- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (049)سورة الحجرات
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
لا يمكن أن تحلّ مشاكل الإنسان المؤمن على يد عدوه:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة الحجرات، مع الآية التاسعة وهي قوله تعالى:
﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)﴾
يمكن أن تكون هذه الآية تحت باب العلاقات الدولية.
أيها الأخوة الأكارم؛ الأصل أن يكون للمسلمين إمامٌ واحد، فلو كان هناك أئمَّةٌ أو جماعاتٌ، هكذا اقتضت الضرورة، وهكذا كان الواقع، فلو أن طائفتين منهم أو أكثر اقتتلوا، قال تعالى:
الاقتتال بمعانيه الواسعة التخاصم وبمعانيه الضيّقة القتل:
لنوسِّع معنى الاقتتال، الاقتتال بمعانيه الواسعة التخاصم، ومعانيه الضيّقة أن يقتل كلّ من الطرفين الطرف الآخر، القتل سفك دمه، لكن المعنى الواسع للاقتتال هو الخصومة لأنه يمكن في اللغة أن نوسِّع المعنى الحقيقي إلى معنى مجازي، وهذا واردٌ في اللغة بأدلِّةٍ كثيرة.
إذاً ما كل قتالٍ بين مؤمنَين ينضوي تحت هذه الآية، بل كل خصومةٍ بين جماعتين تنضوي تحت هذه الآية.
القرآن الكريم هو الفيصل في تحديد الباغي أو المَبْغِيّ عليه:
على المؤمنين جميعاً أن يقاتلوا الفئة الباغية إن لم تنصاع لأمر الله:
الحقيقة لو أن طائفةً من الطائفتين انصاعت وقالت: أنا أرضى بحكم الله، أنا أرضى بحكم رسول الله، قال: هذه الفئة التي انصاعت نجت، أما الثانية إن لم تكن كالأولى:
القتال نوازعه أرضية لذلك علينا تغليب مصلحة المسلمين ووحدة صفهم:
الآن:
إذا فاء الباغي إلى أمر الله لا تؤخذ غنائمه ولا يُقتَل أسيره:
لكن:
على المؤمن أن يصلح بين المتقاتلين بالعدل:
(( بايَعْنا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى السَّمْعِ والطَّاعَةِ في المَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وأَنْ لا نُنازِعَ الأمْرَ أهْلَهُ، وأَنْ نَقُومَ أوْ نَقُولَ بالحَقِّ حَيْثُما كُنَّا، لا نَخافُ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. ))
أي إذا اجتمع المسلمون على رجل ينبغي ألا ننازع الأمر أهله، هذا من الدين.
على المؤمن أن يتقصى دقائق العدل بين الطرفين المتخاصمين:
ثم إن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)﴾
أما أَقْسَطَ أي أزال الظلم، أقسط بالهمز أي إزالة الظلم، قسط بمعنى ظلم،
وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ: هذه الآية توجب أشياء كثيرة:
أيها الأخوة؛ هذه الآية توجب أشياء كثيرة، أول شيءٍ توجبه أنه ينبغي أن تُعاون المَبْغِي عليه، لا تقل: أنا ليس لي علاقة، شخصان اختصما في الحي، أخوان اختصما في البيت، لا ينبغي أن يقف المؤمن متفرِّجاً، هذان مؤمنان فإذا اختصما ضعفا معاً، قال تعالى:
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
تفشلوا أي تضعفوا، وتذهب ريحكم أي تذهب قوتكم، فلذلك الحكم الشرعي أنه إذا نشبت خصومةٌ بين مؤمنين، بين طرفين أو بين أطرافٍ عدَّة لا ينبغي أن تقف أنت موقف المتفرِّج وتقول: أنا ليس لي علاقة، هذا الموقف سلبي تُحَاسَب عليه، الدليل:
المنازعات والسكوت عليها سبب أساسي في تفتت عضد المسلمين:
لا شيء يعين الظالم على ظلمه كسكوت الآخرين على هذا الظلم، لو أن كل مسلمٍ رأى انحرافاً، أو رأى ظُلماً بين مؤمنين، ووقف إلى جانب المظلوم، لصار الظالم يفكّر ألف مرَّة قبل أن يُقدم على ظلم أخيه، إذاً السلبية المقيتة التي تَفَشَّت بين المؤمنين، تجد أخوين متحاربين مدة اثنتي عشرة سنة وبقية الأخوة متفرِّجون، أسرتان متعاديتان سنوات طويلة وبقية أطراف الأسرة متفرِّجون، هذا الموقف الانهزامي أو السلبي ليس موقفاً إيمانياً يليق بالمؤمن لقوله تعالى:
هذه الآية أيها الأخوة؛ يجب أن نوسِّعها، ليست محصورةً في القتال، الآية تشمل كل أنواع الخصومات، لو أن الطرف الثالث وقف موقفاً مُنْصِفَاً من نزاعٍ بين مؤمنين، أو بين أطرافٍ عدَّة من المؤمنين لحُسِمَ هذا الخصام، ولعادت المياه إلى مجاريها، ولائتلف المؤمنون وصاروا قوَّةً لا يُستهَان بها، ما الذي ضعضع قوة المسلمين وفَتَّ في عضدهم وفرَّقهم وشتَّت شملهم؟ هذه المنازعات فيما بينهم، وهذه الآية هي حلّ لهذه المشكلة.
على الإنسان مقاطعة الباغي وزجره ليتقلص الظلم وينمو العدل:
أنا لو وسَّعت الآية إلى مستوى الخصومات بين الأسر ؛ خصومات، وتدابر، وبغضاء، وطعن، وغيبة، والأطراف الباقية متفرِّجة تستمتع بهذه الخصومات، ولكن الموقف الإيماني يقتضي أن تنصح الطرفين أن يلزما العدل، أن يلزما ما أمر الله به:
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾
لو أن الله سبحانه وتعالى قال: صالحون لاختلف الأمر، لأن المعنى يختلف اختلافاً كبيراً، الله عزَّ وجل لا يُهلِك قريةً وأهلها مصلحون، أما إذا كان أهلها صالحين، متفرِّجين، يتأمَّلون ما يجري، ويستمتعون بما يجري، دون أن يتحرَّكوا، ودون أن يقفوا مع المظلوم ومع المبغي عليه ضدَّ الباغي، إن فعل هؤلاء كذلك استحقَّوا الهلاك، إذاً:
على المؤمن إذا نشبت فتنة بين المؤمنين أن يساهم في حلّها:
﴿
الفتنة يجب أن يكون لك دور في حلِّها، مساهمةً، أو تمنّياً، أو حركة، أو كلمة، أو زيارة، أو كتابة كتاب، أو تحرُّكًا، أما أن تنشب فتنةٌ بين المؤمنين وأن تبقى أنت متفرِّجاً، وتقول: ليس لي علاقة، الله عزَّ وجل قال:
لا يفشو الباطل وتتسع دائرة الظلم إلا إذا لقي الباغي احتراماً من الجميع:
أيها الأخوة؛ أقرأ لكم سطرين، قال علماء اللغة:
الإصلاح أن يدعو المؤمن المتخاصمين إلى حكم الله وحكم القرآن وحكم النبي:
وعلى أكبر مستوى لو أن المسلمين كجماعاتٍ كبرى طبَّقوا هذه الآية لما نُقِلَت الأموال من بين أيديهم إلى أعدائهم، لكنهم لم يطبِّقوا هذه الآية فاحتكموا إلى جهاتٍ أخرى، فكانت هذه الجهات الأخرى كانت لها فرصةٌ ثمينةٌ أن أخذت كل ما في أيدي المتخاصمين ولفَّته إليها وبدأت تبتز أموال الأطراف جميعاً:
قتال الكفار يبيح أموالهم وذريتهم أما قتال المؤمن فلا يبيح ذلك:
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ؛ آية لها عدة معان:
1 ـ جاء التعبير عن إخوة المؤمنين بالتعبير الاسمي لأنه يدل على الثبات والاستمرار:
أيها الأخوة الكرام؛ ويقول الله سبحانه وتعالى:
﴿
طبعاً العلاقة بين الآيتين واضحةٌ جداً، المؤمنون إخوة، أول ملاحظة: هذا التركيب اسمي، ومعنى التركيب الاسمي أي مؤلَّف من مبتدأ وخبر، والتركيب الفعلي مؤلَّف من فعل وفاعل، التركيب الاسمي يدل على الثبات والاستمرار، بينما التركيب الفعلي يدل على الحدوث والانقطاع، دخل فلانٌ إلى غرفته، أي انتهى الدخول، لكن إذا قلنا: فلانٌ طويلٌ، هذا تركيبٌ اسمي، والتركيب الاسمي يدل على الاستمرار والاستقرار، والتركيب الفعلي يدل على الحدوث والانقطاع، ولذلك جاء التعبير عن إخوة المؤمنين بالتعبير الاسمي:
2 ـ تشبيه العلاقة بين المؤمنين بأرفع علاقة بين الناس وهي علاقة النسب:
يوجد معنى آخر:
3 ـ التأكيد على أن المؤمنين إخوة:
المعنى الثالث: إنّ: هذه تفيد التوكيد، لو أن الله سبحانه وتعالى قال: المؤمنون إخوة، شيء، وقوله تعالى:
4 ـ ما لم تشعر بانتمائك إلى أخيك في الإيمان فلست مؤمناً:
الله عز وجل هو وحده القادر على خلق المودة بين المؤمنين:
أحد أسباب شعورك أن هذا الذي أمامك مؤمن هذا الود، وهذا الحب بين المؤمنين، لذلك قال تعالى:
﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ
والإنسان لا يُشْتَرَى بالمال، وأي صفقة مهما كان الثمن باهظاً لشراء إنسان، أو شراء مودَّته، أو شراء صلته، أو شراء حبِّه، هذه الصفقة خاسرة، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المودَّة بين المؤمنين، لذلك:
كلما ازدادت استقامة المؤمنين ضاقت الدائرة التي تجمعهم:
بالمناسبة: أوسع دائرة دائرة المؤمنين، كل إنسان آمن بالله عزَّ وجل، آمن به موجوداً وواحداً وكاملاً فهو مؤمن، فكل إنسان طبق هذا الأمر، أما الأنبياء فيقعون في مركز هذه الدائرة، أوسع دائرة كل من أقرَّ بأن الله موجودٌ وواحدٌ وكامل فهو مؤمن، آمن بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين، هذا المؤمن، الآن كلَّما ازدادت استقامة المؤمنين ضاقت الدائرة التي تجمعهم، مؤمن ملتزم، هناك مؤمن غير ملتزم، والدليل الآية الكريمة:
﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا
معنى هذا أن هناك إنسانًا يؤمن لكنه غير مستقيم، مؤمن غير ملتزم، هذا يدخل في أوسع دائرة، أما إذا كان ملتزمًا فيدخل في الدائرة الصغرى، وكلَّما اشتدَّ التزام المؤمن تضيق الدائرة، فلذلك نحن نبحث عن مؤمن ملتزم، وهذه الدائرة إذا جمعت المؤمنين الملتزمين فهي دائرةٌ مباركة، فنحن نبحث عن مؤمنٍ ملتزم، فإذا كنت مع الملتزمين فهذه أمتن علاقةٍ بين المؤمنين.
5 ـ يجب أن يكون انتماء الإنسان إلى مجموع المؤمنين لا إلى جماعة قليلة منهم:
الإصلاح واجب إذا ظهر الفساد بين المؤمنين:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
أي أصلحوا ما بينكم من علاقاتٍ لا تُرْضي الله عزَّ وجل.
طاعة الله عز وجل تزيل أسباب الخصومة بين المتخاصمين:
عدم وقوع العداوة بين الإنسان وأخيه إلا بذنبٍ اقترفه أحدهما:
لذلك لو تصوَّرنا أخوين بينهما خصومة المتسبب بالخصومة هو البعيد عن طاعة الله عزَّ وجل، أقربهما إلى الله أشدُّهما حُبًّاً لصاحبه، فالإنسان لا تقع بينه وبين أخيه المؤمن عداوةٌ إلا بذنبٍ اقترفه أحدهما، أبداً، ما من خصومةٍ بين مؤمنين إلا بسبب ذنب، وهذا الذنب قد يكون أن يأخْذَ ما ليس له، أو أن يستطيل بلسانه على أخيه إرضاءً لغروره، أو لهوىً في نفسه، أو لنزوةٍ طارئةٍ في سلوكه، فلذلك الإنسان إذا تواضع لله عزَّ وجل، وعرف حدَّه، نشأت علاقةٌ طيّبةٌ بينه وبين المؤمنين، أيّة خصومةٍ أساسها المعصية، أساسها حبُّ الدنيا، أساسها الأهواء، أساسها المصالح المتنازَع عليها،
كلما زاد حظ الدنيا مال الإنسان إلى التفرد والتنافس:
أيها الأخوة الكرام؛ كلمة أقولها لكم: الإنسان بدافع طبعه يحبُّ التفرُّد، يحب السيطرة، يحب أن يبقى وحده، لكن بدافع إيمانه، بدافع طاعته لله عز وجل، بدافع تغليب مصلحة المسلمين على مصلحته الشخصية يجب أن ينضوي مع المؤمنين، عندما ينضوي الإنسان مع الجماعة طبعاً تَقِلُّ حظوظه من الدنيا، لكن تزيد حظوظه من الآخرة، فكلَّما زاد حظُّ الدنيا مال الإنسانُ إلى التفرُّد، واستقصاء التفرُّد، والاستبداد، وكلما زاد حظ الآخرة الإنسان مال إلى الانصهار بالجماعة والتعاون، فعندنا تعاون وعندنا تنافس، عندنا إنصاف وعندنا جحود، الجحود من الدنيا والتنافس من الدنيا، والإنصاف من الآخرة والتعاون من الآخرة، لذلك الآية الكريمة:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
موضوعات السخرية لا قيمة لها عند الله وليست هي المرجحة بين عباد الله:
﴿
طبعاً موضوعات السخرية بالشكل أحياناً، أحياناً الفقر، أحياناً ضَعْف المعلومات، فالعالِم في اختصاص معيَّن يسخر من الجاهل، والغني يسخر من الفقير، والقوي من الضعيف، والوسيم من الدميم، والصحيح من المريض، هذه الموضوعات التي هي موضوعات السخرية هذه موضوعاتٌ لا قيمة لها عند الله، وليست هي المرجِّحة بين عباد الله، ولذلك قال تعالى:
العبرة بخواتيم الحياة لا ببداياتها:
خطأ كبير أن يظن الإنسان نفسه أنه غني والفقير ليس له قيمة عند الله عزَّ وجل، هذا الذي تراه فقيراً، وبيته صغير، ودخله قليل، وأثاثه خشن، وطعامه خشن، ولباسه خشن، وقد لا يكفيه دخله ثمن طعامه، هذا ربَّما كان أقرب إلى الله من الغني، ربَّما كان أكرم على الله من الغني، والعبرة بخواتيم الحياة لا ببداياتها.
﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
والقوي، هناك إنسان قوي أي يتحرَّك حركة يهُز الآخرين بحركته، ومع ذلك قد يكون المستضعف أكرم على الله منه، قد يكون المستضعف أقرب إلى الله منه، فلا القوَّة ترفعك عند الله، ولا الوسامة ترفعك عند الله، ولا الذكاء يرفعك عند الله، ولا الشهادات العُليا ترفعك عند الله، أحياناً يكون العلم المادي العصري هذا من حظوظ الدنيا، فلان معه دكتوراه دولة، دائماً يحب أن يُنادَى بهذا اللقب، فإن لم يُنادَ به فقد يتألَّم أشدَّ الألم، إلا أنك قد تجد إنسانًا لا يحمل هذه الشهادة لكنه مستقيمٌ على أمر الله، وهذا الذي يحمل هذه الشهادة ليس ملتزماً، لكن من هو العالِم عند الله؟ كفى بالمرء علماً أن يخشى الله وكفى به جهلاً أن يعصيه، فالعاصي مدموغ بالجهل، والطائع مدموغ بالعلم، العالم طاعته شهادته، والعاصي معصيته دليل جهله، لذلك:
من رأى عاصياً عليه أن يحمد الله أن هداه للإيمان ويدعو له بالتوبة:
الآن يوجد موضوع جديد، حتى لو كنت مقيماً على طاعة الله ورأيت إنسانًا مبتلى بمعصية، طبعاً أنت الآن طائع وهو الآن يعصي، لكن لو زهوت بطاعتك، واحتقرت هذا الإنسان وهذه المعصية، ونسيت أن الله سبحانه وتعالى أكرمك بالهُدَى وأعانك على طاعته، وأن هذا المبتلى قد يتوب وقد يسبقك آلاف الخطوات، حتى المؤمن إذا رأى عاصياً لا يحتقره، يقول: أرجو الله أن يهديه، لو لم يتفضَّل الله عليَّ لكنت مثله، لذلك النبي الكريم علَّمنا أنك إذا رأيت مبتلىً أن تقول: الحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به كثيراً من خلقه، دون أن تسمعه هذا الكلام، ففي إسماعه لهذا الكلام كسرٌ لقلبه، على كلٍّ يقال: الذنب شؤمٌ على غير صاحِبِه إن تكلَّم به فقد اغتابه، وإن أقرَّه فقد شاركه في الإثم، وإن عيَّرَهُ ابتلي به، حتى لو رأيت عاصياً ينبغي أن تحمد الله عزَّ وجل أن هداك للإيمان، وأن أعانك على طاعته، وأن تدعو له بالتوبة والطاعة لله عزَّ وجل، هذا هو المؤمن.
موضوع السخرية موضوع فيه شرك بالله وتجبّر على عباده:
بصراحة أقول لكم: جنس السخرية عند المؤمن غير موجود، حتى إنه لا يسخر ممن يعصي الله، موضوع السخرية في الأساس موضوع فيه تَجَبُّر، موضوع فيه شرك بالله عزَّ وجل، موضوع فيه اعتزاز بالنفس، جنس السخرية أصلاً لا يدخل في حياة المؤمن، لا يسخر من فقير إذا كان غنيَّاً، ولا من ضعيف إذا كان قويَّاً، ولا من دميم إذا كان وسيماً، ولا من مريض إذا كان صحيحاً، ولا ممن لا يحمل شهاداته إذا كان متعلِّماً، ولا ممن يقع في ذنبٍ أمامه إذا كان هو مستقيماً، لكنه يرى فضل الله عليه دائماً.
أقول لكم هذه الكلمة: السخرية جملةً وتفصيلاً في كل مستوياتها، وفي كل مناحيها، وفي كل موضوعاتها لا يمكن أن تدخل في حياة المؤمن، لا يسخر أبداً، يعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء، وأن هذا الذي سَخِرَ منه ربما فاقه.
مرَّة رجلٌ يملك من المال ما لا سبيل إلى حصره، تقدَّم مهندس وسيم الطلعة، أخلاقه عالية لخطبة ابنته، فقال ساخراً: كم دخلك؟ فاستقلَّ دخله ورفض أن يزوِّجه ابنته، والقصَّة رواها لي والله أخٌ صادق وقد وقعت في هذه البلدة ولا سبيل إلى تفاصيلها، لم يمض أربعة أو خمسة أعوام حتى اضطر هذا الغني أن يعمل عند هذا المهندس موظَّفاً، ثم توسَّط له من شَجَّعه على خطبة ابنته، الله عزَّ وجل بترتيب معين كانت له مشاريع ومعامل، بقرار واحد أُلغيت وعليه نفقات كبيرة جداً، والتزامات كبيرة، فالالتزامات فوق كل أملاكه، وقع في عجز كبير وأعلن إفلاسه، ثم بحث عن هذا الخاطب قبل أربع سنوات لعلَّه يخطب ابنته، فخطبها وتزوَّجها وعمل هذا العمُ عند صهره موظَّفاً،
الإنسان العاقل لا يسخر من أحد حتى ممن يعصي الله فلعل الله يتوب عليه:
أيها الأخوة؛ مرَّةً ثانية: جنس السخرية مرفوضة في حياة المؤمن، حتى في موضوعات الدين لا تسخر ممن يعصي الله لعلَّ الله يتوب عليه، ولعلَّه يسبق الساخر، طبعاً هي معصية وأنت في طاعة، لكن بدل أن تسخر اشكر الله عزَّ وجل على أن هداك إليه وأعانك على طاعته، وبدل من أن تسخر ادعُ له بالتوبة، توجَّه لنصحه، جنس السخرية لا يمكن أن يدخل في قاموس المؤمن في كل موضوعاتها، وفي كل مستوياتها، والسخرية تَجَبُّر، والسخرية شِرْكٌ، ما معنى كونها شركًا؟ أي أنت بذكائك حصَّلت ما حصَّلت إليه، لا، بفضل الله عزَّ وجل، ماذا قال قارون؟ قال:
﴿
هذا هو الشرك، من الذي يسخر؟ من غاب فضل الله عنه، يرى جهده، وذكاءه، وعمله الدؤوب، وماضيه الطويل، وخبراته المتراكمة، هذا الذي يسخر، أما الذي يرى فضل الله عليه فلا يسخر، بالعكس يشكر، الشكر مكان السخرية، والنصْح مكان السخرية، اشكر الله على ما أنت فيه، وانصح وادعُ لهذا الذي تراه أقلَّ منك، وهذا نهي في القرآن الكريم، آية صريحة:
المؤمن الحقيقي هو المؤمن الذي يُبْعد عنه السخرية وتعليقاتها:
تروي كتب الأدب أن رجلاً غنياً جلس مع زوجته يأكلان دجاجاً، طُرِقَ الباب، ففتحت الزوجة الباب رأت متسوّلاً، همَّت أن تعطيه من هذا الطعام شيئاً فنهرها زوجها ووبَّخها وقال: اطرديه، بعد حين ساءت العلاقات بين الزوجين فطلَّقها، وتزوجت بآخر فكان غنياً، ومرَّةً كانت مع زوجها الثاني يأكلان الدجاج فطرق طارقٌ، فذهبت لتفتح الباب فوجَمَت، قال: ما لكِ؟ قالت: لا شيء، قال: قولي؟ قالت: أتدري من الطارق؟ إنه زوجي الأول، قال: وهل تدرين من أنا؟ إنني السائل الأول، الله عزَّ وجل قادر أن يجعل الفقير غنياً، إذا أعطى أدهش، وإذا سلب أدهش، أحياناً يُدهِش بالعطاء ويُدهِش في السلب، أحياناً شخص لا تعبأ به، قد يصبح في منصب كبير جداً، وأنت عنده تصبح، ممكن، فالمؤمن لا يسخر.
لا يسخر قويٌّ من ضعيف، ولا غنيٌّ من فقير، ولا صحيحٌ من مريض، ولا وسيمٌ من دميم، هذه الوسامة بحادث بسيط يصير الإنسان مشوَّهاً، أين جماله؟ حادث بسيط ينقلب إلى مشوه، ولا صحيحٌ من سقيم، ولا غنيٌّ من فقير، ولا عالِمٌ من جاهل، الجاهل علِّمه، لكن إياك أن تسخر منه، هناك جبابرة العلماء إذا سألهم شخص سؤالاً يمطرونه سخريةً، ما هذا السؤال؟ أنت اشكر الله على أن علَّمك وزكِّ عن هذه النعمة بتعليم هذا الإنسان، وانتهى الأمر، أي السخرية جملة وتفصيلاً، بكل تفاصيلها وأنواعها ومستوياتها ودرجاتها وموضوعاتها وتعلُّقاتها لا يمكن أن تكون داخلةً في حياة المؤمن، يسخر معنى هذا أنه مشرِك، يسخر متجبّر، يسخر جاهل، يتجاهل أن الله بيده كل شيء، وأنه يجعل الفقير غنياً والغني فقيراً، والمريض صحيحاً والصحيح مريضاً.
كل إنسان يعتز بشيء ويحتقر ما عند الآخرين يقصمه الله عزَّ وجل:
قصة ليست في بلادنا بل في بلاد الغرب، رجل يؤمن أن الجري هو كل شيء، مات وهو يجري، كل شيء في الصحة الجري، الجري مفيد جداً، أما أن تعبده من دون الله فلا، كان حتفه في الجري، فكل إنسان يعتز بشيء ويحتقر ما عند الآخرين يقصمه الله عزَّ وجل. عن أبي هريرة رضي الله عنه:
(( الكِبرياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، مَن نازَعَني واحِدًا منهما، قذَفتُه في النَّارِ. ))
﴿
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
الله علَّمك علِّمه، رفع شأنك خذ بيده إليك.
من أراد محبة الناس عليه ألا يسخر منهم:
حاطب بن بلتعة ارتكب خيانة عُظمى،
(( عن علي بن أبي طالب: بعثني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ والزُّبيرَ وأبا مَرثدٍ وكُلُّنا فارسٌ قال: انطلِقوا حتى تبلغوا رَوضَةَ خاخٍ فإنَّ فيها امرأةً معها صحيفةٌ من حاطبِ بنِ أبي بَلْتعةَ إلى المشركين فأْتوني بها، فانطلَقْنا على أفراسِنا حتى أدركْناها حيثُ قال لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ تسيرُ على بعيرٍ لها قال: وكان كتب إلى أهلِ مكةَ بمسيرِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ فقلُنْا لها أين الكتابُ الذي معكِ قالت ما معي كتابٌ فأَنَخْنا بها بعيرَها فابتغَيْنا في رَحلِها فلم نجِدْ فيه شيئًا فقال صاحبايَ: ما نرى معها كتابًا فقلتُ: لقد علمتُما ما كذَبَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثم حلفتُ والذي أحلفُ به لئن لم تُخرِجي الكتابَ لأُجَرِّدَنَّكِ فأهوَتْ إلى حُجزَتها وهى محتجزةٌ بكساءٍ فأخرجَتِ الصحيفةَ فأَتوا بها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالوا يا رسولَ اللهِ قد خان اللهَ ورسولَه والمؤمنين دَعْني أضربْ عُنُقَه قال يا حاطبُ ما حملكَ على ما صنعتَ قال يا رسولَ اللهِ واللهِ ما بي أن لا أكون مؤمنًا بالله ورسولِه ولكني أردتُ أن تكون لي عند القومِ يدٌ يدفعُ اللهُ بها عن أهلي ومالي ولم يكن أحدٌ من أصحابِك إلا له هناك من قومِه من يدفع اللهُ تعالى به عن أهلِه ومالِه
قال سيدنا عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال له: لا يا عمر إنه شَهِدَ بدراً، فجاء بحاطب وقال: يا حاطب ما حملك على ما فعلت؟، قال له: والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت، ولكن أردت أن يكون لي صنيعة عند قريش أحمي بها مالي وأهلي، والله -أعادها ثانيةً- ما كفرت ولا ارتددت، فالنبي قال:
أنهضه من عثرته، أقاله من كبوته، ثم صلح إسلامه وأرسله مندوباً شخصياً له لبعض الملوك، أنت بالسخرية يصبح الطرف الآخر عدوًّاً لك، ولكن بالنصح يحبّك، لا يوجد شيء يبعد النفوس كالسخرية، والنصح يقرِّب النفوس، فإذا أردت أن يحبك الناس فإياك أن تسخر منهم، لا تسخر أبداً لعلَّه أفضل منك عند الله.
السخرية علامة جهل وشرك وتجبُّر:
مرَّة كنَّا في عرفات قبل أعوام، قال أحد الخطباء في عرفات: لعلَّ واحداً منكم ممن لا يؤبه له غفر الله له وبمغفرته غفر لنا، هناك أشخاص ربما كانوا عند الله في مقام عالٍ وأنت لا تعرفهم، فإياك أن تسخر من أحد، السخرية علامة جهل وشرك وتجبُّر، توجد آية صريحة،
الإنسان المؤمن يسعى دائماً للحرص على وحدة المؤمنين وسمعتهم:
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع هذه الآيات، الذي أرجوه من الله تعالى أن تُتَرْجَمَ هذه المعاني إلى علاقات، إلى سلوك يومي، أي إذا بلغ واحد منا خصومةٌ بين أخوين فلا يقل: لا علاقة لي، فخار يكسِّر بعضه، هذا ليس كلام مؤمنين، هذا كلام كفَّار، ليس كلام رحماء، ليس كلام إنسان الإيمان غالٍ عليه، ليس كلام إنسان يحرص على سمعة المؤمنين، يحرص على وحدة صَفِّهم، يحرص على قوَّتهم، فلذلك الموقف السلبي محرَّم في نص هذه الآية:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين