- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (030)سورة الروم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الثالث من سورة الروم.
كلمة (سبحان) من التسبيح:
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ(17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ(18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(19)﴾
الحقيقة أنه قبل أن نشرح هذه الآية، والآيات التي تلي هذه الآية لا بدَّ من مقدمة، كلمة (سبحان) من التسبيح، والآية الكريمة التي تعرفونها جميعاً:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلا(46)﴾
أجمع أكثر المفسرين على أن الباقيات الصالحات هُنَّ سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، الحقيقة التي أتمنى أن أضعها بين أيديكم هو أن تقول: الله خالق الكون، هذا شيءٌ يعرفه كل الخلق.
أي عقيدةٍ تعتقدها إن لم تحملك على طاعة الله لا تكفي:
﴿
أن تقول إن الله خالق السماوات والأرض، وأن تكتفي بهذا القدر من المعرفة البسيطة، هذه المعرفة البسيطة لا تَحْمِلُكَ على طاعة الله، هذه المعرفة البسيطة لا تحملك على أن تستسلم لله، هذه المعرفة البسيطة لا تحملك على توحيد الله، ولا على تكبير الله، ولا على حمد الله، فما مشكلة الناس جميعاً؟
أنهم يعرفون الله معرفةً بسيطة، يرونه في السماء إلهاً؛ ولا يرونه في الأرض هو الإله، يتعاملون بقوانين الأرض بمعزلٍ عن قوانين السماء، فالذي أتمناه على كل أخٍ كريم أن لا يكتفي بمعرفةٍ بسيطةٍ تناهت إلى سمعه من خلال درس دينٍ، أو خطبة جمعةٍ، أو توجيه أب، لا بدَّ من أن يوسع حجم معرفته بالله عزَّ وجل، الذي يجب أن نعلمه جميعاً أن طاعتك لله منوطةٌ بمعرفتك به، فإذا كان في السلوك تقصير، إذا كان هناك معصية، فاعلم علم اليقين أن المعرفة بالله ليست كافية لذلك رافقها معصية، إذا كان هناك خوف شديد من قوى الأرض تَيَقَّنْ واعلم علم اليقين أن معرفة الله عزَّ وجل ليست كافيةً لبث الأمن في قلبك.
نحن نريد النتيجة، الثمرة، ما ثمرة الإيمان؟ أن تشعر بالطمأنينة، أن تسعد بالله، أن تقبل عليه، أن تطيعه، أن تسير على منهجه، ما دام هناك خروج عن منهج الله، ما دام هناك قلق، ما دام هناك رؤية لقوى عديدة في الكون، ما دُمْتَ ترى أن في الكون قوىً كثيرة، وكل قوةٍ تملك ذاتها، وتفعل فعلها، فأنت لا تعرف الله عزَّ وجل، فكأن الله عزَّ وجل من خلال هذه الآيات لا يرضى منا أن نقول: هو خالق الكون، لا يرضى منا هذه الأفكار البسيطة التي هي القَدْرُ المشترك بين عامة الناس، أيّ عقيدةٍ تعتقدها إن لم تحملك على طاعة الله لا تكفي معناها، لا أقول لك: ليست صحيحة، أقول لك: لا تكفي.
كلما نما حجم معرفتك بالله نمت خشيتك منه:
لا يكفي أن تقول: الله خالق الكون وأنت مقيم على مخالفات في بيتك، وفي عملك، وفي كسب رزقك، وفي إنفاق مالك، لا يكفي أن تقول: الله خالق الكون ولست مستسلماً له، ولست راضياً بقضائه، ولست خاضعاً لمنهجه، لا يكفي أن تقول: الله خالق الكون وترى أن الأمور في الدنيا ليست صحيحة.
لذلك أيها الإخوة، هناك دعوةٌ من الله عزَّ وجل إلى مزيدٍ من معرفة الله، كيف تعرفه؟ في هذه الآيات التي سوف نأتي على ذكرها وشرحها إن شاء الله تعالى دليلٌ قويٌ قطعيٌّ على أنه لا طريق إلى معرفة الله تعالى إلا في أن تجول في كون الله، فالكون مظهرٌ لكماله، حقيقةٌ خطيرة هي:
الله موجود، والله واحد، والله كامل، موجود وواحد وكامل، لذلك الإيمان بوجود الله، والإيمان بوحدانيَّته ـ لا يوجد معه شريك ـ والإيمان بذاته الكاملة، موجود وواحد وكامل، كلما تأملت في خلق الله في السماوات والأرض عُدَّتَ من هذا التأمل بمعرفةٍ جديدة.
الذي أريد أن أقرره في هذا الدرس أنه كلما نما حجم معرفتك بالله نمت خشيتك منه، مثل بسيط: أنت تخشى هذا الأمر الخطّي على حجم الموقِّع، كلما ارتفعت رتبة موقِّع القرار تزداد تأدباً معه، وانصياعاً له، ومبادرةً إلى تطبيقه، إذاً: ربنا سبحانه وتعالى لا يرضى منا أن نعترف بوجوده، يريدنا أن نعرف عظمته، يريدنا أن نعرف وحدانيته، يريدنا أن نعرف كماله، من هنا جاءت هذه الآيات الكريمة كي تُعَرِّفُنا بذاته، وكما يقولون: العلم حرف والتكرار ألف، ربنا ذكر بعض الآيات، لكن أنت يجب أن تستنبط أن كل شيءٍ تقع عينك عليه هو آية من آيات الله عزَّ وجل، فالله سبحانه وتعالى يقول:
بل إن الأبلغ من ذلك أن الله سبحانه وتعالى مُنَزَّهٌ عن صفات الكمال لدى مخلوقاته، أي أن الله كريم لا ككرم عباده، عفوٌ رحيم لا كعفو عباده ورحمتهم، أرقى من ذلك.
أصل الدين معرفة الله:
الجانب الأول من (سبحان) التنزيه، أن تنزه الله عن كل ما لا يليق بذاته الكاملة، عن كل نقصٍ، عن كل مشابهةٍ لمخلوقٍ، والشق الثاني الإيجابي، أن تجول، أن توغل في البحر، أن تمخر عُبابَهُ، أن تبتعد عن الشاطئ، أن تغوص في أعماقه، هذا هو التسبيح، لذلك:
معرفة الله من خلال خلقه باب كبير من أبواب معرفة الله:
ماذا نستفيد لو عرفنا أمره قبل أن نعرف ذاته؟ عرفنا أمره ولم نعرف عظمته، ما النتيجة؟ نحتال على أمره، نتلافى تطبيق أمره، نفعل أشياء مضحكة لأننا عرفنا أمره قبل أن نعرف ذاته.
لذلك ربنا عزَّ وجل في هذه الآيات والتي تليها يدعونا إلى معرفته من خلال خلقه، هذا بابٌ كبير من أبواب معرفة الله، يدعونا إلى معرفته من خلال خلق السماوات والأرض، ولك أن تعرفه ـ كما قلنا في الدرس الماضي ـ من خلال أفعاله، لو تتبعت مصير الظالم، لو تتبعت مصير المُرابي، لو تتبعت مصير الزاني، لو تتبعت مصير شارب الخمر، لو تتبعت مصير من أقام زواجه على معصية، كيف أن هناك عواقب، وهناك عقوبات، وهناك نتائج مريرة، لو تتبعت المستقيم، المُصّلِّي، الحافظ لفرجه، الحافظ لبصره، الذي حرّر دخله من كل شبهةٍ، أنفق ماله فيما أمر الله، لرأيت التوفيق والسعادة والتأييد والنصر والحفظ وما إلى ذلك، إذاً لك أن تعرفه من خلال خلقه، ولك أن تعرفه من خلال كتابه.
أما اليوم الدعوة إلى معرفته من خلال كونه، من خلال الخلق، فكل إنسان أعطاه الله فكراً فاستخدمه في كسب المال فقط، وفي الإيقاع بين الناس، أو في كسب إعجابهم، أو في التفوِّق عليهم، ولم يستخدم هذا الفكر في معرفة الله عزَّ وجل، فقد احتقر وعَطَّلَ أعظم شيءٍ منحه الله له.
نحن كما كنت أقول لكم دائماً: المؤمن يتبع توجيه النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أمرني ربي وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة. ))
إذا رأى ابنه أمامه، هذه آية لا ينبغي أن يمر عليها مر الكرام، أليس هذا ابنك؟ نعم، ألا تعرف معرفةً يقينيةً أن أصله من حُوَين، خليةٌ واحدة لا تُرى إلا بالمجهر، وقد أُودِع في هذا الحُوين خمسة آلاف مليون معلومة، هذا رقم دقيق، خمسة آلاف مليون معلومة أودعها الله في هذا الحُوين الذي لقّح البويضة، وكيف تم خلق الإنسان، حُوين وبويضة إذا هُما بشرٌ سوي؛ إنسان، هيكل عظمي، مفاصل، عضلات، جلد، أوعية، شرايين، دماغ، قلب، دَسَّامَات، بطاريات في القلب، رئتين، بنكرياس، معدة، أمعاء، غدة نُخَامية، أليست هذه آية، لماذا نمر عليها؟!!
ربنا عزَّ وجل خلق الكون كي يكون دليلاً عليه:
كأس الماء أليس آيةً؟ رغيف الخبز أليس آيةً؟ الشمس أليست آيةً؟ المؤمن لا يستمتع بالكون استمتاعاً بل يتّعظ به اتّعاظاً، لا يأخذ جانبه الدنيوي يأخذ جانبه الأخروي، لما ربنا عزَّ وجل خلق الكون خلقه كي يكون دليلاً عليه:
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدل على أنه واحـد
***
الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ﴾ الساعة العاشرة صباحاً أليس هناك تسبيح لله؟ فعظمة الله قاصرة على المساء والصباح؟ أجمع العلماء على أن هذا المصدر من سَبَّحَ يراد به الطلب، أي: سبحوا الله، هو مصدر إخباري يفيدُ الطلب، أي أيها المؤمنون سَبِّحوا ربكم، أي فكروا في ملكوته، فكروا في خلقه، نزهِّوه، مَجِّدوه، جولوا جولاتٍ في آلائه، ألم يرد في الحديث القدسي عن سيدنا داوود قال:
(( يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ قال: يا داود أحب عبادي إلي تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحدٍ بسوء، أحبني ـ الحب أساس ـ وأحب من أحبني ـ وأن تحب المؤمنين أساس ـ أحبني وأحب من أحبني وحببني إلى خلقي ))
كنت أقول لكم دائماً: أن الداعية ما مهمته؟ أن يقرِّبَ الناس إلى الله، هؤلاء الشاردون يلتفتون إلى الله، هؤلاء العصاة يتوبون من ذنوبهم، هؤلاء البعيدون يقتربون من ربهم، هذه مهمة الداعية؛ أن يعرّف الناس بالله، أن يدعوهم إليه، أن يدفعهم إلى بابه، أن يحملهم على طاعته، أن يبيِّنَ لهم جوانب عظمة الله عزَّ وجل.
الدعوة إلى التسبيح حين يأتي المساء:
هل تصدقون أن كل إنسان له مظهر ديني، أو له اتجاه ديني، أو معروف بين أهله وأقربائه أنه جيد ـ تلميذ الجماعة الفُلانية ـ أن أي إنسان يحمل صفةً دينية إن في مظهره، وإن في سلوكه، وإن في انتمائه، وإن في خلفيَّته، وإن في اتجاهه، ويسيء إلى الخلق، يقوم بدور معاكس للدعاة تماماً، الداعي يُقَرِّب وهو ينفِّر، لذلك ورد في الحديث القدسي:
(( إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه ))
هنا سبحان الله هي مصدر سَبَّحَ، تسبيحاً وسُبحاناً، لكن هذا المصدر أريد فعله، وهو سَبِّحوا، فإذا قلنا سبحان الله حين تمسون، كأنك قيدت هذه العظمة في وقتٍ معين، وهذا مستحيل على الله عزَّ وجل، هذا المعنى لا يليق بالله عزَّ وجل أن تقيد هذا المعنى بوقت إلا أن يُفهَم التسبيح بأنه دعوةٌ إلى التسبيح أي: سبحوا ربكم حين تمسون، معنى (تمسون) تدخلون في المساء، معنى المساء حدث جغرافي، حينما تغيب الشمس دخلتم في المساء، ولكن هذه الحضارة جعلت النهار ليلاً والليل نهاراً، جعلت الناس يمضون كل الليل في سَهَرٍ وينامون أكثر النهار، كأن هذه الحضارة مخالفة لتصميم الله عزَّ وجل، ساعةٌ في أول الليل لا تعدلها ثلاث ساعاتٍ في آخر الليل، فالإنسان حينما يمضي وقته في السهر، ضيع عليه خيراتٍ كثيرة.
الآية التالية أصلٌ في فَرضِيَّةِ الصلوات الخمس:
قال تعالى:
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(78)﴾
وقال:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(27)﴾
جلال وإكرام، فهنا (سبحان الله) تعظيماً، وتنزيهاً، وتمجيداً.
من حجبته النعمة عن المنعم هذه النعمة لابدَّ من أن تزول:
من السذاجة، من الحمق، من الغباء، أن تتجه بكلّيتك كي تحمد إنساناً لا علاقة له بهذه النعمة، إنه من ضعف اليقين كما قال عليه الصلاة والسلام، إنه من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله، إنه من ضعف اليقين أن تَحْمِدَهُم على رزق الله، إنه من ضعف اليقين أن تذمهم على ما لم يؤتك الله، أن تذمهم على شيءٍ حرمك الله منه، أو أن تحبهم على نعمةٍ منحك الله إيَّاها، فالتوحيد التوحيد، ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، حتى في النِعَم له الحمد، الحمد له وحده.
كل إنسانٍ اتجه إلى نعمةٍ يَنْعُمُ بها، نعمة المال فرضاً، رأى المال قوةً له، اعتمد عليه، من سنن الله عزَّ وجل أنه يُفقِده هذا المال، كي يرى الذي أعطاه المال، حينما تحجبُك النعمة عن المنعم، هذه النعمة لابدَّ من أن تزول، فهذه الحقيقة خطيرة يا إخوان، حينما تحجبك هذه النعمة عن المنعم، أغلب الظن هذه النعمة سوف تزول كي ترى المنعم، لذلك:
إذا حجبتك الزوجة عن الذي أهداك إيَّاها لابدَّ من أن تسوء العلاقة بينك وبينها، إذا أرضيتها وعصيت الله، حجبتك عن الله، إذا حجبك المال عن الذي أعطاك المال، أغلب الظن أن هذا المال يزول كي ترى المنعم، فكل إنسانٍ تمتَّعَ بشيءٍ في الدنيا إن كان موفقاً أو ذكياً أو عاقلاً يجهد أن يرى المنعم من خلاله، لا أن يكتفي بالنعمة.
من مراتب الشكر أن تعرف أن هذه النعمة من الله:
الأجانب رأوا النعمة فقط، استمتعوا بها واستكبروا بها؛ لكن المؤمن الصادق إذا أنعم الله عليه بنعمة لا يغيب عنه المنعم أبداً، لا يغيب عنه أن هذا من فضل الله لذلك قالوا: "من مراتب الشكر ثلاثة، المرتبة الأولى يكفي أن تعرف أن هذه النعمة من الله، فهذا أحد أنواع الشكر، فسيدنا المسيح قال:
يكفي أن تعرف أن هذه الصحة ليست من جهدك، وليست من ذكائك، إنها بتوفيق الله عزَّ وجل، وأن هذا الطفل الذي جاء سليماً معافىً ليس لشدة عناية أمه بنفسها في أثناء الحمل، لا، بتوفيق الله عزَّ وجل جعله سالماً كاملاً، له سمعٌ وبصرٌ وأيدي ولسان، وله ثقب بوتال، المولود في رحم أمه، لا هواء، الله عزَّ وجل جهزه برئتين، وجهزه بعينين، وجهزه بقلبٍ وكل ما يحتاج، كيف يتنفس هذا الطفل وهو في بطن أمه ولا هواء في الرحم؟ الرئتان معطلتان، ودورة الرئتين معطلة، القلب بين الأذينين فيه فتحة، ينتقل الدم من أذين إلى أذين عبر هذه الفتحة، ودم الأم هو الذي يُنَقِّي دم الجنين، فحينما ينزل هذا المولود إلى الأرض، هذا الثقب الذي بين الأذينين يُغْلَقَ، يد من تغلقه؟ يد الله عزَّ وجل، لكن كي يعرفنا بذاته، ولا على حساب أحد، كل خمسمئة ألف مولود مَولود واحد هذا الثقب يبقى عنده مفتوحاً، لون الطفل أزرق لا يستطيع أن يمشي مترين، لأن الدم بدل أن يذهب إلى الرئتين كي يتصفّى يرى الطريق أقرب من هنا، ينتقل من أذين إلى أذين.هذه نعمة أن عندك أولاد، وحينما ولد هذا المولود أُغلِق الثقب، بيد من؟
الآن لو أردنا أن نجري عملية في قلب، فالقضية تكلف مئات الألوف، قريباً من مليون، فتح القفص الصدري وتجميد القلب تبريداً، ثم وصل الأوردة والشرايين بقلب صناعي، ثم فتح القلب إلى أن يهمد، ثم فتح وإغلاق هذا الثقب، ثم إعطاؤه صعقةً كهربائية قد يعمل وقد لا يعمل، إذا لم يعمل نقول: عظم الله أجركم، فيد من تدخل إلى داخل القلب كي تسد هذا الثقب؟
قلب المؤمن مليء بالتحميد والتعظيم:
وله الحمد، عندك ولد أعضاؤه سليمة، حواسه سليمة، قلبه يعمل، رئتاه جيدتان، ثقب بوتال مغلق، الغدة الصمَّاء، الغدة النخامية، الكظران تفرز، الكليتان نشيطتان، وله الحمد، الحمد لله على صحَّتك، والحمد لله على أهلك، أعطاك زوجة، زوجة من بني البشر؛ إنسان، لها أحاسيس، لها مشاعر، لها فكر، تكلمها تفهم عليك، أو لا تفهم عليك أحياناً، تكلمها تكلمك:
﴿
هذه وله الحمد، يجب أن تقف وقفة خشوع لهذه الصيغة، فليس الحمد له؛ بل وله الحمد، إياك أن تظن أن نعمةً تنعُمَ بها هي من فضل غير الله، هي من فضل الله دائماً، فالحديث القدسي:
إذا سمعت أن نجماً يبعد عن الأرض عشرين ألف مليون سنة ضوئية، ألا يقشعرُّ جلدك؟ عشرون ألف مليون سنة ضوئية، والضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، وفي الدقيقة ضرب ستين، وفي الساعة ضرب ستين، وفي الأربع والعشرين ساعة ضرب أربع وعشرين، وفي السنة ثلاثمئة وخمسة وستين، أي ثلاثمئة ألف ضرب ستين ضرب ستين ضرب أربعة وعشرين ضرب ثلاثمائة وخمسة ستين هذه بالسنة، ما يقطعه الضوء في سنةٍ واحدة، ضرب عشرين ألف مليون.
الكون وما فيه من آيات الله الدالة على عظمته:
أجريت على آلة حاسبة حساباً بسيطاً، بلغني أن أقرب نجمٍ ملتهبٍ إلى الأرض، أقرب نجم ملتهب الكوكب غير النجم، الكوكب مثل القمر، أما المُلتهب مثل الشمس ـ أقرب نجم ملتهب للأرض بعده عنا أربع سنوات ضوئية، والله أجريت على الآلة الحاسبة حساباً تقديرياً، لو أن هناك طريق بيننا وبين هذا النجم ومعنا سيارة، كم من الوقت نستغرق كي نصل إليه بهذه السيارة؟ الرقم جاء قريباً من خمسين مليون عام، فقلت:
يا رب نجم القطب يبعد عنا أربعة آلاف سنة، أول قفزة من أربعة إلى أربعة آلاف، إذا كان خمسين مليون عام لأربع سنوات ضوئية، معناها أن القطب ضرب ألف أربعة آلاف، أي خمسين ألف مليون سنة، لا نلحق أن نصل إليه إن كان معنا سيارة، خمسين ألف مليون سنة، فالشخص إذا كان عمره ثمانين تقول ما شاء الله! فمن أجل أن تصل إلى نجم القطب تحتاج إلى خمسين ألف مليون سنة، قلت: وهذه المرأة المسلسلة، التي تبعد عنا مليون سنة ضوئية، انتقلنا من أربع سنوات إلى أربع آلاف إلى مليون سنة، وهذه المجرة الأخيرة عشرين ألف مليون سنة ضوئية، فهذا الكون ألا يدهشك؟ هذا الذي خلقه أيُنسى؟ أيُعبد غيره؟ أيُزهَد بوعده؟ ألا تخشى وعيده؟
تَعصي الإِلَهَ وَأَنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ هَذا مَحالٌ في القِياسِ بَديعُ
لَو كانَ حُبُّكَ صادِقاً لَأَطَعتَهُ إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطيعُ
قال تعالى:
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)﴾
وقال:
﴿ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ
وقال أيضاً:
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ
قال تعالى:
﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ۗ
العبادة مرتبة عالية جداً:
ورد في الحديث القدسي:
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري. ))
الناس يعبدون بعضهم بعضاً، ما معنى يعبده؟ إذا رأيت أن زيداً من الناس بيده مقادير أمرك، إنك تعبده ولا تدري، إذا أرضيت إنساناً وعصيت الخالق هذه عبادة أيضاً، بمجرد أن تطيع زوجتك في معصيةٍ فقد عبدتها من دون الله، بمجرد أن تؤثر هواك على طاعة الله فقد عبدت هواك من دون الله، والدليل:
﴿
العبادة مرتبة عالية جداً:
﴿
ربنا عزَّ وجل أعلى صفة وصف بها النبي الكريم سيد الخلق وحبيب الحق أنه عبدٌ لله، عبد، هل أنت عبدٌ له؟ هل أنت مؤتمر بأمره منتهٍ عما عنه نهى؟ هل عرفته؟ إذا عرفته يكفي أن يصح عندك أن هذا الكلام كلامه، وأن هذا الأمر أمره كي تبادر إلى طاعته، إذاً:
﴿ بِاِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾
(( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه. ))
هذه الصلاة، النبي الكريم قال:
(( الصلاة عماد الدين. ))
على كل مسلم أن يسبح بالله و يعاهده على الطاعة:
أصل الصلاة هنا أن تسبِّح الله:
هنا معنى تصبحون وتمسون أي تدخلون في الصباح والمساء، أي إذا جاء المساء قم فصلِ صلاة المغرب وصلاة العشاء، وأصل الصلاة هنا أن تسبِّح الله، لذلك أول شيء في الصلاة تقول: "سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" ثم الحمد لله رب العالمين وهكذا.
إذاً تمسون تعني صلاة المغرب والعشاء، وتصبحون تعني صلاة الصبح:
(( وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. ))
(( مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ))
معنى في ذمة الله، أضرب مثلاً هل تستطيع أن تضرب إنساناً منتمياً إلى وزارة الداخلية كشرطي مثلاً؟ لا تستطيع لأن العقاب مضاعف، فالدولة تحميه، وهذا الذي يصلي الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، أنت عندما تعتدي عليه، أو تسيء له، أو تغتابه، تتجاوز حدَّك معه، تأكل ماله، تهينه أحياناً، أنت علاقتك مع الله أصبحت، لأنه مادام قد صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فسبحان الله، لذلك:
(( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ))
(( من أكرم أخاه فإنما يكرم الله ))
إذا أنت أكرمت أخاً مؤمناً لا تعرفه إلا أنه مؤمن، فكأنما أكرمت الله عزَّ وجل، إذا استقبلت أخاً مؤمناً ورحبت به، عاونته على قضاء حاجته، له مشكلة ساعدته، طلب منك حاجة لبيتها له، أنت أقرضت الله قرضاً حسناً، والحديث معروف عندكم، يقول الله عزَّ وجل:
(( يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ. ))
الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين:
إذاً:
(( ابْنَ آدَمَ، ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ. ))
أنت الآن في حصانة، فعلاً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، أي أنك ممنوع من أن تناله بسوء، كذلك كل إنسان صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، في ذمته، وفي حفظه، وفي رعايته.
(( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره... ))
أنت كمؤمن طبعاً أن تحمده في الرخاء قضية سهلة جداً؛ ولكن البطولة أن تحمده في الضراء، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين.
الحياة والموت لهما معنيان معنىً حقيقي ومعنى مجازي:
قال تعالى:
﴿
المؤمن حي، والكافر ميِّت، الموصول بالله حي، والمقطوع عن الله ميت، المستقيم على أمر الله حي، والمُنحرف ميت، الذي يعرف الله حي، والذي لا يعرفه ميِّت، وربنا عزَّ وجل قال:
﴿
وقال أيضاً:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ
كل إنسان مقبور بشهوة من الشهوات، هذا مقبور في تجارته، هذا مقبور في النساء، هذا مقبور في المال، لهذا سيدنا علي قال لابنه: "يا بني مات خُزَّان المال وهم أحياء ـ أموات وهم أحياء، أي وهم في أوج حياتهم، في أوج حيويتهم، في أوج قوتهم، في صحتهم التامة، في استمتاعهم بكل شيء، هؤلاء أموات ـ
من عمل بما علم جمع المجد من أطرافه:
مثلاً علماؤنا الأجلاء عبر العصور التوالي، أبو حنيفة النعمان يُذكَر في اليوم والليلة في العالم الإسلامي ملايين المرات، والإمام الشافعي، وسيدنا صلاح الدين، وسيدنا أبو بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وعمر بن عبد العزيز، والإمام الجُنَيد، العلماء، أما أن تذكر اسم إنسان غني عاش سنة ألف وثمانمئة وخمسة عشر بالشام؟ اذكر لي اسم واحد لأعطيك ما تريد، لا تذكر، "مات خزان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر"، باب العلم مفتوح لكل واحد، اطلب العلم من المهد إلى اللحد، طلب العلم فريضةٌ، أنت إذا أتيت إلى بيتٍ من بيوت الله، وفهمت كلام الله، تعلمت، درساً فوق درس، وجلسة إثر جلسة، وموضوعاً بعد موضوع، وكتاباً بعد كتاب، تصبح عالماً، فإذا عملت بما علمت جمعت المجد من طرفيه، فلذلك:
عظمة الله في خلقه:
المعنى الحقيقي: انظر إلى البذرة، هذه البذرة تبدو لك ميتة، حبة قاسية، القمح بقي بالأهرامات ستة آلاف سنة، ميت فلما زرعوه أنبت، فهذه الشجرة التي تضج حياةً، تأكل من المشمش بذرة خشبية، من الزيتون بذرة كلها خشب، هذه البذرة تبدو لك ميتة، ولكنك إذا وضعتها في التربة وجاءتها الرطوبة، وجاءها الماء أنبتت رُشيماً، فكأن الله أخرج من هذه الشجرة التي تضج حياةً بذرةً تبدو لك ميتة، فإذا زرعت هذه البذرة الميتة أعطت حياةً.
الأشجار أيضاً من آيات الله الدالة على عظمته:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.