- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (053)سورة النجم
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الأمية في حقّ النبي الكريم كمال له:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة النجم، ومع الآية الخامسة:
﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)﴾
أيْ النبي صلى الله عليه وسلم أميّ، والأمية في حقه كمال، وفي حقنا نقص، أميّ حُجِزَ عن ثقافة عصره، لم يطِّلع على ثقافة عصره؛ كان هناك ثقافة إغريقية، وهناك ثقافة يونانية، حُجب عن ثقافة عصره كي يكون كلامه كله وحياً من الله عزَّ وجل، لو أن النبي عليه الصلاة والسلام مُطَّلع على ثقافة عصره، وتكلم بعد نزول الوحي، لكان هناك سؤالٌ يُلقى عليه كل دقيقة: هل هذا الكلام من ثقافتك أم من وحي السماء؟ فالكمال في حقه صلى الله عليه وسلم أن يحجز عن ثقافة عصره فجعله الله أمياً.
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا
تعلُّم النبي الكريم عن طريق جبريل الذي علّمه الله:
الآية الكريمة: ما الذي حلّ محل أميته؟ أن الله جلَّ جلاله عن طريق جبريل علَّمه،
أي:
العلم الذي تعلمه النبي الكريم علم محكم لا خلل فيه:
﴿ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)﴾
علمُ رسول الله ما هو إلا وحيٌ من السماء:
الإنسان أحياناً يتباهى بأستاذه، يقول لك: أنا خريِّج الجامعة الفلانية، وقد علمنا البروفسور فلان، نوع من التباهي، يتباهى الإنسان بجامعته وبأستاذه، فإذا حُقّ للنبي صلى الله عليه وسلم أن يتباهى بعلمه فهو يتباهى بأن الله جلَّ جلاله هو الذي علمه، لذلك علمُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيٌ من السماء،
الفرق بين التشريع الإلهي والتشريع الأرضي:
لذلك الشرع الإسلامي أساسه وحي، والوحي أساسه من عند الله عزَّ وجل، من عند الخالق، فينبغي أن نعلم علم اليقين أن هناك فرقاً نوعياً بين كل تشريعات الأرض وبين تشريع الله عزَّ وجل، هذا شرع الخالق، وذاك شرع المخلوق، أي ممكن أن نُصدر قراراً نقول فيه: لأية امرأةٍ مطلقة الحق في نصف أملاك زوجها، ما الذي يحصل؟ يلغى الزواج كلياً، يعيش معها وينجب بلا زواج، هذا الشرط، في بعض البلاد العربية التي أرادت أن تقلِّد الغرب في الأحوال الشخصية أيضاً ألزمت الزوج إذا طلَّق زوجته أن يعطيها نصف ممتلكاته كلها، ما الذي حصل؟ أن الآباء يقدِّمون لخاطبي فتياتهم سندات أمانة بأرقام فلكية، تُبرزُ إذا طالبناك بنصف أملاكك، لأن سوق الزواج بارت.
في الصين أرادوا أن يلزموا كل أسرةٍ بمولودٍ واحد، ما الذي حصل؟ كانت الأسرة الصينية إن أنجبت بنتاً خنقتها، إلى أن تنجب المولود الذكر فتسجله، ولا زالوا كذلك حتى نشأت عصابات لخطف الفتيات اللاتي في سن الزواج، والآن يُقدر في عام ألفين أنّ هناك خمسين مليون صيني بلا امرأة، هذا تشريع الأرض، فينبغي أن نميِّز بين التشريع الإلهي الذي هو من عند الخبير، الذي خلق الإنسان، وبين التشريع الأرضي من الإنسان الذي لا يعلم، وإذا عَلِم يحابي نفسه.
الإنسان مهما علا ليس مؤهلاً أن يشرع:
الإنسان أي إنسان مهما علا ليس مؤهلاً أن يشرع، لأنه لا يخلو من جهلٍ، أو من محدوديةٍ، أو من هوىً، الذي يرضيه في تشريعه جهله أو هواه، وكلاهما يجعلان التشريع تشريعاً غير محكمٍ، وغير واقعي، وغير منصفٍ، فأنتم إذا قرأتم القرآن، وإذا قرأتم سنة النبي العدنان، أنتم مع وحي السماء، أنتم مع تشريع الخالق، أنتم مع المطلق، أي القرآن الكريم كلام الله، صحته مطلقة، ثبوته مطلق، خيريته مطلقة، عدالته مطلقة، رحمته مطلقة، لذلك قال بعض العلماء:
أنتم إذا قرأتم القرآن أو قرأتم سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام أنتم مع وحي السماء، أنتم مع كلام الخبير، لذلك لا يمكن أن تطيع الله في منهجه، وفي قرآنه، وفي سنة نبيه وتشعر بالندم، تقطف الثمار يانعةً، ثمار نفسية، اجتماعية، روحية، أخلاقية، صحية، جسمية، مالية:
(( عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كلام خالق الكون لا يأتيه الباطل أبداً:
بالتقريب أنت مع تعليمات الصانع، فإذا طَبَّقْتَ تعليمات الصانع عند صيانة آلةٍ وتشغيلها قطفت الثمار يانعةً، وأخذت منها أعلى مردود بأقل كلفة، فالإنسان إذا انطلق من حبه لذاته، من حرصه على سلامته، وسلامة وجوده، ينبغي أن يطيع الله عزَّ وجل، كلمة: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾ أنت إذا قرأت حديثاً شريفاً صحيحاً، أو قرأت تفسير آية، أنت مع المعلِّم الأول، أنت مع الخالق، قال تعالى:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
الفوز كل الفوز، والنجاح كل النجاح، والفلاح كل الفلاح، والتفوق كل التفوق في طاعة الله عزَّ وجل، أنت بمكتبة فيها ألف كتاب، فيها خمسة آلاف كتاب، فيها مليون كتاب، ينبغي أن تضع القرآن في كفة، هذا كلام خالق الكون الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكل الكتب الأُخرى هي كتبٌ من تأليف بشر، والبشر يصيبون ويخطئون.
السنة وحي إلهي:
ما من كتابٍ أُلِّف إلا وظهر فيه خللٌ بعد حين، هذا شيء ثابت، أما كتاب الله عزَّ وجل فقد مضى على نزوله ألفٌ وخمسمئة عام، وليس في العالم كله حقيقة تصدم آياته أبداً، لأنه كتاب خالق الكون، فلذلك أنت إذا اتبعت السنَّة أنت اتبعت وحي السماء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عن المقدام بن معدي كرب:
(( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ. ))
هي السنة.
﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ
لذلك كل إنسان يؤخذ منه ويرَدُّ عليه إلا صاحب هذه القُبَّةِ الخضراء، كل إنسانٍ يؤخذ منه ويرد عليه، أمةُ محمد صلى الله عليه وسلم معصومةٌ بمجموعها، لكن النبي صلى الله عليه وسلم معصومٌ بمفرده، كلمة (وحي) كلمة كبيرة جداً، خالق الكون يوحي إلى رسول الله، ونحن نأخذ هذا الوحي عن رسول الله.
أوامر خالق الكون على كل إنسان أن يتبعها:
لو فرضنا عندك جهاز بالغ التعقيد، جهاز حاسوب من أعلى مستوى، وإلى جانب بيتك عشرون محلاً تجارياً، بائع خضار، بائع أقمشة، كل هؤلاء على أخلاقهم الرَضِيَّة ليسوا مُؤَهَّلين أن يصونوا لك هذا الجهاز، إلا أن يأتي مندوب الشركة، هو الخبير، لذلك قال تعالى:
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ
أنت مع شيء نوعي، أنت إذا قرأت القرآن ورأيت فيه توجيهاً، أو حكماً، أو أمراً، أو نهياً، أمراً بغض البصر، أمراً بأداء الأمانة، أمراً بالتوكل على الله، أمراً بالنظافة، هذه أوامر خالق الكون.
تعليم الله عز وجل الرسول الكريم عن طريق جبريل:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)﴾
الآن إذا فسرنا أن الذي علَّمه شديد القوى هو الله عزَّ وجل، فاستوى بمعنى استوى على العرش، والاستواء معلوم والكيف مجهول، أما إذا فسرنا أن الذي علمه شديد القوى هو جبريل عليه السلام ﴿ذُو مِرَّةٍ﴾ أي ذو علمٍ محكم، ذو علمٍ متين
اقتراب جبريل من النبي الكريم في البداية بصورته الحقيقية:
﴿ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)﴾
جبريل عليه السلام بصورته الحقيقية التي تملأ أفق السماء شرقاً وغرباً، ثم دنا من محمد عليه السلام شيئاً فشيئاً فشيئاً ثم تدلى له حتى كان على شكل دُحية الكلبي وهو من أحبّ الناس إلى النبي عليه والصلاة والسلام، ومن أجملهم صورة،
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)﴾
العرب كانوا إذا اصطلحوا يجعلون القَوسين قوساً واحداً ويرمون بهما معاً رمحاً واحداً، فالقوسان هنا تلامسا حتى اتحدا وصارا شيئاً واحداً.
نزول جبريل بصورة دحية الكلبي كان بداية الوحي:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)﴾
كأن هذه الآيات ترينا بداية الوحي، أي هذا القرآن من وحي السماء، من عند خالق الأكوان، من عند مدبِّر الأرض والسماوات.
آفاق الأنبياء مقدسة وهدفها إسعاد البشر:
أما إذا فَسَّرنا أن الذي علمه شديد القوى هو الله جلَّ جلاله،
سؤال كل إنسان نفسه في أي أفق هو؟
كل إنسان منا له أفق، فلان أفقه لا يتمنى على الله إلا أن يتزوج فقط، فإذا تزوج وصل إلى كل أهدافه، إنسان هدفه أكبر من الزواج، يتمنى على الله أن يصل إليه، أن يتعرف إليه، أن يكون جندياً للحق، أن يكون في خدمة الخلق، يتمنى على الله أن يكون داعيةً إلى الله، هادياً مهدياً، يتمنى على الله أن يقدِّر على يديه كل خير، فلذلك كل إنسان له أفق، فالسؤال الآن: أنت في أي أفق؟ الإنسان حينما يصحو صباحاً على أي شيءٍ يصحو؟
لذلك على الإنسان أنْ يتأمل في أي أفقٍ يعيش، يعيش في أُفق إصلاح ذات البين؟ يعيش في معرفة الله؟ يعيش في العمل الصالح؟ يعيش في فهم كتاب الله؟ يعيش في فهم حديث رسول الله؟ يعيش في فهم سيرة رسول الله؟ يعيش ليخدم الخلق؟ يعيش ليهدي الخلق إلى الله عزَّ وجل؟ هذا أفق، وهناك إنسان آخر يعيش ليأكل، يعيش ليتزوج، يعيش ليشتري بيتاً، يعيش ليستمتع بالحياة، يعيش ليسافر، فكل إنسان له أفق، وهناك من الناس مَنْ يعيش ليؤذي الناس، ليأكل أموالهم بالباطل، ليوقع فيهم الرعب، يعيش ليتلذذ بإيقاع الأذى بالآخرين، هذا مستوى أيضاً، هذا المستوى تحت الأرض.
