- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (053)سورة النجم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أمر الله عز وجل للنبي الكريم بأن يُعرِض عمن تولى عن ذكره:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس من سورة النجم، ومع الآية التاسعةِ والعشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)﴾
أيها الأخوة الكرام؛ النبي صلى الله عليه وسلَّم يتلقَّى أمراً من الله عزَّ وجل أن يُعرِض عمّن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، هناك نموذج: إنسانٌ أعرض عن ذكر الله، أدار ظهره للحق، لم يعبأ بكل الآيات الكونية والتكوينية والقرآنية، لم يعبأ بكل العِبَر، ولا بكل المواعظ، ولا بكل ما يُتْلى عليه،
الإقبال على الدنيا فقط ضرر بالآخرة:
طبعاً نقطتان وأنت بينهما، كلَّما اقتربت من إحدى النقطتين ابتعدت حكماً عن الثانية، لذلك من أحبَّ دنياه أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرته أضرَّ بدنياه، لذلك الله عزَّ وجل يبيِّن للنبي عليه الصلاة والسلام وهو السيد الكريم، وهو الرحيم الحريص على هداية أمَّته، قال: هؤلاء الذين أداروا ظهرهم لذكرنا، لآياتنا، لوعدنا، لوعيدنا، لأمرنا، لنهينا، لآياتنا الكونية، والتكوينية، والقرآنية، هؤلاء الذين لم يعبؤوا، ولم يهتمُّوا، ولم يخافوا، ولم يصغوا، ولم يلقوا السمع، ما أرادوا إلا الدنيا، إلا المال، إلا اللذَّة، إلا الشهوة، إلا العلو، هذا النموذج الذي أعرض عن ذكر الله وأقبل على الدنيا، أعرض فأقبل، أقبل فأعرض، كما قلت قبل قليل: نقطتان وأنت بينهما، إذا اتجهت إلى إحدى النقطتين ابتعدت حكماً عن الثانية، قال: هذا النموذج الذي يُقْبِلُ على الدنيا بكلِّه، بطاقاته، بإمكاناته، بتصوّراته، بخواطره، بنومه، بيقظته، بحضره، بسفره، هذا الذي يُقبِل على الدنيا وحدها لو أن الله عزَّ وجل قال: وأراد الحياة الدنيا هذا لا ينفي أن يريد شيئاً آخر، لكن:
قال: هذا النموذج لا خير فيه، أنت في وادٍ يا محمد وهو في واد، أنت في طريق وهو في طريق، تصوُّراته لا تتفق مع إيمان المؤمن، أهدافه لا تنطلق من إيمان مؤمن، تنطلق من شهوة منحرف، من شهوة معرض.
الإعراض عن الإنسان الذي لا يعبأ بالوعد والوعيد:
الإنسان المعرض عن الآخرة إنسان ميت لا خير فيه:
إنسان ينطلق باتجاه الشرق وإنسان باتجاه الغرب، لا يلتقيان، لا يجتمعان، لا يترافقان، لا يتناصحان، هذا في طريق والآخر في طريق، فالذي ينطلق من حبِّ الدنيا، وينطلق من إهمال الحق والإعراض عنه، هذا لا يمكن أن يصغي لأهل الحق، ولا أن يؤمن بما يؤمنون، ولا أن يخاف ما يخافون، ولا أن يرجو ما يرجون، ولا أن ينضبط كما ينضبطون، ولا أن يسمو كما يسمون إطلاقاً، فالإنسان كي يوفِّر وقته، كي يكون عمله مع أهل الحق، مع أهل الخير، مع أهل الصلاح، مع من يُظَنُّ فيه الخير، قال تعالى يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام مبيّناً أن هؤلاء الأشخاص الذين أعرضوا، والذين انكبّوا على الدنيا حتى انغمسوا فيها إلى قمَّة رؤوسهم، هؤلاء مقبورون بشهواتهم، هؤلاء موتى وليسوا أحياء.
