الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم؛ الموضوع الثالث من موضوعات العقيدة أهمية العقيدة ودورها الخطير في حياة الإنسان.
سمّاها الأجانب غريزة، وسمّاها الله سبحانه وتعالى هداية، فالحيوان يقوم بأعمال بالغة التعقيد بشكل غريزي، عفوي، فطري من دون تَعَلُّم، فالحيوان زوده الله بدوافع، وزوده بغرائز، واسمها الإسلامي: هداية الله، وهذه الدافع وتلك الغرائز، مثلاً الدافع نحو الأنثى بأكثر الحيوانات ليس دائماً، في مواسم معينة، لئلا يَضُرّ نفسه، طعامه من نوع واحد، أحدهم كان مدعواً في أحد أحياء دمشق، وكانت الدعوة على طعام اليقطين أكل يقطينة وشبع، من أجلنا هذه اللقمة، ترجوه أكلها حتى كاد أن ينفجر، راكب الدابة، وهو يمشي في الطريق، في مكان يوجد ماء رغبت أن تشرب الدابة، بعد أن شربت توقفت، قال لها: من أجلي، ترجاها، من أجل خاطري، فقال: والله هذه الدابة أعقلُ مني، هكذا قال، أي الحيوان غريزته لها حدود، إن كان الجنس، وإن كان الطعام، وإن كان الشراب، منضبطة لمصلحته، نرى الحيوان نراقبه إذا مَرِض يدع الطعام والشراب من تلقاء نفسه، يُعالج نفسه بحشائش يهديه الله إليها.
أحدهم راقب قطة مريضة، انطلقت إلى حشيشة على طرف النهر فأكلتها وكان فيها الشفاء، فالحيوان فيه مجموعة دوافع، مجموعة غرائز منضبطة فطرياً لمصلحته.
الإنسان نوع آخر، الإنسان نوع مُكرم، الإنسان مجموعة دوافع سماها علماء النفس: حاجات، الحاجة نحو الطعام، الحاجة للطعام، الحاجة للشراب، الحاجة للتكاثر، الحاجة للإحساس بالأهمية، الحاجة للحركة، لو قيدنا إنساناً بسرير لا يعرف حاجة الحركة إلا من قُيّدت حركته، الإنسان فيه مجموعة حاجات، تسميها: دوافع، تسميها: شهوات، الأسماء كلها مؤداها واحد، دوافع، غرائز، حاجات، شهوات، لكن هذه الحاجات وتلك الدوافع وهذه الشهوات ليست منضبطة فطرياً، لأن الله عز وجل كَرّمه، أعطاه إرادة حُرّة، أعطاه فكراً، لما كان الإنسان مزوداً بفكر يهديه إلى الحق، ولمّا كان الإنسان مزوداً بحرية الاختيار، لحكمة بالغة جعل هذه الحاجات أو تلك الشهوات أو هذه الغرائز أو تلك الميول جعلها مفتوحة وليست محدودة، فالإنسان يستطيع أن يأكل متى شاء، وأن يتصل بالجنس الآخر في كل أشهر السنة، لا كبعض الحيوانات، لكن الانضباط هنا يجب أن ينبُعَ من قناعته ومن اختياره، فالآن تبدأ خطورة الإنسان.
الحيوان يمضي حياته في طمأنينة، وفي دعة، وفي سلامة، لأنه عملية غرائز منضبطة فطرياً، لاحظ الطائر كيف يشرب، لو أنه يطير طيراناً مستمراً ويَعُب الماء عباً لقتل نفسه، القطة تأخذ الماء على دفعات، الفرس تمُصّ الماء مصّاً، لو دققت في الحيوانات في طعامها وشرابها، وفي طيرانها، في حركتها، منضبطة انضباطاً من أروع ما يكون، بحيث يُحَقِّق هذا الانضباط مصلحتها وسلامتها وطمأنينتها.
الإنسان غرائزه، وشهواته، وميوله ليس لها حدود، الوحش في الغابة إذا كان جائعاً يأكل فريسة، حينما يحسّ بالشبع يكف عن افتراس الحيوانات الأخرى، أما حبّ الإنسان للمال فليس له حدود، إذا غرق في الجنس قد ينتحر، انغماسه بالشهوات، حبه لجمع المال، حبه للاستعلاء لا حدود له، قد يستعلي على حساب حياة الناس أو على حساب فقرهم، فلذلك الإنسان شهواته غير منضبطة فطرياً، أوكل الله له ضبطها، هنا النقطة الدقيقة، أوكل الله له ضبط هذه الشهوات وأعطاه وسائل الضبط، إذا أوكلت لإنسان المحاسبة تعطيه وسائلها، دفاتر، آلات حاسبة، معلومات، يومية، فلما ربنا عز وجل أوكل للإنسان ضبط هذه الشهوات وهذه الميول والغرائز والحاجات، حينما أوكل الله للإنسان أعطاه وسائلها، وسائل هذا الضبط فكر سليم، وحرية اختيار، عبّر عنها بعض العلماء بالإرادة الحرة، الآن تأتي خطورة العقيدة من أن القناعة، أو المفهومات، أو العقائد هي التي تُحَرِّك هذه الطاقات، وتلك الشهوات، وتحرك السلوك، فإذا كانت المفهومات صحيحة كان السلوك صحيحاً، وإذا كانت المفهومات مغلوطة كان السلوك مغلوطاً، هذا الذي أُحِبّ أن أُرَكّز عليه، أي من أنت؟ أنت مجموعة مفهومات فإن كانت صحيحة عشت في سعادة، وانتقلت إلى حياة أبدية.
1- انتقال الطفل من المحسوسات إلى المجردات:
أقول لكم ما هي المفهومات؟ أحياناً الطفل الصغير يتعامل مع أمه، أي امرأة يراها في صورة يقول: هذه أمه، بأول مرحلة، أول مرحلة كل أنثى هي أمه، وكل رجل هو أبوه، عندئذ ينتقل لمرحلة ثانية، كل رجل عمه، وكل أنثى خالته، بعد مرحلة يتكون عنده مفهوم المرأة، أي كائن حيّ له خصائص معينة غير أمه وغير خالته وغير عمته وغير جارته، المرأة كائن، مفهوم المرأة، يقول: هذه امرأة، هذا رجل، هذه شجرة، هذه تفاحة، هذا خروف، هذا جبل، هذه المرحلة اسمها: انتقال الطفل من المحسوسات إلى المجردات، من المجسدات للمفاهيم.
أول علائم النضوج يتعامل الطفل بالمفاهيم، ثم يتكون لدى الطفل مفاهيم مُركّبة، أنّ النار تُحرق، صار عنده مفهوم أن النار تُحرق،
هذا مفهوم، هذا من خلال إحساسه بالنار، مرة لمست يده المدفأة فاحترقت يده فعرف أن النار تحرق، مرة رأى النار لهيباً، مرة رآها جمراً، مرة رأى النار فحماً، مرة رآها مدفأة كهربائية احترقت يده، رآها لهيباً، يتكون عنده من مدفئة الكهرباء ومن مدفئة المازوت ومن بعض الأشياء الحارة أن النار شيء يُحرق، هذا المفهوم، هذا المفهوم يتوضع بخبراته العميقة، الآن إذا شاهد ناراً يبتعد عنها، هنا الآن دقة المعنى، لماذا ابتعد عن النار؟ لأنه يملك مفهوماً مركباً عن النار ، النار تُحرق يبتعد عنها، إذا قيل له: إن في هذا الطعام النفيس سُمّاً؟ لا يأكل، مع أنه جائع، تكوّن عنده مفهوم أن السم قاتل، كل واحد منا عنده آلاف ملايين المفاهيم، الحديد قاس، والنار تُحرق، والعقرب تلدغ، والحية تلدغ، وهذا الحيوان مؤذ، هذا نافع، اللحم يُؤكل، القشر لا يؤكل، مفهوم القشر عنده واضح هذا لا يؤكل، هذا للبهائم.
إذاً بالنهاية مجموعة المفاهيم أساسها حسي ثم إدراك ثم مفهوم، إحساس إدراك إن صحّ التعبير عقل، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)﴾
الاستشهاد بأمثلة على مرحلة تكوين المفهوم عند الإنسان:
أول مرحلة الإحساس، الطفل الصغير يرى الحية، لو جئت برضيع عمره سنة ونصف ومرّ أمامه ثعبان كبير، يراه تنطبع صورته على شبكيته لكنه لا يخاف منه، لأنه لا يعرف ماذا يعني الثعبان؟ مفهوم الثعبان لم يتكون بعد عنده، في مرحلة لاحقة يكون بالمدرسة يشاهد الثعبان، أن هذا من الزواحف، وفيه سمّ قاتل، يتعلمها تعليماً، يكون مرة بحديقة حيوان يرى الثعبان، مرة يراه بصورة، مرة بزجاجة، مرة يسمع قصة، من الزجاجة والقصة والصورة وحديقة الحيوان والمدرسة يُكوّن مفهوماً عن الثعبان أنه حيوان من الزواحف لَدْغتُه قاتلة، إذا شاهد ثعباناً فوراً يصيح ويرتعد ويركض، الآن صار عنده مفهوم، أولاً كان إحساساً، عندما كان عمره سنة ونصف كان إحساساً، أما الآن فصار عنده مفهوم الثعبان، هذا المفهوم هو الذي يُحَدّد سلوكه، هل هناك إنسان عنده ذرة عقل يشاهد ثعباناً ويبقى واقفاً؟ مستحيل، لأن المفهوم عنده أصبح واضحاً، هذا الحيوان مؤذٍ، لدْغتُه قاتلة مثلاً، طبعاً إما أن يقتله أو أن يهرب، أما يضطرب اضطراباً، أحد أسباب اضطرابه وجود مفهوم عنده.
الفرق بين المؤمن وغيره هو تملكه العقائد الصحيحة الناتجة عن رؤية صحيحة:
الآن إذاً ما الذي يُحَرك سلوك الناس؟ طبعاً مفهوم الثعبان والعقرب أنا أبسط الأمور واضحة هذه، هذه الناس كلهم كافر مؤمن مستقيم منافق الثعبان يخاف منه أو يقتله، الآن ما الذي يُحَرِّك سلوك الناس؟ هناك إنسان عنده قناعة ثابتة أن إطلاق البصر يُسبب قطيعة مع الله عز وجل، وهذه القطيعة تَجر له متاعب لا حصر لها، سوف يكون أعمى لذلك يغضّ بصره، هذا الذي غضّ بصره ينطلق من مفهوم صحيح، وهذا الذي أطلق بصره ينطلق من مفهوم آخر يقول لك: هذه الحياة فترة محدودة، وأنا إن لم أمارس كل حظوظي النفسية فأنا إنسان غبي، فيجب أن أستغل هذه الحياة للاستمتاع لأقصى درجة بكل شيء جميل، فلذلك إذا سار في الطريق يُطْلِق بصره على أشده إلى كل وجه حسن، هذا ينطلق من مفهوم وهذا من مفهوم، يأتي المرابي يقول لك: أنا لا أُجَمد المال، هذا المال يجب أن ينمو، فإذا أقرضتُه يجب أن آخذ على هذا الإقراض فائدة، هذا المرابي ينطلق من مفهوم الربا، يأتي المؤمن يقول: المال مال الله، وهناك موت، وبعد الموت حساب، وهناك سعادة أبدية أو شقاء أبدي، يطيع الله عز وجل.
إذاً الآن أنا أؤكد لكم ما من إنسان على وجه الأرض يتحرك أي حركة صالحة أو طالحة، خيّرة أو شريرة، لمصلحته أو خلاف مصلحته، إلا وينطلق من مفهوم، الآن إذا استطعنا أن نُصَحح المفاهيم دخلنا الجنة، هذه هي، أنت الذي يحركك مفهوم، الآن سوف أسميها عقيدة، إذا المفهوم ترسخ، وتعمق، وانطلق إلى درجة تشبه الرؤية هذا المفهوم ينقلب إلى عقيدة، إذاً إذا صحت العقيدة صحّ العمل، وإذا صحّ العمل سَعِد الإنسان في الدنيا والآخرة.
أخطر شيء بالحياة العقيدة، هذا الذي يأكل الربا، أو هذا الذي يبيح لنفسه أن يفعل ما يشاء أو أن يعتدي على أعراض الناس، هذا ينطلق من مفهوم معين، مفهوم خاطئ، تسرّب إليه عن طريق إنسان مُضِل، أما هذا الذي يرى أن هناك إلهاً عظيماً بيده كل شيء، خَلَقَه في الدنيا ليستعدّ لحياة أبدية يدوم نعيمها، تراه ينضبط، إذاً الفرق الوحيد بين المؤمن وغير المؤمن هي هذه العقائد الصحيحة التي يملكها المؤمن، وتلك المفهومات الخاطئة التي يملكها الكافر.
العقائد الإسلامية أساس نجاحها أنها درست واقع الإنسان التي فقدته الشرائع الأخرى:
إذا درسنا العقيدة الدينية فقد درسنا المُحَرك الذي يُحَركنا، لما إنسان مثلاً يغش، ينطلق من مفهوم أنني أنا عندي أولاد، والناس كلها يغشون، والغش لا يوجد به شيء، لأنه صار شيئاً عاماً، الزمن صعب يا أخي، وهناك شخص قال لي: حلال على الشاطر، هكذا قال لي، هذه آية أم حديث؟ لا آية ولا حديث، فتجد الغشاش ينطلق من مجموعة مفهومات كلها خاطئة، ظنون، خرافات، يأتي المؤمن يرى أن هناك إلهاً مطلّع على كل شيء، بيده كل شيء، فإذا استقام على أمره، في معاملة الخلق، بارك الله له في صحته، وفي أهله، وفي ماله، وفي دنياه، وفي شيخوخته، وفي موته، وفي الجنة، يستقيم، فعندما ترى رجلاً منحرفاً تأكدْ أنه يحمل مفهومات خاطئة، أي عقائد خاطئة، إذا وجدت إنساناً مستقيماً أي عقيدته صحيحة، إذاً أساس الاستقامة أنْ تملك عقيدة صحيحة، هناك إنسان فَهِمَ الآية الكريمة:
﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)﴾
من الوقار، أي يجب أن تكون المرأة وقورة، أما الآية فلا تعني أن تبقى في البيت، لذلك أمر بناته أن يخرجن من البيت مثلاً، قل لي ماذا تعتقد أقل لك من أنت.
حركة الإنسان تسير وفق معتقده:
درسنا اليوم أهمية العقيدة، هي التي تُحرك سلوكنا، في حياتنا اليومية، في حياتك الصحيّة إذا كان عندك قناعة معينة أن بذل الجهد ضروري، هناك شخص يظن أنه كلما استراح كان أحسن، من السيارة للبيت للمكتب، كله مريح، لا يوجد حركة، مصعد، سيارة، بيت مكيف، مكتب مكيف، لا يتحرك حركة، يتفاجأ هذا الإنسان أن معه مرضاً في القلب أو مرضاً في الشرايين، لكن متى تفاجأ؟
بعْد فوات الأوان، أما الذي يملك مفاهيم صحيحة أن القلب سلامته في بذل الجهد، في الحركة، في المشي، في الرياضة، في بذل الطاقة، فهذا الذي يصون قلبه يملك مفهوماً صحيحاً، إذاً أعدى أعداء الإنسان هو الجهل، أو أن تمتلك مفهومات خاطئة، إنْ بشأن الصحة، إن كان بشأن العلاقات الاجتماعية، إنسان أحياناً يحاسب بائع الخضار، يكون قد أخطأ معه هذا البائع بـخمسة وعشرين ليرة، يبقى المشتري ساكتاً، ويظن نفسه ذكياً بهذه العملية، يبقى ساكتاً، يأتي مؤمن يكون قاطعاً عنه مسافة ثلاثين كيلو متراً بالسيارة يرجع لا يستطيع يقول لك: لا أقدر رأى أن هناك ديَّاناً لا يغفل ولا ينام، فكل حركاتك، حساباتك، تصرفاتك، أعمالك، سلوكك، عاداتك، أخي أنا أحبّ أن أنام حتى الساعة التاسعة، حتى أشبع نوماً، يرى أن النوم شيء ثمين، يأتي مؤمن عنده مفهوم أن الحياة محدودة كلها أيام معدودة، وهذه ساعة الصبح لا تعدلها أيَّة ساعة،
(( فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاسْتَهَمُوا وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا. ))
رغم أنه نام متأخراً، والوقت متأخراً، ينزع عنه اللحاف، وينطلق من فراشه، وينطبق عليه قوله تعالى:
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)﴾
لو أن إنساناً يحبّ النوم رأى إنساناً يستيقظ باكراً يتهمه بالجنون، وهذا الذي يحب أن يلقى الله عز وجل في صلاة الصبح أن يتصل بالله، أن يقف بين يديه، أن يناجيه، أن يدعو، أن يقرأ القرآن في هذا الوقت المبارك، يرى النيام في هذا الوقت مجانين، هذا الذي نام لماذا ينام؟ ينطلق من مفهوم خاطئ، وهذا الذي استيقظ لماذا استيقظ؟ ينطلق من مفهوم صحيح.
سرّ سعادة الإنسان وشقائه هو المفهوم أو المعتقد الذي يتملكه:
إذاً لو استطعنا ألا نُدخل إلى عقولنا إلا المفاهيم الصحيحة انتهت أمورنا كلها، انتهت كل مشكلاتنا، هذا الذي يكاد ينفجر حقداً أو غيظاً مَن الذي قهره؟ مفهوماته مغلوطة، المؤمن مُوحد، لا يرى مع الله أحداً، يرى يد الله فوق أيديهم، هذا الذي ضربه يرى يد الله فوق هذه اليد، هي التي أَذِنت وهي التي سمحت والله عادل، إذاً الذنب ذنبي، ترى المؤمن ليس عنده حقد تجاه أحد، يعلم علم اليقين أن كل شيء وقع لابد من أن يقع أول شيء، ووقع وَفق العدالة المطلقة، ووقع وفق الرحمة المطلقة، وفق اللطف، وفق الخبرة، وفق العلم، تنتهي.
الاستشهاد بأمثلة على فساد الرؤية عند الإنسان نتيجة المفاهيم المغلوطة:
لذلك هذا التقديم أردت منه أن أُنْبئكم أن الذي يملك العقيدة الصحيحة هو الذي يُحَقق السعادة الأبدية، والذي ينطلق من عقائد زائغة أو مغلوطة.
رجل يقول لك مثلاً: يا أخي الله عز وجل لم يهدني بعد، حتى يهديني الله، هذه عقيدة خطيرة جداً، الله تعالى هداك وانتهى الأمر، خلق الكون وهداك به، بقي عليك الاستجابة، فكل إنسان يقول لك: حتى الله يهديني، عقيدته فاسدة، أخي يذهب الصالح بين قدمي العاصي، هذه عقيدة فاسدة، هناك آية قرآنية تقول:
﴿ مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)﴾
أخي الولي الفلاني نظر بإنسان فاهتدى، هذه القصة غير صحيحة، هذه القصة كذب، لأنه:
﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)﴾
هذه لرسول الله صلى الله عليه، رجل يقول لك: أخي سوف تأتيك دفعة أموال، ولك عدو يترصدك، هذا كلام فارغ:
﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)﴾
لا يعلم الغيب إلا الله، إذا قرأ إنسان القرآن تُصحَّح مفاهيمه، أخي فلان شاهد الجن، كاذب، لماذا تكذب الناس؟ طبعاً:
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)﴾
انتهى الأمر، الله قال: الجن لا ترونهم أنتم، هم يرونكم من حيث لا ترونهم، فكل إنسان يدّعي أنه رأى الجن قل له: أنت كاذب، فالذي أريده أن يبحث الإنسان عن العقيدة الصحيحة، إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
ابن عمر، دينَك دينَكَ، إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا.
الحال الذي يعيشه الغرب نتيجة فقدهم للعقائد الصحيحة:
لذلك الآن بعض المجتمعات الغربية يحسون أن هناك حاجة ماسة إلى ما يسمى بالأيديولوجيات، أي العقائد، أي الإنسان الغربي إنسان بلا عقيدة، لا يوجد عنده قيم، لا يوجد عنده حلال وحرام، يفعل ما بدا له، يفعل ما يشتهي، يحقق لذَّاته كلَّها من دون أيِّ قيدٍ، عندما لا يكون هناك قيود إطلاقاً هذا الإنسان ضاع، مبدأ اللذة نفسه انقلب إلى مبدأ الألم.
الحقيقة عندما يُطلق الإنسان لشهواته العنان من دون قيد ينتهي به الأمر إلى الشقاء، يُحس بتفاهته، فلذلك الآن العالم الغربي أدرك أن أخطر شيء يَفُت في عضد الناس هناك أنهم يفتقرون إلى عقيدة، تجد هناك وحشة، لا يوجد هدف، يسمونه: الهمود، أي امرأة ربت خمسة أولاد تنتظر من سنة إلى سنة أن تتلقى من أحدهم بطاقة تهنئة بعيدِ الميلاد فقط، تنتظر بطاقة تهنئة أما أن يزورها ابنها فهذا شيء مستحيل، مجتمع بلا عقيدة، هذا المجتمع من دون عقيدة مجتمع آخرته الدمار.
الآن عندنا سؤال دقيق؛ كيف تنتقل هذه المفهومات إلى مركزها في الحياة النفسية؟ سابقاً أكدت لكم أننا نحن أمام عالَم حسي، هذا العالم الحسي نُدركه بحواسنا، فأنت بالعين ترى الشمس، أنت بالأذن تسمع صوت الرعد، أنت بحاسة الشم تَشُم رائحة الأزهار، أنت بالجلد تُحِسّ بالحرارة، فهناك أشياء موجودة، الحواس تنقل لك ما في العالم الخارجي، هذا النقل المستمر ينتقل بعد ذلك إلى إدراك، وهذا الإدراك ينقلب إلى مفهوم، فإذا ترسخ هذا المفهوم ورافقته رؤية نفسية ينقلب إلى عقيدة، أول مصدر للعقيدة هو الأحاسيس المادية، فأنت تعتقد أن النار تُحرِق طبعاً، وتعتقد أن الماء سائل، من خلال حواسك، من خلال أحاسيسك اليومية عندك مجموعة عقائد لكن هذه العقائد مادية.
هناك طريق آخر للعقيدة، طريق استدلالي، أي أنت من خلال الأثر تعرف المُؤَثِّر، ومن خلال الأقدام تعرف المسير، ومن خلال الماء تعرف الغدير، ومن خلال البعر تعرف البعير، أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج ألاَ تَدُلان على الحكيم الخبير؟
أول طريق للعقيدة حسي، وأغلب الناس عندهم مجموعة مفاهيم صحيحة بديهية استنبطوها من حواسهم الخمس، اسأل مثلاً إنساناً أيهما أكبر هذه الآلة أم هذه الآلة؟ يقول لك: هذه الآلة، شيء بديهي، حتى إن بعضهم قال: المُسَلَّمات لا تحتاج إلى برهان لشدة وضوحها، أما الطريق الثاني طريق الإيمان بالغيب قال تعالى:
﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)﴾
أي أنت من خلال دوران هذه المروحة عندك علم يقيني بأن في هذه الأسلاك طاقة كهربائية، والدليل حركة هذه المروحة، وعندك دليل يقيني يبلغ يقينه مئة في المئة أن في هذه الأسلاك الأخرى طاقة كهربائية، والدليل تألق هذه المصابيح، وأن في هذه المسجلة بطارية، والدليل حركتها من دون مأخذ كهربائي، يقين قطعي، هناك أشياء كثيرة في حياتنا تبلغ درجة اليقين عن طريق الاستدلال، فالشيء التي تُدركه حواسك تعرفه من خلال الحواس، والشيء الذي لا تدركه الأبصار لكن له آثاراً تُدركها الحواس أنت تعرفه من خلال آثاره، فإذا شاهدت إنساناً ميتاً وإلى جانبه إنسان يغسله، في أيهما روح؟ بالذي يُغَسِل، الذي يتغسل لا يوجد فيه روح، ميت، أما الذي يُغَسله فيه روح قطعاً، والدليل حركته، لو كان الثاني ميتاً كان مثله، فلذلك هناك أشياء ندركها بفكرنا عن طريق الآثار المادية لها.
3- الأمور التي تتعلق بالغيب طريقها الخبر الصادق:
أما إذا كان الشيء مُغَيّباً عن حواسنا، مُغَيّباً ذاته وآثاره، ليس لمعرفته إلا طريق واحد وهو طريق الخبر الصادق، إذاً للعقيدة ثلاث قنوات تغذيها، قناة الحواس الخمس، وما يتبعها من إدراك ومفهوم ثم عقيدة.
الطريق الثاني طريق الاستدلال الفكري، وهذا الطريق لا يَقِلُّ في قوته وصحته عن الطريق الحسي، إنك تَقطع وتَجزِم بأن هناك إنساناً سار في هذا الطريق من آثار أقدامه، وأن الذي سار العرب تعرفه أنثى أم رجل، صغير أم كبير، فاقتفاء الآثار علم قائم بذاته.
أما إذا كان الشيء الذي تبحث عنه غائباً عنك، وكانت آثاره أيضاً غائبة عنك، لا سبيل إلى معرفته إلا عن طريق الخبر الصادق، فالخبر الصادق قناة، والاستدلال العقلي قناة، والإدراك الحسي قناة، من الإدراكات الحسية والاستدلالات العقلية وتصديق الأخبار الصادقة يتكون مجموعة مفاهيم، هذه المفاهيم مع الممارسة ومع الامتحان ومع التكرار تنقلب إلى عقائد، وبعبارة أخرى تنقلب إلى معقولات، قال تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا﴾ .
صورة عملية التفكير في ذهن الإنسان:
الإحساس بالعين، الإدراك بالفكر، العقل بالقلب، تُحسّ بالعين، صورة الشيء، بالفكر تقول: هذه أفعى، عندك مفهوم الأفعى، فإذا لُدِغتَ بالأفعى مرة تكوّن عندك تجربة مرة، عندئذ تعقل خطرها، وتعقل أذاها، فالإحساس صورة والإدراك فكرة أما العقل فتجربة، ممكن تسميها: تجربة، ممكن تسميها: رؤية، لكن نوع من المعرفة لا يرقى إليها الشك، إن صحّ التعبير الإحساس إذا الشيء بقي في الإحساس أي العين رأته، أما إذا وصل إلى الدماغ أدركته، العين أحست به، والدماغ أدركه، والقلب عقله، إذا وصل الشيء إلى القلب فهذا أعلى درجات المعرفة.
عندنا شيء أحياناً مجموعة الأفكار ومجموعة المعتقدات يمكن أن تصنف إلى ثلاث درجات: الدرجة الأولى مرتبة اليقين، يوجد درجة مرتبة الظن، يوجد درجة مرتبة الشك.
هناك أشياء مشكوك بها، هناك أشياء يغلب الظن أنها صحيحة، هناك أشياء تقطع بأنها يقينية، فإذا كان ربنا عز وجل قال مثلاً:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)﴾
يوجد نص صريح قطعي واضح مُحْكَم، إذاً لا سبيل إلى إنكاره، هناك قضية لست متأكداً من صحتها، أي يوجد موضوعات بالفقه مثلاً، موضوعات يجوز تحديد النسل أو لا يجوز، هناك علماء استنبطوا هذا من آية معينة، هناك علماء رفضوا ذلك، هذا موضوع لم يُقطع به بعد، أما إذا إنسان تكلم لك عن الجن خرافات، وقال لك: اكتب هذه الكلمة وضعها في كأس ماء واشربها، تفهم الكتاب فوراً، تنجح وتأخذ علامة عالية، هذه خرافة، أي ممكن لأحدهم أن يأخذ حجاباً ويحمله يفهم كتاب الفيزياء فوراً وحده؟ هناك أشياء بمستوى الخرافات، هناك أشياء بمستوى الأفكار القابلة للتصديق، هناك أشياء بمستوى اليقينيات.
نحن إن شاء الله تعالى في درس قادم نُتابع موضوع العقيدة على مستوى أن هذا الخبر الصادق كيف يكون صادقاً؟ وما مقياس صدقه؟ لأن ربما تُبنى مجموعة كبيرة من عقائدنا على الأخبار الصادقة التي أخبرنا بها كتاب الله عزّ وجل، وأخبرنا بها النبي عليه الصلاة والسلام، في العقيدة قسم تحقيقي، وعندنا بالعقيدة قسم تصديقي، التحقيقي لا تُغني الأخبار الصادقة عن التحقق الذاتي، قال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)﴾
فالتفكُر هو التحقق، فالإيمان بعضه تحقيقي، وبعضه تصديقي، وسوف نتابع هذا الموضوع في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
الملف مدقق