- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (030)سورة الروم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس الثاني عشر من سورة الروم.
أي طريقٍ يفضي إلى الله عزَّ وجل هو وسيلةٌ إليه:
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ(42)﴾
أيها الإخوة قالوا:
﴿
فأي طريقٍ يفضي إلى الله عزَّ وجل هو وسيلةٌ إليه، من هذه الطرق:
ليس في الأرض من فساد إلا إذا تحرَّك الإنسان بغير منهج الله عزَّ وجل:
الدين يعبر عن وحدة الوجود، ليس هناك تناقض، ليس هناك تنافر، الفساد في جوهره أساسه أن يَتَحَرَّكَ الإنسان حركةً اختياريةً بغير منهج الله عزَّ وجل، فحينما صُمِّمت هذه المركبة، في أصل التصميم صُمِّمت لتنقلك إلى مكانٍ تحبه أنت وأهلك، أما حينما تتدهور، وتصبح عبئاً على صاحبها، ويُصاب أصحابها بالعطب والعطل، فلأنهم أساؤوا استخدامها، ليس في الأرض من فساد إلا إذا تحرَّك الإنسان بغير منهج الله عزَّ وجل، هذا معنى قوله تعالى:
﴿
أنت إذا قرأت في القرآن آيةً، هذه الآية أعطت حكماً، قررت حقيقةً، بيَّنت اتجاهاً، دلَّت على شيء، حرَّمت شيئاً، أحلت شيئاً، وعدت، أوعدت، وضحت، حذرت، أنذرت، أية آية ما الذي يؤكدها؟ الواقع، أيّ آية قرآنية تُلقي حكماً، تبيّن بياناً، تحذّر تحذيراً، تعد وعداً، توعِد وعيداً، تقرر حقيقةً، تحَذِّر من شيء، تُرَغِّب في شيء، ما الذي يؤكده كله؟ الواقع:
﴿
ابحث، تأمَّل، الإنسان عليه أن يتأمل الحوادث، وأن يتفكر في الكون، وأن يتدبَّر القرآن، إن تدبرت القرآن أوصلك إلى الله، وإن تأملت الحوادث أوصلتك إلى الله، وإن تأملت في الأكوان أوصلتك إلى الله عزَّ وجل، الكون وَحْدَة، وحياتك أيها الإنسان الكريم وَحْدَة، لا يوجد شيء لك، شيء لربك، هذه للدنيا، هذه للآخرة، المؤمن له منهج، يجب أن يكون متوازناً، يجب أن يُعطي كل ذي حقٍ حقه، إن لأهله عليه حقاً، إن لأولاده عليه حقاً، إن لعمله عليه حقاً، إن لإخوانه عليه حقاً، إن لربه عليه حقاً، إن لجسده عليه حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه، وربنا عزَّ وجل يقول:
تستطيع من خلال ما يجري معك أن تستنبط حقك:
ربنا عزَّ وجل عندما قال:
﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ
هذه آية ومعناها واضح، ولا تحتاج إلى تفسير، ألم يمر معك أنك أنفقت مبلغاً من المال والله عزَّ وجل عوضه عليك أضعافاً مضاعفة؟! هذا الواقع الذي يؤيِّد هذه الآية، يؤكدها، يبرهن عليها، فأنت ما عليك إلا أن تسير في الأرض، انظر إلى المُخْلِص كيف أن الله يتولَّاه، انظر إلى غير المخلص كيف أن الله يخزيه، انظر لمن جمع مالاً من حلال كيف أن الله ينميه له، انظر إلى من جمع مالاً من حرام كيف أن الله يتلفه معه، انظر لمن تزوج فتاةً يبتغي بها وجه الله كيف أن الله سبحانه وتعالى يلقي الحب والودَّ بينهما، انظر إلى من تزوج فتاة على نيةٍ لا ترضي الله عزَّ وجل، كيف أن الله عز وجل يوقع بينهما العداوة والبغضاء.
تستطيع من خلال ما يجري معك، من خلال ما يجري مع أقرب الناس إليك، مع جيرانك، مع إخوانك، مع الأقربين، مع الأبعدين أن تستنبط حقك.