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
هؤلاء في آذانهم وقرٌ، وعلى عيونهم غشاوة، هؤلاء:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)﴾
هؤلاء لا يعرفون الحق، ولا يألفونه، ولا يحبّونه،
من لا يخاف الله لا خير فيه:
لذلك من تكلَّم بالحكمة لغير أهلها فقد ظلمها، ومن منعها أهلها فقد ظلمهم، أي المؤمن يتوسّم الخير فيمن يدعوهم إلى الله، يستشف ما ينطوون عليه من خوف، من إيمان، من حياء، من خجل، إذا لم تستحِ فاصنع ما تشاء، الذي لا يستحي لا خير فيه، الذي لا يخاف الله لا خير فيه، الذي لا يرجو ما عند الله لا خير فيه، الذي لا يسأل عن الحلال والحرام لا خير فيه، الذي لا يخاف من وعيد الله لا خير فيه، الذي لا يرجو جنَّة الله لا خير فيه.
ابتعاد الإنسان عمن يفضّل المتع الرخيصة:
أيها الأخوة الكرام؛ هذا النموذج كثير، وهو يوجد في كل مكان، وفي كل زمان، إنسان أراد الدنيا، أراد المال من أي طريق، وبأي أسلوب، لا يعنيه حلالاً أو حراماً، مشروعاً أو غير مشروع، معقولاً أو غير معقول.
صمم آذان أهل الدنيا عن الحق:
وصف أهل الدنيا:
الله عزَّ وجل وصف أهل الدنيا بآيةٍ كريمة قال:
﴿
الله جلَّ جلاله ما أثبت لهم العلم بحقيقة الدنيا، علموا ظاهرها، فلو تعلَّموا، لو كان لهم اختصاص، ولو تمرَّسوا بشيء، لو تراكمت خبراتهم، هذا العلم لا قيمة له عند الله لأنه علمٌ بالدنيا، والدنيا زائلة وفانية ولا قيمة لها، هناك علمٌ لا يُنَجّي صاحبه كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن زيد بن أرقم: لَا أَقُولُ لَكُمْ إلَّا كما كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يقولُ؛ كانَ يقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ القَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَن زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا،
أيها الأخوة؛ العلم في الدنيا حرفةٌ من الحرف، إنسان يرتزق من يده، من مهنةٍ، من حرفةٍ، إنسان يرتزق من اختصاصٍ فكري.
أنواع العلم ثلاثة:
الآن يجب أن ندخل في موضوع صغير لكنَّه خطير، هناك علمٌ لله، وعلمٌ بخلقه، وعلمٌ بأمره.
1 ـ العلم بخلقه:
العلم بخلقه أن تدرس الفلك، أو الرياضيات، أو الفيزياء، أو الكيمياء، أو أن تدرس علم النفس، أو علم النفس الاجتماعي، أو علم الاجتماع، أو التاريخ والجغرافيا، أو أن تدرس بعض التطبيقات العملية، كأن تكون مهندسَ ميكانيك، هذا اختصاص ترتزق منه لا يسمو بنفسك، هذا علمٌ بخلق الله.
2 ـ العلم بأمره:
وهناك علمٌ بأمره ؛ معلومات دقيقة، علاقات، أدلَّة، براهين، مقدِّمات، نتائج، كتب، هذه ينبغي أن تُحفَظ، وأن تُدرس، وأن تُراجَع، وأن تفهم، وأن يُذاكر بها، وأن يؤدّى بها امتحان، وأن تنال الشهادات، العلم بخلق الله والعلم بأمره علمان يحتاجان إلى مُدارسة، إلى قراءة، إلى فكر، إلى مراجعة، إلى سؤال، إلى جواب، إلى كتابة، إلى تدريب، هذه العلوم علومٌ ماديّة، العلم بخلقة والعلم بأمره، وتحتاج هذه العلوم إلى مدارسة، أي عمل فكري محض، ولا علاقة لها بسمو النفس إطلاقاً، وهذه العلوم حِرْفَةٌ من الحرَف، أي حينما ينتهي أجل الإنسان تنتهي قيمة هذه العلوم، وليس لها أثر بعد الموت.
3 ـ العلم بالله:
لكن العلم بالله أن تتعرَّف إلى الله من خلال آياته الكونية، أو من خلال آياته التكوينية، أو من خلال آياته القرآنية، وأن تجاهد نفسك وهواك، هذا العلم أساسه المجاهدة لا المدارسة، العلم بخلق الله والعلم بأمره أساسه المدارسة، بينما العلم بذاته، العلم بالله أساسه المجاهدة، هذا العلم ثمنه باهظ لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلَّك، لن تنال منه شيئاً إلا إذا جاهدت نفسك وهواك، إلا إذا حملتها على طاعة الله عندئذٍ هذا العلم يسمو بك.
لذلك حينما ترد كلمة العلم في الكتاب والسنَّة الإمام الغزالي -رحمه الله تعالى-يرجِّح أن كلمة العلم إذا وردت في الكتاب والسنَّة فإنما تعني العلم بالله، العلم الذي يحملك على طاعة الله، العلم الذي يسمو بك إلى الله، العلم الذي يهذِّب جوارحك، العلم الذي يصقل وجدانك، هذا هو العلم.
العلم الذي هو عين الجهل هو عدم تحكيم منهج الله في حياتنا:
لذلك:
انحراف الناس سببه إطلاق العنان للشهوات:
لو أننا ضبطنا أنفسنا لما وقعنا في شرِّ أعمالنا، نثير الشهوات إلى أقصى درجة ثم نضع أيدينا على رؤوسنا من كثرة الجرائم، وكثرة حالات الزنا، وكثرة دور الدعارة، حينما نطلِق للشهوات العنان النتيجة الطبيعية أن ينحرف الناس، فأي علمٍ هذا؟ أي درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج، أي هناك علمٌ هو عين الجهل، لو أن إنساناً أدمن على شرب الخمر وتشمَّع كبده، وقال: أنا سوف أذهب إلى فرنسا لأزرع كبداً جديدة وقد تكلِفني سبعة ملايين، نقول له: لو لم تشرب الخمر لما كان ما كان، هذه المخالفة الصريحة لمنهج الله أعطبت الكبد، عندئذٍ نحتاج إلى عمل جراحي، وإلى زرع كبد، وإلى دراسات، وإلى تحليل، وإلى زُمَر نسيجية، وإلى انتظار إنسان كبده سليمة، تشعر أن هناك علماً متفوقاً جداً، لكن هذا العلم احتجنا إليه لانحرافنا عن طريق الحق.
أصل المرض خروجٌ عن منهج الله عزَّ وجل:
أيها الأخوة؛ ما أردت أن أقلِّل من قيمة العلوم الحديثة، ولا من قيمة علم الطب، ولكن إذا أطلقنا للشهوات العنان وخرجنا عن منهج الله، طبيعيٌّ جداً أن تنشأ أمراضٌ لا حصر لها، فالعلوم المتقدِّمة في مكافحة هذه الأمراض كنا في غنًى عنها لو تتبَّعنا منهج الله عزَّ وجل، اللهُ عزَّ وجل يقول:
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)﴾
خلقني، هو الخالق:
﴿ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79)﴾
ثم يقول:
﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)﴾
ما قال: والذي إذا أمرضني هو يشفين، المرض عُزِيَ إلى الإنسان لأن أصل المرض خروجٌ عن منهج الله عزَّ وجل، فحينما لا نتقيّد بفطرة الله عزَّ وجل، ولا بمنهجه، ونخرج عن هذا المنهج طبعاً هناك مشكلات لا حصر لها، لها أول وليس لها آخر، هذه تحتاج إلى حلول، نحتاج إلى تقدُّم علمي، وإلى تقدُّم في الصناعة، وإلى تقدّم في الأدوية، كل هذا بسبب خروجنا عن منهج الله عزَّ وجل.
الإنسان فريسة الخروج عن منهج الخالق:
الإنسان حينما لا يعبأ بمنهج الله، لا يعبأ بالأمر والنهي، لا يعبأ بأن تُحكَّم في حياتنا الشريعة الغرَّاء، طبعاً هناك انحرافات تقتضي المعالجات، تقتضي الدراسات، كل هذا كان من الممكن أن نستغني عنه لو سرنا على منهج الله عزَّ وجل.
أحياناً الربا ينمو المال نمواً سريعاً، في الربا المال يلد المال، فإذا ولد المالُ المالَ أصبحت الكتلة النقدية بأيدٍ قليلة حُرِمت منها الكثرة الكثيرة، صار هناك فجوة كبيرة بين الناس، أناسٌ يملكون كل شيء وأناسٌ لا يملكون شيئاً.
عُقِد مؤتمر وأعتقد أنه في أوروبا حول دول الشمال والجنوب، فمن نتائج هذا المؤتمر أن خمس سكَّان العالم يملكون أربعة أخماس ثروة الأرض، الخمس يملكون أربعة أخماس، طبعاً عندما نسمح بكسب المال غير المشروع، عندما نسمح أن يلد المالُ المال، ماذا نشأ؟ ينشأ فجوة بين الناس، الله عزَّ وجل أراد أن يكون المال متداولاً بين الناس جميعاً.
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ
فإنْ خرجنا عن منهج الله في كسب الأموال، وسمحنا أن ينمو المال نمواً ربوياً، وأن يلد المالُ المال، إذا خرجنا في علاقاتنا بالمرأة عن منهج الله وسمحنا لها أن تتبذَّل، وأن ترتاد الأماكن غير المقبولة، وأن تكون سلعةً من السلع، وأقبل الشباب منحرفين، وأُصيبوا بأمراضٍ وبيلة، هذه مشكلة.
الوقاية أرقى من العلاج:
أيها الأخوة الأكارم؛ الله عزَّ وجل يقول:
﴿
درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج، لو أن الناس اتبعوا منهج الله لكانوا في غنىً عن نفقاتٍ لا يعلمها إلا الله، إنَّ كل ما تربحه شركات التبغ في العالم، في العالم كلِّه، هذه إحصائية دقيقة قبل سنة، أقل مما تنفقه هذه الدول على معالجة الأمراض الناتجة عن التدخين، إن كل ما تربحه شركات الدخَّان في العالم أقل من المبلغ الذي تنفقه الدول على الأمراض الناتجة عن التدخين، فهذه البحوث المتعلِّقة بسرطان الرئة مثلاً، وبموات الأعضاء، وبأمراض الأوعية هذه كلها نتيجة للتدخين.
أخ طبيب في أمراض القلب جرَّاح حدَّثني قال لي: والله منذ ست سنوات وأنا أجري كل يومٍ أو كل يومين عملية قلب مفتوح، قال لي بالحرف الواحد: الشيء الثابت عندي أنه ما من مريضٍ أجريت له عمليةٍ في قلبه إلا وهو يدخِّن. نحتاج إلى جراحة قلب مفتوح، ونحتاج إلى أجهزة، وإلى وإلى، كان من الممكن أن نتلافى كل هذا إذا تركنا ما يؤذينا.
ذكرت هذه الأمثلة إنْ في كسب المال، أو في العلاقة بالنساء، أو بالعادات الصحية غير الجيدة من أجل أن نعلم أن الوقاية أرقى من العلاج، وأنك إذا توقيّت أن تقع في المعاصي أنت في غنىً عن علومٍ لا حصر لها.
الإنسان المعرض هو الإنسان البعيد عن رحمة الله:
لذلك قال تعالى:
للإعراض عدة معان:
الآن يوجد عندنا شيء آخر؛ هذا الشيء الإعراض هنا له معنىً آخر هو أن هؤلاء يا محمد لا شأن لهم، ولا قيمة لهم، وفي ميزان الرجال ليسوا بشيء، والعاقبة للمؤمنين، وهم سوف يَهْلِكون، وسوف يقبعون في مزابل التاريخ، ولا أحد يلتفت إليهم، أعرض عنهم، أعرض عنهم المعنى الأول: لا تعلِّق أهميةً عليهم، لا تعلِّق آمالك بهم، أنت في وادٍ وهم في واد، أنت في طريقٍ وهم في طريق.
المعنى الثاني: هؤلاء لا تلقِ لهم بالاً، ليس لهم شأنٌ في ميزان المجتمع، لا يقدِّمون ولا يؤخِّرون، أسقطهم من حساباتك اليومية،
شعور المؤمن بفضل الله عليه عند جلوسه مع إنسان من أهل الدنيا:
أيها الأخُ الكريم؛ ألم تجلس يوماً إلى شخصٍ جاهل بعيدٍ عن الدين؟ بعيدٍ عن الآخرة؟ بعيدٍ عن معرفة الله؟ بعيدٍ عن طاعته؟ ألم تشعر أن بينك وبينه مسافةً كبيرة؟ أنك في وادٍ وهو في واد؟ أنت في طريقٍ وهو في طريق؟ أنت في العلياء وهو في الوحول؟ أنت في الطاعات وهو في الحماقات؟ شيء واضح جداً، فالإنسان إذا جلس إلى أهل الدنيا المُعْرضين الغافلين وعرف قيمة إيمانه، وقيمة معرفته، وقيمة إقباله، وقيمة اتصاله بالله عزَّ وجل، الله جلَّ جلاله من هذا اللقاء العابر يشعرك بفضله عليك، إذا قرأت قوله تعالى:
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
يقشعرُّ جلدك.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
العلم هو الخطوة الأولى لارتقاء الإنسان:
الإنسان حينما يعرف سرَّ وجوده، وغاية وجوده، ويعرف الله عزَّ وجل وهو على أمره ملتزمٌ، ولجنَّته طالبٌ، ومن جهنَّم خائفٌ، هذا إنسان قطع أربعة أخماس الطريق، أما الذي وهو في الستين لا يصلي، وهو في السبعين يبحث عن الشهوة المحرَّمة، وهو في خريف العمر لا يعنيه إلا كسب المال، أين هو؟ وماذا ينتظره؟ الإنسان إذا مات وكان غافلاً وجاهلاً رفرفت روحه فوق النعش تقول:
أيها الأخوة؛ ورد في الأثر:
أعظم عمل على الإطلاق طلب العلم:
لذلك:
ألا يكفينا قوله تعالى:
﴿ أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا
﴿
لذلك طلبك للعلم أعظم عمل على الإطلاق، لك فطرة سليمة، أنت مفطور على حبّ وجودك، وعلى سلامة وجودك، وعلى كمال وجودك، وعلى استمرار وجودك، هذه الفطرة الراقية لو عرفت الحقيقة لاتَّبعتها، لو عرفت الخير لأقبلت عليه، لو عرفت الخطر لابتعدت عنه، أزمةُ معرفةٍ فقط.
الجهل هو أعدى أعداء الإنسان:
أقول لكم دائماً: الجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، مثل أضربه: مزارع اشترى سماداً من أغلى أنواع السماد، أُعطي تعليمات دقيقة أن ضع في البرميل كيلو من هذا السماد، وأذبه، واسقِ به الحقل، عنده محصول ثمنه مئتا ألف ليرة، وضع ضعف الكمّية من أجل أن ينمو الزرع أكثر، هذه الكمية المُضاعفة من السماد أتلفت محصوله كله وأحرقته، فما الذي أضرَّه؟ عدوه؟ لا، خصمه؟ لا، ما الذي أتلف كل هذا المحصول؟ جهله، يجب أن تؤمن أن أعدى أعدائك هو الجهل في كل شيء.
إنسان لو أراد أن يتاجر ولم يتبع منهج الله قد يفلِّس، أو قد يكسب مالاً حراماً يستحقُّ الإفلاس، وقد لا يفلِح، أما إذا اتبع منهج الله في كسب المال نما المال، إذا اتبع منهج الله في زواجه سَعِد بزوجته، إذا اتبع منهج الله في أي شيء قطف كل الثمار اليانعة، فلذلك العلمَ، هؤلاء الذين أعرضوا عن ذكر الله وأقبلوا على الدنيا لماذا كانوا كذلك؟ لأنهم ما تعلَّموا، ظنّوا أن الدنيا هي كل شيء، قال الشاعر الجاهلي:
فإن كنت لا تستطيعُ دفع منيَّتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
* * *
العلم أساس معرفة الله والانضباط بمنهجه:
المؤمن ينكبُّ على الحق، ويبذل من أجله الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، والجاهل ينكبُّ على الدنيا، لكن مع هذا الانكباب هناك مفاجأة، مفاجأة صاعقة، حينما يقترب أجله وهو صفر اليدين، أول ليلة في قبر الإنسان من أصعب الليالي، يقول الله عز وجل: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت، هذا المنغمس في الشهوات، في الموبقات، في المعاصي، في كسب الأموال، في الانغماس في الملذَّات، هذا حينما يصحو على مرضٍ عُضال وقد شارف على ترك الحياة، والله يصيبه من الآلام ما ينسيه الحليب الذي رضعه من ثدي أمّه، فالعلم، لابدَّ من طلب العلم، لابدَّ من معرفة الله، لابدَّ من معرفة منهج الله:
الحياة الدنيا من دون أمل في الآخرة مغامرة ومقامرة:
﴿ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إذاً المعنيان،
العلم أساس السعادة في الدنيا والآخرة:
أنا عند قوله تعالى:
(( عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من سلك طريقًا يطلبُ فيه علمًا، سلك اللهُ به طريقًا من طرقِ الجنةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالبِ العِلمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفرُ له من في السماواتِ ومن في الأرضِ، والحيتانُ في جوفِ الماءِ،
(( ذُكِرَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم رجُلانِ؛ أحدهما عابدٌ، والآخَرُ عالِمٌ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم:
تقييم العباد من شأن ربِّ العباد:
العمل لا يقبل إلا بشرطين خالصاً وصواباً:
مع أن الله سبحانه وتعالى من خلال الكتاب والسنَّة بيَّن بعض العلماء أن العمل لا يقبل إلا بشرطين: إلا إذا كان خالصاً وكان صواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السُنَّة، فأنت كما قال الفُضيل وقد أُخِذ هذا من قوله تعالى:
﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ
الله سبحانه وتعالى يملك كل شيء خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً:
﴿ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ
طبعاً لله هذه لام المُلْك، والله سبحانه وتعالى يملك كل شيء، يملكها خلقاً، وتصرُّفاً، ومصيراً، والإنسان أحياناً يملك ولا ينتفع كمن يملك بيتاً مؤجَّراً، وأحياناً ينتفع ولا يملك كالمستأجر، وأحياناً يملك وينتفع لكن المصير ليس له، أي يصدر قرار استملاك يأخذ منه البيت، أمثلة: يملك ولا ينتفع، ينتفع ولا يملك، يملك وينتفع وليس له المصير، لكن الله سبحانه وتعالى يملك خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً.
الجزاء من لوازم أن الله خلق السماء والأرض:
عين الجهل من يظن أنه تفلت من عقاب الله:
﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى(31)﴾
أيها الأخوة الكرام؛ الإنسان إذا ظنَّ أن إنساناً عمل عملاً سيئاً وتفلَّت من عقاب الله عزَّ وجل فهو لا يعرف الله، طبعاً إلا أن يتوب ويستغفر ويُصلِح، أما إذا ظنَّ أن الأمور سائبة، وأن الإنسان يُترَك سُدَى، وأن للإنسان ما تمنى، وأن الإنسان خُلِق عبثاً:
﴿
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)﴾
﴿ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24)﴾
إذا ظنَّ الكافر أنه سبق الله عزَّ وجل أي تفلَّت من عقابه، أو فعل شيئاً ما أراده، فهذا هو عين الجهل، لذلك الله عزَّ وجل قال:
العلم أنْ تعلم أنَّ كل شيء تفعله تُحاسَبُ عليه:
يجب أن نوقن جميعاً أن لكل حسنةٍ ثواباً وأن لكل سيئةٍ عقاباً، الإنسان لا يتفلت إلا أن يتوب، أما إذا فعل السيئات ولم يتب فإن لكل سيئةٍ عقاباً، هذه هي عدالة الله في الأرض، فالإنسان يكون أحمقَ إذا فعل السيئات وظنَّ أنه مفلحٌ بهذا العمل، يكون أحمقَ إذا أكل أموال الناس بالباطل وظنَّ أن هذا ذكاء، يكون أحمقَ إذا اعتدى على أعراض الناس وظنَّ أن هذا من شطارته، يكون غافلاً إذا قَصَّر فيما عليه من حقوق وظنَّ أن الأمور مسيَّبة وليس هناك محاسبة، الإله العظيم يقول:
إدراك الإنسان حقيقة اليوم الآخر سبب نجاته من النار:
إخواننا الكرام؛ إذا الإنسان لم يدرك حقيقة اليوم الآخر، ولم يؤمن إيماناً حقيقياً كإيمانه بوجوده أن هناك يوماً يحاسب فيه الإنسان عن كل صغيرةٍ وكبيرة، عن كل موقف، كل عطاء، كل منع، كل صلة، كل قطع، كل غضب، كل رضا،
آيات القرآن الكريم دليل على محاسبة الإنسان الدقيقة:
يا أيها الأخوة الكرام؛ هذه الآية وحدها تكفي، ألم يقل ذاك الأعرابي، وقد قال للنبِيِّ الكريم:
التفكير هو الأساس قبل الإقدام على أي عمل:
واللهِ هناك عشرات الآيات وكل واحدة تكفي، قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ
ألا تكفي؟
﴿
ألا تكفي؟
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)﴾
ألا تكفي؟
﴿
هكذا انتهت إليه مفاهيمكم؟
الإنسان البطل من يهيئ جواباً لكل سؤال يوم القيامة:
شخص قال للنبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله إني نؤوم، فقال عمر:
حينما تقف أمام الناس جميعاً من آدم إلى يوم القيامة وتسأل عن أعمالك كلِّها: لماذا فعلت كذا؟ لماذا منعت؟ لماذا أعطيت؟ لماذا أسأت؟ لماذا اعتديت؟ ما جوابك؟
لذلك أيها الأخوة؛ الإنسان البطل الذي يهيئ لله جواباً عن كل تصرُّف، الإنسان أحياناً يعبد الله ستين عاماً ثم يضرُّ بالوصية فتجب له النار، يصلي، يصوم، وقد حجّ ثلاث حجج، وثلاث عشرة عمرة، وحَرَمَ البنات قبل أنْ يموت، تجب له النار، أين تذهبون؟ الناس يتحركون بأهوائهم لا بمنهج ربّهم، أي لا يقيمون قيمة لمنهج الله، إلله يقول لك: افعل ولا تفعل، فلان يحزن، أبي يلومني، أين معرفة الله عزَّ وجل؟ هذه الآية دقيقة جداً وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تترجم إلى سلوك، العمل الصالح، والعمل السيئ محاسب عليهما محاسبةً دقيقة:
المؤمن الصادق هو من لا ينسى اليوم الآخر أبداً:
إخواننا الكرام؛ لكن قد يعاقب الله بعض المسيئين في الدنيا عقاباً ردعياً لبقية المسيئين، لا تقل: فلان ماله حرام ولم يحدث له شيء، وقد يُكافِئ بعض المحسنين مكافأةً تشجيعيةً لبقية المحسنين، ولكن يوم القيامة هو اليوم الفصل الذي لابدَّ من أن يُحاسَب الإنسان فيه على كل أعماله:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ
إخواننا الكرام؛ المؤمن الصادق هو الذي لا يغيب عن ذهنه اليوم الآخر أبداً، أبداً، أبداً، اليوم الآخر، أن نقف بين يدي الله عزَّ وجل، لماذا تكلَّمت؟ لماذا ابتسمت ابتسامةً ساخرة؟ لماذا فعلت؟ لماذا لم تفعل؟ هكذا،
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله نتابع تفسير الآيات:
﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾
والحمد لله رب العالمين