الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً، وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
1- دورهم في توعية البشر بأن عرّفوا الناس بربهم:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس السادس والعشرين من دروس العقيدة.
وصلنا في الدرس الماضي في موضوع الإيمان بالرسل إلى الحاجة إلى الرسل، وكون مهمتهم لا تتحقق بغيرهم، الذي تعرفونه أن الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
أي علة الخلق أن نعبده، سبب وجودنا على هذه البسيطة أن نعبده، والعبادة لا تكون إلا بعد أن نعرفه، وإذا عبدناه سعدنا به في الدنيا والآخرة، وقد قلت لكم في درس سابق إن العبادة في أدق تعريفاتها طاعة طوعيه تسبقها معرفة يقينية، وتفضي إلى سعادة أبدية، فمن أجل أن نعرفه جاء الأنبياء ليُلفتوا نظر البشر إلى ربهم، ليعرفوا الناس بخالقهم، ليبصروهم بحقيقة وجودهم، فكيف نعرفه من دون دليل؟ وهل يقوم تعليم من دون معلم؟ وهل تُنْشأ مدرسة من دون أساتذة؟ فمن أجل أن نعرفه لابد من معلمين، والمعلمون هم الأنبياء، هؤلاء عرّفونا بربنا، ذكّرونا بآياته التي بثّها في السماوات الأرض، عرفونا بمهمتنا، بيّنوا لنا أين كنا، وما نحن فيه، وإلى أين المصير، فهؤلاء الأنبياء بمثابة المعلمين في المدارس، لا تقوم المدرسة إلا على أكتاف المعلمين، لا البناء له قيمة، ولا المقاعد لها قيمة، ولا السبورة لها قيمة، ولا المكتبة لها قيمة، ولا أي موظف آخر له قيمة إن لم يكن في هذه المدرسة المعلم، أساس المدرسة المعلم.
فلذلك مهمة النبي في قومه مهمة إرشادية تعليمية، فالناس بحاجة ماسّة إلى معلمين، هذا الشّقّ الأول، لابد من أن نعرفه حتى نعبده، كيف نعرفه؟ كان الأنبياء والرسل، والدعاة من بعدهم، والعلماء من بعدهم مصابيح للناس، العلماء سُرُج الدنيا ومصابيح الآخرة، والعلماء مهمتهم تبعية، هم نوّاب عن الأنبياء في تبليغ الناس الحق، فالأصل هم الأنبياء هم المعلمون الذين أوكل الله إليهم تعليم الناس، هذا في شق المعرفة.
2- معرفة أوامر الله ونواهيه تكون بوساطة الأنبياء:
أما في شق العبادة كيف نعبده؟ أين أمره حتى نطيعه؟ لو أنّ أحداً قال لك: أنا مستعد لطاعة الله عزّ وجل، أين أمره؟ هل كنّا نعرف أمره لولا النبي عليه الصلاة والسلام؟ أين أمره حتى أعبده؟ قل لي ماذا تريد حتى أطيعه، أين هو هذا الأمر؟ الأنبياء لهم دور آخر بيّنوا أوامر الله عز وجل، إذا كانت علة الخلق أن نعرفه فنعبده فنسعد بقربه، فالأنبياء عرفونا بربنا أولاً، وبيّنوا أوامره ونواهيه ثانياً، سؤال بسيط بديهي، أنا أريد أن أعبد الله أين أمره؟ ماذا أفعل؟ ماذا أدع؟ جاء الأنبياء بالأوامر والنواهي، بمنهج قوامه افعل ولا تفعل، هذا المنهج هو العبادة، في كل علاقاتك، في بيتك، مع جسمك، في طعامك، في شرابك، في نومك، في قضاء حاجتك، في علاقتك بزوجتك، في علاقتك بأولادك، في علاقتك بجيرانك، في علاقتك بمن حولك، في علاقتك بمن تتعامل معهم، افعل ولا تفعل، هذا المنهج الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام هو العبادة فكيف نعبده ولا نعرف أمره؟ عن طريق مَنْ جاءنا أمره؟ عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً أولاً: النبي عرّفنا بربنا من خلال ملكوت السماوات والأرض، وعرّفنا بأوامره ونواهيه، كيف نسعد بقربه؟ والنبي في المرحلة الثالثة كان وسيطاً بيننا وبين ربنا؟ قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)﴾
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)﴾
أعيد عليكم الفكرة، علة الخلق أن نعرفه فنعبده فنسعد بقربه، النبي عليه الصلاة والسلام بخاصة والأنبياء بعامة عرفونا بالله عز وجل من خلال لفت نظرنا إلى آيات السماوات والأرض، ثم إن الأنبياء بما أُنزل عليهم من شرع عرفونا بالأوامر والنواهي، بمنهج افعل ولا تفعل، في كل شؤون حياتنا الشرع يصل إلى أدق دقائق الحياة، كيف يجب أن تُقلّم أظافرك؟ هناك طريقة في الشرع، كيف يجب أن تأكل، كيف يجب أن تنام، كيف يجب أن تفعل في شؤونك الذاتية، كيف تفعل في مالك، كيف تنميه، كيف تطرده، كيف تبيع وتشتري، أكثر من سبعين حديثاً في البيوع، إذاً هذا هو أمر الله عز وجل، يا أخي أنا مستعد أن أطيع الله، أين أمر الله؟ جاء به النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
3ـ النبي الكريم هو الوسيلة التي يتقرب بها الإنسان إلى الله:
المرحلة الثانية بعد أن عرفته وبعد أن عبدته، الآن لك أن تُقبِل على الله عزّ وجل بمعيته، فما هي الوسيلة:
(( عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا سَمِعْتُمْ مُؤَذِّنًا فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِيَ الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ عَلَيْهِ الشَّفَاعَةُ.))
النبي عليه الصلاة والسلام باب الله، وأي امرئ أتاه، وأي امرئ أتاك من غيره لا يدخل إلى الله، لا يدخل المرء على الله عزّ وجل إلا من باب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هنا كان قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ فهذا المنهج الرباني المبني على أسس ثلاث؛ المعرفة والعبادة والسعادة، النبي عليه الصلاة والسلام في كل مرحلة هو الأصل فيها، إذاً حاجتنا للنبي ولكل الأنبياء حاجة أساسية وحاجة مصيرية.
4- معرفة الخير والتحذير من الشر يكون عن طريق الأنبياء:
شيء آخر؛ كلكم يعلم أن علّة الخلق أيضاً الابتلاء، قال الله:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)﴾
إذاً نحن مبتلون:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
أي تستطيع أن تقول: إن جوهر الحياة الدنيا أن ينكشف الإنسان على حقيقته، الصالح والطالح، الخيّر والشرير، المعطاء والبخيل، الرحيم والقاسي، المُقسط والظالم، لابد من أن تنكشف النفوس على حقيقتها، فالابتلاء علّة الوجود، علّة أخرى أن ينكشف الإنسان على حقيقته، قال الله:
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3)﴾
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14)﴾
فما دامت العلة هي الابتلاء فمن الذي يُبين لنا طريق الخير والشر؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، من الذي يبين لنا طريق الخير وطريق الشر؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، ومن الذي يحببنا بطريق الخير ويحذرنا من طريق الشر؟ هو النبي عليه الصلاة والسلام، كتاب شهير اسمه: الترغيب والترهيب، هو من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، كل أمر من أمور حياتنا كيف رغّب به النبي؟ وكيف رهبنّا منه؟ رغّبنا في الطاعة ورهّبنا من المعصية، فالترغيب والترهيب أساس من أسس هذا الكتاب، لذلك كان عنوانه: الترغيب والترهيب، فالوجه الآخر من أحقية النبي عليه الصلاة والسلام هو أن علّة الحياة الابتلاء، ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾ وهذا الابتلاء يقتضي أن تُعرّف المُبتلى بالخير وبالشر، أن تُعرّفه بالخير حتى يأتيه، وأن تُعرّفه بالشر حتى يجتنبه، وينبغي أن تُعَرفه أيضاً بطريق الخير، وبطريق الشر، ومن أجل أن يسلك طريق الخير، وأن يحيد عن طريق الشر، ويجب أن تحببه بالخير وأن تحذره من الشر، فمهمة النبي عليه الصلاة والسلام تعريفٌ بالخير، وبيان لطريقه، وترغيب فيه، وتعريف بالشر، وبيان لطريقه، وتحذير منه، قال الله:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)﴾
خطوات الشيطان طريق الشر، قال الله:
﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)﴾
لم يكن النهي عن الزنا، بل كان النهي عن الاقتراب من الزنا، ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ فللخير طريق وللشر طريق:
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾
علة إرسال الرسل إلى البشر:
العلة الأولى للخلق هي أن نعرفه فنعبده فنسعد بقربه، والنبي بخاصة والأنبياء بعامة وجودهم أساسي في كل مرحلة من مراحل معرفة الله، وعبادته، والسعادة بقربه.
والعلة الثانية للحياة هي الابتلاء، والابتلاء يقتضي أن نعرف الخير من الشر، لذلك لولا أنَّ الله سبحانه وتعالى أرسل رسله ليُعَرّفوا الناس بالخير وبالشر لكانت الحجة مع الناس، وليست مع الله عزّ وجل، هكذا قال الله عزّ وجل:
﴿ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)﴾
لِئلا يكون على الله حجةٌ بعد الرسل، امرأة في أول لقاء مع زوجها قالت له: إنني امرأة غريبة لا أعرف ما تُحب وما تكره، فقل لي ما تحب حتى آتيه وما تكره حتى أجتنبه، فكيف الله عزّ وجل؟ يحاسبنا يوم القيامة ولم يبين لنا أوامره ونواهيه! الخير والشر، لذلك قال تعالى:
﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾
إيّاكم أن تفهموا هذه الآية كما يفهمها بعض ضيقي الأفق، ألهمها أن هذا العمل فجور، ليس ألهمها أن تَفْجُر، حاشا لله أن يُلهم الله عزّ وجل إنساناً أن يفجُر، أي كأن تجد ابنك في طريق غير صحيح، تُقرّع آذانه ليلاً نهاراً، يا بني أنت مخطئ، أنت في طريق الهاوية، أنت في طريق الدمار، الأب يُلهم ابنه فجوره، يبين له أنه يفجر، أو أنه مقصر، فربنا عزّ وجل كيف يحاسبنا قبل أن يبين لنا؟ عن طريق من بين لنا؟ عن طريق النبي عليه الصلاة والسلام، كيف نعرف الله إلا من خلال النبي عليه الصلاة والسلام؟ قال الله:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)﴾
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)﴾
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾
إذاً العلة الثانية علة الخلق الابتلاء، والابتلاء يقتضي أن تعرف الخير من الشر، وطريق الخير من طريق الشر، وأن تُحبب بالخير وأن تُحَذر من الشر، هذه مهمة النبي عليه الصلاة والسلام، نحن من خلال السنة المُطهرة عرفنا الخير وعرفنا الشر، ومن خلال السنة المُطهرة عرفنا طريق الخير وطريق الشر، ومن خلال السنة المُطهرة رغّبنا النبي بالخير، ورهّبنا من الشر، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)﴾
أي قوم فعلوا الفاحشة فاستحقوا الهلاك فأهلكهم الله عز وجل، ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ إذاً إرسال الرسل لإقامة الحجة على البشر، نبهتك، حينما يُنَبه الأب ابنه مرات عديدة على مسمع من إخوته وأمه، ويحذره مغبة عمله، وبعد ذلك يقع هذا الابن في سوء عمله، وفي شر عمله، يدفع الثمن باهظاً لا يستطيع أن ينطق بكلمة، لو أن الأب انتهى عن تبليغه، وانتهى عن تحذيره، وانتهى عن تنبيهه لقال لأبيه: يا أبتِ لو أنك نبهتني، لو أنك حذرتني، لو أنك ذكرتني، لو أنك لفت نظري، لو أنك وبختني، لو فعلت بي كذا وكذا، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ هذه العلة الثانية، من باب التلخيص العلة الأولى يجب أن نعرفه فنعبده فنسعد بقربه، والنبي عليه الصلاة والسلام وجوده أساسي في معرفة الله، وفي عبادته، وفي السعادة بقربه، والعلة الثانية علة الابتلاء، والابتلاء يقتضي ان نعرف الخير من الشر، والحق من الباطل، وما يجوز وما لا يجوز، والطاعة من المعصية، وأن نعرف طريق الخير والشر، وأن نُحَبّب بالخير وأن نُحَذر من الشر، والنبي عليه الصلاة والسلام سنته المطهرة أساسية في هذا المضمار.
الآن كما ذكرت لكم يوم الجمعة أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وخلق في الإنسان استعداداً للخير والشر، استعداداً للضلال والهدى، مثل بسيط؛ هذه السيارة صُنعت ويمكن أن تنقلك إلى حيث تريد، ويمكن أن تُدَمّر صاحبها، إذا أُحسن قيادتها تنقله إلى حيث يريد، فإذا قادها إنسان جاهل أرعن قضت عليه، وسببت هلاكه، فهذه السيارة فيها إمكانية الخير والشر، إمكانية أن تنقلك إلى أي مكان تريد، وإمكانية أن تُنهي حياة صاحبها إذا كان أرعن،
فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفيه استعداد للخير واستعداد للشر، بمعنى أنه خلق فيه شهوات، هذه الشهوات حبّ الطعام، الحاجة إلى الطعام، الحاجة إلى بقاء النوع، هذا الميل الجنسي، بقاء الفرد يحتاج إلى طعام، بقاء الفرد-النوع-يحتاج إلى زواج، والحاجة إلى بقاء الذِّكر، الأهمية، كل إنسان يحب أن يكون له أهمية، هذا دافع أساسي بالإنسان، هناك إنسان يثبت قيمته من خلال عمله، هناك إنسان يثبت قيمته من خلال عطاءاته، هناك إنسان يثبت قيمته من خلال إيقاع الأذى بالناس، على كل الإنسان له أهمية، أي إما أنه يُرجى خيره، أو يُتقى شره، ففي الإنسان ميول فطرية، هذه العلماء طبعاً قننوها،
أول ميل: الحاجة إلى الطعام والشراب، يُعبر عنها بالحاجة إلى بقاء الفرد، إذا أحرزت النفس قوتها اطمأنت،
الحاجة الثانية: الحاجة إلى بقاء النوع، أي حاجة الرجل إلى المرأة، يا بنيتي لو أن المرأة استغنت عن الزوج لغنى أبويها، أو لشدة حاجتهما إليها لكنت أغنى الناس عنه، لكن النساء للرجال خلقن، ولهن خلق الرجال، هكذا سنة الله في الأرض.
الحاجة الثالثة؛ حاجة بقاء الذكر، كل إنسان يوجد عنده دافع أساسي بحياته، غير الطعام والشراب، وغير تأمين حاجة بقاء النوع، حاجة أن يكون ذا أهمية، فالمؤمن يلبي هذه الحاجة عن طريق فعل الخير، يرفع الله ذكره بين الناس فيُروى هذا الميل، والكافر يلبي هذه الحاجة عن طريق إيقاع الأذى بين الناس، فيتقوا الناس شره ويعظمونه اتّقاء شره، فيروى هذا الميل، فهناك ميول أو حاجات أو دوافع أو دلائل، هذه المسميات لأشياء واحدة، حاجات، ميول، دوافع، غرائز، هذه بشكل أو بآخر الشهوات، قال الله:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
أي الله سبحانه وتعالى ركّب فينا هذه الشهوات لنرقى بها إلى ربّ السماوات، والله الذي لا إله إلا هو لولا هذه الشهوات التي رُكّبت فينا لما كانت جنة، بعض الجهلة يقول: يا رب خلقت الجمال فتنة وقلت: يا عبادي اتقون، هذا جاهل، قد يقول أحدهم: لمَ هذه الشهوات؟ لولا الشهوات لما كنت شيئاً تستحق الذكر، كيف ترقى إلى الله؟ لو أن المال لا قيمة له عندك، لو أنفقت مئة ألف لا ترقى، لأن الله سبحانه وتعالى أودع في قلبك حبّ المال، فإذا أنفقت المئة ليرة وأنت في أمس الحاجة إليها ارتقيت إلى الله عزّ وجل، كيف ترقى إلى الله إن لم يكن في قلبك حبّ للنساء، إذا مرت امرأة في الطريق فغضضت الطرف عنها وكنت لا تخشى إنساناً، كيف ترقى إلى الله عز وجل إن لم يكن في قلبك حبّ للنساء؟ تغض طرفك عن امرأة ليس في الأرض كلها تشريع يُحظر عليك ألا تنظر إليها؟ من يحاسبك؟ أنت في الطريق، طريق عام امرأة مزينة تبدو بأبهى زينة، من يمنعك أن تنظر إليها؟ هل في الأرض كلها قانون يمنعك من هذا؟ من يُحِسّ أنك نظرت إليها؟ قد تكون في غرفتك والنافذة مفتوحة، تُفتح نافذة بيت الجيران، تُطلّ منها امرأة، من الذي يدري من العالمين أنك تنظر إليها؟ لا أحد، فإذا غضضت الطرف فهذا يؤكد لك أنك مخلص لله عزّ وجل، لأن هذا العمل لا يفعله إلا المخلص، خلق في نفسك حبّ الطعام وقال لك:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
تدخل إلى الحمام في أيام الصيف الظامئة، وأنت صائم، وتفتح صنبور المياه الباردة من الذي يمنعك ألا تشرب منه إبريقاً؟ من؟ دخلت إلى الحمام كي تتوضأ وقفلت الباب وأنت صائم وعندك حنفية العداد مثل الثلج، الساعة الرابعة والنصف في شهر آب، وأنت سوف تلتهب، من الذي يمنعك ألا تشرب؟ لولا هذه الشهوات لما ارتقيت إلى رب السماوات، لولا أنك تعطش وتجوع، وتُحِبّ الجمال، وتحبّ المال، وتحبّ العلو في الأرض، لما ارتقيت إلى الله عزّ وجل، قال الله:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
يأتي يوم، يوم القيامة إن شاء الله تعالى:
﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)﴾
بعض العلماء حاروا في هذه الآية، أية أرض هذه؟ ﴿أَوْرَثَنَا الأَرْضَ﴾ نحن في الجنة الآن، ما علاقة الأرض بالجنة؟ الأرض مضت، بعض المفسرون قالوا: حينما دخل أهل الجنة الجنة، وسعدوا فيها، عرفوا أنه لولا أنهم كانوا في الأرض، ولولا أن الله أودع فيهم الشهوات، ولولا أنهم بهذه الشهوات ارتقوا إلى رب السماوات لما كانوا في الجنة.
كيفية ممارسة الشهوات وفق نظامها الصحيح:
لذلك هذه الشهوات التي خلقها الله فينا سبب لرقينا، وسبب لتحركنا، وسبب لدخولنا الجنة، ماذا تملك أنت لو أنك لا تحب شيئاً ولا تكره شيئاً، ماذا تملك؟
خطر في بالي خاطر قبل أيام لولا دافع الطعام والشراب لما كان هذا المجلس، لا البنّاء بنى، ولا النجار نجر، ولا الحداد صنع، ولا الخياط خيّط، ولا اللحام ذبح، ولا الخضري ما من حاجة للعمل، هذه الأرض المعمورة لولا دافع الطعام والشراب لما كان الإنسان، تجد الإنسان يسعى ويكد ويُنشئ مشروعاً حتى يكسب قوت يومه، فلولا هذا الدافع لما رأيت هذه البناء قائماً، ولا هذا الكتاب مطبوعاً، ولا هذا الكأس مصنوعاً، لكنك إما أن ترقى بها إلى الله عز وجل وإما أن تكون السبب في شقاء الإنسان.
مثال بسيط؛ هذا الوقود السائل البنزين، سائل كهذا الماء؟ لا، هذا البنزين فيه طاقة، لو أنك أخرجت هذا السائل وصببته على محرك السيارة، وأعطيته شعلة من النار لاحترقت السيارة، أما إذا سار هذا السائل من المستودع في الأنابيب الدقيقة المُحكمة المخصصة له إلى جهاز التنظيم، إلى غرف الاحتراق، دُفِعت هذه المكابس، دار الساعد، حرّك السيارة، فبين أن يكون البنزين قوة مُحركة وبين أن يكون قوة مدمرة، هذه الشهوة؛ إما أن تكون هذه الشهوة قوة محركة إلى الله عز وجل، وإما أن تكون هذه الشهوة قوة مدمرة.
من الذي يُعَرفنا كيف نمارس هذه الشهوات؟ هناك شهوة للطعام والشراب، جاءت الأحاديث الكثيرة في الاعتدال في الطعام والشراب:
(( عن المقداد بن معدي كرب الكندي في مسنده: قَالَ سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَا ملأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لا مَحَالَةَ فَثُلُثُ طَعَامٍ وَثُلُثُ شَرَابٍ وَثُلُثٌ لِنَفْسِهِ. ))
أحاديث كثيرة في الطعام والشراب، كيف نحقق شهوة بقاء النوع؟ قال تعالى:
﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)﴾
دخل في هذا كل أنواع الانحرافات، إذاً هذه الشهوات قوى مُحركة أو مدمرة، من الذي يبين لنا كيف نستفيد منها؟ وكيف نتقي شرها؟ الأنبياء، هل تعرف أنت أنه لا يجوز أن تتزوج أختك من الرضاع إلا بعد نزول الشرع على هذا النبي الكريم؟ شخص يتسامر مع إنسان قال له: والله عندي أول ولد أعمى، والثاني كسيح، والثالث معه هُشاشة في العظام، قال له: عجيب! ما هذا الحظ الذي لك، قال له: هكذا، قال له: ما السبب؟ قال له: والله ليس هناك سبب، قال له: غير ممكن، قال له: يقولون أنا آخذ أختي من الرضاعة، هذا شرع مبني على أُسس علمية، يوجد علاقات بيولوجية، من بيّن لنا أن هذه العمة والخالة لا يجوز، وابنة الأخ، وابنة الأخت، فالمحارم من النساء:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)﴾
لذلك الآن خبر لا ينبغي ان يذكر، معظم حالات الزنا في أوروبا وأمريكا تتم بين الأقارب، بين المحارم، العدوان على الأخت، والعدوان على البنت شيء مألوف جداً في المجتمعات الغربية، إحصاء دقيق جداً، إحصاء علمي، حالات الزنا تكاد تكون ثلاثة وثلاثين بالمئة من حالات الزنا بين المحارم تتم، هذا الشرع يبين لك، هناك محارم، هناك اختلاط أنساب، هناك دماء، هناك تشوهات خَلقية وخُلُقية، لذلك هذه الشهوة من الذي يُبيّن لك كيف تمارسها؟ النبي عليه الصلاة والسلام، من الذي يقول لك يجب أن تبتعد عن زوجتك في الحيض؟ أكثر من سبعين مرضاً ينشأ عن اللقاء الزوجي في أثناء الحيض، قال تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾
أي ينقطع الدم، ﴿فَإِذَا تَطَهَّرْنَ﴾ أي اغتسلن ﴿فَأْتُوهُنَّ﴾ إذاً هذه الشهوة سلاح لك أو عليك، قوة محركة أو مدمرة، نافعة أو ضارة، من الذي يبين لك وجه استعمالها؟ الأنبياء، إذاً نحن بحاجة ماسة إلى الأنبياء.
شيء آخر؛ الحق مهما كان ناصعاً، ومهما كان واضحاً، ومهما كان منطقياً، ومهما كان متماسكاً، ما دام الحق كلاماً بكلام، كلام في هواء أو حبر على ورق، لا يطبقه الإنسان إلا أن يجد إنساناً أمامه مطبقاً للحق، هذا اسمه الأسوة الحسنة، القدوة الحسنة، قال تعالى:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
مثل واحد أنفع للناس من عشرة مجلدات، الناس لا يصدقون إلا المثل الحيّ، النبي الواحد بخُلقه وجهاده أهدى للبشرية من آلاف الكتّاب الذين ملؤوا بالفضائل والحِكَم بطون المجلدات، الناس يتعلمون بعيونهم ولا يتعلمون بآذانهم، أعطه خمسين محاضرة ثم اكذب أمامه كذبة واحدة تعلّم الكذب، خمسون محاضرة ما أفادتك؟! تعلّم الكذب العملي، قل له: إني لست موجوداً، يقول له: قال بابا هو ليس موجوداً، علمته الكذب، أين كنتِ؟ ما كنت في أي مكان، كنت في البيت، وهي أمام ابنها ذهبت إلى بيت الجيران، ورجعت لا تقل لوالدك، علمتموه الكذب، لذلك الناس لا يتعلمون بآذانهم، يتعلمون بعيونهم.
فالأنبياء عليهم صلوات الله هم المثل العليا، والقدوة الحسنة للبشر، ما الذي يحملك على أن تستقيم؟ أن هناك في حياتك إنساناً مستقيماً، ما الذي يحملك على غضّ البصر؟ أخي شيء صعب، هناك أناس يغضون بصرهم، من الذي يحملك على ترك الحرام؟ أن هناك أناساً ملء السمع والبصر تركوا الحرام، لذلك أسرع طريق إلى نشر الحق القدوة الحسنة، فالأنبياء كانوا قدوة حسنة قال تعالى:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾
ما رأيت أحداً يحب أحداً كحبّ أصحاب محمدٍ محمداً، لماذا أحبوه؟ لأنه كان أرأف بهم من أنفسهم، أرحم بهم من أنفسهم، مرة كان مع النبي سواكان، فلقي صحابياً أعطاه السواك المستقيم وأخذ له السواك المعوج، أسوة حسنة، ما آثر نفسه أبداً،
(( عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ كُلِّ ثَلاثَةِ نَفَرٍ بَعِيرٌ، وَكَانَ زَمِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيٌّ وَأَبُو لُبَابَةَ قَالَ: وَكَانَ إِذَا كَانَتْ عُقْبَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالا لَهُ: ارْكَبْ حَتَّى نَمْشِيَ عَنْكَ؟ فَيَقُولُ: مَا أَنْتُمَا بِأَقْوَى مِنِّي – أنا شاب أيضاً أستطيع أن أمشي-وَمَا أَنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا. ))
[ تخريج المسند لشعيب: حسن ]
في معركة أحد لا يوجد رواحل، مئة راحلة وثلاثمئة مقاتل، هذه المعركة كلها، أسوة حسنة.
كان في نزهة أو في غزوة، لا أدري، قال أحدهم: عليّ ذبحها –الشاة-وقال الثاني: عليّ سلخها، وقال الثالث: عليّ طبخها، قال صلى الله عليه وسلم: وعليّ جمع الحطب، فقالوا: نكفيك ذلك يا رسول الله؟ قال: أعلم ذلك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، أين الطعام ألم ينته بعد؟ قُم تحرك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه، أسوة حسنة.
كملخص سريع لهذا الدرس، الله سبحانه وتعالى أرسل رسله ليُعَرِّفوا به، وليبينوا أوامره ونواهيه، وليكونوا وسطاء في الإقبال عليه، وأرسل رسله أيضاً كي يبينوا للناس الخير من الشر، وطريق الخير من طريق الشر، ويُحببوا الناس بالخير، ويُبغضوا الناس بالشر، والله سبحانه وتعالى أرسل رسله ليعرِّفوا الناس بأن هذه الشهوات التي أودعها الله في البشر كيف يأخذون خيرها،
ويجتنبون شرها، إنها قوى مُحركة أو مُدمرة، لولا الشهوات لما ارتقى الإنسان إلى ربّ السماوات، وفي الوقت نفسه قد تكون الشهوة مدمرة لصاحبها، وهذا ما حصل مع أوروبا، مع دول الغرب، عدوا الشهوة كل شيء بالحياة فدُمِّروا من أجلها، الآن الرعب القاتل في العالم الغربي مرض الإيدز، هذا المرض سببه الانحراف الأخلاقي، أي كل العلاقات خارج الحياة الزوجية، الزنا وما شابه الزنا، والمخدرات وما شابه المخدرات، فهذا المرض يفتك بالناس بسرعة فائقة، بل إن منظمة الصحة الدولية العالمية قالت قبل يومين: إن كل الجهود التي بُذِلت من أجل القضاء على هذا المرض باءت بالفشل، كل ما فعلناه أننا خففنا من سرعة انتشاره، وصل إلى أوروبا وإلى أمريكا واليابان ودول شرقي آسيا، وفي أمريكا وحدها خمسة عشر مليون إصابة، وهذا إذا أصاب الإنسان يموت خلال ستة أشهر، انحلال المناعة، سببه الانحراف، من الذي يبين للناس أن هذه الشهوة استعمِلوها في هذا الطريق؟ في الزواج فقط؟ الأنبياء، طبعاً شهوة المال أيضاً وكل الشهوات.
وآخر شيء؛ الأنبياء بيّنوا الحقائق العلمية، من الذي نهانا؟ كيف نُهينا عن أن نقرب النساء في المحيض؟ الشرع الذي أُنزل على هذا النبي الكريم، هذه حقائق علمية محضة.
وشيء آخر؛ لابد للهدى من مُثل عليا، من قدوة صالحة، فالأنبياء بعصمتهم، لو أنّ النبي فعل غلطة واحدة لسقطت عصمته، وذهبت مكانته، من فضل الله عزّ وجل أن الأنبياء معصومون عن الخطأ، أبداً، لذلك كانوا قدوة ومُثلاً عليا لبني البشر، فنحن بحاجة ماسة إلى الأنبياء، هذا بحثٌ علمي عن وجه الحاجة إلى الأنبياء والرسل، فالإيمان بالأنبياء والرسل حقّ يقيني من لوازم العقيدة، بل إنه من العقائد التي يجب أن نعلمها بالضرورة، والآن بينّا لماذا أرسل كان الأنبياء، لماذا أرسل الله الأنبياء والرسل لبني البشر؟
يوجد ملاحظة واحدة، كثير مع التوضيحات الدقيقة يبقى هناك أُناس لا يُحسنون الفهم أحياناً، في موضوع الجن أنا ذكرت أنه كل من يتعاون مع الجن لإضلال البشر فهو كافر، كل من يتعاون مع الجن لإضلال البشر، لإيهام البشر أنه يعلم الغيب، لإيهام البشر أنه يفعل كذا وكذا، مع أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام قال:
﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)﴾
انتهى الأمر، قل:
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)﴾
إذا كان سيد الأنبياء، حبيب الحق لا يعلم الغيب، ولا يملك الضّر والنفع فهل يستطيع إنسان على وجه الأرض بمعاونة الجن أن يعلم الغيب؟ قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)﴾
وضحنا هذا كثيراً، يبدو أنَّ بعض الإخوان فهموا أنهُ إذا كان إنسان رجل دين له صِلة بالله عزّ وجل، له إقبال على الله عزّ وجل، له مكانة عند الله عزّ وجل، التقى بإنسان مسحور فقرأ له القرآن، وتوجّه إلى الله عزّ وجل كي يشفى هذا الإنسان فشفي، هذا ليسَ من عمل الجن، هذا من عمل التوحيد، لم أذكر أن هذا العمل غير صحيح، إذا أنت إنسان قريب من الله، وقرأت القرآن بنية أن تُخلّص هذا المسحور من سحره، أو كبّرت الله، أو أذّنت، من السنة إذا شاهد الشخص اثنين يتخاصمان ودخل فيهما الشيطان أن يؤذن، فإذا الإنسان له صلة بالله عز وجل، وله إقباله، وهو موحد، وهو متصل، وجاءه مسحور فقرأ له القرآن وزال عنه سحره، هل يُعد هذا تعاون مع الجن؟ لا والله، هذا استمداد من الله عز وجل، قال تعالى:
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)﴾
فأنا لم أقصد إذا إنسان مسحور أو مصاب بلمسة من الجن إذا أتى عالم مقرب من الله عز وجل، مستقيم، مُقبل، له صلة بالله، فقرأ عليه القرآن، وذكر الله، ففُكّ عنه هذا السحر، هذا عمل عظيم، هذا عمل بدافع من اتصاله بالله عز وجل، أما الذي يتعاون مع الجن لإيهام الناس أنه يعلم الغيب، ولإيهام الناس أنه يفعل كذا وكذا ليُضلهم عن سبيل الله فهذا هو الكفر، قال تعالى:
﴿ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222)﴾
الموضوع واضح، أعتقد لا يوجد شك، ما تعرضت أنا للذي يفك السحر عن المسحورين بسبب ذكر الله تعالى، أما الذي يفك السحر بتعاونه مع الجن فهذا الأمر مشكوك فيه، أما من يفك السحر بإقباله على الله فهذا عمل عظيم، ويُشكر عليه.
الملف مدقق