الأمور بخواتيمها حينما نلقى الله عز وجل:
ربنا عزَّ وجل يقول:
الإنسان لا يخضع بعقله إلا للحقيقة ولا بنفسه إلا للكمال:
هؤلاء الذين عارضوا النبي عليه الصلاة والسلام ما مصيرهم؟ وهؤلاء الذين نصروه ما مصيرهم؟ هؤلاء الذين وقفوا مع الحق ماذا كانت عاقبتهم؟ وهؤلاء الذين عارضوا الحق ماذا كانت عاقبتهم؟
﴿
سُمِّيَ الدين ديناً؛ لأن العقل المطلق يدين إليه، لأن النفس البريئة ذات الفطرة العالية تخضع له، الإنسان لا يخضع بعقله إلا للحقيقة، ولا بنفسه إلا للكمال، هكذا فطرته، وهذا عقله، عقله مركبٌ من مبادئ، وفطرته مركبة من قيَم، فالبشر جميعاً يحبون الخير، يحبون الإحسان، يحبون الإنصاف، يحبون العدل، فخذ هذه القاعدة: عقلك لا يخضع إلا للحقيقة، وفطرتك لا تخضع إلا للكمال، فإذا جمع الدين بين الحقيقة والكمال لا بد من أن تخضع له إذا كنت حراً، إن لم تكن لك أهواء، إن لم تكن لك مصالح، إن لم تكن لك مطامح، إن لم تكن لك انحرافات، إن لم تكن لك شهوات تقيم عليها، إن كنت حراً في عقلك، وحراً في نفسك تخضع للدين، وما سُمِّيَ الدين ديناً إلا لأن النفس الكريمة الحرة تدين إليه، وتخضع إليه.
الإنسان إذا اتجه إلى الدين شعر بإنسانيته:
تأمَّل أوامر الله عزَّ وجل، تأمل توجيه الله تعالى للأبناء تجاه أمهاتهم وآبائهم، أليس هذا التوجيه سديداً حكيماً يجعل الأسرة متماسكةً:
﴿
وقال:
﴿
راقب توجيه الله للإنسان في تعامله مع أمه وأبيه، في تعامله مع إخوته، في تعامله مع شركائه، في تعامله مع جيرانه، في تعامله مع من هم دونه، مع من هم فوقه، التوجيه عقلاني، والتوجيه كامل، ندعوك لا إلى شيءٍ ينقضي بالموت، لا إلى جهةٍ أرضيةٍ لها مصالح، ندعوك إلى الله عزَّ وجل، إلى خالق السماوات والأرض، وهذا منهجه، ما دام الله عزَّ وجل ذا أسماءٍ حسنى وصفاتٍ فضلى، إذاً يجب أن يكون كلامه متوافقاً مع أسمائه الحسنى، حقٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حقيقةٌ لا تشوبها شائبة، قطعيٌ في ثبوته، قطعيٌ في مدلولاته، قطعيٌ في خيره، هكذا:
لو ألغيت الدين تصبح حياة الإنسان عبثاً لا جدوى منها:
من دون دين ينشأ عندك مليون سؤال: لماذا فلان قوي وفلان ضعيف؟ لماذا فلان غني وفلان فقير؟ لماذا فلان صحيح وفلان مريض؟ لماذا فلان وسيم وفلان دميم؟ ولماذا فلان مُعَمِّر وهذا مات في السابعة من عمره؟ لولا أن الله عزَّ وجل أنزل هذا القرآن، وبيّن فيه كل شيء لظهرت عندك مشكلاتٌ كثيرة، أسئلة كثيرة جداً، الإنسان فيلسوف بفطرته، فما معنى هذه الحياة؟ أربعون عاماً كي نسكن في بيت، ونعمل عملاً متواضعاً، ونكسب قوت يومنا، ويأتي ملك الموت في الستين، في الأربعين، في الخمسين، في الثالثة والخمسين، أهكذا الحياة بلا هدف؟ لو ألغيت الدين تصبح حياة الإنسان عبثاً لا جدوى منها، حياة سخيفة، حياة تافهة، حياة مفتقرة إلى المضمون، شكل بلا مضمون، لذلك ربنا قال: ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ هو الذي يجعلك قيِّماً، الإنسان قيِّم أي ثمين، الإنسان حياته غالية، وهذا الفكر أعظم شيء خلق في الكون.
هذا الفكر، أيليق بالإنسان أن يستخدمه لأغراض تافهة، لجمع المال فقط، للإيقاع بين الناس، لإضحاك الناس، لدغدغة عواطفهم الخسيسة، للعلو في الأرض، أهكذا؟ أم أن هذا الفكر أعطاك الله إياه كي تعرفه؟ فالإنسان إذا عرف الله تقدست نفسه، ومعنى تقدست أي أصبحت كاملة.
إذا اتجه الإنسان إلى الدنيا أصبح صغيراً عند الله عزَّ وجل، قال:
﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ
قال:
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
وقال:
الإنسان العاقل لا يصل فجأةً إلى يومٍ مع الله لا مرد له:
كإنسان ارتكب جريمة، وحوكم، والحكم صدر بإعدامه، والحكم صُدِّق، وسيق للتنفيذ، فالآن لا توجد وسائط، يترجى، يتوسَّل، يقدم اعتذار، يقدم مذكرة إلى القاضي، يبيِّن، يوضح، انتهى الأمر، هذا اليوم حينما يصعد الرجل ليُشنَق لا مرد له، فهذا من باب التقريب، والإنسان العاقل لا يصل فجأةً إلى يومٍ مع الله لا مرد له، هذا اليوم الذي لا مرد له هو يوم القيامة، أو ساعة الموت.
العلم لا يعطيك بعضه إلا إذ أعطيته كُلَّكَ:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
قال:
لن تقف في وجه الشهوات إلا قناعات كبرى:
قلت مرةً أن الله عزَّ وجل أودع في الإنسان بعض الشهوات، هذه قِوى، قوى محركة، لن تستطيع قناعاتٌ طفيفةٌ، بعض خطبٍ حضرتها في حياتك، بعض دروس الدين استمعت إليها من أستاذك في المدرسة، هذه القناعات الخفيفة الباهتة، هذه القناعات، هذه المعلومات الضئيلة، هذه النُّتَف اليسيرة لن تستطيع أن تقف في وجه الشهوات، أما لن تقف في وجه الشهوات إلا قناعاتٌ كبرى، فلو أن إنساناً لم يطلب العلم، ولكن عرضاً من خلال بعض الخُطَب وبعض الدروس عنده فكرة باهتة عن الدين، هذه الفكرة الباهتة، الفكرة اليسيرة لا تقف أمام شهواته، أمام امرأةٍ تخطر في الطريق أمامه، كيف يغضُّ بصره عنها، يملأ منها عينيه، هذا المال الذي يتراقص أمامه كيف يتركه في سبيل الله؟ يأكله بفمه ويديه ورجليه، هذه الشهوات التي أودعها الله في الإنسان، لا تستطيع معلوماتٌ طفيفة، ولا دروسٌ قليلة، ولا قناعاتٌ يسيرة أن تقف في وجهها، لو أن لها وزناً كما لو قيل، إذا كان وزن شهواتك خمسة كيلوات، خمسة غرامات من قناعاتك لا تكفي كي تنضبط، لا بد من درسٍ بعد درسٍ، وخطبةٍ بعد خطبة، ولقاءٍ بعد لقاءٍ، وسؤالٍ بعد سؤال، واستيضاحٍ بعد استيضاحٍ، وتساؤلٍ بعد تساؤلٍ، وبحث بعد بحث، وقراءة بعد قراءة، لا بد من أن تقرأ القرآن كله، وأن تقف عند حلاله وحرامه، لا بد من أن تتأكد لماذا أنت في الدنيا؟ ماذا بعد الموت؟ كلما نَمَت قناعاتك عندئذٍ تقول: لا أفعل، أول مرةٍ تقول: لا أفعل خوفاً من الله عزَّ وجل، معنى ذلك بدأت قناعاتك تكافئ شهواتك، أما إذا كانت قناعاتك تزيد عن شهواتك بآلاف الأضعاف، تقف موقف سحرة فرعون، قال:
﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ(49)﴾
والآية معروفة ردوا عليه قال:
﴿ قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)﴾
المؤمن يجهد أن لا يبقى على الحرف بل يبقى في الأعماق:
الخلاصة إن كانت شهواتك أقوى من قناعاتك فالإنسان لا بد من أن يعصي الله، وإذا كانت قناعاتك تكافئ شهواتك تقع في الصراع المرير، أما إذا كانت قناعاتك أكبر بكثير مما عندك من شهوات تقف مواقف بطولية بلا صراع، بلا مُكابدة، بلا تَمَزُّق، هذا الحق، ربنا لم يقل عن النبي الكريم: وإنه ذو خلقٍ عظيم، لا، بل قال:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
أي متملّك لناصية نفسه، أي أنه إذا وقف موقفاً حليماً، ليس عن صراعٍ، وعن سؤالٍ وجواب، وعن أخذٍ ورد، لا، النبي عليه الصلاة والسلام متمكن من أخلاقه، لأن قناعاته وقربه من الله وكماله شديد جداً، فأي شيءٍ مهما استفزَّه لا يخرجه عن حلمه، ينبغي أن تكون في الأعماق، فلو وقف إنسان على ساحل على البحر، لو جاءت موجةٌ عاتية ترديه في البحر، فإذا كان أبعد قليلاً احتمال أن تأتي موجة وتأخذه إلى البحر أقل، كلما اقترب في الأعماق كان في مأْمَن، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
المؤمن ليجهد أن لا يبقى على الطرف، على الحرف، على موطن خطر، أن يبقى في الأعماق.
على الإنسان أن يحاسب نفسه عن كل صغيرة وكبيرة:
شيء آخر، ذكرت البارحة مثلاً: ممكن أن تكون المعاصي على شكل كرات، هذه الكرات تكبر كلما كبرت المعصية، وازداد إثم صاحبها، وتكون ذا ضرر أكبر إذا كان حجمها أكبر، طبعاً أن ينظر الإنسان إلى امرأةٍ لا تحل له هذه معصية، الزنا أيضاً معصية، ولكن هذا شيء وهذه شيء، ويمكن أن نشبِّه استقامة الإنسان بالمُنْخُل، فكلما صغرت عين هذا المنخل ـ إن صح التعبير ـ كلما حجز أكبر عدد من المعاصي، وكلما كبرت هذه العين سَرَّبَ المعاصي، هناك منخل ينخل الدقيق عن السميد مثلاً ـ ناعم جداً ـ إلى أن يحاسب الإنسان نفسه عن كل صغيرةٍ وكبيرة، فلذلك عودة إلى الآية الكريمة
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8)﴾
الإنسان أحياناً الله عزَّ وجل يتوفاه وعنده خمسة أو ستة أولاد، فأحدهم يذهب إلى المقبرة ليشتري قبراً، والثاني يحضر صانع القهوة، والثالث إلى مكتب دفن الموتى، والرابع إلى المطعم لإحضار الطعام، فهكذا العادة، أما الأكل خلاف السنة، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ أَوْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ ))
السُّنة أن يُقدَّم الطعام لأهل الميت، لا أن يصنعه أهل الميت وهم في مصابهم، على كلٍ حينما يبدأ حفار القبر بحفر القبر نتذكر أنه كان في بيتٍ فخم، وكان في عزٍ وسلطان، وكان في نعمةٍ فارهةٍ، وكان ذو شأن كبير، وكان يأكل ما لذ وطاب، وينام على أفخر الأسِرَّة، ويلتقي بأحب الناس إليه، له زوجةٌ تروق له، وله أولاد، وله أموال.
الإنسان إذا دخل في جماعة له ميزات هذه الميزات يفقدها كلها عند الموت:
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)﴾
البطولة أن نسعى لهذا اليوم. أما في الدنيا نقول: فلان منا، فلان من جماعتنا، فلان هناك من يدافع عنه، من يدفع له الكفالة، ويخرج بسند كفالة، من يتوسَّط له، حياتنا الدنيا قائمة على التجَمُّعات، هناك تجمعات منوَّعة، فالإنسان إذا دخل في جماعة له ميزات، فهذه الميزات يفقدها كلها عند الموت:
إذا انطلق الإنسان من حبّ ذاته عليه أن يعمل الصالحات:
الآن يقول الله عزَّ وجل:
﴿
انظر إلى كلمة (على)، على تعني الفوقية، تصوّر إنساناً يضع أثقالاً فوقه، هذه الأثقال سوف تضغط عليه، كل أعماله السيئة عليه، كأنها أوزان موضوعةٌ فوق رأسه، لو إنسان سيهبط عليه طبقٌ من حديد، فكلما أوسقه بالأثقال سيدفع الثمن هو، لو بقي طبقاً من دون وزن بإمكانه أن يدفعه، بإمكانه أن يوقف نزوله عليه، أما إذا ملأه أثقالاً
التصور من خصائص الإنسان:
من يحب أن تتوقف كليتاه عن العمل؟ هل تجد بالمخلوقات كلها أحداً يحب ذلك؟ لا والله، من يحب أن يصاب قلبه؟ من يحب أن يصاب جسمه؟ أن يفقد سمعه؟ أن يفقد بصره؟ أن يكون فقيراً؟ أن يكون ذليلاً؟ أن يكون مقهوراً؟ أن يكون شريداً ضائعاً مهاناً، من يحب؟ ما من واحد منا ومن غيرنا ومن أهل الأرض إلا ويحب السلامة، ويحب البقاء، أن يعمّر طويلاً، ويحب كمال وجوده أن يكون غنياً، وأن يكون في بحبوحة، وأن يكون عزيزاً مكرماً معززاً مبجلاً وهكذا.
فإذا انطلقت أيها الإنسان من حبك لذاتك، من حبك لسلامتك، من حبك لاستمرارك، من حبك لكمالك، فعليك بطاعة ربك، لأنه
المؤمن يتصور أن هذه الحياة خطٌ بيانيٌ صاعد لذلك لابدّ من طاعة الله عزَّ وجل:
هذا الذي يعيش لحظته، يعيش وقته، هذا متخلف عقلياً، هذا عَطَّلَ في ذهنه طاقةَ التصور، عاش شبابه، عاش كهولته، عاش رجولته، عاش حيويَّته، عاش نجاحه في التجارة، نجاحه في العمل، عاش مرتبته العالية، عاش سيطرته، لكن لم يعش مستقبله، لم يعش خريف عمره، لم يعش حينما تضعف قواه، لم يعش حينما يُنَحَّى عن وظيفته، حينما يفقد ماله، حينما يأتيه ملك الموت، حينما يصاب بالعطب والعطل، ما عاش هذه المعاني، أما المؤمن يتصور أن هذه الحياة خطٌ بيانيٌ صاعد، فمن أجل أن أجعله صاعداً صعوداً مستمراً لا بد من طاعة الله عزَّ وجل، فإن لم أطع الله عزَّ وجل، لا بد لهذا الخط البياني من أن يتحوَّل نحو النزول، ثم:
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ
شخص مرموق المكانة، بالعهود السابقة ـ بالعهد العثماني ـ احتل أرفع المناصب، خرج من بيته ولم يعد، اتصلت زوجته برجال الشرطة، عُثر عليه في بعض أحياء دمشق، ضلّ بيته، لم يعرف بيته
الذين سخَّروا كل طاقتهم في سبيل الله هؤلاء في شبابٍ دائم تكريماً لهم:
تتبع حياة مؤمن، حياة إنسان عرف الله، من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، هذا في شباب دائم، والواقع يؤكد ذلك، هؤلاء الذين عرفوا الله، الذين حفظوا القرآن، الذين دعوا إلى الله عزَّ وجل، الذين سخَّروا كل طاقتهم في سبيل الله، هؤلاء في شبابٍ دائم تكريماً لهم:
(( ولا يعذب الله قلباً وعى القرآن. ))
إذا أنت في شبابك، في وقت الحيوية والنشاط، وقت الانطلاق، وقت الطاقات، كلها ضبطتها في سبيل الله، أينساك الله في خريف العمر؟! والله في قصص كثيرة جداً أكثر من أن تحصى عن أناسٍ عرفوا الله عزَّ وجل في شبابهم، فمتعهم الله بقواهم العقلية، والجسمية، والاجتماعية، والنفسية إلى أن توَفَّاهم الله عزَّ وجل، لذلك:
على المؤمن أن يحتكم للحق لا للقضاء:
أخطاء الإنسان، ماله الحرام، تجاوزه، عدوانه، استعلاؤه، تخطيه لحقوق الآخرين، كِبره، عليه كفره، الكبر معه إهانة، والإسراف معه فقر، والعز بالباطل معه ذل بالحق، والعدوان تجد عدوان مقابله، تضييع الحقوق، هناك من يضيع حقوقك، هذه الآية دقيقة جداً:
إذا جار الأمير وحاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويل ثم ويلٌ ثم ويلٌ لقاضي الأرض مـن قاضي السـماء
***
لو واحد له عمل بإمكانه أن يؤذي الناس، ومسموح له ذلك، يكتب به ضبط، يدخله به السجن شهرين، كل إنسان عنده عمل يمكّنه من إيقاع الأذى بالآخرين، فليعد للمليون قبل أن يوقع الأذى بالآخرين، لأن هؤلاء الآخرين لهم رب، وسوف ينتقم منه، هيِّئ لله جواباً دائماً، حتى في علاقتك مع أهلك قبل أن تُطَلِّقَها ظلماً، هيِّئ لربك جواباً عن هذا الطلاق، قبل أن توقع الأذى بفلان، هيئ لله جواباً
العقاب والجزاء في الدنيا عقاب عينات:
الآية الأخيرة:
﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(45)﴾
الحقيقة أن هذه الدنيا دار ابتلاء والآخرة دار جزاء، هذه الدنيا دار عمل والآخرة دار تشريف، هذه الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، فربما ربنا عزَّ وجل في الدنيا كافأ بعض المحسنين تشجيعاً لنا، وربما عاقب بعض المسيئين تحذيراً لنا، فالعقاب والجزاء في الدنيا عقاب عينات، القصد منها التعليم، أما الحساب الدقيق، والجزاء الأوفى الكامل، دفع رصيد الحساب، ربما أعطي المؤمن دفعة على الحساب في الدنيا، أما إعطاء الرصيد يوم القيامة، ربما وجدت مؤمناً مستقيماً على أمر الله ومع ذلك دنياه ضيِّقة وخَشِنَة، نقول له: الجزاء يوم القيامة، لكن ربنا عزَّ وجل شاءت حكمته أحياناً أن يكافئ المحسن في الدنيا على إحسانه تشجيعاً لبقية المحسنين، وأن يعاقب المسيء على إساءته ردعاً لبقية المسيئين، فهذا الإحسان تعليمي، والعقاب تعليمي وتحذيري، أما الحساب الأخير، والكامل، والأوفى، والرصيد، هذا يوم القيامة، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
الدين يقوم على رُكنين أساسيين:
لاحظوا دائماً
﴿
هذه العقيدة:
الكافر حركته في الحياة تتناقض مع سرّ وجوده:
﴿
وقال:
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا.))
لكن لا يحب الكافرين لأنهم فعلوا شيئاً حرمهم من عطاء الله عزَّ وجل، مع أن الله خلقهم ليرحمهم.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
ليتعرفوا إليه، وليطيعوه، وليسعدوا بقربه.
الذي يعصي ربه يأبى رحمته وجنته وإكرامه:
هذا الذي رفض رحمة الله عزَّ وجل، رفض عطاء الله عزَّ وجل، رفض أن يسعد إلى الأبد في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، الله لا يحبه، لأنه رفض عطاءه، قال:
(( عجب ربكم لقومٍ يقادون إلى الجنة بالسلاسل ))
وقال:
(( كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ أَبَى قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى قَالَ مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى. ))
وقال أيضاً:
هذا الذي يعصي ربه يأبى رحمته، يأبى جنَّتَهُ، يأبى إسعاده، يأبى إكرامه، وهكذا: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ في الدرس القادم إن شاء الله عودة أخرى للآيات الكونية، كما قلت لكم في مطلع الدرس الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، هناك طريق النظر في الحوادث مرت معنا: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ طريق التدبر في القرآن كما نفعل الآن، والطريق الثالث التفكُّر في ملكوت السماوات والأرض، تفكرٌ في الكون، وتأملٌ في الحوادث، وتدبرٌ للقرآن، هذه الطرق كلها إلى الله سالكة.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.