اقتراب الإنسان من الله بالعمل الصالح:
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ
النبي الكريم بالأفق الأعلى لأن همه هداية الخلق:
العمل الصالح يرفع الإنسان، فالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بالأفق الأعلى، لأن همومه مقدسة، همومه تزيد عن حاجاته، الإنسان أحياناً قد تكون همومه مطابقة لحاجاته، فإذا حُقِّقَت حاجاته انتهت همومه، أما الأنبياء والمرسلون فهمومهم تفوق كل حاجاتهم، تفوق كل متطلباتهم، همومهم هداية الخلق، لذلك: عن أنس بن مالك:
(( لو تعلمون ما أعلم ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. ))
(( عن أبي الدرداء: إنَّ اللهَ يحبُّ كلَّ قلبٍ حزينٍ. ))
أي حزنٍ هذا؟ الحزن المقدس، تنظر إلى الناس تراهم ضائعين، تائهين، شاردين، بيوتهم جحيم، أعمالهم ربوية، مالهم حرام، ملاهيهم تجعلهم في الوحول، هذا الذي يسهر إلى الفجر وراء أجهزة اللهو الفضائية، في أي مكان هو؟ في قنوات المجاري لا في قنوات الفضاء، في أي مستوى يعيش؟ هذا الذي يطلِّق امرأته بعد ثلاثين عاماً لأنها لا تروق له بالموازنة مع ما يراه في هذه المحطات الفضائية، أي إنسانٍ هذا؟ في أي دركٍ يعيش؟ في أيِّ قنوات المجاري يعيش؟ لذلك:
نزول الوحي عن طريق جبريل عليه السلام:
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)﴾
أي لكم أن تفهموا هذه الآيات على نحوين؛ إن فهمناها مع جمهور العلماء على أنه جبريل عليه السلام:
اجتماع العلم والقوة في الخالق سبحانه:
علمه الله جلَّ جلاله:
استواء المعاني المقدسة في صدر النبي الكريم:
اقتراب الإنسان من الله إذا كان بالأفق الأعلى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
والسماء تمثل المَكْرُمات.
مطابقة رؤيا قلب النبي لرؤية عينه:
﴿ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى(11)﴾
هناك تطابق بين رؤيا القلب ورؤية العين، أحياناً ترى بعينك شيئاً لا تصدقه، القلب يُنكر عليك ذلك، بعض السحرة المهرة ترى شيئاً بعينك لكن قلبك لا يصدقه، لكن هنا:
﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)﴾
وهذه مشكلة كل مؤمنٍ في آخر الزمان، هو يرى أن الله هو كلُّ شيء، يرى أن الدين هو كل شيء، يرى أن طاعة الله هي كل شيء، يرى أن المعصية هلاك، يرى أن الانحراف عن الطريق الصحيح شقاء، يرى أن الكسب الحرام متلفةٌ للمال، يرى أن أشقى الأشقياء من عصى رب الأرباب، هذه رؤيته، حوله أناسٌ يرون غير هذه الرؤية، يرون الدنيا كل شيء، المال كل شيء، الشهوات هي كل شيء.
العبرة في النهاية نجاة الإنسان من عذاب الله الأبدي:
دائماً يوجد مشادة بين أهل الإيمان وبين أهل الإعراض، أنت إما أن تُقبل وإما أن تُعرض، إما أن تستقيم وإما أن تنحرف، إما أن تُخْلِص وإما أن تخون، إما أن ترقى وإما أن تسفل، إما أن تنصف وإما أن تجحد، فلذلك:
﴿ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)﴾
أنت لست مجنوناً، أنت عاقل، والحقيقةُ أنّ العبرة في النهاية، العبرة في العاقبة، العبرة من يضحك أخيراً، العبرة حينما يأتي الموت ويرى المؤمن أنه قد نجا من عذابٍ أبدي، عندئذٍ يصيح ويقول: لم أرَ شراً قط.
لقاء الله عز وجل أسعد لحظات المؤمن:
إخوانا الكرام: ورد في الأحاديث:
(( عن عبد الله بن عمر:
وأن الموت عرس المؤمن، وأن المؤمن في أسعد لحظات حياته حينما يلقى الله عزَّ وجل، لماذا؟ لأنه لا يعرف حقيقة فوزه وحقيقة نجاحه إلا عندما يرى مقامه في الجنة، هو في الدنيا مع الناس، قد لا يتميز عنهم كثيراً، يأكل كما يأكلون، ويشرب كما يشربون، ويلعبون، ويتنزَّهون، ويتزوجون، ويطلقون، ويتاجرون، ويكسبون المال، والناس كلهم كذلك، لكن المؤمن ينفرد من بين هؤلاء بطاعة الله، وقصد مرضاته، فإذا جاء الموت فرز الناس، طبعاً:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)﴾
ابتعدوا عنهم، حقيقة الفوز لا يعلمها الإنسان إلا حينما يلقى الواحد الديان.
رؤية النبي الكريم لجبريل عليه السلام مرة أخرى في رحلة المعراج:
﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)﴾
النبي عليه الصلاة والسلام رأى جبريل مرةً أخرى
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)﴾
﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)﴾
حقيقة الجنة القرب من الله عزَّ وجل.
السلامة والسعادة مطلبان لكل إنسان لا يتحققان إلا بالقرب من الله:
إخواننا الكرام؛ حقيقة أقولها لكم متواضعة: إذا اعتقدت لثانيةٍ واحدة أن شيئاً في الأرض مهما كبر ومهما علا يمكن أن يسعدك فأنت جاهل، لا تسعد إلا بالله، شيء في الأرض؛ المال الوفير، الصحة القوية، الجمال الفَتَّان، المنصب الرفيع، القصر المنيف، المركبة الفارهة، العز التليد، إذا اعتقدت أن شيئاً في الأرض مهما علا يمكن أن يسعدك سعادةً متناميةً فأنت واهم، لا تسعد إلا بالله،
الاستقامة والعمل الصالح أساسهما معرفة الله:
طالب المدرسة، الطالب الجامعي، ما هو أجلّ عمل في حياته؟ أن يحضر محاضرة الأستاذ، وأن يقرأ البحث، ويؤدي الامتحان، أما لون قميصه فليس له علاقة باختصاصه، مكان بيته، نوع الطعام الذي أكله، هذه أشياء كلها ثانوية، الشيء الأساسي أن يحضر الدرس، وأن يستوعب، وأن يقرأ فيفهم، وأن يؤدي الامتحان فينجح، هذا أهم ما في الجامعة، وما سوى ذلك؛ ألوان الألبسة، ألوان الأطعمة، مواقع البيوت، نوع القلم، يا ترى قلم سيَّال؟ قلم حبر؟ قلم جاف؟ أشياء كلها لا تقدم ولا تؤخر، وفي التجارة أهم شيء الربح، إن لم تربح فلست تاجراً، الإنسان حينما يأتي إلى الدنيا أخطر شيءٍ في حياته أن يعرف الله، لذلك: طلب العلم فريضة على كل مسلم، إن عرفته وعرفت أمره ونهيه، وطبَّقت أمره ونهيه، سعدت بقربه في الدنيا والآخرة، هذا ملخص الملخص.
رحمة الله محيطة بالنبي الكريم من كل جانب:
﴿ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)﴾
طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام جاءه من الله عزَّ وجل من الرحمات ما لا يوصف، الشيء العجيب أن هذا النبي الكريم لو أتيح لواحدٍ منا -وهذا من الحلم-أن يلتقي به حينما كان حياً شيء لا يُصدق، يوجد أنوار من الله، يوجد رحمات من الله، يوجد قوة تأثير، يوجد سعادة لا توصف، كان أحد أصحابه سيدنا ربيعة يخدمه، فإذا أَذِن له النبيُّ أن ينصرف لا ينصرف، يبقى على عتبة البيت إلى صلاة الفجر، فبماذا يشعر؟ وهو ينام على عتبة البيت من الخارج بماذا يشعر؟ شيء لا يوصف، هذا أثر من آثار القرب من رسول الله، قريب من الله، إذا كان الإنسان قريباً من الله يسْعَد، موصول بمصدر النور، بمصدر السكينة، بمصدر الطمأنينة، بمصدر الإشراق، بمصدر الكمال، تجد المؤمن الموصول كامل، عفيفَ اللسان، عفيف اليد، حيياً، كريماً، شجاعاً، ذا مروءة، منصفاً، هذه الصفات الإنسانية العالية مع الوجهة إلى الله التامة، مع السكينة التي في قلب الإنسان، هذه تجذب الناس، فمؤمن صغير صغير صغير في آخر الزمان إذا نظرت إليه ذكرت الله عزَّ وجل، أولياء أمتي إذا رؤوا ذُكر الله بهم، إذا نظرت إليه ذكرت الله، إذا نظرت إليه اطمأن قلبك، ارتاح قلبك، اطمأنت نفسك، ما عند هذا المؤمن الصغير مما عند النبي الكريم عليه أتمّ الصلاة والتسليم؟!
تجلي الله على قلب المؤمن بالرحمة والمودة:
لذلك:
(( عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَوَعَظَنَا، فَذَكَّرَ النَّارَ، قالَ: ثُمَّ جِئْتُ إلى البَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلَاعَبْتُ المَرْأَةَ، قالَ:
في الجنة.
علامة إخلاص المؤمن ارتياد المساجد وهو في كامل فرحته:
إخواننا الكرام؛ علامة إخلاصك، وعلامة صدقك، وعلامة محبتك أنك إذا دخلت المسجد فأنت في الجنة، هذا بيت الله، وأنت في ضيافة الله، هذا بيت الله وأنت لم تأت إلى فلان أو علان أبداً، أنت لم تأت إليه، أتيت إلى بيت الله عزَّ وجل، والله هو الذي يكرمك، فإنسان ترك بيته، ترك المقعد الوثير، ترك الطعام الطيِّب، ترك الجلوس مع أهله وأولاده، وركب مركبة، أول مركبة، وقد يكون ركب مركبتين إلى أن وصل إلى بيت الله، أفلا يجد شيئًا؟ معقول؟ ألا يجد شيئًا أبداً؟!! هل تجد بيتًا تدخل إليه ولا يقدم لك فنجان قهوة أو سكرة أو كأس ماء؟! إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوَّارها هم عمّارها، فطوبى لعبدٍ تطهر في بيته ثم زارني، وحُقَّ على المزور أن يكرم الزائر.
وأنت في بيت الله في ضيافة الله، أنت في رحمات الله، فلذلك قال حنظلة:
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يُحَدِّثُ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ قَالَ: جَاءَهُ ثَلاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ نَائمٌ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، وَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ، فَكَانَتْ تِلْكَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتَّى جَاءُوا لَيْلَةً أُخْرَى فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَالنَّبِيُّ نَائمَةٌ عَيْنَاهُ وَلا يَنَامُ قَلْبُهُ،
أساس الدين الإسلامي الصلة بالله عز وجل:
الأنبياء في اتصال مستمر، لكن المؤمنين على قدر إيمانهم يكون فتورهم، المؤمن لا يوجد عنده حال معصية وطاعة، انتبهوا، إياكم أن تفهموا هذا، لا يوجد عنده طاعة ومعصية، عنده إقبال وفتور، كلما اتسع وقت إقباله ارتقت مرتبته، وكلما قلَّ وقت فتوره ارتقت مرتبته، أما إذا اتسع وقت فتوره وقَلَّ وقت إقباله هبطت مرتبته، قال لهما:
أنا من أنصار التعلم، من أنصار التفقه في الدين، لكن دين، علم وفقه من دون حال، من دون اتصال بالله عزَّ وجل، من دون ذكر، من دون أن يعمر القلب بذكر الله، يصبح الدين ثقافةً، والحركات التعبُّدية تصبح طقوساً، فلماذا يتراجع المسلمون؟ لأنهم فرغوه من مضمونه الأساسي، أساس الدين هذه الصلة بالله.
الصلاة هي أول ما يُحاسب العبد عليه يوم القيامة:
﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ
الصلاة ذكر..
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
الدين كله صلاة، وأول ما يحاسب العبد يوم القيامة عن صلاته، فجوهر الدين هذا الاتصال، أما المعلومات مفيدة، لكنها ثقافة، والحركات والسكنات طقوس، أما إذا كان هناك استقامة، وكان هناك اتصال بالله عزَّ وجل، صار عندك حال، صار عندك سكينة، طمأنينة، صار عندك نور يشع منك، هذا يسمى: قوة التأثير، لذلك: ما أخلص عبدٌ لله عزَّ وجل إلا وجعل قلوب المؤمنين تهفو إليه بالمودة والرحمة.
أساس الصلاة طاعة الله عز وجل:
الأدب والثبات وقوة الشخصية صفات امتاز بها النبي الكريم:
﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17)﴾
زاغ: نظر يمنةً أو يسرة، طغى: نظر إلى ما لا يحق له أن ينظر، فكان في أعلى درجات الأدب والثبات، أحياناً الإنسان يجمع بين الأدب والثبات، بين قوة الشخصية والأدب.
سيدنا عمر كان يمشي في الطريق رأى غلماناً، لما رأوه كان صاحب هيبة شديدة تفرقوا، إلا واحداً منهم بقي واقفًا بأدب، لما وصل إليه قال:
(( عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ، ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا،
نحن إذا سمعنا الأذان، في بعض البلاد بعد الأذان يقرؤون، نحن قبل الصلاة:
(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ:
هذا الدعاء أساسه أن النبي الكريم قال:
إطلاع الله عز وجل النبي الكريم على كل شيء:
لذلك:
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾
قيل: إن الله سبحانه وتعالى أطلعه على كل شيء، حتى على نهاية العالم، حتى على أهل الجنة وأهل النار، أي الذي نؤمن به نحن بالخبر الصادق رآه النبيُّ رأيَ العين، لذلك النبي وحده إذا حدثنا عن اليوم الآخر، وعن نعيم أهل الجنة، وعن عذاب أهل النار، وحده حديثه عن رؤيةٍ وشهود لا عن تصديقٍ وإقرار، نحن نؤمن بالجنة والنار والصراط المستقيم، والسؤال، والحساب، والعذاب، والثواب، والعقاب، نؤمن به مصدقين لأن هذا ورد في كتاب الله الكريم، أما النبي:
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه:
النبي رأى رأي العين من يُعذَّب في النار، رأى المرابين، رأى الزناة، رأى المنحرفين، رأى آكلي أموال الناس بالباطل، رأى آكلي أموال اليتامى، كل هذا رآه رأي العين، أي رأى ملكوت السماوات والأرض:
﴿
رأى ملكوت السماوات والأرض في أعلى درجة.
عطاء الله للإنسان لا يتناهى:
﴿ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)﴾
فالإنسان على قدر استقامته، على قدر إخلاصه، على قدر معرفته ينال من هذا العطاء الذي لا يتناهى، والشقي كل الشقي هو الذي غابت عنه هذه الحقائق وعاش في أوحالٍ المادة، لذلك من الأدعية المأثورة:
الثمار اليانعة التي يقطفها المسلم من الإقبال على الله:
أحياناً يكون البيتُ قطعةً من الجنة، فيه صلاة، فيه ذكر، فيه تلاوة قرآن، فيه دعوة إلى الله، فيه سهرة اجتمعوا عليه وتفرقوا عليه، فيه بذل الطعام للفقراء، فيه خدمة، فيه جو مقدس، وقد تجد بيتاً فيه قنوات لا يعلمها إلا الله، يقول لك: عندي ثمان وسبعون قناة، يتباهى بها، هذا بيت آخر، أهلُه في الوحول غارقون، لأن الشيء استشرى وكبر جداً، والآن يوجد حالات الطلاق كثيرة من وراء هذه الأجهزة، حالات انحراف مادي خطير، حالات انحلال، فالمؤمن يعيش في جنات القربات، يطلب من الله أن ينجيه من وحول الشهوات إلى جنَّات القربات.
على كل في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نتابع هذه الآيات، أنا لا أريد إلا أن أضع أمامكم كل التفسيرات، إنْ فسّرت:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين