- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (053)سورة النجم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مكانة الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس السابع من سورة النَجم، ومع الآية التاسعة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾
هذه الآية أيها الأخوة؛ أصلٌ من أصول الدين، أي أن الإنسان لا يمكن أن ينالَ ثواب عملٍ لم يفعله، كما أنه لا يمكن أن يُنتقص من عمله عملٌ فَعَله، لا يوجد إضافة، ولا يوجد حذف، لو أن الله سبحانه وتعالى فرضاً قال: وللإنسان ما سعى، قد نفهم من هذا الكلام أن له ما سعى، وله ما لم يسعَ، أما حينما جاءت صيغة هذه الآية صيغة قصر:
فعل الخيرات صدقة جارية بعد موت الإنسان:
لذلك الإمام الشافعي رحمه الله تعالى استنبط من هذه الآية أن
(( إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ.))
والثلاثة من سعيه قبل أن يموت، صدقة جارية، أنشأ مَيْتَماً، أنشأ معهداً شرعياً، أنشأ مستشفى خيرياً، أنشأ وقفًا، أنشأ بناء لحلِّ مشكلات الناس، الأوقاف التي كانت من قبل دليل رغبة الناس الصادقة في فعل الخيرات، فهذه هي الصدقة الجارية، ساهم ببناء مسجد، ساهم ببناء مستوصف خيري، ساهم ببناء مستشفى خيري، ساهم ببناء جمعية خيرية، أسس مشروعاً خيرياً، أسَّس عملاً خيرياً:
العمل الصالح والصدقة الجارية والولد الصالح من سعي الإنسان قبل أن يموت:
الإمام الغزالي مثلاً ترك كتاب الإحياء، كان في درسه أربعمئة عمامة، فلَّما توفي انفضَّ المجلس، ماذا بقي من الغزالي؟ بقي كتاب الإحياء، مضى عليه ألف عامٍ ينتفع به المسلمون والعلماء، والخطباء والمعلِّمون، فإذا تركت أثراً علمياً ؛ كتابَ تفسيرٍ، كتاباً في الحديث، كتاباً في الفقه، كتاباً في العقيدة، كتاباً في السيرة انتفع الناس به، قرؤوه في كل الأقطار والأمصار، هذا من الصدقة الجارية، علم يُنتَفع به، أو ربَّيت ولداً، هيأته ليكون داعيةً إلى الله عزَّ وجل، علَّمته العلم الشرعي، الآباء الآن يضنون بأبنائهم أن يعلِّموهم العلم الشرعي، يريده طبيباً، ولو كُشِفَ له الغِطاء أن هذا الابن إذا علَّمته العلم الشرعي وهيّأته ليكون داعيةً فكل هؤلاء الذين يهتدون على يديه في صحيفة الأب، لكن هذه الحقيقة تغيب عن كثيرٍ من الآباء، حبَّذا لو أنَّ كل أب اختار من أولاده النجيب المتفوِّق الألمعي وعلَّمه العلم الشرعي، وسلَّكه طريق الإيمان ليكون داعيةً، فكل أعماله في صحيفة الأب، فهذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلَّم يقول:
كل إنسان ينال جزاء عمله يوم القيامة:
إياك أن تتوهَّم أنه يمكن أن ينالك من سعي الآخرين شيءٌ، حتى إن الأب -دققوا فيما سأقول-إذا كان على غير المنهجٍ القويم، ولم يعمل لآخرته إطلاقاً، وجاءه ولدٌ صالحٌ، كان هذا الأب على خلافٍ معه طوال حياته، وكان يمنعه من طلب العلم الشرعي، وكان لا يرضى عن سلوكه، لو أن هذا الابن أصبح أكبر داعيةٍ في الأرض لا ينال الأب منه شيئًا، لماذا؟ لأنه ما أراده كذلك، ولم يُسهِم في تكوينه كذلك، فالقضية دقيقة جداً:
دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب لا تُرد:
إلا أنه قيل:
(( عن أبي الدرداء:
دعوة الأخُ لأخيه بظهر الغيب لا تُرد، كيف؟ أيضاً هذه الدعوة من سعي الإنسان، لو أنك كنت محسناً لأخيك، وغمرته بإحسانك، فلمَّا غبت عنه، وألَمّ بك مكروه دعا لك، لماذا دعا لك؟ تذكَّر إحسانك، حتى حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
(( عن خيرة بنت أبي حدرد أم الدرداء:
دعوة الأخُ لأخيه بظهر الغيب لا تُرد، علَّله بعض العلماء: أن الإنسان لا يتذكَّر أخاه إلا إذا كان محسناً له، فإذا أحسنت إلى أخيك، وألمّ بك مكروه، ودعا لك بظهر الغيب فإن دعوته لا تُرد، وهذه الدعوة ثمرة من ثمار عملك الصالح.
كما أن الصدقة تصل إلى الميت بعد موته لأن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن هذا ووضَّحه، ولولا أن هذا الميِّت ترك أثراً طيّباً في تربية أولاده، وفي معاونة إخوانه، وفي مواساة أحبابه لما تذكَّروه بعد موته وأنفقوا هذه الصدقة على روحه، فالصدقات تصل، والدعاء يصل، وكل عملٍ للميت قبل موته نصيب فيه يصل إليه، وهذا ينطلق من قوله تعالى:
تربية الأولاد التربية الصالحة من أعظم الأعمال عند الله:
أيها الأخوة الأكارم؛ هذا حديثٌ دقيق، من أدقِّ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، اعمل عملاً يستمّر أثره بعد الموت، هذا العمل لا ينقطع ثوابه، والإنسان في قبره تأتيه الخيرات، هذا الولد الذي ربَّيته، الذي سهرت في تربيته، الذي جعلته معك رفيقاً، الذي أخذته إلى المسجد، علَّمته القرآن، جَهدتَ في تربيته وتوجيهه، بذلت من مالك من أجل إكرامه، زوّجته، هذا الابن الذي ساهمت في تكوينه، وتكوين إيمانه ذخرٌ لك من بعدك، لذلك تربية الأولاد التربية الصالحة تُعدُّ من أعظم الأعمال عند الله عزَّ وجل، لماذا؟ لأن ثوابها لا ينقطع بالموت، أيّ عملٍ صالح إذا فعلته ينتهي عند الموت إلا تربية الأولاد.
(( عن عائشة -رضي الله عنها- أنها أخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أن امرأة فقيرة جاءتها مع ابنتيها، فأجلست إحداهما على يمينها والأخرى على شمالها، ثم سألتها شيئا من الأكل، ولم يكن عندها طعام، إنما وجدتْ تمرة واحدة فقط، فأعطتْها إياها قائلة: هذا كل ما يوجد الآن. فشقّت التمرة نصفين، وأعطت كل واحدة منهما نصفًا، ولم تأكل منها شيئاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
قالوا: وواحدة؟ قال: وواحدة.
أي إذا إنسان رزقه اللهُ فتاةً فربَّاها تربيةً إسلامية، عرَّفها أمر دينها، عرَّفها بكتاب الله، جعلها زوجةً صالحةً، تقيةً ورعةً، مطواعةً لزوجها، اختار لها الزوج المؤمن الذي يحفظ لها دينها، هذه الفتاة تأخذ بيد أبيها إلى الجنَّة، هؤلاء الفتيات ذكرهنَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام فقال:
العلم أثره باق وثمرته لا تنقطع:
فيا أيها الأخوة؛ مادام تربية الأولاد والعلم الذي يُنتفع به، الإنسان إذا تعلم علماً، مرَّةً قرأت تفسير آيةٍ في تفسير ألَّفه صاحبه قبل ألف عام، لفت نظري دقَّة هذا التفسير فجعلته موضوع خطبةٍ، وألقيتها على الإخوة الكرام، شعرت أن أثراً كبيراً تركته في الناس، تذكَّرت هذا المفسِّر الذي كتب هذا التفسير قبل ألف عام، من هذه الخطبة جاءه الخير، لا يوجد إنسان يترك أثراً علمياً؛ كتاب تفسير، كتاب حديث، كتاب فقه، كتاباً في العقيدة، كتاباً في فروع الدين، كتاباً في الآيات الكونية، لا يوجد إنسان يترك أثراً علمياً ويموت، كلُّ مَن قرأ هذا الكتاب، وكل من انتفع بهذا الكتاب، وكل من اقتبس من هذا الكتاب، وكل من ضمَّن في دعوته وفي خطبه مما في هذا الكتاب فهو في صحيفة المؤلِّف إلى يوم القيامة.
فالإنسان إذا كان عاقلاً يبحث عن عملٍ يدوم، يبحث عن عملٍ كأني أقول يلغي موته، سيدنا علي يقول:
يجب أن تحدِّث نفسك بطلب العلم، ويجب أن تُعَلِّم، لأن خيركم كما قال النبي الكريم:
(( عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
الصدقة الجارية في صحيفة الإنسان إلى يوم القيامة:
ينبغي أن تدع أثراً، ولو رسالة صغيرة، ولو بحثاً صغيراً، ولو تركت أثراً في أولادك، أحياناً ألتقي مع بعض الأخوة الطيّبين، كلَّما ذكر أباه ترحَّم عليه، أبي علَّمنا أن نصلي الفجر في المسجد، أبي علَّمنا ألا نكذب، أبي علَّمنا أن نتواءم بعد وفاته، أبي علمنا أن نحسن للناس، أبي علمنا أن نكون صادقين، كل أعمال هذا الابن في صحيفة أبيه، أنت أمام أبواب لا يعلم إلا الله خيراتها ؛ تربية الأولاد، وطلب العلم، وتعليم العلم، وترك أثر علمي، وصدقةٍ جارية، بناء مسجد.
أنا كنت أقول حينما تأتيني لجان من المساجد الأخرى للتبرُّع، أقول: كل من صلى في هذا المسجد، وكل درس يعقد في هذا المسجد، وكل دمعةٍ تنهمر من عين مصلّ في هذا المسجد، وكل توبةٍ تُعقد في هذا المسجد في صحيفة من بناه إلى يوم القيامة، فالصدقة الجارية، أحياناً مسجد، أحياناً معهد شرعي، هناك معاهد شرعية الآن مفخرة، تضم آلاف الطلاب، ماذا يُعَلَّمون؟ يُعَلَّمون الكتاب والسنَّة، والفقه والتفسير، والآداب الإسلامية، والعقيدة الصحيحة، فإذا الإنسان ساهم ببناء مسجد، أو بتأسيس مسجد، أو بتأمين مرافق المسجد؛ تكبير الصوت، الإضاءة، التدفئة، التكييف، الفرش، ساهم بالتدريس في مسجد، ساهم بدعم هذا المسجد، كل هؤلاء لهم عند الله أجر، هذه الصدقة الجارية؛ مسجد، مستشفى خيري، مستوصف خيري، معهد شرعي، مرفق عام مفيد جداً.
على الإنسان أن يترك أثراً من عمل صالح ينفعه بعد موته:
هؤلاء الأجداد المرجة في دمشق هذه أرضٌ وقفية، أوقفها أصحابها للدواب المريضة كي ترعى وتستريح، هناك أوقاف في الشام لا يعلهما إلا الله كلها تنطلق من أعمال الخير، العصرونية هذا وقف، كل طفلٍ أو خادمٍ انكسر معه إناءٌ وله سيدٌ قاسٍ يأتي إلى هذا المكان فيأخذ الإناء الجديد، ويعطيهم أثراً من القديم، كم مشكلة حُلت بهذه الطريقة؟ على كل هناك بمارستانات قديماً، مستوصفات خيرية مجَّانية، طعام مجاني للفقراء، سبحان الله! كان السلف الصالح همُّهم الوحيد خدمة الخلق، والتقرُّب إلى الله عزَّ وجل، الآن همّه فيلا ومسبح، ومركبة، وقضاء إجازة في أنحاء العالم، همه المتعة، يموت صفر اليدين، كان الأجداد همهم العمل الصالح، همهم تركُ أثر، والأبواب مفتوحة أيها الأخوة، بإمكانك أن تطلب العلم، بإمكانك أن تحفظ كتاب الله، بإمكانك أن تتعلَّم علم التجويد، بإمكانك أن تعلِّم التجويد، بإمكانك أن تعلِّم ما علَّمك الله، وهكذا تكون قد تركت أثراً علمياً، ألِّف كتاباً صغيراً إذا كنت من أهل التأليف، اترك أثراً علميًّاً، اترك أثراً فكريّاً، اترك أثراً اقتصادياً، أثراً من العمل الصالح:
أعظم عملٍ على الإطلاق الاستقامة والدعوة إلى الله:
هل بيننا شخص ليس له ابن؟ هذا الابن يجب أن تفكر تفكيراً ملياً أن تجعله داعيةً، وعلى الله رزقه، وتأتي الدنيا وهي راغمة، حينما جُعِلَ الصف العاشر في التعليم الشرعي خاصاً بالمتفوقين أعرض الناس عنه، ووضعوا أولادهم في التعليم العام، فلماذا لا تجعل ابنك يدرس العلم الشرعي؟ لمَ لا تجعله داعيةً ينفع الناس من بعدك؟ لمَ لا تجعل كل دعوته في صحيفتك؟ هذا هو العمل العظيم، أي الأعمال كثيرة جداً، أما ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾
خالق الكون يقول لك: إن أعظم عملٍ عندي على الإطلاق أن تستقيم على أمري وأن تدعو لي:
عدم وصول الإنسان إلى الجنة إلا بعمله الصالح:
يحب أن تفكِّر جديّاً، هذه المساجد من يتولَّى أمرها؟ كيف ينقرض العلم؟ بموت العلماء، والشيء المؤلم أنه كلَّما توفي عالم ليس هناك من يخلفه، انهدّ ركنٌ من أركان الأمَّة، فلابدَّ من أن نهيئ دعاة إلى الله يخلفون السلف، في القطر أربعة آلاف مسجد، من لهذه المساجد؟ يحتاجون إلى خطباء صحيحو العقيدة، مستقيمو السلوك، نيرو الذهن، مثقَّفون ثقافة عالية حتى يتركوا أثراً في الناس، فلذلك لابدَّ لكل إنسان أن يفكر تفكيراً جديًّاً: كيف سأدعو إلى الله؟ إما من خلالك شخصياً أو من خلال أولادك، لماذا لا تتمنّى إلا أن يكون ابنك طبيباً؟ آلافٌ مؤلَّفةٌ يحلّون محلّ ابنك في هذه الحرفة، لماذا لا تتمنّى ابنك إلا أن يكون مهندساً؟ لمَاذا لا تتمنى أن يكون ابنك داعيةً إلى الله عزَّ وجل؟ لِمَ لَمْ تهيئه منذ صغره على أن يكون عالماً؟ وهذا كله في صحيفتك، فلذلك إما أن تدعو أنت مباشرةً، أو من خلال أولادك، أو أن تدعم إنسانًا يدعو إلى الله عزَّ وجل، بإمكاناتك، الحياة تحتاج إلى دعم، فلذلك:
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾
هذه الآية أصل من أصول العقيدة، كل الأفكار والقصص الخرافية أن الإنسان بكلمة أو بدفعة من عالِم صار من أهل جنة، هذا كله كلام لا معنى له، لن تصل إلى الجنة إلا بعملك الصالح.
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
﴿
الداعية إلى الله عمله في صحيفة أبيه إن رباه على ذلك:
فيا أيها الأخوة الكرام؛ هذا الحديث الشريف هو محور هذا الدرس:
النية وراء كل عمل صالح:
ذكرت فكرة وسأعيدها مرَّة ثانية: لو أنَّ أباً أنجب ولداً، هذا الابن تديَّن تديّناً صحيحاً، ولم يكن الأب راضياً عن تديّنه، يريده إنساناً آخر، لو أن هذا الابن أصبح أعلم العُلماء، وأكبر الدعاة لا ينال الأب من ابنه شيء، لأنه لم ينوِ ولم يرِدْ ذلك، أراده إنسانًا متفلِّتًا، فالعبرة هي النية:
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: «
فكل واحد إذا دخل إلى بيته ورأى أولاده وبناته، إن كان الولد ذكراً، هذا الابن الذكر يمكن أن يكون أحد أكبر أسباب سعادتك الأبدية إذا عرَّفته بالله، وإذا حملته على طاعة الله، وإذا هيَّأته ليكون عالماً، أو ليكون داعيةً، أو ليكون عضواً نافعاً في المجتمع، ثم هناك أبوابٌ لا تعدُّ ولا تُحصى للصدقة الجارية.
هذه المساجد التي تفتخر بها دمشق من بناها؟ من ساهم في بنائها؟ من ساهم في تأسيسها؟ من أعَمَرَها بالصلاة وبالتدريس والخطبة؟ هؤلاء جميعاً شركاء في الأجر، والولد الصالح الذي يدعو لك من بعدك، والصدقة الجارية، والعلم الذي يُنتَفع به.
الحد الأدنى أن تدعو إلى الله في حدود ما تعلم:
الإنسان أحياناً -ولا أبالغ-أنت حضرت مجلس علم، والدرس ساعة، ألا يوجد آية تركت أثراً في نفسك؟ حضرت خطبة، تحضر الدروس والخطب من عشرين سنة، ألا يوجد آية واحدة تركت أثراً عميقاً في نفسك؟ ألا يوجد حديث شريف هزَّ أعماقك؟ ألا توجد قصَّة لصحابي جليل غيّرت مجرى حياتك؟ ألا تستطيع أن تنقل هذه الآية أو ذاك الحديث أو تلك القصَّة إلى الآخرين؟ بأسلوبك المتواضع، بلغتك العامّية، لمن حولك، هل هناك إنسان ليس حوله أشخاص؟ هل تجد إنسانًا لا يلتقي مع أقربائه في الأسبوع عشرة لقاءات؟ بين سهرة، بين خِطبة، بين لقاء عائلي، بين عقد قِران، بين أحياناً مواساة في حزن، بين عيادة مريض، بين وليمة، بين سفر، بين نزهة، لا يوجد إنسان يعيش لوحده، في هذه اللقاءات ماذا تقول أنت؟ عن أي شيء تتكلَّم في هذه اللقاءات؟ ألا ينبغي أن تحدِّثهم عما فهمته من كتاب الله؟ ألا ينبغي أن تحدثهم عما فهمته من كلام رسول الله؟ ألا ينبغي أن تحدثهم عن بعض المواقف التي فعلها الصحابة وهي تلفت النظر؟ أنت داعية بهذه الطريقة، أنا لا أكلِّفك أن تكون العالِم الوحيد، وحيد عصره، وحيد زمانه، في حدود ما تعلم أنت داعية، قد لا يصل الأمر إلى أن تكون من العلماء الكبار اللامعين، أنت سمعت آية واحدة، حديثاً واحداً، قصَّة واحدة، أليس بالإمكان أن تعيدها لمن حولك؟ لأقربائك، لأولادك، لإخوانك، لزملائك، لمن معك في العمل، لشركائك، لأولاد أخوتك، أنت تعيش مع الناس، لمَاذا لا تجعل كل لقاءاتك مع الآخرين لقاءات دعوة إلى الله؟ لقاءات تذكير؟ لقاءات تعريف بالله عزَّ وجل؟ أنت طالب علم، أنت معدودٌ على أهلك أنك طالب علم فأين علمك؟ وأين حديثك عن الله عزَّ وجل؟
أبواب الجنة مفتحة أمام الإنسان:
لعلَّك تنقل تفسير آيةٍ واحدةٍ تنقذ بها إنساناً، هذا الإنسان هو وأهله، وأولاده، وذرِّيّته إلى يوم القيامة في صحيفتك، ما قولك؟ فالعبرة أنَّ هناك إخوانًا يتوهَّمون أن حضور الدرس هو كل شيء، بالعكس والله حضور الدرس وحده ليس بشيء إلا في حالة واحدة إلا أن تنطلق منه إلى فعل كل شيء، حضور الدرس من أجل أن تخرج للعمل، كان عليه الصلاة والسلام يعلّمنا أنَّ أحدنا إذا دخل بيت الله عليه أنْ يدعو فيقول:
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾
خروج بناتك هل راقبته؟ راقب صلاة بناتك، راقب خروج بناتك، هل هو خروج شرعي أم هناك مفاتن ظاهرة؟ وأنت مسؤول.
شيء ثالث: هل راقبت حديث بناتك؟ فيه غيبة؟ فيه نميمة؟ فيه كِبْر؟ فيه استعلاء؟ فيه كلام فارغ؟ فيه حديث لا يرضي الله عزَّ وجل؟ يجب أن تلاحظ الحديث، وأن تلاحظ الصلاة، وأن تلاحظ الخروج، فإذا ربيت ابنتك تربيةً إسلامية، ثم جاءها الخُطَّاب فاخترت من بينهم المؤمن، هذه الفتاة في صحيفتك إلى يوم القيامة، أحد أسباب دخولك الجنة.
كذلك ابنك إذا علَّمته، إذا كان معك في المسجد، إذا نشأ على حضور مجالس العلم، إذا نشأ وهو معك في بيوت الله عزَّ وجل دائماً، إذا جلست معه الساعات الطوال تسأله وتجيبه، وتعلِّمه وتوجِّهه، هذا ابن، إذا خرج مؤمناً صادقاً.
على الإنسان أن يحدّث نفسه بالأعمال الصالحة التي تستمر بعد موته:
إذاً البنت باب، والابن باب، إذا حضرت مجلس علم وسجَّلت بعض النقاط، وجعلتها منهجك طوال الأسبوع، الجمعة فسَّرنا قوله تعالى:
أعظم الأعمال هي الأعمال التي تستمر بعد الموت:
بالمناسبة أعظم الأعمال هي الأعمال التي تستمر بعد الموت، وأخطر الأعمال هي الأعمال التي يموت صاحبها ولا ينتهي الإثم الذي تركه، أسَّس ملهى تُقام فيه كل المعاصي والآثام وبعد الافتتاح بأسبوع مات، هذه ليست صدقة جارية بل هو إثمٌ جارٍ إلى يوم القيامة، وهذه أعمال أيضاً، فالعبرة أن تعمل عملاً يُخَلِّد ذكرك بعد الموت، الآن نحن الحاضرين في الأعم الأغلب بعد مئة سنة لن يكون واحد منا على قيد الحياة، هناك طقم بشري ثانٍ يأتي، في الأسواق، في البيوت، الله جعلنا خلائف يخلف بعضنا بعضاً، معنى هذا نحن زائلون، ماذا يبقى؟ العمل الصالح هو الذي يبقى، هو الذي يرفعنا عند الله عزَّ وجل، لكن ماذا أكلنا؟ ماذا شربنا؟ أين سكنَّا؟ مساحة البيت، تزيين البيت، هذا كله زائل، لكن العلماء الكبار، المصلحون الكبار، القادة الكبار تركوا بصمات واضحة في الحياة.
العلماء والقادة الكبار تركوا بصمات واضحة في الحياة:
مَن منَّا لا يذكر سيدنا صلاح الدين الأيوبي؟ كيف ردَّ أوروبا بأكملها وحرَّر هذه البلاد من الغزاة الأجانب؟ مَن منَّا لا يذكر سيدنا عمر بن الخطَّاب؟ هؤلاء الصحابة الكرام، هؤلاء الذين تركوا بصمات واضحة في المجتمعات، كل إنسان بحسب إمكاناته يمكن أن يدع بصمة، ذات مرَّة قال لي أخ: أنا أستيقظ قبل الفجر دائماً، قال لي: والدي علمني على ذلك، كان يأخذني معه إلى المسجد قبل الفجر لنصلي قيام الليل ونصلي الفجر حاضراً، وبقيت معه هذه العادة حتى سن متأخِّرة، وكان يترحَّم على والده، فأنت من الممكن أن تعمل عملاً طيّباً يبقى ذكره لك إلى يوم القيامة.
من يطلب العلم ولو مشافهة يترك علماً نافعاً يُجازى عليه:
ملخَّص لهذه الآية: قد يتوهَّم أحدكم أنه لا ينجو أو لا يرقى عند الله إلا إذا كان من أعلام العلماء، لا، إذا حضرت مجلس علم وفهمت آية ونقلتها للآخرين نقلاً صحيحًا، وهؤلاء الآخرون استفادوا منها، وغيَّروا سلوكهم، فأنت ممن تنطبق عليه هذه الآية، تركت علماً نافعاً يُنتَفع به، الأمور تكبر وتصغر، تتوسَّع وتضيق، فالحد الأدنى أن تدعو إلى الله في حدود ما تعلم، ولمَن تعرف، لن تجد أحداً إلا وحوله أقارب، أقرباؤك الخُلَّص، إخوانك، أصدقاؤك، جيرانك، زملاؤك، فأنت حينما تطلب العلم مشافهةً وتنقله مشافهةً في حدود ما تعلم، وفي حدود من تعرف فقد تركت علماً نافعاً، وقد يقول الذي نقلت له هذه الآية: جزاه الله خيراً، أنا بسبب هذه الآية أقلعتُ عن هذه المعصية، بسبب هذه الآية بدأتُ أصلي في الجماعة، بسبب هذه الآية فعلت كذا وكذا، فهذه واحدة.
على كل إنسان أن يبحث عن عمل صالح ينفعه بعد موته:
أحياناً الإنسان لا يُحسِن النقل ولكنه يعطي شريطًا، وهذا الشريط فيه خير كبير، وبهذه الطريقة أيضاً أنت نقلت العلم، وانتُفِعَ به، وفي صحيفتك، ولك أجرٌ كبير، فترك العلم النافع باب واسع جداً، بإمكان كل مَن حضر هذا الدرس أنْ يكون له نصيب منه،
أو:
مجالات الصدقة الجارية واسعة جداً:
هذا الحديث محور الدرس، حديث صحيح رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال:
مثلاً الكهرباء انقطعت فجأةً، هناك إخوان هيؤوا لنا مولِّدة، على الفور اشتغلت واتصل التيار، فهذا في صحيفته إلى يوم القيامة، الدرس قائم نحتاج إلى تكبير صوت وإلى إضاءة، فالذي ساهم بتأمين مولِّدة له أجر، هذه صدقة جارية، الذي ساهم بفرش المسجد، الذي ساهم بالتدفئة المركزية، الذي ساهم ببعض الأشياء الأساسية في المسجد، فكم شخصٍ صَلّى تحت هذه الخيمة؟ الشمس حادَّة، الذي ساهم فيها له أجر.
أيها الأخوة؛ الصدقة الجارية مجالاتها واسعة جداً، بإمكان كل واحد منَّا أن تكون له صدقة جارية، والولد الصالح لا يوجد بيت إلا وفيه أولاد، وكل واحد منَّا ابنته يعلمها، يضبط سلوكها، وخروجها، وحديثها، يربيها تربية صالحة، أو ابنه يجعله داعية، أيضاً ساهم بولدٍ صالحٍ يدعو له، والعلم يُنتَفع به فتعلَّم وعلِّمْه،
وقوف الإنسان يوم القيامة ليرى عمله أمام جميع الخلائق:
إيَّاك أن تتوهَّم أن شيئاً يأتيك لم تفعله، أو أنَّ شيئاً من عملك يُنتَقَصُ منه، أبداً، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، لكن الإنسان أحياناً في الدنيا يكون هناك عمل عظيم نُعَتِّم عليه، وهناك عمل صغير ننفخ فيه، هذا شأن الإنسان بحسب أهوائه، مثل قريب جداً: أحياناً تكون امرأة لها ابنة ولها زوجة ابن، أعمال ابنتها الصغيرة تُضَخَّم، وتُضخَّم، وتُضَخَّم، وتثني عليها في المحافل، وعلى ذكائها، وعلى كونها زوجة صالحة، وعلى تربيتها لأولادها، وأعمال زوجة ابنها أحياناً في التعتيم، مهما فعلت يُعتَّم عليها، هذا مثل مأخوذ من واقعنا الاجتماعي، فالإنسان في الدنيا بحسب أهوائه يبرز أو يعتِّم، لكن الله سبحانه وتعالى لعدله ولكرمه قال هذا السعي سوف يُرى،
﴿
﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)﴾
العمل الصالح مفخرة لصاحبه والعمل السيئ عار على صاحبه:
لذلك الآية الثانية متمِّمة:
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾
ليس هناك تعتيم، ولا تضخيم، عملك الصالح بحجمه الحقيقي، بنواياه الطيِّبة سوف يبرز للخلق قاطبةً، لذلك مرَّة قام أحد من حول النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله إني نؤوم -أنام عن الصلاة-سيدنا عمر غضب وقال: ويحك لقد فضحت نفسك، فقال النبي الكريم: دعه يا عمر فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة، أي إذا أخطأ الإنسان بين خمسة أشخاص غير بين ألف شخص، غير بين مليون شخص، أحياناً الإنسان يغلط في أجهزة الإعلام غلطة يتناقلها الناس في كل بِقاع الأرض، فكيف يوم القيامة إذا أخطأ خطأً أما الخلق قاطبةً؟
العدل المطلق يوم القيامة:
الإنسان أحياناً بذكاءٍ وطلاقة لسانٍ وقوَّة بيان يقلب الحقَّ إلى باطل والباطل إلى حقّ، يوم القيامة ماذا يقول الله عزَّ وجل؟:
﴿
فالآية الثانية خطيرة جداً:
﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)﴾
المرحلة الثالثة:
﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)﴾
عدلٌ مطلق..
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
المؤمن حقّه عند الله محفوظ يوم القيامة:
﴿ ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى(41)﴾
أبداَ بحسب الحركات، والسكنات، والنيات، والتطلعات، والصراعات، كلّها مسجَّل، لذلك الإنسان إذا أيقن من خلال هذه الآيات:
الوقت والمال أثمن شيء يملكه الإنسان في حياته:
كل بيت فيه أولاد، وكل إنسان بإمكانه أن يسمع الدرس ويبلِّغه، وكل إنسان يقدر أن يترك أثراً في مسجد، أو في مشروع خيري، بجهده أحياناً، أحياناً يخدم يقول لك: أنا سوف أنظِّف المسجد في المكان الفلانية، هذا قدَّم شيئًا، هذه صدقة جارية، فالإنسان عليه ألا يضن بوقته ولا بماله لأن هذا الذي يبقى، والذي نستمتع به في حياتنا هو الذي يذهب، هذا الذي يبقى وذاك الذي يذهب.
درسنا اليوم إذاً ثلاث آيات، الآية الأولى:
﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46)﴾
والحمد لله رب العالمين