- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (049)سورة الحجرات
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تعلق الآية الأولى في سورة الحجرات بالعقيدة:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الأول من سورة الحجرات.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)﴾
كلكم يعلم أيها الأخوة أن في الإسلام عقائدَ، وأن في الإسلام عباداتٍ، وأن في الإسلام معاملاتٍ، وأن في الإسلام آداباً، فهذه السورة الكريمة فيها جانبٌ من الآداب التي ينبغي أن يتحلَّى بها المؤمن تجاه خالقه، وتجاه رسوله، وتجاه إخوانه المؤمنين، لكن الآية الأولى لها أهميِّةٌ كُبرى لأنها متعلِقةٌ بالعقيدة، أنت حينما تتعرَّف إلى الله عزَّ وجل من خلال الكون، حينما تطلع على جانبٍ من عظمة الله عزَّ وجل، حينما تعرف علمه وحكمته، ورحمته وعدله، حينما تعرف الله عزَّ وجل وتعرف أن هذا كلامه لا يمكن أن يخطر في بالك أن تتناول هذا الكلام بالمناقشة، أن تتناول هذا الكلام بالموازنة، هذا كلام الله عزَّ وجل، يمكن أن تُعْمل عقلك فيه لتكشف جوانب عظمته، أما أن تمتحنه، أما أن تقدِّم البديل، أما أن تناقشه، أما أن توازن بين ميزاته وبين مضاعفات تطبيقه فهذا دليل عدم الإيمان.
لا يعرف الله من اعتقد أن هناك حلاً لمشكلة ما خلاف حلّ القرآن الكريم:
لذلك الله جل جلاله بدأ هذه السورة بالأدب مع الله عزَّ وجل، حينما تفكِّر أن لديك حلاً لمشكلةٍ خلاف حلِّ القرآن الكريم فأنت لا تعرف الله، حينما تفكِّر أن تقول: هذه القضية التي طرحها الدين هل تصلح لنا أو لا تصلح أنت لا تعرف الله عزَّ وجل، حينما ترى أن حلاً أرضياً نجح في حلِّ مشكلةٍ لم ينجح الإسلام في حلّها أنت لا تعرف الله عزّ وجل، لا تقدِّم اقتراحاً، ولا بديلاً، ولا شيئاً، ولا نظاماً، ولا منهجاً يخالف منهج الله عزَّ وجل، تصوَّر إنسانًا أُمِّياً عنده مرض قلب ثم جاء طبيب القلب، قال له الطبيب: إيَّاك أن تتحرَّك، بل إياك أن تتكلَّم، فقال له هذا الضيف: لا، امش، المشي مفيد، هذا الذي قدَّم اقتراحاً وهو جاهلٌ في حضرة طبيب قلبٍ وهو لامعٌ هو إنسان فضلاً عن أنه ارتكب خطأً فقد ارتكب وقاحةً، حينما أدلى برأي مخالف لرأي الطبيب المختص، المشي مفيد ولكن لغير هذا المريض، هذا المريض لو تكلَّم كلماتٍ فيهن جهدٌ لتوقَّف قلبه، لذلك لابدَّ له من عنايةٍ مشدَّدة.
من خالف منهج القرآن الكريم فقد قدّم بين يدي الله ورسوله:
تصور إنسانًا يدخل على طبيب مثلاً يقول له: سآخذ الدواء الفلاني والفلاني، وسأعمل، يقول له الطبيب: لماذا أنت عندي؟ ما دمت تقدِّم اقتراحاتٍ وأدويةً لمرضك فلماذا أنت عندي؟ أي لمجرَّد أن تعتقد أن هناك حلاً أرضياً وضعياً لمشكلةٍ خلاف حلِّ الإسلام لها فقد قدَّمت بين يدي الله ورسوله، لمجرد أن تفكّر في طريقةٍ مخالفةٍ لمنهج القرآن الكريم أنت قدَّمت بين يدي الله ورسوله، لمجرد أن ترى أن نظاماً ينبغي أن نستورده ليحلَّ مشكلاتنا وعندنا كتاب الله يُتلى بيننا، منهج الله لنا، لمجرد أن تستقدم هذا النظام كي يَحُلَّ مشكلاتنا، فأنت ماذا فعلت؟ قدَّمت بين يدي الله ورسوله، أي قدَّمت البديل، من أنت إذا قيست خبراتك وعلمك بعلم الله عزَّ وجل؟ النبي عليه الصلاة والسلام يتلقَّى عن ربّه، فإذا قدَّمت أمام النبي اقتراحاً فأنت حكماً تقدِّمه أمام الله عزَّ وجل، إذا أمسكت بحكمٍ شرعي وقلَّبته هل يصلح أو لا يصلح؟ معقول أم غير معقول؟ أنت حينما تفعل هذا قدَّمت بين يدي الله ورسوله.
كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه:
الآية الأولى في هذه السورة وإن كانت منتميةً إلى الآداب التي يجب أن تتأدَّب بها تجاه الله أولاً، وتجاه رسول الله صلى الله عليه وسلَّم ثانياً، إلا أن هذه الآية متعلِّقةٌ بالعقيدة، وفرقٌ كبير لو أنك وقفت أمام مئة ألف كتابٍ كلها في كفَّة وكلام الله في كفَّة، كلام الله وحيٌ من عند الله، كلام الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كلام الله حقٌّ صرف ليس فيه باطل، ولا فيه اختلاف، ولا فيه ضعف، فالمشكلة أن الإنسان يلاحظ نفسه، أنا يمكن أن آتي بآية قرآنية أو بحكم شرعي وأرى أنه لا يصلح للتطبيق الآن؟
﴿
ممكن تفكر في استثمار المال بربحٍ ثابتٍ على شكل الربا؟ يا أخي هذا الشيء عملي وأريح، أنا أشعر أنَّ أناساً كثيرين يرون في المناهج الوضعية البعيدة عن الدين مناهج صالحة للحياة، فمن هنا كانت هذه الآية الكريمة:
﴿
العاقل من لا يكون له رأي مع القرآن الكريم:
مرَّة سألوا طبيبة: ما رأيكِ في تعدُّدِ الزوجات؟ أجابت إجابةٌ قالت: هل يُعقَلُ أن يكون لي رأيٌّ في هذا الموضوع وقد أباحه الله عزَّ وجل؟ والله إجابة رائعة، هل يعقل أن يكون لي رأي مع القرآن الكريم؟ هذا هو الإيمان، الله عزَّ وجل حكم في هذا الموضوع، قال:
الإنسان عندما يشرِّع فإنه يشرِّع من زاوية واحدة:
نحضر لكم أمثلة كثيرة: في بعض البلاد طبَّقوا مبدأ أن الزوج إذا طلَّق زوجته تأخذ نصف أملاكه قطعاً، قال لي أحدهم: بارت سوق الزواج في هذا البلد، فصار الأب الحريص على تزويج ابنته يعرض سند أمانةٍ بمبلغٍ فلكي يقدِّمه للخاطب، فيما لو طالبناك بنصف أموالك عند الطلاق طالبنا بهذا الثمن، توقف الزواج.
في بلاد الصين صدر قانون قبل سنواتٍ عدَّة يُلْزم الأبوين بإنجاب ولدٍ واحد، فكان بعض أهل الصين إن جاءتهم بنتٌ يخنقونها، وإن جاءهم غلامٌ سجَّلوه في السجلات الرسمية، وكان بعضهم أكثر رأفةً فكان يفحص امرأته بالأجهزة الحديثة عن طريق السائل الأمينوسي فإذا كان الحمل أنثى أجهضها، وإذا كان ذكراً أبقاه -أنا أتابع هذا الموضوع على صفحات الجرائد- آخر خبر في عام ألفين هناك خمسون مليون عازب لا يقابل هؤلاء الفتيات، قبل هذا الخبر يوجد خبر نشرته صحيفة دمشقية يومية يقول: إن هناك عصاباتٍ في الصين تخطف الفتيات في سنِّ الزواج، لأنه حينما أصرَّت الأسرة على أن يكون الولد الوحيد ذكراً، فكل واحد حلَّ مشكلته الخاصَّة أما في المجموع ظهرت مجتمعاتٌ ليس فيها نساء.
التشريع الأرضي يخدم مصالح المشرِّع لكن التشريع السماوي يضمن سعادة الدنيا والآخرة:
حينما قلنا: الإنسان حر ينبغي له أن يفعل ما يشاء! إلى أين وصلنا؟ إلى الإباحية، إلى تبادل الزوجات، إلى زنا المحارم، إلى الشذوذ، إلى مرض الإيدز، فالإنسان عندما يشرِّع أولاً من زاوية واحدة، ولكن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليسعده في الآخرة، وهو بنظره القاصر ينظر إلى الدنيا فقط، ولكن الشرع يضمن له سعادة الدنيا والآخرة، والإنسان إذا شرَّع علمه محدود، فقد يلبي حاجةً على حساب حاجاتٍ، فلذلك ما من تشريعٍ أرضي إلا ويظهر بعد حين خلله الخطير، يُعدَّل، ثم يعدَّل، ثم يعدَّل، ثم يُلْغَى، وهكذا نحن في دوَّامة، تعديلٌ، وتعديلٌ، وتعديلٌ ثم تجميدٌ ثم إلغاء، لأنه لا يمكن للإنسان أن يكون مشرِّعاً، فإن ملك العلم لا يملك تحيَّيد الهوى، وفي الأعمِّ الأغلب أن الإنسان إذا شرَّع وجَّه النصوص لصالحه، فدائماً التشريع الأرضي يخدم مصالح المُشرِّع، فإذا ملك العلم ملكته نفسه، وملكته غرائزه، وإذا كان موضوعياً كان علمه قاصراً، وإذا كان علمه واسعاً نظر إلى الدنيا ولم ينظر إلى الآخرة، وهذا الخلل يعانيه العالم اليوم.
أي تشريع لا ينطلق من منهج الله عزَّ وجل هو تشريع باطل:
مثلاً نحن نراعي قوانين العرض والطلب في الاقتصاد، لذلك تمَّ إعدام عشرين مليون رأس غنم في استراليا، بإطلاق الرصاص عليها ودُفِنت حفاظاً على سعرها المرتفع، هذا هو التشريع الأرضي، من أجل أن نحافظ على أسعار الحمضيات يُتلَف محصول عامٍ بأكمله في أمريكا، فإذا تسلَّل الزنوج الفقراء لأكل بعض حبَّات البرتقال، سمَّموه في العام القادم، والحديث عن إتلاف المواد الغذائية يطول، وحوش، فالإنسان إذا شرَّع علمه قاصر، ونظرته محدودة، وزاويته محدودة، وفوق هذا كله شهوته تتحكَّم فيه، فالإنسان لا ينبغي له أن يفكر في حلٍّ لقضية خلافَ حلّ القرآن الكريم.
أحياناً يذهب إنسان إلى بلد ليعمل، إن لم يكن دخله برقم عالٍ جداً لا يسمح له بإحضار زوجته، إنسان يعيش سنتين أو ثلاث أو خمس بلا زوجة، وزوجة بلا زوج؟ هذا خِلاف النظام الإلهي، قد يحصل فساد من قِبَلِها ومن قِبَلِه، فأي تشريع لا ينطلق من منهج الله عزَّ وجل هو تقديمٌ بين يدي الله ورسوله، لا تقدِّم بديلاً، لا تقدِّم اقتراحاً، لا تقدِّم منهجاً، لا تتناول منهج الله عزَّ وجل بالمناقشة، أي بالتقليب، بالمدارسة، على أنه يصلح أو لا يصلح، واقعي أو غير واقعي، معنى ذلك أنك لا تعرف الله عزَّ وجل.
أفضل نظامٍ للبشرية النظام الذي يعتمد على كتاب الله:
الصحابة الكرام كانوا في أعلى درجات الأدب، فالحُباب بن المنذر رضي الله عنه لمَّا رأى موقع المسلمين في بدر ليس موقعاً جيداً توجَّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام -دقِّقوا فيما سيقول- قال:
(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال لأصحابهِ : أشيروا عليَّ في المنزلِ، فقال الحُبابُ بنُ المُنذِرِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم : أرأيتَ هذا المنزِلَ أمنزِلٌ أنزَلَكَه اللهُ ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَه؟ أم هو الرَّأيُ والحَربُ والمكيدَةُ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم :
قال:
فالمؤمن حينما يشعر أن هذا الكلام وحي الله عزَّ وجل، هذا هو الحل، ولا حلَّ سواه، وهذا هو المنقذ للبشرية مما هي فيه من آلام، إنسان يؤلِّف كتاباً اسمه:
ليس للإنسان أن يبحث إلا عن وجوه إعجاز وحكمة القرآن الكريم:
فحينما تقدِّم بديلاً، أو اقتراحاً، أو شيئاً مخالفاً للكتاب والسنة، أو حلاً لمشكلةٍ ما حلها أو لا يحلها القرآن بهذه الطريقة، حينما تفكِّر أن تفعل هذا فقد وقعت في خطأين كبيرين: الخطأ العقيدي الموضوعي، والاجتراء على الله عزَّ وجل.
الأحمق من يجرؤ على تقديم اقتراح أو بديل أمام الله أو رسوله:
الإنسان أحياناً يخجل أمام دكتور في الآداب أن يتكلَّم باللغة أمامه، هذا شيء مقبول، واقع، أحياناً تكون جلسة فيها إنسان في أعلى مستوى في الأدب، أو في اللغة، أعلى مستوى في أصول الفقه، في علم العقيدة، في الحديث، عالم أحاديث، الحاضرون يتهيَّبون لعلمهم الغزير من الحديث في موضوع اختصاصهم، لو فرضنا إنسانًا على أعلى مستوى من العلم باختصاص معين، وإنساناً يحمل ابتدائية وبدأ يتكلَّم في الاختصاص نفسه، طبعاً سيتكلَّم غلطًا، ولكن فضلاً عن أنه سيتكلَّم خطأً هو بهذا الكلام اجترأ على مقام هذا العالم، هذا مع إنسان لا تجرؤ أن تقول كلمةً في موضوعٍ في حضرة من كان متفوقاً فيه، أليس كذلك؟ في حياتنا الاجتماعية العلمية، في الجامعة، في أعمالنا، إذا وجد إنسان يحمل أعلى شهادة في اختصاصه وأنت تحمل شهادة ابتدائية أو كفاءة هل لك أن تدلي برأيك في موضوع اختصاصه وأنت تتحدَّث بطلاقة؟ مستحيل، أنت مع إنسان لا تجرؤ أن تقول كلاماً في اختصاصه وهو في أعلى درجة من العلم فكيف تجرؤ على أن تدلي ببديلٍ أو اقتراحٍ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وحينما تقدِّم اقتراحاً أمام النبي عليه الصلاة والسلام فأنت في الحقيقة تقدِّم اقتراحاً أمام الله عزَّ وجل، من أنت؟
القرآن الكريم معجزة مستمرة إلى يوم القيامة:
ويا إخوتنا الكرام؛ ما من تقدّمٍ علمي على مستوى البشر في بقاع الأرض كلها إلا ويكشف جانباً من عظمة هذا الكتاب، هذا الكتاب معجزةٌ مستمرَّةٌ إلى يوم القيامة، كلَّما تقدَّم العلم كشف جانباً من هذه المعجزة، طبعاً لعلَّ في أسباب نزول هذه الآية تحديداً لها وتضييقاً لمفهومها، فالعبرة لا في خصوص السبب بل في عموم المعنى،
مرة أول عامٍ خطبت فيه في هذا المسجد وهو عام ألفٍ وتسعمئة وأربعة وسبعين قبل التوسعة، انتحى بي رجلٌ بعد الخطبة ناحيةً وأسرَّ لي أن امرأته تخونه وبدأ يبكي، فسألته: مع من؟ قال: مع الجار، قلت له: وكيف تعرَّف هذا الجار على امرأتك؟ قال: والله مرَّةً زارنا في بيتنا، وأنا قلت لزوجتي: يا أم فلان تعالي إلينا هو كأخيكِ، من هنا بدأت المشكلة، الله عزَّ وجل أمرنا بغضّ البصر، ونهانا عن الاختلاط، جهله قاده إلى ما آل إليه، عنده خمسة أولادٍ منها.
ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا وراءها مخالفة لمنهج الله:
ما من مشكلةٍ على وجه الأرض إلا وراءها مخالفة لمنهج الله، هذا كلام قطعي، كلام مئة في المئة صحيح، ما من مشكلةٍ إلا وراءها مخالفة لمنهج الله، حتى لو انتقلت إلى المجتمعات الغربية تجد أن كل المشكلات الطاحنة التي تسحق المجتمع وراءها مخالفة لمنهج الله عزَّ وجل، وما من مخالفةٍ لمنهج الله عزَّ وجل إلا بسبب الجهل، العلم هو الأول، إذا أردت النجاة فعليك بالعلم، إذا أردت سعادة الدنيا فعليك بالعلم، إذا أردت سعادة الآخرة فعليك بالعلم، إذا أردت الدنيا والآخرة فعليك بالعلم، لأن الله عزَّ وجل له قوانين وله سنن إذا عرفتها سلكت السبيل الصحيح.
على الإنسان أن يتحرك في حياته وفق منهج الله عز وجل:
إن تكلم الإنسان أو سكت فالله يعلم ما هو عليه:
عُقِد مؤتمر للسكان في القاهرة، الحل: أن نؤخِّر سنَّ الزواج إلى الخامسة والثلاثين، ماذا يفعل الشاب حتى هذا السن؟ يجب أن يمارس هذه الحاجة التي أودعها الله فيه خارج الزواج، أي زنا، أو شذوذ بين ذكرين أو أنثيين، هذا الحل عندهم، وإذا حملت المرأة خطأً فمصيره الإجهاض، الحل أن نقيم كيانًا ليس بين زوج وزوجة، بين شابّين، أو فتاتين، أو رجل وامرأة، دول تجتمع من أجل أن تقرِّر أن الحل هو الزنا، واللواط، والسِّحاق، والحل تأخير الزواج، والحل هو الإجهاض، أين منهج الله عزَّ وجل؟ والمؤتمر عُقِد في بلد إسلامي، هذا هو التقديم.
من وضع حلاً يخالف قواعد الشرع فقد قضى على المجتمع بأكمله:
إذا أردنا أن نبتعد عن منهج الله فهذه هي النتائج، ومهما تكلَّمت عن فساد العالم الغربي، وعن الانحلال، مرَّة أُجريت ندوة في التلفزيون الأمريكي حول الزنا، العلاقة غير المشروعة، جاءت هواتف من عدد كبير يُثْبِت أن ثلث حالات الزنا في أمريكا زنا محارم، بين الأخ وأخته، والأب وابنته، والأم وابنها، الثلث، هذا المجتمع الغربي، هذا مجتمع بلا منهج، الخطر أن نتحرَّك بهذا الاتجاه،
من أحلَّ الحرام أو حرَّم الحلال وقع في الشركِ وهو لا يدري:
كلَّما قلَّدنا الغربيين في علاقاتهم، ونظمهم، وقيمهم، واستوردنا منهم الحلول، وكلَّما قلَّدناهم في علاقاتهم، وفي أفراحهم، وفي أتراحهم، انتقلت أمراضهم إلينا، انتقلت لا بشكل عندنا سلسلة رياضية حسابية، وسلسلة هندسية، هل توجد سلسة ثالثة؟ نعم هناك ثالثة وهي سلسلة انفجارية، فأحياناً تنتقل الأمراض بشكلٍ مخيف؛ أمراضنا الاجتماعية، تفكُّك الأسرة، السفاح محل النكاح، الخيانة الزوجية تنتشر، إله يُشَرِّع أيُعقَلُ لهذا الإنسان أن يشرِّع مع الله؟
بالمناسبة: من أحلَّ الحرام أو حرَّم الحلال وقع في الشركِ وهو لا يدري، أيُّ شركٍ هذا؟ أشرك نفسه مع الله في التشريع، يكفي أن تقول: هذا الشيء أنا لا أعتقد أنه محرَّم، افعله ولا شيء عليك، هذا الكلام شرك، يكفي أن تحلِّل ما حرَّمه الله، أو أن تحرِّم ما أحلَّه الله، فقد وقعت في الشرك وأنت لا تدري.
فنحن أيها الأخوة؛ يجب أن نحصِّن أنفسنا، ونضع التقاليد الغربية تحت أقدامنا، التقاليد والعادات وروح العصر والحداثة، هذا كلَّه ينتهي بنا إلى أن ينحلَّ مجتمعنا كما حُلَّت المجتمعات الغربية.
الإسلام أدب واحترام كله:
﴿
أنت لك أصدقاء، لك إخوان مؤمنون طيّبون، العلاقات كلها مع المؤمنين من طبيعة، والعلاقة مع رسول الله من طبيعةٍ أخرى، هذا ليس ندًاً لك، ليس زميلاً لك، ليس أخاً لك، إنه رسول الله.
﴿
إخواننا الكرام؛ الإسلام كلُّه أدب، الذي يعلِّم مأمورٌ أن يتواضع لمن يُعلِّم، والمتعلِّم مأمور أن يكون أديباً مع من يتعلَّم منه.
أمر الله عز وجل إلى الصحابة بألا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي الكريم:
التواضع والأدب من صفات المؤمن:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)﴾
النبي الكريم أُمِرَ أن يخفض جناحه للمؤمنين، والمؤمنون أُمِروا:
أمرَ الله النبي أن يتواضع مع أصحابه وأمر أصحابه بالأدب معه:
كان عليه الصلاة والسلام مع أصحابه في سفر، أرادوا أن يعالجوا شاةً فقال أحدهم: عليَّ ذبحها، وقال الثاني: عليَّ سلخها، وقال الثالث: عليَّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعليَّ جمع الحطب، رسول الله قمَّة المجتمع، فقالوا: نكفيك ذلك يا رسول الله؟ قال: أعلم أنكم تكفونني ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، هو أُمِرَ أن يتواضع لأصحابه.
في معركة بدر كانت الرواحل قليلة، ثلاثمئة راحلة فيما أذكر، والصحابة كثر، ألف تقريباً، أعطى النبي أمراً وهو قائد الجيش ونبيُّ هذه الأمَّة ورئيس الدولة، أعطى أمراً أن كل ثلاثةٍ على راحلة، وأتبع الأمر وقال:
(( فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : كنَّا يومَ بَدْرٍ
معقول هذا!! فلمَّا ركب النبي عليه الصلاة والسلام وانتهت نوبته في الركوب توسَّل صاحباه -علي وأبو لبابة- أن يبقى راكباً، فقال عليه الصلاة والسلام:
من عرف قدر النبي الكريم وأخذ كلامه عليه أن يتأدب معه:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
أما إذا رأيت نفسك ندّاً له، تأخذ منه وتردُّ عليه، فأنت لم تعد طالب علم، عندئذٍ تأخذ بعض كلامه وتفعل في حياتك اليومية شيئاً آخر ليس منه، وعندئذٍ حَبِطَ العمل، إن فعلتم ذلك ربَّما حبِطت أعمالكم،
من حُجب عن الله تصبح صلاته لا معنى لها:
أحياناً يحضر الإنسان مجلس علم لكنه لا يأخذ كل شيء، يأخذ ما يعجبه، وما يرتاح له، وما يمكن تطبيقه، تجد أن هناك كثيراً من المخالفات في البيت، يقول لك: هذه زوَّدها الأستاذ، إذاً لست بطالب علم، أنت تنتقي انتقاء، تختار ما يعجبك وتدع ما لا يعجبك، القصَّة أن تأخذ عن الله عزَّ وجل، هذا شرع الله عزَّ وجل، هذا كتاب الله، فإذا رأى الإنسان نفسه يأخذ ويعطي، لا يوجد تلقٍ كامل، صار بعض التلقي عندئذٍ حبِط العمل، فلو فرضنا شخصاً مقيماً على معصية، هذه المعصية حجاب بينه وبين الله، ما دام محجوباً فالصلاة ليس لها معنى.
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
صار الإنفاق ليس له معنى:
﴿ قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)﴾
على الإنسان أن يطبق المنهج الإسلامي بشكل كامل لا جزئي:
المنهج لا يؤخذ بعضه، إما أن تأخذه كلَّه وإما أن تدَعه كلَّه، ولا يصح غير هذا، لا توجد حالة ثانية، يجب أن تأخذه كلَّه، إذاً:
الأدب دليل العلم:
لذلك الإنسان ينحرف شيئاً فشيئاً إلى أن يبتعد عن أصول الدين، لكن هؤلاء الذين غَضَّوا أصواتهم عند رسول الله:
﴿
إخواننا الكرام؛ هذا الأدب دليل علم، لو فرضنا مثلا جاء زائر حضر إلى القطر وهو أكبر جرَّاح للقلب في العالم، قد نرى في بهو المطار ألف شخص تقريباً، من يقدِّم له أعلى درجات الاحترام؟ طبيب قلب جاء ليستقبله، يعرف قدره، ويعرف قيمته، أما بقية الموجودين في هذه الصالة فلا يعبؤون به إطلاقاً.
مرَّة دخلت إلى مسجد رأيت رجلاً متقدِّماً في السن، منحني الظهر، قصير القامة، يصلي بثوب عربي، المرء يظنَّه إنسانًا من عامَّة الناس، كنت مع صديقٍ لي وأنا في المسجد، فبادرت إلى السلام عليه بأعلى درجات الأدب، صديقي قال لي: من هذا؟ قلت: هذا كان عميدنا في الكليّة، أنا أعرف قدره، أعرف مؤلَّفاته، أعرف دروسه، الآن تقاعد، من يعرف قدر العالِم؟ العالِم، إذا كان طبيب القلب الجرَّاح هل يحترمه إنسان تاجر مثلاً؟ لا، إنه لا يعرفه، يقول: من هذا؟ لا ينظر إليه، أما لو جاء تاجر كبير جداً يستقبله تاجر ثانٍ في المطار إنه كذلك يحترمه احتراماً كبيراً، فالقضية قضية معرفة.
لا تصاحب إلا مؤمناً لأن المؤمن يعرف قيمتك واستقامتك:
لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثلما ترى له، أنت صاحب مؤمنًا: عن أبي سعيد:
(( لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي. ))
تصاحب مؤمناً لأن المؤمن يعرف قيمتك، يعرف استقامتك، يعرف علمك، يعرف أخلاقك، يعرف باعك الطويل في طلب العلم، وفي تعليم العلم، أما لو صاحبت شخصاً من أهل الدنيا فإن حجمك عنده صغير.
كبار الصحابة لشدَّة هيبة النبي الكريم كانوا لا يستطيعون أن ينظروا إليه:
هنا:
أربعة أخماس الدين أدب؛ أدب مع الله ورسوله والمؤمنين:
إخواننا الكرام؛ أربعة أخماس الدين أدب؛ أدب مع الله، وأدبٌ مع رسوله، ومع إخوانك المؤمنين، أدب مع من تُعَلِّم، وأدب مع من تتعلَّم، أبداً، الإسلام كلَّه آداب، أدبٌ وأنت تأكل، أدبٌ وأنت تمشي في الطريق، أدب وأنت في لهوك، وأنت في فرحك، وأنت مع أهلك، الدين كلُّه آداب، أدبٌ في مجالس العلم، وأدب في طلب العلم، وأدب في تعليم العلم،
من عرف الله تأدب معه ومع من يحبهم:
من فكّر بأن الشرع لا يتناسب مع هذا العصر يكون قد ارتكب سوء أدب مع الله:
﴿
يا محمَّد
كلما ازداد إيمان الإنسان ازداد تعظيمه لشرع الخالق سبحانه:
لذلك:
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
صحابي رأى النبيُّ في يده خاتماً من الذهب، فأمسكه ورماه النبي، فقيل له: خذه وبعه، قال: والله لا آخذ شيئاً رماه النبي، هذا الأدب العالي، لا آخذ شيئاً رماه النبي بيده، فإذا أردت أن تعرف ما لك عند الله فانظر ما لله عندك.
من هان أمر الله عليه هان على الله:
الحقيقة عندما يرى الإنسان الناس وقد هان عليهم أمر الله فإذا رآهم هانوا على الله ينبغي ألا يعتب على الله، هان أمر الله عليهم فهانوا على الله، صلى أو لم يصلّ سواء، يقول: نصليهم كلهم في الليل، لكيلا يغير هندامه الحسم لا يصلي العصر، هان أمر الله عليه فهان هو على الله، لكيلا يعمل وجبتين في الطعام يقول لك: يا أخي نحن أهلية محليّة، هل هذه آية أم حديث؟ ليست بآية ولا حديث، أمر الله هان عليه، حصل هناك اختلاط، صار هناك أجنبيات، نضع مائدة واحدة أريح، كلَّما هان أمر الله على الناس هانوا هم على الله، وكلَّما عظَّموا أمر الله عزَّ وجل تولاهم الله عزَّ وجل، وأكرمهم، ورزقهم.
﴿
على الإنسان ألا يتناول أية آية بالبحث إلا ليكشف حكمتها لا البديل عنها:
إخواننا الكرام؛ في نهاية المطاف يمكن أن تتناول آيةً بالبحث والدرس لعلَّةٍ واحدة، لهدفٍ واحد، أن تكشف حكمتها، وأن تكشف الخيرات التي نجنيها من تطبيقها، لا أن تقلِّبها على وجوهها، تصلح أو لا تصلح؟ ما البديل؟ أيهما أفضل؟ هذا الذي يمكن أن يُستفاد من هذه الآيات التي تتعلَّق بالآداب مع الله ورسوله.
وفي درسٍ قادمٍ إن شاء الله ننتقل إلى أدب المؤمنين مع بعضهم بعضاً.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين