- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (030)سورة الروم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم مع الدرس الثالث عشر من سورة الروم.
الهدى يرفعك والكفر يسحقُكَ:
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)﴾
أيها الإخوة الأكارم الأدوات في اللغة ككلمة على، وحتَّى، ومتى، والـ لام، وعن، ومِن، هذه كُلها أدوات، أي كلمات لها معانٍ لا تبدو إلا مع غيرها من الكلمات، فربنا عزَّ وجل يقول:
﴿
الهدى يرفعك؛ والكفر يسحقُكَ، الكفر عليك؛ والهدى لك، لذلك ربنا عزَّ وجل حينما جاء بكلمة عليه: ﴿فَعَلَيْهِ﴾ أي كمن يضع في صندوقه المواد الضارَّة، والمواد المتفجَّرة، والمواد المؤذية، والمواد المُمْرِضَة، فكل شيءٍ يفعله الإنسان سيدفع ثمنه باهظاً.
البشر صنفان إما موصول منضبط محسن أو مقطوع متفلِّت مُسيء:
مثلاً طالب في أول حياته منضبط، وقته مُنَظَّم، دوامه في المدرسة منظَّم، دراسته منظَّمة، هذا الطالب مع مرور الأيام يزداد رُقِياً في بنائه النفسي، وبنائه العقلي، وبنائه الشعوري إلى أن يصبح ذا مكانةٍ مرموقةٍ في المجتمع؛ الطالب الآخر الذي كان متفلِّتاً من أي هدف، من أي نظام، كان يفعل ما يشاء، ينتقل من مكان إلى مكان، من بُستان إلى بستان، من رفيق إلى رفيق، من نُزهة إلى نزهة، فيما يبدو هذا متفلِّت، هذا حر، الأول مُقَيَّد بدوام المدرسة، بوظائفه، بواجباته، بتعليمات والده، هذه القيود رفعته إلى أن أصبح في ذروة المجتمع، بينما هذا التفلُّت جعله في أسفل سافلين.
الهدى في خدمتك أما الضلال فهو سجن لك:
النقطة الدقيقة جداً وذكرتها اليوم في الخطبة: أنه يبدو لك أن الضال لا قيد يقيِّدُهُ؛ لأنه يفعل ما يشاء، يأكل ما يشاء، يذهب إلى أي مكان يشاء، يلتقي مع من يشاء، ينتهك حُرُمَات من يشاء، يتمتع بالحريَّة؛ ولكن هذه الحرية في ظاهرها حرية، وفي حقيقتها قيد:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38)﴾
المؤمن منضبط، آمن بالله عزَّ وجل، ما دام آمن بالله الله له منهج، هناك شيء يقول لك الله عزَّ وجل: افعله، فأنت كمؤمن ليس لك أن لا تفعله، وهناك شيء آخر أمرك أن لا تفعله، فأنت مقيَّد ليس لك أن تفعله، فيبدو لك أن الإيمان فيه قيود، طبعاً في صلوات خمس، وغض بصر، وعدم مصافحة النساء مثلاً، وتحرِّي الدخل؛ هذه شبهة، هذه ربا، هذه علاقة ربويَّة، هذه كذب، هذه تدليس، هذه غيبة، هذه نميمة، فيبدو لك أن هناك أوامر دقيقة جداً أنت مُقَيَّد بها، لكن هذه القيود ترفعك إلى أن تحتلَّ مكانك الصحيح، المخلوق الأول والمكرَّم، بينما التفلُّت الذي يبدو على شكل حريَّة عند بعض الناس، هذا التفلُّت يجعلك في قيد المعاصي، لذلك قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ
الهدى معها (على)، الهدى يرفعك، أنت على الهدى، الهدى في خدمتك؛ أما الضلال هو سجنٌ لك:
الكفر هو تفلُّت من منهج والمنهج لمصلحتك:
قال تعالى:
﴿
هنا تقريباً الآية لها معنى يقترب من ذاك المعنى:
الإيمان تصديق وإقبال والتزام والكفر تكذيب وإعراض وتفلُّت:
انظر إلى الناس الآن أكثرها بالتمني، كلَّما ذكر الإيمان يقول: يا رب اجعلنا مؤمنين، الحمد لله، دعوات، تَنَهُّدَات، تمنيِّات، تطلُّعات، تشوّقات، ولكن بعيداً عن الاستقامة، بعيداً عن التطبيق: "ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي" يوم الجمعة لباس أبيض، سُبحة، عطر، ولكن لا انضباط، ولا وقوف عند كتاب الله، ولا كسب حلال، ولا صدق، لكن يوجد زي إسلامي رائع، ولباس إسلامي جيد جداً يضفي عليك الصلاح والوقار والتقى، وبعد الاستحمام يكون وجهه متألقاً، نحن نريد الاستقامة:
هناك جانب عقلي، وجانب نفسي، وجانب سلوكي، فالإيمان تصديق وإقبال والتزام، والكفر تكذيب وإعراض وتفلُّت، التفلُّت معه إساءة، فربنا عزَّ وجل يقول:
القرآن إعجازه في إيجازه:
قال تعالى:
من يقرأ القرآن يتوقَّد ذهنه:
هناك آية أوضح من ذلك:
﴿
ما المعنى الدقيق؟ فئةٌ مؤمنةٌ تقاتل في سبيل الله، وأخرى كافرةٌ تقاتل في سبيل الشيطان، هذا المعنى الكامل، فالقرآن إعجازه في إيجازه، الذي يقرأ القرآن يتوقَّد ذهنه:
الاشتباك في البلاغة:
قال:
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(1)﴾
لو وجدت كافراً أعماله صحيحة هو منضبط، محسن، متواضع، ليس له أغراض شخصيَّة دنيويَّة، دائماً منضبط بالكمال، إذاً الإيمان لا حاجة له، التغى الإيمان.
جاء الكفر مفرداً والإيمان جمعاً لأن الإيمان يجمع والكفر يفرِّق:
لكن:
لا يجمع إلا الإيمان:
ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ
لا يجمع إلا الإيمان، والدليل:
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ
أحياناً الكفار ينفقون أموالهم الطائلة ليصدّوا عن سبيل الله، قال:
﴿
أنت إذا أنفقت المال بعيداً عن منهج الله، بعيداً عن هدف التأليف بين المؤمنين، إذا أنفقت المال على أُناسٍ غير مؤمنين بالله عزَّ وجل من أجل أن توفِّق بينهم، من أجل أن تقرِّب بينهم، هذه الأموال الطائلة التي تنفقها لا تزيدهم إلا بعداً وإلا حسداً وإلا بغضاً، والدليل قوله تعالى
مجتمع المؤمنين الكامل لا مشكلة فيه لأن كل إنسان يعرف حدوده:
من علامات الإيمان أن المؤمن يهفو قلبه إلى مؤمنٍ في طرف الدنيا، يشعر بالمودَّة، والمحبَّة، والقرب، بل إن من علامة الإيمان أن يكون أخوك المؤمن الذي في آخر الدنيا أقرب إليك من أخيك النَسَبِيّ وأنت لا تدري، من أخيك الذي من أمِّك وأبيك، هكذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ. ))
وقال سيدنا علي رضي الله عنه: "إن المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض متوادون وإن بعدت ديارهم وأبدانهم، وإن المنافقين قوم غششة بعضهم لبعض" أن تقول لمؤمن جاء من بلدٍ آخر: أنت أجنبي، والله هذه جريمة، هذا أجنبي؟ هو أخوك في الله، ليس بينك وبينه فرقٌ إطلاقاً، هو من جلدتك، من جِبِلَّتك، من طينَتِك، أقرب الناس إليك ولو كان قد ولِدَ في طرف الدنيا الآخر، هذا الإيمان، هذه عظمة الإيمان، الإيمان يجمع ولا يفرِّق، الكفر يفرِّق، لأن الكفار ليس لهم منهجٌ من خالقهم يسيرون عليه، مناهجهم أرضيَّة، والمناهج متضاربة، متناقضة، المصالح متناقضة، لا انضباط ومصالح متناقضة إذاً لا بدَّ من عدوان، لا بدَّ من أن يأخذ الكافر ما ليس له، فإذا أخذ ما ليس له نشأت العداوة والبغضاء، ونشأت الأزمات، والصراعات، والحروب، وأصبحت الأرض كلُّها في شقاءٍ عميم، خالق الكون له منهج، له مبادئ، له أوامر، له نواهٍ، له حدود، له تشريع، فأنت تأخذ ما لك وتدع ما ليس لك، تقف عند حدك، رحم الله عبداً عرف حدَّه فوقف عنده، مجتمع المؤمنين الكاملين ليس فيه مشكلة لأن كل إنسان يعرف حدوده:
﴿ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(65)﴾
كلمة حر كلمة راقية جداً لا تليق إلا بالمؤمن:
الحديث الشريف هو الحكم بيننا، النبي الكريم قال كذا وقال كذا، آية أخرى:
﴿
ليس لي اختيار، أنا مخيَّر في أن أؤمن أو لا أؤمن، أما إذا آمنت فهناك منهج:
(( الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لا يَفْتِكُ مُؤْمِن. ))
يقول لك المؤمن: أنا لا أستطيع أن أفعل هذا، أنا مقيَّد بالشرع، والله وسام شرف له، هذا وسام شرف، البطولة أن تكون طليق الإرادة والقوة، وأنت مقيَّد بالشرع، بالكمال، بالموقف الأخلاقي، فلذلك إذا شعر الإنسان بنفسه أنه قوي كأن يكون مقتدراً مادياً، قوة عضلية، قوة اجتماعية، قوة نفسية، قوة مالية، وشعر أن له خصوم لكن الشرع قيَّده، هذا القَيْد وسام شرف، عليه أن يرفع رأسه عالياً، يا رب لك الحمد الذي عرَّفتني وجعلتني أنضبط بمنهجك أأتمر بأمرك وأنتهي عما عنه نهيت.
لذلك كلمة حر أنا أستكثرها على أهل الدنيا وأقول له: متفلّت، أقرب لهم من كلمة حر، الحرية تعني؛ حر التفكير، حر الإرادة، حر ليس تبعاً لأحد، ليس عبداً لتقاليده، لشهواته، كلمة حر كلمة راقية جداً لا تليق إلا بالمؤمن، أما أن تقول لإنسان ليس مؤمناً، متفلتاً من منهج الله عزَّ وجل، يفعل ما يحلو له، يتحرَّك من دون منهج، أن تقول له: فلان حُر، لا والله، هذه كلمةٌ لا يستحقُّها، الأصح أن تقول: إنسان مُتفلّت، لذلك ربنا عزَّ وجل يقول:
اللسان جزء من قوة الإنسان:
كل شيءٍ تفعله سوف تُسأل عنه، والبطل أيها الإخوة هو الذي يُعدُّ لله جواباً صحيحاً، لأن الإنسان جزء من قوَّته لسانه، فهناك أشخاص منحرفون جداً ولكن عندهم قوة إقناع عالية جداً، تجده دائماً يبدو لك وكأنه ملاك من السماء، وهو غارق في إيقاع الأذى بالناس، فإذا حدَّثك حدَّثكَ بالقيم والفضائل والانضباط والتواضع، هذا قوته في لسانه، بإمكانه أن يخدع بعض الناس إلى أمدٍ طويل، وبإمكانه أن يخدع كل الناس إلى أمدٍ قصير، ولكن يوم القيامة ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿
سلاحه سحبناه منه
البطولة أن تراقب الله عزَّ وجل بكلماتك وحركاتك وسكناتك:
الموقف مع الله صعب جداً، فلا طلاقة لسان تفيد ولا حجة تنفع، والدليل النبي عليه الصلاة والسلام سيِّد الخلق وحبيب الحق، سيد ولد آدم، المخلوق الأول الذي يوحى إليه قال تعالى:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
الذي بلغ سدرة المنتهى، لو استطعت بذكائك، بقدراتك اللفظيَّة، بطلاقة لسانك، بحجَّتك، أن تنتزع من فمه الشريف حكماً لمصلحتك وأنت لست على حق، هل تنجو من عذاب الله، إنه قال:
(( إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار. ))
العلاقة مع من؟ مع الله عزَّ وجل، مشكلتك مع الله، ألم يقل له: "بعني هذه الشاة وخذ ثمنها"، قال له: "ليست لي"، قال له: "قل لصحابها ماتت".
الآن يقول له: كن ليناً، ولا تتشبث برأيك، أي اكذب، دلِّس، تجاوز الحدود، لا تدقِّق، لا تشدِّد، لا تتزمَّت، قال: "بعني هذه الشاة وخذ ثمنها"، قال له: "ليست لي"، قال له: "قل لصاحبها ماتت"، قال له: "ليست لي"، قال له: "قل له أكلها الذئب ـ يا أخي ـ وخذ ثمنها"، قال له: "والله إنني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني فإني عنده صادقٌ أمين، ولكن أين الله؟".
هذه مشكلتك، هذا المؤمن:
لن تنجو من عذاب الله إلا إذا كنت في مرضاة الله عزَّ وجل:
أيها الإخوة الأكارم الموضوع موضوع مصيري، وليست القضية أنه درس علم حضرناه، والله ممتع وفيه أمثلة جميلة، فيه تفسير عميق؛ بل القضيَّة أخطر من ذلك، القضيَّة متعلِّقة بمصيرك الأبدي وعلاقتك مع الله فقط، ما دام النبي عليه الصلاة والسلام لو حكم لك بشيء ولم تكن على حق لا تنجو من عذاب الله، القضيَّة لم تنتهِ، لا تنجو إلا إذا كنت كما يريد الله عز وجل، لا تنجو إلا إذا كنت في مرضاة الله عزَّ وجل، فلذلك:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ
هذا المعنى لو رأيت إنساناً كافراً منحرفاً يزداد قوَّة يزداد شأناً:
﴿
أبواب المعرفة ثلاثة:
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)﴾
الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، ومع ذلك الدنيا على أنها قصيرة ومحدودة مليئة بالعظات والعبر، أنا أعطيك ثلاثة أبواب للمعرفة، أتحب أن ترى الله من خلال الكون؟ الكون يكفي، أتحب أن ترى الله من خلال أفعاله؟ تتبَّع المستقيم، تتبع المنحرف، تتبع الزاني، تتبع العفيف، تتبع الصادق، تتبع الكاذب، تجد أن الكاذب له معاملة من الله، والصادق له معاملة، أي أن الخيارات كثيرة جداً، وإن شئت أن تعرفه وأن ترى الله من خلال كلامه فدونك القرآن، هذا القرآن باب، والكون باب، وأفعال الله عزَّ وجل باب.
الحقيقة الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، من كأس ماء تعرف الله، من ابنك الذي في البيت يلعب أمامك تعرف الله، من رغيف الخبز تعرف الله، من الشمس والقمر تعرف الله، من الليل والنهار تعرف الله، من الزلازل تعرف الله، بلد مستقرَّة، أبنية شامخة، ثلاثة عشر طابق، خمسة عشر، عشرين، أربعين، الناس في طمأنينة، ترى بعينك كيف أن بعض البلاد يصبح عاليها سافلها، في دقائق، في ثوانٍ، إذاً نعمة الاستقرار من نعم الله الكبرى، فإن لم تعرفها وأنت مستقر ربَّما عرفتها في وقت آخر، إذاً:
المؤمن من حبِّه لذاته يطيع الله ويستقيم على أمره:
من باب ضرب الأمثلة: إذا كان لديك صندوق في البيت فتحته ووضعت فيه ألف ليرة وقفلته، فتحته مرَّة ثانية ووضعت خمسة آلاف، كلَّما فتحت هذا الصندوق ألقيت فيه مبلغاً كبيراً، والصندوق لك ومفتاحه معك، فأنت ماذا فعلت؟ خدمت من؟ فعلت معروف مع من؟ فعلت معروف مع نفسك:
إنسان ما إذا أنشأ شركة استثماريَّة وأعطى بالمئة أربعين، تجد الناس يذهل عقلهم ويقبلون عليه إقبالاً منقطع النظير، يمكن أن يسحب أموال البلد كلها إذا أعطى أربعين بالمئة، أما ستين أو سبعين تتعطَّل كل المصالح، لاجتماع المال عنده، وإذا كان الاستثمار بالمئة مليون وثابتة وليس هناك تفليس بعد ذلك، نصاب بأمراض قلب من وراء الاستثمارات الضخمة، وإذا كان الاستثمار بالمئة مليون فالله عزَّ وجل عطاؤه لا يقدَّر بثمن، فالبطولة أن تعرف مع من تتعامل.
التجارة أن تتاجر مع الله لأن الله يحب أن تربح عليه:
الله عزَّ وجل يحبُّ أن تربح عليه، الآية الكريمة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10)﴾
تجارة الدنيا يقول لك: سنة اشتغلنا، واستقبلنا بضاعة، ودفعنا مصاريف باهظة، ودفعنا ضرائب، فكان الربح بالمئة خمسة عشر، بالمئة ثمانية عشر، بالمئة عشرين، بالمئة خمسة وعشرين، هكذا الدنيا:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أليمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(11)﴾
هذه تجارة، أن تتاجر مع الله؛ لأن الله يحب أن تربح عليه، إذا التاجر أعطاك ربحاً معقولاً يقول لك: والله بضاعته مجبورة، أي أنه طلعت من عينه، أحب لي أن أربح، هكذا كلام التجار، ربنا عزَّ وجل يحب أن تربح عليه، يحب أن تنفق من مالك في سبيله، إنفاقاً استهلاكياً، إنفاق الناس كله استهلاكي؛ على ترتيب البيوت، على التزيين، على العناية، على الرفاهية، على الطعام، على الشراب، على اللباس، ما ترك شيئاً لآخرته، كل دخله إنفاق استهلاكي، ألا تريد إنفاقاً استثمارياً؟ اجعل جزءاً من دخلك لله لكي يأتيك أضعاف مضاعفة، هكذا قال سيدنا عمر عندما أمسك بتفَّاحة، فقال: "أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت". والله شيءٌ رائع: "أكلتها ذهبت أطعمتها بقيت".
على الإنسان أن ينفق المال إما استهلاكياً أو استثمارياً:
أنت إما أن تنفق المال إنفاقا استهلاكياً، وإما أن تنفقه إنفاقاً استثمارياً، والاستثمار غالٍ كثيراً، بالمئة مليون، بالمئة عشرة ملايين، بالمئة مليار، وشيء مضمون وثابت:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مئة حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(261)﴾
وقال:
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ(44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ(45)﴾
نحن عندنا الآخرة، الحقيقة الإيمان بالآخرة عندنا الإيمان بالله: آمنت بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وقضائه وقدره خيره وشرِّه. من بين هذه الخمس أركان للإيمان يوجد ركنان أساسيان جداً: الإيمان بالله وباليوم الآخر، لو ألغيت الإيمان باليوم الآخر لا معنى للعمل الصالح، كأنك إذا لم تؤمن باليوم الآخر أصبحت الحياة بلا معنى، لأن العمر قصير والمطالب كبيرة جداً، أما إذا آمنت باليوم الآخر أصبح لهذه الحياة معنى، أصبحت أنت في مدرسة، في مزرعة، أصبحت الدنيا دار تكليف، والآخرة دار تشريف، أصبحت الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، فهكذا تنتظم الحياة.
إذا صحَّ إيمانك بالآخرة تحاسب نفسك على كل حركةٍ وسكنةٍ:
الآن المسلم يقول لك: أنا آمنت بالآخرة، ولكن عملياً إيمانه بالدنيا فقط، تجد أنه يحسب حساباً لكل شيء في الدنيا؛ أما هذه الحياة الأبديَّة خارج اهتمامه، والدليل تجد أنه على مشارف الخمسين ولا يصلي، بالخمسينات ماله حرام، نساؤه كاسيات عاريات، ليس له منهج، يقول لك: أنا الحمد لله مؤمن بالله وباليوم الآخر، هذا كلام لا معنى له في الأساس، إذا الإنسان آمن باليوم الآخر تجده في كل حركة وكل سكنة يهيئ جواباً لله عزَّ وجل، فهذه الزوجة بهذا الشكل أترضي الله عزَّ وجل؟ كيف ستواجه الله عزَّ وجل يوم القيامة؟ وهذا العمل، هذه تجارة مرفوضة، هذه التجارة مشبوهة لأن البضاعة ممنوعة في الإسلام، هذه الطريقة بالتعامل ممنوعة.
الإيمان بالآخرة إذا صحّ يقلب حياة الإنسان رأساً على عَقِبْ، إذا صحَّ إيمانك بالآخرة تحاسب نفسك على كل حركةٍ وسَكَنةٍ، وعلى كل نَفَس، لأنك آمنت أن هناك يوم آخر وسوف تُسأل عن كل أعمالك، وبعضهم يقول: يا رب كل شيء لا تسألنا عن شيء، هذا كلام خلاف القرآن، قال تعالى:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
وقال:
﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)﴾
وقال:
﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾
هكذا؟!
الله تعالى يحاسب كل الناس غني وفقير لأنه هو حق:
مثلاً جامعة كلفة الأبنية فيها مئات الملايين، الحدائق، المكتبات، المخابر، لكل خمس طلاب دكتور له رواتب ضخمة، وله معاش تقاعدي، وله مكافآت، وتجلس في الجامعة وبدون امتحان، فقط لأنك دخلت إلى الجامعة أثناء العام الدراسي عدة مرَّات، وتحمل في يدك ثوباً أبيض، تمشي أمام رفاقك كالطاووس، وبعد ذلك تُمنح دكتوراه، هل هذه جامعة؟ هناك امتحانات؛ أسبوعيَّة، وشهرية، وسنوية، وفصليَّة، وهناك أطروحة، ومؤلَّفات، ودكاترة، ودكاترة مشرفين، فجامعة بلا امتحان! غير معقول.
نريد أن نعيِّن أطبَّاء، كل واحد يأتي بتصريح أنه طبيب، هل تقوم بهذا الدولة أم تقول: أين شهادتك المصدَّقة؟ وإن كان من خارج القطر مصدقة من الخارجية، ومن التربية، ومن الجامعة
﴿
لأنه هو حق.
ندم أهل النار شديد لأنهم خسروا أنفسهم إلى الأبد:
ربنا عزَّ وجل قال:
(( إن أهل النار ليبكون حتى لو أجريت السفن في دموعهم لجرت، وإنهم ليبكون الدم. ))
هذا الندم الشديد لأنه ضيَّع نفسه، خسروا أنفسهم، خسروا الأبد، خسروا الجنَّة وتمتَّعوا بالدنيا، قال:
﴿
دائماً يعتذر، همَّته ضعيفة، يرغب الراحة، يرغب الاستقرار، لا يحب أن يعمل أعمالاً صالحة، لا يحب أن يبذل ماء وجهه لأحد، يريد أن يرتاح، مواعيده، وسهراته، ولقاءاته، وسروره، ونزهاته، وزوجته، وأولاده، وعمله هذا كل شيء في حياته، هذا الذي أحبَّ الدنيا واطمأنّ لها، رضوا بالحياة الدنيا
أدلة من السُّنة الشريفة على أن متاع الحياة الدنيا قليل:
(( واللَّهِ ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلَّا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحَدُكُمْ إصْبَعَهُ هذِه -وأَشارَ يَحْيَى بالسَّبَّابَةِ- في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ تَرْجِعُ؟ ))
الآن اذهب إلى الساحل السوري، واركب قارباً وأخرج دبوساً وأنزله في البحر، وأخرج محرمة وامسح الدبوس، بماذا رجع هذا الدبوس؟ هذا المخيط أو الإبرة بماذا رجع؟ قال:
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ ))
أدلة من القرآن الكريم على أن متاع الحياة الدنيا قليل:
الآية الثانية:
﴿
الآية الثالثة:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ
يا مساكين
الآية الرابعة:
﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ(60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
هكذا؟!!
أعلى مرتبة ينالها الإنسان في الكون أن يرضى الله عنه:
﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ
لو نعقل معناها، فأعلى مرتبة ينالها الإنسان في الكون أن يرضى الله عنه، المال يزول، والمراتب تزول، والوجاهات تزول، والمناصب تزول، والبيوت الفاخرة تزول، والمركبات الأنيقة تزول، كله يزول، أما إذا كان الله راضياً عنك هذا لا يزول؛ بل تسعد به إلى الأبد، فإذا قرأت الآية الكريمة:
﴿
ألا تشعر برعشة؟ ألا تشعر أن قلبك خفق.
في العبوديَّة لذائذ وسعادات لا يعلمها إلا من ذاقها:
عندما قال سيدنا رسول الله لسيدنا معاذ:
(( يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ))
ألا تتمنَّى أن يحبُّك رسول الله سيد الخلق؟ عندما قال النبي الكريم لسيدنا سعد:
(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ))
ألا تتمنَّى أن تكون كسيدنا سعد؟ وعندما دخل على رسول الله فقال:
(( هذا خالي فليرني امرؤ خاله. ))
هذه المراتب العليا أن تكون عند خالق الكون محبوباً:
فلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما ولَّيت عنا لغيرنا
***
الإنسان يبحث عن السرور ويتصور أنه إن سهر بهذا الفندق أو مع الجيران، سيشعر بالسرور، أنت تعرف ما عند الله عزَّ وجل، أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني، ترغب في الدنيا والدنيا زائلة:
فلو شــاهـدت عيناك من حسـننا الذي رأوه لما ولـيـت عنا لغيرنا
ولـو سمعت أذناك حســن خطابنا خـلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
***
والله في العبوديَّة لذائذ، هناك سعادات لا يعلمها إلا من ذاقها، الذي ذاق الطعام والشراب، واللذائذ المباحة ـ لم أقل المعاصي، المباحة ـ والبيوت الفخمة، والمركبات الفارهة، والعز، والسلطان، والأناقة، واللبس، والسهرات، والنزهات، والاحتفالات، وركوب الطائرات، والسكنى في الفنادق، الذي ذاق هذه الأشياء وذاق طعم القرب يقول لك: والله لا توجد نسبة بينهما، حتَّى أن أحد العارفين بالله قال: "والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف". والله في نفس المؤمن من سعادة لو وُزِّعَ على أهل بلدٍ لكفاهم، ما السعادة؟ أن تشعر أن خالق الكون يحبك، وأنت غالٍ عليه:
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
أطلق بصرك كما تشاء، ليس لك قيمة عند الله، أما القيمة إذا غضضت البصر.
الإيمان مرتبة أخلاقية وجماليَّة وعلميَّة:
سيدنا يوسف عندما دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال، لو قَرَّب ما كان سيدنا يوسف، ولكان شخصاً من الأشخاص التافهين الذين مروا بالحياة، لأنه قال:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ
هل عندك في حياتك موقف كهذا؟ إن كان متعلِّقاً بالنساء؟ أو متعلِّقاً بكسب المال الحرام، تقول: معاذ الله هذا المبلغ لا أخذه لأنه ليس لي، عندك الموقف دائماً معاذ الله؟ عندك موقف صُلب لا يلين؟ كنت أقول مرَّة في أول خطبة في هذا المسجد، خطبتها عام أربعة وسبعين: أن الإيمان مرتبة أخلاقية، ومرتبة جماليَّة، ومرتبة علميَّة، ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه، مرتبة علميَّة، المؤمن عنده علم، ومرتبة أخلاقية؛ لا تقوى سبائك الذهب اللامعة ولا سياط الجلادين اللاذعة على أن تقوِّض إيمانه، موقف.
السحرة قالوا لفرعون:
﴿ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ
سرّ السعادة تطابق الهدف مع الحركة:
قال أبو سفيان لخبيب بن عدي: "أتحبُّ أن يكون محمدٌ مكانك؟" خبيب بن عدي صحابي جليل، على وشك أن يموت قتلاً، سأله أبو سفيان فقال له: "يا خبيب أتحبُّ أن يكون محمدٌ مكانك ـ ما هو قولك؟ ـ وأنت معافى"، فانتفض خبيب وقال: "والله ما أحبّ أن أكون في أهلي وولدي ـ مع زوجته وأولاده هذه تمام الحياة ـ وعندي عافية الدنيا ونعيمها ـ ليس العافية فقط، الصحة، بل النعيم أي عنده ورود، وعنده مكيف، وعنده سيارة على الباب، وعنده مشاريع للصيف ـ وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب رسول الله بشوكة ـ ليس مكاني بل بشوكة ـ" قال أبو سفيان: "والله ما رأيت أحداً يحب أحداً كحبِّ أصحاب محمدٍ محمداً".
هذا هو الإيمان، هل عندك مثل هذه المواقف؟ أي أن الدنيا كلها تحت قدمك، هذا الإيمان، لا أفعل ورب الكعبة ولو قُطّعت إرباً إِرباً، هل عندك موقف كهذا؟ هذا الإيمان، ليرة، مئة ليرة، ألف، مئة ألف، مليون، مئة مليون هي عنده كالصفر، فيها شبهة لا تأخذها بل تقول: معاذ الله، هذا هو الإيمان، لا تقوى سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة، على أن تقوِّض إيمانهم، هذا الإيمان.
الإيمان مرتبة أخلاقيَّة، ومرتبة جماليَّة، أي أنه يعيش في سعادة لا يعرفها إلا من ذاقها، ما هي السعادة؟ تطابق الهدف مع الحركة، قلت مرة سابقاً: افترض أحد الطلاب بعد شهر أو بعد أسبوعين عنده فحص لمادَّة مهمَّة جداً يتوقَّف نجاحه عليها، يتوقَّف تخرُّجه عليها ـ طب مثلاً ـ وإذا أخذ الشهادة يستطيع فتح عيادة، ويتزوج، فجاء أصدقاؤه وأخذوه نزهة، لماذا هو في هذه النزهة مُنْقَبِض؟ مكان جميل، طعام طيب، مناظر جميلة، أصدقاء محبون، لماذا أنت أيها الإنسان في هذا المكان الجميل مع هؤلاء الأصحاب الأفاضل، ومع هذا الطعام اللذيذ أنت منقبض؟ لأن هذه الحركة تتناقض مع هدفه.
خذ هذا الطالب وضعه في غرفة قميئة مظلمة، تراه قد قرأ هذا الكتاب المقرَّر وفهمه، يشعر براحة، ما هذه الراحة؟ هي تطابق الهدف مع الحركة، إذا سألتموني عن سر السعادة أقول لكم: إذا تطابق الهدف مع الحركة شعرت بالسعادة، ذهبت إلى فرنسا لعقد صفقة، فلم تجد فندقاً جيداً، ولا مطعماً جيداً بعد الظهر كله مغلق، ولكن قابلت مدير المعمل وأخذت صفقة رابحة جداً، إنك تنسى أن الفندق درجة خامسة، والطعام سيئ جداً، كل شيء تنساه لأن هدفك تحقَّق، ولو وجدت أفخر فندق، وأفخر مطعماً ولكن البضاعة قد بيعت، وعدَّت بخُفّي حنين! فهذا سر السعادة أن تشعر أن حريتك جاءت مطابقةً لهدفك.
إذا أردت أن يحبُّك الله فكن تقياً ومستقيماً:
إذاً:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ
وقال:
﴿ بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ
إذا أردت أن يحبُّك الله فكن تقياً، وكن مستقيماً، وكن صادقاً، وكن أخلاقياً، وكن متطهِّراً، المحبوبات معروفة، التعامل مع الله تعامل واضح جداً، الله لا يوجد عنده إنسان أفضل من إنسان، هذه حقيقة أساسيَّة، قال سيدنا عمر لسيدنا سعد:
"يا سعد لا يغرَّنك أنه قد قيل: خال رسول الله، فالخلق كلهم عند الله سواسية ليس بينه وبينهم قرابةٌ إلا طاعتهم له".
من روعة هذا القرآن أنه ينوع عليك الأساليب؛ فتارة تعيش في آياته الكونية، وتارة تعيش في آياته التشريعية، وتارة في آياته الإخبارية، هناك آيات إخبارية عن الأقوام السابقة، وهناك آيات تشريعية، وهناك آيات كونية، فالذي يُلاحَظ أن الله عز وجل في كتابه العزيز من حين إلى آخر يعيدك إلى الكون كي تعرفه، أو إلى الشرع كي تعبده، أو إلى التاريخ كي تتّعظ منه، الآن العودة إلى الآيات الكونية، قال تعالى:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(46)﴾
يعني الهواء، هذا الهواء موضوع كبير للتفكر، الهواء بين الناس ليس حاجزاً، ومع ذلك يحمل طائرات، وإذا تحرك الهواء دمر كل شيء، هناك أعاصير، تجد هناك نسمات لطيفة على ضفاف الأنهار، على شواطئ البحار، نسيم عليل، وهناك رياح، وهناك ريح، وهناك عواصف، وهناك أعاصير، الأعاصير سرعتها تزيد عن 800 كم في الساعة، تدمر كل شيء، كانت هنا مدينة بأبنيتها، بأشجارها، بمرافقها، بمحطاتها، بمينائها، بكل شيء، هناك الأعاصير، وهناك العواصف، وهناك الرياح، وهناك الريح، وهناك النسيم العليل، هذه الريح:
﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً
تجد الغوطة نضرة، أي مكان الآن في القطر نضِر، والسبب هذه الأمطار التي تفضل الله علينا بها.
﴿
المجرم هو الذي لم يعمل صالحاً، ما آمن بالله عز وجل، يعني عرّى نفسه عن كل فضيلة، جرم الثمرة: قطعها عن شجرتها، هذا معنى جرمَ الثمرة، وجرمَ اللحم نزعه عن العظم، وفلان مجرم يعني عرّى نفسه عن كل فضيلة، عن كل عمل صالح، عن كل إيمان بالله،
﴿ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)﴾
﴿
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ
آيات كثيرة جداً، فالإنسان المنطقي لا يشك في مصداقية هذه الآيات، بل يشك في إيمانه، لما ربنا عز وجل قال:
﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ(49)﴾
والحمد لله رب العالمين.