- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (030)سورة الروم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون مع الدرس السادس من سورة الروم.
تعبير الله عز وجل عن الكون في القرآن بكلمة السماوات والأرض:
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ(22)﴾
هذه الآيات التي تَرِدُ تِباعاً، والتي يبيِّن الله تعالى فيها بعضاً من آياته، لأن (من) كما تعرفون للتبعيض:
﴿
وقال:
﴿
وقال:
السماوات والأرض خلقت للإنسان بالدليل القطعي:
الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ
معنى "موسعون" أي هذا الكون لا نهاية لاتساعه، أو يزداد اتساعاً، إما لا نهاية لاتساعه، كلما تقدم العلم اكتُشفت آفاقٌ جديدةٌ لم تكن معروفة من قبل، أو أن هذا الكون يزداد اتساعاً قال تعالى:
﴿
﴿
الأرض ذُكرت في القرآن للتخصيص لأننا عليها وهي من أرقى الكواكب:
الآن ربنا عزَّ وجل يشير:
﴿ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ(10)﴾
حينما قَدَّمَ الأرض هذا على سبيل التخصيص والقصر:
من تكريم الله للإنسان أن جعله فرداً لا يتكرر:
اختلاف اللغات والألوان والأصوات من آيات الله الدالة على عظمته:
بعضهم قال: لا، اختلاف نبرات الصوت، اختلاف إيقاعات الصوت، اختلاف الموجات الصوتية، والدليل أنك حينما تستمع إلى مكالمة هاتفية تقول: فلان حدَّثني، من دون أن يذكر اسمه، إذاً إنك تملك ذاكرةً صوتية، تعرف من خلال هذه الذاكرة الصوتية نبرات كل شخصٍ يتصل بك، وهذا من آيات الله.
الألوان، آلة التصوير تصور لك مئة شخصٍ بلونٍ واحد تقريباً، أو بفارق بسيط جداً، لكن لو نظرت بعينك الطبيعية إلى ألوان هؤلاء المئة لرأيت كل واحدٍ منهم يتميَّز بلونٍ غير لون أخيه، إلى أن نقول: إن كل إنسانٍ له لون، إذا كانت العين البشرية تُفَرِّق بين ثمانمئة ألف لون أخضر، لو أن لوناً واحداً دَرَّجْنَاهُ ثمانمئة ألف درجة، فالعين البشرية تفرِّق بين لونين، لذلك اختلاف الألوان، واختلاف الأصوات، كأن اللون يعطي الإنسان هويةً خاصة، وكأن الصوت يعطي الإنسان هويةً خاصة، هذا شيء ثابت وواقع.
القرآن يعطي الإنسان عناوين للمواضيع وعلى الإنسان متابعة الموضوع:
لكن ما علاقة خلق السماوات والأرض باختلاف الألسنة والألوان، هناك تفسيرين مثلاً الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى(1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى(2)﴾
كلام جميل، آيةٌ كونية، آية الليل والنهار، وقال:
﴿ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى(2)﴾
ما علاقة الليل والنهار بالذكر والأنثى؟ يجب أن تكتشف أن هناك علاقةٌ بينهما، يبدو أن الليل والنهار متكاملان، وأن الذكر والأنثى متكاملان، كما أنك بحاجةٍ ماسةٍ إلى ليل ترتاح فيه، تسكن فيه، أنت بحاجةٍ ماسةٍ إلى نهار تعمل فيه، كذلك الأنثى تُهَيِّئ للرجل السَكَن، والرجل يهيئ للأنثى الرزق، إذاً متكاملان، إذاً من طبيعةٍ واحدة ولكنهما مفترقان ومتكاملان، يبدو أن الله عزَّ وجل حينما قال:
السماع هو اليقينٌ الإخباري الحسي:
الحقيقة قبل قليل:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ ۚ
بعد ذلك:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ
يا ترى ما حكمة الله عزَّ وجل في هذه النهايات التي انتهت بها الآية الكريمة؟ في آية انتهت لقوم يعقلون، ولقوم يتفكرون، ولقوم يسمعون، وللعالمين.
كلمة (يسمعون) الشيء الذي لا يستطيع عقلك أن يدركه لا يمكن أن تدركه إلا بالسماع، السماع إذاً هو اليقينٌ الإخباري، أنت كإنسان عندك يقينٌ حسي، وعندك يقينٌ عقلي، فكري، استدلالي، وعندك يقينٌ إخباري،
أما اليقين الحسي: حينما ترى الشيء بعينك، أو تسمع صوته بأذنك، أو تلمسه بيدك، هذا يقين حسي، هذه المحسوسات، والإنسان وغير الإنسان بإمكانه أن يدرك المحسوسات.
أما اليقين الفكري أو الاستدلالي: هذا يقين من نوع آخر، بمعنى أن الإنسان يرى شيئاً ويحكم على صانعه، يرى نظاماً يحكم على مُنَظِّمِهِ، يرى تسييراً يحكم على مسيِّره، يرى كوناً يحكم على مُكَوِّنه، يرى خلقاً يحكم على خالقه، هذه مهمة العقل، الاستدلال، أن تستدل بشيءٍ مادي على شيءٍ مُغَيَّبٍ عنك، هذا معنى قوله تعالى:
﴿
مهمة العقل الاستدلال:
ما معنى الإيمان بالغيب؟ أنك رأيت الشمس قلت: من خلقها؟ من أودع فيها هذه الحرارة؟ من جعلها تسير بسرعة مئتي كيلو متراً في الثانية؟ من جعل هذه الطاقة متتابعة وليست خامدة؟ من جعلها بهذا الحجم؟ من جعلها بهذه الكثافة؟ هذا يقين استدلالي، وهذا سر الإيمان فيه، فلا تستطيع أن تعرف الله عزَّ وجل إلا باليقين الاستدلالي، باليقين الحسي لا تستطيع لقوله تعالى:
﴿
لكن باليقين الاستدلالي، يقولون باللغة الشائعة: "لم يُرَ الله بالعين ولكن بالعقل عرف" الإنسان بعقله يستطيع أن يتعرَّف إلى الله عزَّ وجل، لكن ذات الله، وصفاته، أسماؤه، الماضي السحيق، المستقبل البعيد، هذه أشياء لا يمكن أن يعرفها العقل، العقل يحتاج إلى شيء أمامه مادي، من هذا الشيء يصل إلى الخالق، يحتاج إلى نظام، من هذا النظام إلى مُنَظِّم، أما إذا أردت أن تبحث في ذات الله بعقلك لا تستطيع، تهلك، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( تفكَّروا في خَلْقِ اللهِ، ولا تفكَّروا في اللهِ فتَهلِكوا ))
في منطقة، في خط أحمر، إذا أردت أن تفكِّرَ بعقلك في ذات الله عزَّ وجل لا بدَّ من أن تهلك، لأن طبيعة الإنسان، وطبيعة عقله، وطاقة عقله، وقدرة عقله، لا تؤهِّلُهُ أن يتعرف إلى الله مباشرة إلا من خلال الكون، فلو ألقينا بورقة دخينة ـ هذه رقيقة جداً ـ بفرن لصهر الحديد، قلنا ماذا حل بها بعد ساعتين، أية ساعتين هاتين؟ هي من الوهج تبخَّرت.
لا يجوز البحث في ذات الله بعقلك مباشرةً:
قال تعالى:
﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ
تجلى الله عزَّ وجل على الجبل فجعله دكاً، إذاً الإنسان لا يستطيع أن يرى الله عزَّ وجل في الدنيا، حواسه عاجزة، لا تحتمل، تحترق، سيدنا جبريل في المعراج قال لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم: أنا إذا اخترقت احترقت، كل إنسان له مقامٌ معلوم.
لقد أردت من كلمة: مرة لقومٍ يتفكرون، مرة لقومٍ يعقلون، مرة لقومٍ يسمعون، ومرة للعالمين، سماع الموضوعات المتعلقة بذات الله عزَّ وجل، بذاته، بصفاته المتعلقة بالماضي السحيق، بالمستقبل البعيد، بالذي غَيَّبَهُ الله عنا، فإنسان ذكي جداً قد يوضع أمامه جهاز يكشف أسراره واستعماله، لكن جهاز لا يراه نقول له: هناك جهاز مُعَقَّد جداً في حلب حدثنا عنه، مهما كان الإنسان ذكياً، مهما كان عبقري لا يستطيع، فلا بدَّ من شيءٍ أمام عينيك تفكر فيه وتستنبط منه، لذلك لا يجوز البحث في ذات الله بعقلك مباشرةً، إن فعلت هذا احترقت، أو هلكت، وهذا يؤكِّده قول النبي عليه الصلاة والسلام:
الذي يستخدم عقله في ذات الله عزَّ وجل فيهلك فلا يلومن إلا نفسه:
وأخبرنا عن الماضي السحيق:
﴿
إذاً يجب أن تعرف حدودك، رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده، ميزان صنعته أعلى شركة في العالم؛ لكن كتبت عليه خمسين كيلو، ما دمت تستخدمه في حدود خمسين كيلو فهو من أدقِّ الموازين، فإذا وزنت به مئة كيلو كسرته، فإذا كسرته لا ينبغي أن تتهم الصانع بأن صنعته ليست متقنة، لا، فأنت أسأت استعماله، فالذي يستخدم عقله في ذات الله عزَّ وجل فيهلك فلا يلومن إلا نفسه، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (تفكَّروا في خَلْقِ اللهِ، ولا تفكَّروا في اللهِ فتَهلِكوا) هناك خط أحمر، لهذا قال سيدنا الصديق: "العجز عن الإدراك إدراك"، وقال العلماء: "عين العلم بالله عين الجهل به، وعين الجهل به عين العلم به"، أي أنك إذا قلت: أنا أعرف الله فأنت لا تعرفه، وإذا قلت: أنا لا أعرفه إذاً فأنت تعرفه، إذا شعرت بعجزك أمام عظمته فأنت تعرفه، فإذا قلت: أنا أعرفه، أعرف كل أفعاله هذه كذا وهذه كذا، إذاً أنت لا تعرفه لأنه:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ
معرفتك بالله عزَّ وجل على قدر تفكيرك بالكون:
قال:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
إذاً عندنا يقين إخباري، وعندنا يقين استدلالي، وعندنا يقين حسي، وعندنا يقين إشراقي، اليقين الإشراقي هذا ثمنه باهظ، معرفةٌ بالله عزَّ وجل من خلال الكون، استقامةٌ على أمره تماماً، أعمالٌ صالحة هذه: "مَن عملَ بما علِمَ أورثه الله علْم ما لم يعلم"، هذا اليقين الإشراقي، "مَن عملَ بما علِمَ أورثه الله علْم ما لم يعمل".
أما الاستدلالي أنت والكون، كل شيءٍ في الكون يدل على أن الله عزَّ وجل واحد، وعلى أنه كامل، على أنه موجود، لذلك يعد الكون كتاباً مفتوحاً بين يديك، ما عليك إلا أن تقرأ فيه، وكلما قرأت منه صفحةً ازداد علمك بالله درجةً، فمعرفتك بالله عزَّ وجل على قدر تفكيرك بالكون، معرفتك بالله عزَّ وجل وأسمائه الحسنى على قدر جولات فكرك في هذا الكون، لهذا آياتٌ كثيرةٌ جداً تَحُضُّنا على التفكير، وما هذه الدروس الأربعة: ومن آياته، ومن آياته، من آياته، إلا حضٌ لهذا الإنسان على أن يُجِيلَ فكره في ملكوت السماوات والأرض:
﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا ۖ
في الآية التالية الفاء تفيد الترتيب على التعقيب إلا في مرحلة واحدة:
اليوم في الخطبة تحدَّثنا عن أن الله عزَّ وجل حينما قال:
﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)﴾
انظر إلى ثم:
﴿ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)﴾
من علقة إلى مضغة، من مضغة إلى عظام، من عظام إلى لحم، فاءات، فاء، فاء، والفاء تفيد الترتيب على التعقيب إلا في مرحلة واحدة:
(العالَمين) أي كل الناس مكلَّفون وكلهم مدعوّون إلى الله عزَّ وجل:
﴿
إذا قال الله عزَّ وجل:
بعض الأحاديث النبوية الشريفة عن رحمة الله بعباده:
إذا كان ثلث الليل الأخير ينزل ربكم إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائلٍ فأجيبه، هل من داعٍ فألبيه، هل من طالب حاجةٍ فأقضيها له، هل من مستغفرٍ فأغفر له حتى ينفجر الفجر.
(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ هَلْ مِنْ تَائِبٍ هَلْ مِنْ سَائِلٍ هَلْ مِنْ دَاعٍ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ ))
مطلوب، ولا أدل على ذلك من قلب الأم، ما مطلب الأم الأساسي؟ أن يكون ابنها في أسعد حالة، أن يأكل أطيب الطعام، إذا ترك طعاماً نفيساً وتناول طعاماً خَشِنَاً تغضب عليه، لأنه فوت عليه هذه الأكلة اللذيذة، هذا قلب الأم، فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى امرأةً تقبِّل ولدها قال لأصحابه:
(( أترون هذه طارحةً ولدَها في النَّارِ؟ قلنا: لا واللهِ ، وهي تقدرُ أن لا تطرحَه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللهُ أرحمُ بعبادِه من المرأةِ بولدِها. ))
السعادة تكون بمعرفة الله عز وجل والشقاء بالبعد عنه:
أيها الإخوة الأكارم لا يوجد شر بالكون، شر مقصود لذاته لا يوجد، دائماً دع في نفسك هذا المثل: أب طبيب جراح، ينطوي على قلبٍ كله رحمة، وعقل كله علم، فإذا شعر أن ابنه يعاني من التهاب الزائدة، الأب بنفسه أخذ ابنه، ووضعه على المشرحة، وخدَّره، وجاء بهذا المِبضَع، وجرح الجلد، وفتح الجلد، ونفر الدم، واستأصل هذه الزائدة الدودية، هل يقال: هذا العمل شر؟ إطلاقاً، أما فتح البطن فيما يبدو للناظر الساذج شر، نفور الدم، خروج الدم من الشرايين، الآلام التي يعاني منها الطفل، هذا بنظر السُّدَّج شر، كذلك المصائب التي ترد على الناس تكون سبباً لهدايتهم، سبباً لتوبتهم، لعودتهم، كأن الله يري آياته، إما أن تراها وأنت في الرخاء، وإما أن تراها وأنت في الشدة.
لذلك:
النوم دليل على أن هناك موتاً أبدياً:
الآية الثانية: أن هذا الجهاز العصبي الذي يعمل طوال عشر ساعات أو أكثر، في تلقِّي الصور، والأصوات، والمشمومات، والمسموعات، وتحليلها، وإدراكها، وإصدار أوامر معاكسة استجابة لهذه الصور، في نشاط دائم، في حالات من النشاط عالية جداً، يأتي الليل، لو أن إنساناً قاد مركبة في الليل يقول لك: تحطمت أعصابي، هذه الأضواء الباهرة، والتجاوزات، والمخاطرات، دائماً في حالة يقظة دائمة، يأتي النوم، يكون النوم نعيماً له، ماذا في النوم؟ هذه الأعصاب تتباعد، فإذا تباعدت انقطعت السيَّالة العصبية، يستيقظ الإنسان بعد يوم عملٍ مُضْنٍ وهو في أشد حالات النشاط، كالحصان، نعمة النوم، من آيات الله الدالة على عظمته، وتَدُلُّ على عظمته بأن للإنسان حياة نفسية يعيشها، يسعد بها أو يشقى بها، وآية أخرى على أن النوم حاجة فيزيولوجية للإنسان، ينام فيرتاح
(( إِنْ أَمْسَكْتَ نَفْسِي فَارْحَمْهَا وَإِنْ أَرْسَلْتَهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا حَفِظْتَ بِهِ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ ))
إذا الإنسان استيقظ في اليوم التالي يتكل على الله على يوم جديد من العمل الطيب، اليوم أحد إخواننا الأكارم توفي رحمه الله، البارحة كان لا يشكو شيئاً، وقد استمع إلى شريطٍ من دروس جامع العثمان، ثم فجأةً وقع ميتاً، الموت قريب جداً، النبيِّ الكريم كان يقول:
النوم موتٌ مؤقَّت وهو من آيات الله الدالة على عظمته:
النوم موت مؤقت:
﴿
معنى يتوفاكم أي أنت في النهار مُخَيَّر، في الليل أخذ منك اختيارك، أعطاك الاختيار في النهار، وسلبه في الليل، أما عند الموت أخذه نهائياً، مغادرة بلا عودة عند الموت، أما كل ليلة تموت موتاً مؤقتاً، فالإنسان عليه أن يعلم أن هذا النوم من آيات الله الدالة على عظمته، أولاً هو موت مؤقَّت، وثانياً النوم يؤكِّد الحياة النفسية التي تسعد وتشقى من دون أن يكون للجسد علاقةٌ بهذه السعادة والشقاء، أليس كذلك؟ تسعد إلى أعلى الدرجات، وتشقى إلى أخفض الدرجات وأنت أنت.
(( قيلوا فإن الشياطين لا تقيل. ))
القيلولة نوم بعد الظَهيرة، وبعضهم قال: لا، ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله في النهار.
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا(10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا(11)﴾
في الليل ترتاح، وتسكن، وتعبد الله، وتفكر، وتقرأ القرآن، وفي النهار تعمل وتكسب الرزق.
على الإنسان أن يسعى وليس عليه إدراك النجاح لأن الله تعالى هو الرزَّاق:
رجل كان يعمل بمنصب رفيع جداً، معاون وزير، فقد بصره، خلال شهر كانوا يأتونه بالمعاملات إلى البيت فهو موظف كبير فيقول له: سيدي هذه القضية كذا ما رأيك؟ يقول له: موافق، لمدة شهر ثم فقد منصبه، قال كلمةً لا أنساها، قال: والله أتمنى أن أجلس على قارعة الطريق وأمد يدي للناس وأن يرد الله لي بصري.
إذا الإنسان الله رزقه لا يقول: هذا جهدي، ذكائي، خبرتي، باعي الطويل في التجارة، تصميمي، جَلَدي، متابعتي، لا، هذا من فضل الله عزَّ وجل، بحركةٍ بسيطة يفقد الإنسان ذاكرته، صديق قال لي: خرج صاحبي من معمله إلى بيته، نسي بيته، بقي في الطريق ساعة أو أقل يبحث عن بيته في الشام، إلا أنه يذكر بيت ابنه، فذهب إلى ابنه، قال له: يا بني أين بيتي؟ فالإنسان عاجز، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
من عاش تقياً عاش قوياً:
قال تعالى:
﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ(67)﴾
رجل كان يحتل منصباً كبيراً جداً ـ القصة من أربعين سنة ـ اتصلت زوجته بمخفر للشرطة: أن زوجي خرج ولم يعد، وجدوه في أحد أحياء دمشق (بالقنوات)، وقد ضل الطريق، لذلك:
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ۚ
هناك مقولة قالها شيخ وقور:
عندي كتاب عن ألفاظ القرآن الكريم، ألفه أحد علماء الأزهر، هذا العالِم عاش مئة وثلاثين عاماً متمتعاً بكل ملكاته العقلية والجسمية، من عاش تقياً عاش قوياً، من تعلم القرآن متعه الله بعقله حتى يموت، المؤمن له شيخوخة رائعة جداً، تكريماً له؛ لأن له ماضٍ مشرّف في طاعة الله عزَّ وجل، من كانت له بدايةٌ محرقة كانت له نهاية مشرقة. إذا كان في شبابه متحرق على طاعة الله له عند الله شيخوخة مشرِّفة.
تشكل البرق والرعد من آيات الله الدالة على عظمته:
المؤمن يعبُد الله خوفاً وطمعاً:
حـرٌ ومذهب كل حـرٍ مذهبي ما كنت بالغاوي ولا المتعصبِ
يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى حـبُّ الأذية من طباع العقربِ
لي أن أرد مساءةً بمـسـاءةٍ لـو أنني أرضى ببـرقٍ خُلَّبِ
البرق الخُلَّب البرق الذي لا مطر في سحابه، برق ورعد ولا توجد أمطار، والحقد في اللغة انحباسٌ المطر، سماءٌ كلها غيوم ولا مطر.
بعض الآيات تتفكر بها وبعضها تعقلها وبعضها تسمعها:
إذاً البرق ظاهرة جغرافية يعرفها كل إنسان، أما في أساسها تفريغ شحنات كهربائية، تصل الحرارة إلى ستة آلاف درجة، يحدث انفراغ في الهواء، تأتي كتل الهواء كي تملأ هذا الفراغ فتصطدم، من اصطدامها ينشأ الرعد، ويوجد سورة بالقرآن اسمها سورة الرعد.
﴿ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا
وقال:
﴿ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَصْحَابِ السَّعِيرِ(11)﴾
والحمد لله رب العالمين.