما ليس لك، أما إذا آمنت بالجزاء لن يتفلت مخلوقٌ من قبضة الله، لن يتفلت مخلوقٌ من عقاب الله في الدنيا والآخرة، أبداً، هنا مَحَطُّ الشاهد، هنا بيت القصيد، هنا محط الرِحال، لن تتفلت من عقاب الله.
من أبرز العقائد الصحيحة الإيمان بالجزاء:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
هنا فكرة واحدة: إن آمنت بالجزاء استقمت على أمر الله، تقف عند الحد، تقف عند ما لك ولا تأخذ ما ليس لك، العقيدة مهمة جداً، فالإنسان حينما يعتقد خطأً يرتكب آلاف الأخطاء ولا يتوب منها، أما حينما يعتقد اعتقاداً صحيحاً فالخطأ لا يتكرر، سريعاً ما يتوب منه، فأخطر شيء في حياتك أن تعتقد اعتقاداً صحيحاً، من أبرز العقائد الصحيحة الإيمان بالجزاء، لن يتفلت مسيءٌ من قبضة الله، لن يتفلت ظالمٌ من قبضة الله ومن عقاب الله، لن يتفلت منحرفٌ من جزاء الله.
صعوبة الاستقامة إذا توهم الإنسان الفوضوية في الخلق:
الآية الكريمة ربطت:
العلم أساس النجاح في الدنيا والآخرة:
لذلك أيها الأخوة؛ دائماً حلل، لما الإنسان يأخذ ما ليس له يفتخر أحياناً، حينما يفتخر هو يؤمن بالعبثية وهو لا يشعر، إذا افتخر بإساءةٍ أو بعدوانٍ أو بظلمٍ أو بطغيانٍ أو ببغي ينطلق من توهُّمِهِ العبثية وهو لا يشعر، أما إذا أيقنت بالجزاء، الآن عندما يستورد شخص بضاعة تذهب صورة من مستورداته إلى المالية، فإذا لم يصرح عن هذا المستورَد يعاقب بتضْعيف الضريبة، تجد كل من يستورد يقدِّم بيانات صحيحة، لماذا؟ لأنه موقن بمضاعفة الجزاء لو قدم بياناً خطأ، أنت مع إنسان، إنسان من جلدتك، من بني جنسك، لأنه يطولك علمه وتطولك قدرته تستقيم على أمره فكيف بالواحد الديان؟
إخواننا الكرام؛ إنّ الإنسان إذا لم يستقم فهناك خلل في بعقيدته، لذلك العلم ضروري.
(( عن أبي سعيد الخدري:
إذا أردت الدنيا فعليك بالعلم، إذا أردت النجاح في عملك فعليك بالعلم، العلم يعطيك المنهج، يعطيك الحكم الذي تبقى فيه.
المفهوم الدقيق والمفهوم الساذج للشفاعة:
هذه الآية دقيقة جداً، طبعاً الآن عُرِضَتْ من زاويةٍ أخرى، الإنسان حينما يؤمن بالجزاء يستقيم على أمر الله، وحينما يتوهَّم العبثية والفوضوية، وأن الإنسان يُترك سدى عندئذٍ ربما ينحرف، فالإنسان العاقل حكيم نفسه، ويفسر دائماً ما يفعله بأسلوبٍ علمي، متىُ َتِّقصر؟ متى تعصي؟ متى تأكل ما ليس لك؟ متى تطغى؟ متى تبغي؟ إذا أيقنت أو توهَّمت أنك لن تحاسب.
مثلاً لو توهم واحدٌ منا أن أمة النبي صلى الله عليه وسلم سوف تدخل الجنة بغير حساب، والنبي عليه الصلاة والسلام سوف يشفع لها:
(( عن أنس :
هذا الفهم الساذج للشفاعة التي هي حق، ولها مفهومٌ دقيق في الكتاب والسنة، أما إذا فهم إنسان الشفاعة هذا الفهم السقيم الساذج فلا يمكن أن يستقيم، ماذا نفعل بقول الله عزّ وجل:
﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ
(( عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة, فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين, وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أني قد رأيت إخواننا، فقالوا: يا رسول الله, ألسنا بإخوانك؟ قال بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، وأنا فرطهم على الحوض، فقالوا: يا رسول الله, كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: أرأيت لو كان لرجل خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غرًّا محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم, ألا هلم, ألا هلم. فيقال:
ماذا نفعل بقول النبي صلى الله عليه وسلم؟
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام :
الاعتقاد الخاطئ أخطر شيء في حياة الإنسان:
لو فرضنا أنك آمنت بالله، وآمنت مع إيمانك بالله بمفهومٍ ساذجٍ غير صحيح للشفاعة لن تستقيم على أمر الله أبداً، وإذا آمنت أن الإنسان مجبورٌ على فعل السوء، مقهور..
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياك إياك أن تبتل بالماء
* * *
وأن أعمالنا الصالحة والسيئة مكتوبةٌ علينا قبل أن نُخْلَق، ولا سبيل إلى تغييرها، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الكافر كافراً، ووضعه في النار ولا ذنب له، إن اعتقدت عقيدة الجبر التي هي مخالفةٌ لعقيدة أهل السنة والجماعة فلن تستقيم على أمر الله، أنا أضرب لكم أمثلة: أية عقيدة فاسدةٍ من نتائجها التفلُّت من منهج الله، أية عقيدةٍ فاسدة سواءً توهَّمت العبثية في أصل الخلق، أو توهَّمت شفاعة النبي بمفهومها الساذج، أو توهَّمت مفهوم الجبر في العقيدة، إن توهمت الجبر أو الشفاعة بمفهومها الساذج، أو توهمت عبثية الخلق فلن تستقيم على أمر الله، والإنسان كلما انحرفت عقيدته كلما انحرف سلوكه، وكلما استقامت عقيدته استقام سلوكه، ولأن السلوك انعكاسٌ طبيعيّ جداً لما تعتقد، لأنه كذلك، أصبحت العقيدة خطيرةً جداً، لو توهمنا أنه يمكن أن تعتقد عقيدةً فاسدة دون أن تتأثر بها سلوكياً، عندئذٍ اعتقد ما شئت، لو كان هناك فصلٌ بين العقيدة والسلوك، لو لم يكن السلوك انعكاساً للعقيدة لقلنا لك: اعتقد ما شئت ولا تثريب عليك، لا، لأن كل سلوك الإنسان صورةٌ لعقيدته، منعكسٌ لعقيدته، تجسيدٌ لعقيدته، لذلك نقول: أخطر شيءٍ في حياة الإنسان أن يعتقد اعتقاداً خاطئاً.
سلوك الإنسان ما هو إلا انعكاس لما يعتقد:
تصور ميزاناً دقيقًا جداً وضعنا تحت كفته اليمنى مئة غرام، واستخدمناه طويلاً وزنَّا به ألف وزنة، الألف وزنة كلُّها غلط، لأن هناك مئة غرام في أسفل كفته اليمنى، فالخطأ في الميزان خطأ مدمِّر، خطأ في كل الوزنات من دون استثناء، أما لو كان الميزان دقيقاً وحساساً وصحيحاً وقرأنا الكيلو كيليين مرة، هذا الخطأ لا يتكرر، مرة واحدة، لذلك قالوا: هناك خطأٌ في الوزن وخطأٌ في الميزان، الخطأ في الوزن سهل جداً لا يتكرر، لكن الخطأ في الميزان لا يصلح، فالخطأ بالعقيدة خطأ في الميزان لا في الوزن، الإنسان قد يرتكب بعض الأخطاء، وإذا عرفها يتوب منها فوراً، أما الذي يُخطئ في الميزان، فإذا كان في ميزانه خطأً هذا لن يستقيم على أمر الله أبداً.
يا أيها الأخوة؛ اعتقدوا اعتقاداً جازماً أن كل أنواع السلوك إن هي إلا انعكاساتٌ لما تعتقد، وأن أخطر شيءٌ في حياة الإنسان عقيدته، إن صحَّت صح عمله، وإن فسدت فسد عمله، لذلك كما قيل: ابن عمر، دينك، دينك، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا، خذ عن الذي استقاموا في عقيدتهم وفي سلوكهم، ولا تأخذ عن الذي مالوا.
نتائج عقيدة الجزاء ووهم العبثية:
نحن اليوم بين عقيدةٍ ووهمٍ، عقيدة الجزاء ووهم العبثية، عقيدة الجزاء نتائجها الاستقامة، وعقيدة العبثية نتائجها التفلُّت، لكن أريد أن أؤكِّد لكم حقيقةً خطيرة، قانون السقوط، هذا قانون نافذ، في كل مكانٍ وزمان، أنت إن آمنت به أو لم تؤمن، تأدبت معه أو لم تتأدب، اعتقدت به أو لم تعتقد، نافذٌ عليك، أي عدم إيمانك بحتمية هذا القانون لا يُعَطِّله، دقِّقوا، الدليل: لو أن إنساناً ألقى بنفسه من طائرة، ولم يعبأ بهذا القانون، ولا بحيثياته، ولا بتفاصيله، طبعاً لو نزل بمظلة يكون قد تأدَّب مع هذا القانون، وقد درس هذا القانون، وصمم هذه المظلة وفق هذا القانون، بحسب وزنه، وبحسب مقاومة الهواء، وبحسب اتساع المظلة، وبحسب نوع القماش الذي صُنعت منه المظلة، نوع القماش ومساحة القماش مدروستان دراسةً دقيقةً مع قانون السقوط، فهذا القانون نافذ، شئت أم أبيت، أعجبك أم لم يعجبك، آمنت به أم كفرت، تأدبت معه أم لم تتأدب، أيقنت به أم كفرت به، سيَّان، القانون نافذ، وقانون الجزاء نافذ في الدنيا والآخرة، آمنت أم لم تؤمن، صدقت أم لم تصدق، اعتقدت أو لو تعتقد، نافذ:
خيار الإنسان خيار وقت فقط:
لكن مشكلة الكافر المتفلِّت العاصي بعد أن يدفع الثمن باهظاً يقول: إِي واللهِ لقد كنت مخطئاً، القضية قضية إيمان فقط، الخيار خيار وقت، خيار وقت يا إخواننا، أيْ لابد من أن تؤمن بحتمية هذا القانون، لكن بدل أن تؤمن بحتميته وقد كنت أنت الضحية، وقد دفعت الثمن باهظاً مثلاً لما الله عزًّ وجل قال:
﴿
كلمة، كلمة في كتاب الله، ستمئة صفحة قال لك:
الله تعالى سيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته:
إخواننا الكرام؛ إيماننا بحتمية الجزاء، هذا الإيمان أنت مخير فيه خيار وقت لا خيار قبول أو رفض، النقطة دقيقة، أعجبك أو لم يعجبك، آمنت به أو لم تؤمن، تأدَّبت معه أو لم تتأدب، نافذٌ عليك، رغم أنف كل الناس، كقانون السقوط، لو أنّ إنسانًا احتقر هذا القانون، ولم يعبأ به، وألقى بنفسه من الطائرة لنزل ميتاً، عدم إيمانه بهذا القانون لا يلغي فعل القانون، نافذ عليه، فالجزاء نافذ، أما إذا آمنا بالجزاء نستقيم على أمر الله فنسعد في الدنيا والآخرة، وإن لم نؤمن بالجزاء وآمنا بالعبثية انحرفنا، وإذا انحرفنا طُبِّق علينا قانون الجزاء الذي لم نؤمن به، نفذ فينا.
مثل أوضح، أنت مع قانون السير مثلاً، إذا صدرت تعليمات بحجز المركبة، وإيداع السائق بالسجنَ شهراً، وأنت لم تبال، ولم تقرأ القانون، ولا اتعظت به، فإذا خالفت وقعت في قبضة القانون شئت أم أبيت، فالقصة كلها وما فيها: إما أن تؤمن بالجزاء وإما أن تؤمن بالعبثية، الذي لا يستقيم على أمر الله يتوهَّم العبثية، والمستقيم على أمر الله يؤمن بالجزاء، الآية الكريمة:
التائب من الذنب كمن لا ذنب له:
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)﴾
من هم الذي أحسنوا؟ قال:
﴿
بعضهم قال:
وبعضهم قال: اللمم كل شيءٍ حدَّثتك نفسك بفعله ولم تفعله هو من اللمم، كرم الله سبحانه وتعالى يقتضي ألا يحاسب إلا على العمل، فمن حدَّث نفسه بمعصيةٍ ولم يفعلها خوفاً من الله عزَّ وجل لا يحاسب عليها، لكن ننصحه أن يوقف هذه الخواطر، لأنه إذا تابعها واستمرأها ربما انقلبت إلى أعمال،
مغفرة الله عز وجل وسعت كل الذنوب:
﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ
﴿
كل الذنوب، أما قوله تعالى:
﴿
فهذه الآية حملها كل المفسِّرين على أنه إذا مات دون أن يتوب، حتى إذا كان مشركاً وتاب غفر الله له هذا الذنب لقوله تعالى:
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ
بعد التوبة.
باب التوبة مفتوح على مصراعيه:
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: قال الله تبارك وتعالى:
سبحان الله! أشد العجب أن باب التوبة مفتوحٌ على مصراعيه، وأن الناس يترددون في التوبة، الإسلام يجب ما كان قبله، الإسلام يهدم ما كان قبله؛ إذا تاب العبد توبةً نصوحًا، أنسى الله حافظيه والملائكة وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، والله سبحانه وتعالى يريد أن يتوب عليكم، وما أمركم بالتوبة إلا ليتوب عليكم، وما أمركم بالاستغفار إلا ليغفر لكم، وما أمركم بالصلح معه إلا ليكرمكم.
﴿ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)﴾
أهل الدنيا يريدون أن تميلوا مع الشهوات، وأهل الدين يريدون لكم أن تتوبوا.
إكرام الله للعبد بالتوبة إذا رجع عن ذنبه:
لذلك:
﴿
قال تعالى:
﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)﴾
الإنسان إذا ترك الكبائر غفر الله له الصغائر، فالصلاة إلى الصلاة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والعمرة إلى العمرة تكفِّر ما بينها، صليت الظهر، صار هناك كلمة أزعجتك، العصر يغفرها الله لك، ما بين الصلاتين، وبين الجمعتين، وبين رمضانين، وبين العمرتين:
الفرق بين النبي والولي:
السيئات التي يمكن أن تصدر من المؤمن عن غير قصدٍ، وفي أشياء صغيرة جداً، ولكنه يسعى لطاعة الله، الفرق بين النبي والولي هو أن النبي لا يعصي الله أبداً، معصومٌ من أن يعصي الله، بينما الولي لا تضره معصية بمعنى بأنه يتوب منها سريعاً، ويستغفر، ويتوب، ويقبل، والمؤمن مذنبٌ توَّاب، شديد التوبة، يُحْدِثُ عند كل ذنبٍ توبةً، فالآية الكريمة:
اتهام النفس من علامات الإيمان:
(( عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ:
فالمؤمن لا يزكي نفسه، سيدنا عمر قال:
تقييم الإنسان من شأن الله وحده:
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ
وحده يعلم، لذلك لا تزكِّ على الله أحداً، إن زكيت تحفَّظ، قل: هذا علمي به، ولا علم لي بالغيب، أحسبه أميناً ولا أزكي على الله أحداً، تنفيذاً لهذه الآية الكريمة:
على الإنسان ألا يتورط في مديح إنسان لا يعرفه:
سيدنا الصديق مرةً مدحه المادحون فبكى وقال:
الإنسان الذي يبحث عن المدح والثناء ليس مخلصاً:
قال الصديق للسيدة عائشة ابنته بعد أن برَّأها الله من حديث الإفك:
النبي عليه الصلاة والسلام لعلو مقامه عند الله ما كان يعنيه أن يمدحه المادحون، دخل عليه رجل أصابته رِعْدَة قال: عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ :
(( أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ. ))
عَرَّف نفسه بأنه ابن امرأةٍ من قريش كانت تأكل القديد، وانتهى الأمر، كان الأعرابي إذا دخل على النبي يقول:
الإنسان الذي تولَّى عن الحق لا يستحق أن تصغي له:
﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ
تولَّى عن الحق، هذا الذي تولّى دقق في عمله، دقق في أمانته، دقق في صدقه، دقق في عفافه، لا صدق ولا أمانة ولا عفاف، ماذا قال سيدنا جعفر؟ قال:"كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونسيء الجوار، ونقطع الرحم، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه ونسبه"
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10)﴾
في الآية توجيه دقيق جداً، أي أنت قبل أن تصغي إلى كلامه دقق في أعماله، غير مستقيم، غير أمين، غير صادق، غير عفيف، لا استقامة، ولا أمانة، ولا صدق، ولا عفاف، إذاً لا تلقِ إلى كلامه بالاً إطلاقاً، لا يستحق أن تصغي له، كلامه مهدور، كلامه كذب، كلامه فيه نفاق.
الإنسان الذي يمنع مصيره بيد خالقه لا بيده:
﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى (34)﴾
أي منع:
﴿ أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى(35)﴾
هذا الذي تولَّى عن الحق، أدار ظهره للدين، قال: الدين أفيون الشعوب، غيبيَّات، أوهام، شعور الإنسان الضعيف أمام قوى الطبيعة القاهرة، هذا الدين، الدين سحر، الدين خرافات، الدين تُرُّهات، الدين لا يعتنقه إلا الضِعاف، ومرضى النفُوس، هذا كلام أعداء الدين.
﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)﴾
أي هذا الذي يمنع هو يعلم أنه سيسعد في دنياه وأخراه وأن بيده مصيره؟
الإنسان يؤخذ بذنبه لا بذنب غيره:
﴿ أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)﴾
وفىَّ ما عليه، وفىَّ شكر النعمة.
﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)﴾
هذا مبدأ أساسي، مبدأ خطير،
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24)﴾
قالت:
﴿ وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ
هذا المبدأ الأساسي:
كل إنسان مسؤول عن عمله يوم القيامة:
قد ينجب الأب ابناً ضالاً، منحرفاً، فاسقاً، رَبَّاهُ أعلى تربية لكنه آثر الانحراف،
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾
عدم محاسبة إنسان عن آخر إن آثر هو الانحراف:
أيها الأخوة الكرام؛
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾
يوجد أب كافر ابنه نبي، سيدنا إبراهيم، يوجد أب مؤمن ابنه كافر، سيدنا نوح، يوجد زوج كافر زوجته صدّيقة، فرعون، يوجد زوجة صالحة وزوجها كافر، آسية امرأة فرعون، فكل الحالات موجودة، سيدنا رسول الله عمُّه أبو لهب.
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)﴾
عدم محاسبة الإنسان على بيئته بل على عمله:
حُرْمَة المال لا تأتي من عين المال بل من طريقة كسبه:
إنسان جاءته امرأةٌ تشتري منه ثوباً أعطاها الثوب المناسب بالسعر المناسب، ولا يدري أن هذا الثمن أخذته المرأةٌ من الفاحشة، نجيبه:
أحكام الشريعة كلها ضمن طاقة الإنسان:
الله منحنا عقلاً، أعطانا فطرة، أعطانا شرعاً، فكل إنسان يعزو أخطاءه إلى البيئة والعادات والتقاليد وفساد الزمان، يقول لك: أخي لا أستطيع أن أستقيم، لماذا؟ يقول لك: الاستقامة فوق طاقتي، معنى ذلك أنك تكذِّب كلام الله، ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿
أنت إذا قلت: لا أستطيع الاستقامة، تؤكد أن الله كلفنا ما لا نطيق، حينما تقول: الاستقامة صعبة ومستحيلة وهذه فوق طاقة البشر أنت لا تدري أنّك تكذِّب آيةً في كتاب الله، حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)﴾
هذه الآيات إن شاء الله لنا عودةٌ إليها في الدرس القادم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين