- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (053)سورة النجم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
محاسبة الله كل إنسان على عمله:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثامن من سورة النجم، ومع الآية الثانية والأربعين وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)﴾
نهاية العباد، مصيرهم، مرجعهم، مآلهم إلى الله، وسوف يحاسبهم، لو أن الإنسان آمن بالله سينتهي إليه، وسيكافئه على إيمانه واستقامته وعمله الصالح، لو أنه كفر بالله، وأساء إلى الخلق سينتهي إليه وسيحاسبه على كفره وإساءته وتفلته، لو أنه فعل ما فعل من إيذاء الخلق سينتهي إلى الله وسيحاسبه، لو أنه أحسن سينتهي إلى الله وسيحاسبه، لو اتصل بالله سينتهي إليه وسيكافئه، لو ترك الصلاة سينتهي إليه وسيعاقبه.
تصور ساحة فيها عشرات بل مئات الطرق، لكن هذه الطرق تبدو متباعدة، لكن في النهاية كلها تصب إلى مكان واحد، افعل ما شئت، لك أن تؤمن، لك ألا تؤمن، لك أن تشكر، لك أن تكفر، لك أن تستقيم، لك ألا تستقيم، لك أن تحسن، لك أن تسيء، لك أن تخلص، لك أن تخون، لك أن تعفو، لك أن تنتقم، لك أن تنفع، لك أن تؤذي، افعل ما شئت:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
لابدَّ من أن تنتهي إلى الله، ليس هناك طريق آخر، كل الطرق تنتهي إلى الله، والله سيحاسب كل إنسانٍ على عمله.
كل الطرق تنتهي إلى المولى سبحانه:
أيها الأخوة الأكارم؛ لو أن الإنسان عرف هذه الحقيقة في بداية حياته لشكّل حياته ولضبط سلوكه وفق هذه الفكرة الخطيرة، فإذا سافر الإنسان إلى أي مكانٍ فإنه سوف يعاد به إلى بلده وسيحاسب عن كل كلمةٍ قالها، لو أيقن هذا لن يتكلم كلمة خلاف الأصول، المؤمن، الكافر، المُلحد، الفاجر، الفاسق، آمنت أو لم تؤمن، قلت: الدين لا علاقة له بالحقيقة، قل ما شئت لابدَّ من أن تنتهي إلى الله وأن يحاسبك الله على كل أقوالك وأفعالك:
﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)﴾
الإنسان في قبضة الله ولو ذهب إلى أي مكان:
المتانة صفة تؤكد مقاومة قوى الشد، أما القساوة فتؤكد قوى الضغط، الألماس قاسٍ جداً، أما الفولاذ المضفور فهو أمتن معدن في الأرض، لذلك المركبات التي تمشي على أسلاك يستخدمون الفولاذ المضفور، فالفولاذ المضفور أمتن معدن، والألماس أقسى عنصر، فقوى الضغط تقابلها القساوة، وقوى الشد تقابلها المتانة، فربنا عزَّ وجل قال:
لا تأمن الموت في طرفٍ ولا نفس وإن تمنَّعــت بالحجــــاب والحـرس
فما تزال سهـــام المــــوت نافـــذة في جــنب مدَّرعٍ منهــــــا و متَّـرسِ
أراك لســـــــت بوقَّــافٍ ولا حـذر كالحاطب الخابط الأعواد في الغلس
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكـهـــا إن السفينـــة لا تجري على اليبــس
* * *
في أيّة مكانةٍ كنت، وفي أي مكانٍ كنت يأتي بك الله عزَّ وجل، والآية الكريمة:
﴿
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)﴾
معرفة الإنسان بأن مرجعه إلى الله دليل استقامته:
لا مفر للإنسان من الله إلا إلى الله:
على الإنسان أن يعلم أن كل شيء محاسب عليه قبل فوات الأوان:
ساحة عامة فيها مئة طريق، يمين، يسار، شمال، جنوب، طريق مزدان بالأزهار، طريق يوجد فيه معاص، افعل ما شئت، اسلك أيَّ طريقٍ شئت، كل هذه الطرق سوف تلتقي في نقطةٍ واحدة، عند هذه النقطة تُحاسب على كل أعمالك، أنت الآن مخير، لكن بعد أن يأتي يوم الدين، يوم الدينونة والجزاء، يوم الحساب، تحاسب عن كل شيء، هذه الحقيقة لابدَّ من أن ندركها، لكن قد ندركها بعد فوات الأوان، بعد أن نصل إلى الله، وأن ننتهي إليه، وأن نَلْقَى الحساب الدقيق، وأن نعلم علم اليقين أن كل صغيرةٍ وكبيرةٍ محاسبون عليها، الإدراك في هذه اللحظة لا جدوى منه، إدراكٌ جاء متأخراً، جاء بعد فوات الأوان، العبرة أن تعرف الحقيقة في الوقت المناسب، من أجل أن تستفيد منها، وقد أنبأنا الله بهذه الحقيقة في الوقت المناسب، وقبل فوات الأوان:
مصير الإنسان متعلق بإخلاصه في عمله:
مِن تعريف الذكاء: التلاؤم، القدرة على التكيُّف، فإذا أيقنت أن المصير إلى الله، وأن المنتهى إلى الله، وأن المرجع إلى الله، وأن المآل إلى الله، إلى القبر، قد يعيش المرء في أفخر بيت، يُلَفُّ في أرخص أنواع الأقمشة، يلف ويوضع في حفرةٍ، لا ضوء، ولا نور، ولا ماء، ولا شيء من هذا القبيل، ولا بلاط أساساً، حفرة في التراب، ويغلق عليه القبر وينتهي الأمر
العاقل من يتكيف مع لقاء الله عز وجل:
يا أيها الأخوة الأكارم؛ مِن أدق الحقائق هذه الحقيقة:
الموت والحساب نهاية الخلق:
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ
في أي مكانٍ كنت، وفي أية مكانةٍ كنت، الملوك تموت، والأنبياء يموتون، والأغنياء يموتون، والفقراء يموتون، والأصحاء يموتون، والمرضى يموتون، طبيب ألَّف كتاباً جمع فيه مقالات متناثرة في عشرات المجالات؛ فوائد هذا الغذاء، كيف يجب أن تنام، كم ساعة ينبغي أن تنام، نصائح لا تُعد ولا تحصى، في الحياة اليومية، في تناول الأغذية، في الرياضة، ثم يُفاجأ الإنسان أن هذا الطبيب الذي قدَّم مئات النصائح، آلاف النصائح مات، والأطباء يموتون، وأطباء القلب يموتون، وأطباء الجهاز الهضمي يموتون بأمراض هضمية أحياناً:
فيا أيها الأخوة؛ هذه حقيقة، إن أنكرناها واقعةٌ بنا، هناك نقطة مهمة جداً، مثلاً: إنكارك للشيء لا يُلْغي فاعليته، إذا أنكرنا هذه الحقيقة لا تلغى، الآية مطبقة علينا، اعترفت بها أو لم تعترف، آمنت بها أو لم تؤمن.
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى: آية لها عدة معان:
1 ـ المصير والمرجع والحساب إلى الله تعالى:
(( عن عبد الله بن عباس قال : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لرجلٍ وهو يَعِظُه:
إذاً العقل كل العقل، والذكاء كل الذكاء، والفلاح كل الفلاح، والفوز كل الفوز، في التكيّف مع هذه الآية:
2 ـ على الإنسان ألا يفكر في ذات الله سبحانه:
هناك معنى آخر للآية، النبي عليه الصلاة والسلام تلا هذه الآية وقال فيما يروى عنه: "لا فكرة في الرب" أنت يمكن أن تفكر في مخلوقاته، فكِّر ما شئت، كلما فكرت في خلق الله ازددت معرفةً به، وازددت تعظيماً له، وخشيةً له، لكنك إذا وصلت إلى الخالق لا ينبغي أن تفكر في ذاته عندئذٍ تهلك، لأنه:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
مستحيل أن تحيط بالله عزَّ وجل، لك أن تفكر في خلقه، وليس لك أن تفكر في ذاته، إنك إن وصلت إليه انتهِ هنا، لا تُعْمل عقلك في ذاته لأن هذا مهلكةٌ لك:
الهلاك مصير التفكير في ذات الله:
إذا ركبت مركبة، هذه المركبة ممكن أن تصل بك إلى ساحل البحر، لكن هذه المركبة ليست مهيأة أن تمخر بها عباب الموج، تغرق، مركبة أرضية تنقلك إلى الساحل، وليست مجهَّزة أن تخوض بها أعماق البحر، فالإنسان يفكِّر في مخلوقات الله، لكن لا ينبغي أن يفكر في ذاته فيهلك، لذلك كل إنسان فكّر في ذات الله أهلكه الله، لأن هذا شيء غير معقول، تصور ورقة دخينة، وهو يصنع من أرق الورق، ألقيتها في فرن لصهرِ الحديد، تقول: ما مصيرها؟ من الوهج تلاشت، تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذاته فتهلكوا، لذلك
من خصائص العقل الإيمان بالله ورسله وكتبه:
قالوا:
بالمناسبة ما دام الموضوع قد طرحناه، عقلك مهيأ أن تصل به إلى أن لهذا الكون خالقاً واحداً، إلهاً كاملاً موجوداً، وعقلك مهيَّأ أن تصل به إلى أنّ هذا الخالق العظيم لا يمكن أن يدع خلقه من دون توجيهٍ كريم، لابدَّ من كتاب أنزله، وعقلك قادرٌ على أن يصل إلى أن هذا الإنسان الذي جاء بهذا الكتاب هو رسول، فالإيمان بالله وبرسوله وبكتابه من خصائص العقل، لكن بعد أن تؤمن بالله موجوداً وواحداً وكاملاً، وأن هذا كلامه، وأن هذا الإنسان رسوله، الآن عليك أن تتلقى، بحثت فوصلت، بقي عليك أن تتلقى عن الله ما جاء في كتابه.
إخبار الله للإنسان لا يمكن أن يكون عقله حكماً عليه:
أما إذا أعملت عقلك في ذات الله، أو في كلامه اعتراضاً ورفضاً، أو في كلام النبي تساؤلاً واستخفافاً، أنت الآن هلكت، كإنسان مصاب بآلام حادة في المعدة، بحث عن أفضل طبيب، طبيب اختصاصي، نزيه، مُخْلِص، صادق، أمين، له خبرات واسعة، له يد طولى في شفاء المرضى، فلما فكر وفكر وفكر وسأل وبحث ودرس دُلَّ على إنسان تتوافر فيه هذه الصفات، دخل إلى العيادة انتهى دور العقل، الآن ينبغي أن يأخذ عن هذا الطبيب، لو أنه اعترض عليه معنى ذلك أن بحثه كان غير صحيح، ما دام البحث صحيحاً، الآن دور التلقِّي، كنت تبحث، الآن تتلقى، فإذا آمنت بالله الإيمان الصحيح، وآمنت بكتابه الإيمان الصحيح، وآمنت برسوله الإيمان الصحيح، الآن دورك دور التلقِّي، الذي أخبرك الله به لا يمكن أن يكون عقلك حكماً على ما أخبرك الله به، فلذلك الله جلَّ جلاله يقول:
الله تعالى وهب الإنسان خاصة الضحك والبكاء:
ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43)﴾
مَن خلق في الإنسان خاصة الضحك؟ الله جلَّ جلاله، وخاصة البكاء؟ الله جلَّ جلاله، يروي بعض العلماء أن القِرد وحده هو الذي يضحك من بين الحيوانات ولكن لا يبكي، وأن الجمل وحده يبكي ولا يضحك، وما سوى ذلك لا يبكي ولا يضحك، أما الإنسان فيضحك ويبكي، فمن خلق في الإنسان خاصة الضحك؟ ومن خلق في الإنسان خاصة البكاء؟ الله جلَّ جلاله، ثم من خلق أسباب الضحك وأسباب البكاء؟ يرزق الإنسان فيضحك، إذا عمل الإنسانُ ميزانية ووجد أن ربحه كبيراً، تجده في وضع متميِّز، تألَّق، عيناه زئبقيَّتان، تورَّد خده، شعر بنشوة، النجاح مسعد، أخذ شهادة، نجح بدرجة ممتازة، يظل شهراً متألِّقاً، غير كلام، غير ترتيب، غير مشي، غير أناقة، النجاح مسعد، من الذي أعطاك أسباب الضحك؟ الله جلَّ جلاله، من الذي سمح لك أن تضحك؟ الله جلَّ جلاله.
الله عزَّ وجل خلق أسباب الضحك وأسباب البكاء:
إنسان متزوج زوجته مخلصة، جلس مع أهله وأولاده، جرى حديثاً لطيفاً فضحك، هذا الضحك سببه أن لك أهلاً ولك أولاداً، وبينكما مودة ومحبة، ولا يوجد عداء، ولا دعاوى في المحاكم، وهناك إخلاص ومحبة، من يسَّر لك أسباب الضحك؟ هو الله عزَّ وجل، الصحة طيبة، لو جاء في أي تقرير أنك مصاب بورم، لم يعد هناك ضحك إطلاقاً، انتهى، فشل كلوي، لن تضحك أبداً، تشمع كبد لا يوجد ضحك، خثرة بالدماغ لا يوجد ضحك، أليس كذلك؟ ما دام هناك معافاة في الصحة، معنى ذلك أنَّ الضحك موجود، يضحك الإنسان، تجده مرحاً، إذا كان آمناً في سربه، معافىً في جسمه، عنده قوت يومه، يضحك، إذا ذكرت طرفة مضحكة يضحك من أعماقه، فالله عزَّ وجل خلق أسباب الضحك، خلق خاصة الضحك، وأضحك أناساً، وأبكى أناساً.
الآن حدثٌ واحدً يضحك منه إنسان ويبكي منه إنسان، قابلة دخلت إلى بيتٍ لتولِّد امرأةً فجاءها مولودٌ ذكر فصاح الجميع بالبكاء، عندها سبعة ذكور وهي تنتظر أنثى، فذهبت إلى بيتٍ آخر في اليوم نفسه جاء المولود ذكراً فضج البيت بالفرح والضحك، عندهم سبع بنات فجاءهم ذكر، فالمولودان ذكران، في بيت خيَّم الحزن، وفي البيت الأخر خيم الفرح، إذاً شيء واحد يضحك ويبكي، أحياناً إنسان يتعيَّن في منصب، تجد البيت قاعة استقبال وتهانٍ، وإنسان فَقَدَ نفس المنصب تجد البيت غمره حزنٌ وكآبة، يضحك أناس ويبكي أناس، أحياناً تضحك من شيءٍ بكيت منه في الأمس، لا تعرف، أحياناً قد تواجهك مشكلات ظاهرها مشكلة، لكن باطنها نعمة، فالله عزَّ وجل قال:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ
الضحك الحقيقي للإنسان أن يصل إلى الجنة:
الذي أبكاك بالأمس أضحكك اليوم، والذي أضحكك بالأمس أبكاك اليوم، ممكن حدث واحد يضحك منه إنسان ويبكي منه إنسان، ويمكن أن تضحك مما بكيت منه، ويمكن أن تبكي مما ضحكت منه، والمؤمن يضحك في الجنة الضحك الحقيقي، والعبرة: مَن يضحك آخراً، الضحك الحقيقي، الفرح الحقيقي، الفوز الحقيقي، النجاح الحقيقي، الفلاح الحقيقي، أن تصل إلى الجنة، لذلك:
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ
﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)﴾
فالضحك الحقيقي أن تصل إلى الجنة.
البكاء الحقيقي خسران الإنسان لآخرته:
البكاء الحقيقي أن يخسر الإنسان آخرته، هذا الحزن المطلق، والضحك المطلق، وربنا عزَّ وجل قال:
﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)﴾
لكن الذي كفروا في الدنيا يضحكون من المؤمنين، يتهمونهم بالسذاجة، بالخوف غير المعقول، إذاً:
الضحك نعمة على الإنسان أن يذوب حباً لله على هذه النعمة:
صدقوني أيها الأخوة؛ لمّا أرى إنسانًا يضحك أقول: لو عرف نعمة الله عليه حتى جعله يضحك لذاب حباً لله عزَّ وجل، الضحك ليس من السهل أن تضحك، مرة كنا مدعوِّين في بستان، دخل صاحب البستان ولم يسلم على الحاضرين إطلاقاً، فسألت قريبه: ما شأن هذا؟ قال: كان في غسيل كليته، لا يرى أمامه أحداً، الإنسان لمّا يأتيه شيء عُضال ينتهي الضحك من حياته كلياً، إذا كان الإنسان في صحة طيبة، أجهزته سليمة، أعضاؤه صحيحة، حواسه جيدة، له مأوى، له زوجة، له أهل، وله دخل محدود يغطي حاجاته، سهر سهرةً وضحك، يجب أنْ يسجد لله شاكراً: يا رب لك الحمد الذي أضحكتني، سمحت لي أن أضحك، هناك إنسان يبكي، والله عزَّ وجل قادر على أن يبكَيِّ الرجال الأشداء الأقوياء، يبكيهم، الله جبّار وقهّار:
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)﴾
من استقام واتبع سنة النبي يضحك في الدنيا والآخرة:
قال لي رجل: أعاني من مرضين: في المعدة والقلب، أدوية المرض الأول تؤذي المرض الثاني، وأدوية المرض الثاني تؤذي المرض الأول، بلا دواء، أحياناً تُجرى للإنسان عملية بلا مخدِّر، قلبه لا يحتمل المخدر، الآلام لا تطاق، فالله عزَّ وجل أضحك وأبكى، فإذا الإنسان استقام على أمره، واتبع سنة نبيه، وتقرب إليه بالعمل الصالح، أغلب الظن أنّ الله يضحكه في الدنيا، له في الدنيا جنةٌ خاصة.
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)﴾
الله عزَّ وجل يضحك ويبكي، إذا ضحك أحد فلا يظن أنه ضحك بذكائِهِ، لا، بل الله سمح له أن يضحك، وإذا بكي فلعلَّ البكاء فيه رحمة:
الضحك المطلق والفرح المطلق لا يكون إلا في الجنة:
بعضهم قال: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر، بعضهم قال: أضحك الشجرة بالزهر، الشجرة بالربيع ضاحكة، في الشتاء باكية، الأرض أحياناً كلها أزهار ونباتات، وكأنها عروس ترتدي أجمل ثيابها، طبعاً هذه معانٍ مجازية، لكن المعنى الأساسي أن الضحك الحقيقي والمطلق يكون في الجنة، بعد دخول الجنة لا يوجد قلق، ولا خوف، ولا حزن، في الدنيا لو ضحك الإنسان قد ينتظره شيء يُبكيه، لا يعرف، أما الضحك المطلق والفرح المطلق في الوصول إلى الجنة، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
ينبغي أن تفرح بفضل الله لأنك عرفت الله، لأنك استقمت على أمره، بأنك عملت الصالحات، بأن الله سمح لك أن تذكره، سمح لك أن تعرفه، قدَّر على يديك الخير، اصطفاك من بين العصاة، هذا الذي ينبغي أن نفرح له:
الله وحده الذي يضحك الإنسان والذي يبكيه:
لو أن الله عزَّ وجل قال: وأنه أضحك وأبكى، اختلف المعنى، معنى ذلك أن هناك إلهاً آخر يضحك ويبكي، أما حينما قال الله عزَّ وجل:
(( عن أنس بن مالك: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَخَافُ عَلَيْنَا وَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ؟ فَقَالَ:
أحياناً يحس بانقباض لا يدري له تفسيراً، وأحياناً يحس براحة وبانطلاقة وببشر، أيضاً لا يدري لها تفسيراً، فقلب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن.
العبرة بخواتيم الأمور لا ببداياتها:
الله عز وجل خلق الموت والحياة:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)﴾
طبعاً حينما ينفخ الله في النطفة من روحه تحيا، صار مولوداً، يتكلم، يضحك، يبكي، يأكل، يشرب، ينمو، وقد يموت هذا المولود، فالذي خلق الموت والحياة هو الله، والعلماء أضافوا لهذا المعنى: أن الإنسان يموت قلبه بالبعد عن الله، ويحيا بالاتصال به، والدليل:
﴿
وقال تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
وصف الكافر بالموت والمؤمن بالحياة:
قال تعالى:
﴿
الله عزَّ وجل وصف الكافر بالموت، ووصف المؤمن بالحياة، فهناك حياتان؛ حياة الجسد وحياة القلب، وهناك ميتتان؛ موت الجسد وموت القلب، الكفار وهم في أوج حياتهم موتى،
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾
فالإنسان يحيا ويموت، يحيا جسمه ويموت جسمه، ويحيا قلبه ويموت قلبه:
تحديد جنس المولود متعلق بالنطفة لا بالبويضة:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)﴾
هذه الآية فيها إعجاز علمي، طبعاً بعد تقَدُّم العلوم الطبية تبيَّن أن جنس المولد ذكراً كان أو أنثى لا تحدده البويضة بل تحدده النطفة، ولهذا البحث تفصيلات طويلة، هناك في العُرى الملونة عروة شكلها x، وعروة شكلها y، فالنطفة وحدها تحدد ما إذا كان المولود ذكراً أو أنثى، فهذا الذي يغضب من زوجته إذا أنجبت له الأنثى جاهل، جاهل لا يفقه شيئاً، الذكر منه والأنثى منه:
﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ
أن يكون الأولاد كلهم ذكوراً من الله، أن يكون الأولاد كلهم إناثاً من الله، أن يكونوا ذكوراً وإناثاً من الله، أن يكون الإنسان عقيماً من الله، هذا كلام الله عزَّ وجل.
عظمة خلق الله عز وجل:
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)﴾
سيعاد خلقنا من جديد، وسينفخ في بقية أجسامنا التي في القبور، وسوف يُعاد خلقنا لنحاسب على أعمالنا كلها.
إعادة خلق الإنسان من جديد لمحاسبته:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى(48)﴾
هو الذي يغني، هناك أذكياء جداً، كل ذكائهم لم ينفعهم في أن يغتنوا:
ولو كانت الأرزاق تجري مع الحجا هلكنَ إذاً من جهلهن البهائم
* * *
الله يغني ويفقر.
أَغْنَى وَأَقْنَى: آية لها عدة معان:
فبعضهم قال:
﴿ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)﴾
راحة البال ثمينة جداً، وقد يغنيك بالسمعة الطيبة، وقد يغنيك بالحكمة، وقد يغنيك بالعلم، وقد يغنيك بمحبة الخلق، وقد يغنيك بالعمل الصالح، يجري على يديك أعمالاً كبيرة جداً.
كل المسلمين في صحيفة النبي الكريم إلى يوم القيامة:
مليار ومئتا مليون مسلم في صحيفة النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أيِّ مكان ذهبت في العالم كلُّ المسلمين في صحيفة النبي، خلال ربع قرن غَيَّر وجه الأرض، سيدنا عمر قال:
مرة قال له شخص:
مجالات الإغناء:
العبرة أن الله سبحانه وتعالى هو أغنى –سنعدِّدهم- أغناك بالمال، أغناك بالعلم، أغناك بالحكمة، أغناك براحة البال، أغناك بالسمعة الطيبة، أغناك بأولاد أبرار، أغناك بزوجةٍ صالحة، أغناك بعملٍ صالحٍ كبير، أغناك بالجنة، هذا معنى:
مجالات الإقناء:
أمَّا:
الجنة أوسع شيء في الغنى:
الله أحياناً يعطيك محبة الناس، يعطيك ثقة الناس، هذا عطاء كبير جداً، أحياناً يملِّكك الرقاب، والناس لا يحبونك، أحياناً يملكك القلوب وهذا هو العطاء الحقيقي، الأقوياء ملكوا الرقاب لكن الأنبياء ملكوا القلوب، وفرقٌ كبير بين أن تملك الرقاب وأن تملك القلوب، أغنى وأقنى، المحبة، الرضا، الخدمة، وبعضهم قال: أفقرَ، أغنى وأقنى: أغنى وأفقر، والغنى أوسع شيء فيه الجنة.
تنبيه الله عز وجل للعرب بأن الشعرى مربوب وليس رباً:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)﴾
قال: الشِّعْرَى أبعد من الشمس بمليون ضعف، بعد الشمس عن الأرض مئة وستة وخمسون مليون كيلو متر ضرب مليون، بُعدَ نجم الشِّعرى، وقال: قوة إضاءته خمسون ضعفًا، وكتلته عشرون ضعفًا عن الشمس، والعرب كانوا يعبدونه من دون الله، فربنا نَّبَهُهم، قال: هذا النجم الذي تعبدونه مربوب وليس رباً،
﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى(55)﴾
الله رب كل شيء وإليه يرجع كل شيء:
درسنا اليوم:
﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى(49)﴾
وفي درس أخير إن شاء الله القادم إنْ أَحْيانا الله نتابع تفسير الآيات، وبهذا تنتهي سورة النجم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين