- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠23برنامج ومضات قرآنية - قناة الرسالة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أصل العبادة أن تتوجه إلى الله وتعتمد عليه :
أيها الأخوة الكرام ، آيات الدعاء :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186)﴾
وهذه الآيات وردت ضمن آيات الصيام ، فما الحكمة من الدعاء ؟ الحقيقة الأولى أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( الدعاء هو العبادة ))
أصل العبادة أن تتوجه إلى الله ، أن تعتمد على الله ، أن تتوكل على الله ، أن ترجو الله ، أن تخاف من الله ، أن تسأل الله ، العبادة هي الدعاء والدعاء هو العبادة :
(( الدُّعاءُ مُخُّ العبادةِ ))
لمجرد أن يدعو الإنسان الله عز وجل فهو قطعاً مؤمن بوجوده و بأنه يراه و يسمعه :
على كلٍّ : الآية الأصل في هذا الموضوع قوله تعالى :
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (77)﴾
وكأن الله عز وجل يقول : إن دعوتموني أعبأ بكم وإلا لا شأن لكم عندي ، لماذا؟ أنت متى تدعو أيها الأخ الكريم ؟ متى تدعو جهة أرضية ؟ لا تدعو جهةً أرضية إلا إذا كانت موجودة أمامك ، أو إلا إذا آمنت بوجودها ، لا يعقل أن تدعو من لا تؤمن بوجوده ، فلمجرد أن تدعو الله عز وجل فأنت قطعاً مؤمن بوجوده ، هذه واحدة .
أنت حينما تدعو الله عز وجل أنت قطعاً مؤمن بأنه يسمعك ، فالله سميع عليم ، إن تكلمت يسمعك ، وإن تحركت يراك ، وإن أضمرت شيئاً يعلمه ، سميع بصير عليم ، إن تكلمت فهو سميع ، وإن تحركت فهو بصير ، وإن أضمرت شيئاً فهو عليم ، بل إن الله عز وجل :
﴿ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾
يعلم ما أسررت ويعلم ما خفي عنك ، علم ما كان وعلم ما يكون وعلم ما سيكون وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون :
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (77)﴾
أنت حينما تدعو الله أنت قطعاً مؤمن بوجوده ، وأنت قطعاً مؤمن بأنه يسمعك ، أو أنه يراك ، أو أنه يعلم ما في نفسك .
الدعاء مع الله عز وجل لا يحتاج إلى أن تحرك شفتيك :
أما في قوله تعالى :
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾
بإمكانك في ظرف حرج ألا تحرك شفتيك ، وأن تتوجه إلى الله بقلبك داعياً ، والله عز وجل يعلم السر وأخفى ، حدثني أخ كريم قال : وأنا في الطائرة في طريقي إلى بلد أرجو أن أنال منه حظاً من المال ، خطر في بالي أن الله عز وجل إذا أكرمني سابني له مسجداً ، أقسم لي بالله ما حركت شفتي ، وبعد أن أكرمه الله بنى لله مسجداً ، الدعاء مع الله عز وجل ، الدعاء مع الله عز وجل قد لا تحتاج إلى أن تتحرك شفتيك :
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾
دعاء الإنسان لربه دليل إيمانه أن الله على كل شيء قدير :
إذاً لأنك دعوت الله أنت مؤمن بوجوده ، ولأنك دعوت الله أنت مؤمن بأنه يسمعك ، وإن تحركت يراك ، وإن أضمرت يعلم ما في نفسك ، ولأنك دعوت الله فأنت مؤمن أيضاً أنه قادر على كل شيء ، تعلقت قدرته بكل شيء ، فلولا أنك مؤمن بوجوده ، وبأنه يسمعك ، وبأنه قدير على كل شيء ، ما دعوته ، بل ولأنك دعوت الله عز وجل أنت مؤمن أنه يحب أن يرحمك :
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
ولأنك دعوت الله أنت قطعاً تؤمن أنه يحبك ، ويحب أن يرحمك ، ويحب أن يستجيب لك ، فالآن نفهم معنى الآية :
﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ (77)﴾
إذا دعوتم ربكم دعاء صحيحاً كما أمر فهذا الدعاء يعني أنك مؤمن بوجوده ، مؤمن بأنه يعلم ويسمع ويرى ، مؤمن بأنه على كل شيء قدير ، مؤمن بأنه يحبك .
إذاً الدعاء معرفة ، ولم يدعُ أحد ربه إلا إذا عرفه ، فلذلك الله عز وجل جعل الدعاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم مخ العبادة .
الله عز وجل يحب الملحين بالدعاء :
أيها الأخوة ، الآية الثانية :
﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4)﴾
أي مستحيل وألف ألف مستحيل أن تدعوه مخلصاً وأن تشقى بهذا الدعاء ، مستحيل وألف ألف مستحيل أن يكون هذا الشيء الذي تطلبه من الله لصالحك في الدنيا إلا ويستجيب لك ، فإن لم يستجيب لك فلحكمة بالغة بالغة ، عرفها من عرفها ، وجهلها من جهلها، لكننا نعتقد يقيناً كما قال الله عز وجل :
﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4)﴾
الدعاء سلاح المؤمن ، أنت بالدعاء الله عز وجل يكون بجانبك :
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾
الله عز وجل يريد أن تدعوه ، بل إن الله يحب من عبده أن يسأله شسع نعله إذا انقطع ، إن الله يحب من عبده أن يسأله ملح طعامه ، إن الله يحب من عبده أن يسأله حاجته كلها ، والله عز وجل يحب الملحين بالدعاء :
﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4)﴾
شروط الدعاء :
الآن لو سأل سائل عن شروط الدعاء ، الله عز وجل يقول :
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾
كأن هذه الآية استنبط منها النبي صلى الله عليه وسلم أن الدعاء هو العبادة :
﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾
أي بحسب المنطق أن يدعوني ،
﴿ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾
إذاً الدعاء هو العبادة :
﴿ سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾
فهذه الآية تبين أن العبادة يمكن أن تضغط بأكملها بكلمة واحدة هي الدعاء ، فالصلاة دعاء ، والصيام دعاء ، والحج دعاء ، ومع أداء الزكاة دعاء ، وموقف المؤمن من ربه يتلخص بالدعاء ، والذي لا يدعو الله عز وجل الله يغضب عليه .
ليس بين الله وعبده وسيط فالخلق كلهم عيال الله :
أيها الأخوة ، لكن لو أردنا أن نفصل في شروط الإجابة ، قال تعالى :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾
بالحقيقة هناك آيات كثيرة تزيد عن عشر آيات :
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ ﴾
﴿ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ﴾
﴿ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ ﴾
آيات تزيد عن عشر آيات ، يسألونك وبين السؤال والجواب فقل ، إلا في آية واحدة تنفرد من بين كل الآيات :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي ﴾
ليس في هذه الآية فقل
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾
بمعنى أنه ليس بين الله وعبده وسيط ، الخلق كلهم عيال الله ، سيدنا سعد بن أبي وقاص كان من أحب أصحاب رسول الله إلى رسول الله ، كان إذا دخل عليه يداعبه يقول : هذا خالي أروني خالاً مثل خالي ، ما فدى أحداً من أصحابه بأبيه وأمه إلا سعداً :
(( ارْمِ سَعْدٌ فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي ))
الآن دققوا ماذا قال له سيدنا عمر بعد وفاة رسول الله ، قال له : يا سعد لا يغرنك أنه قد قيل خال رسول الله ، فالخلق كلهم عند الله سواسية ، ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له.
﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾
شروط الإجابة :
لذلك :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾
ليس بينك وبين الله حجاب ، ليس بينك وبين الله ترجمان ، ليس بينك وبين الله وسيط :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ﴾
الآن :
﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
أي دعاني حقيقة ، أي علقت الأمل بالله ، لم ترَ غير الله ، لم ترَ فاعلاً إلا الله ، لم تستجب لغير الله ، لم تعلق الأمل على غير الله :
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ (186)﴾
متى أجيب ؟ وبأي شرط أجيب ؟
﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي ﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾
﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾
إلى الدعاء المجاب ، أي نؤمن بالله أولاً إيماناً يحملنا على طاعته ، نستجيب لأمره ، عندئذ دفعنا ثمن الدعاء المستجاب:
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾
إلى الدعاء المجاب ، هذه الآية تبين شروط استجابة الدعاء ، على كلٍّ أحياناً قد لا يستجيب الله الدعاء لحكمة بالغة بالغة عرفها من عرفها وجهلها من جهلها .
العلماء استثنوا من شروط الدعاء المضطر و المظلوم :
إلا أن العلماء استثنوا من شروط الدعاء دعاء المضطر ، لقوله تعالى :
﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ (62)﴾
قالوا : الله عز وجل يجب للمضطر وإن لم تتوافر فيه الشروط برحمته التي وسعت كل شيء ، وسعت رحمتي كل شيء ، والله عز وجل يستجيب للمظلوم ولو لم تتوفر فيه شروط الدعاء بعدله ، بل ورد في بعض الأحاديث :
(( اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافراً ))
دعاء المظلوم يستجاب له ، توافرت في المظلوم شروط الدعاء أو لم تتوافر ، ودعاء المضطر يستجاب له توافرت في المضطر شروط الدعاء أو لم تتوافر .
الدعاء أحد أكبر دعائم الدين و رفع الصوت به ليس مستحباً :
على كلٍّ الدعاء أحد أكبر دعائم الدين ، أنت بالدعاء مع رب العالمين ، أنت بالدعاء مع أقوى الأقوياء ، مع أغنى الأغنياء ، مع من بيده ملكوت السماوات والأرض ، مع من بيده أعداؤك ، مع من بيده أصدقاؤك ، مع من بيده من فوقك ، مع من بيده من تحتك ، مع من بيده من حولك ، مع من بيده جسمك ، شرايين ، قلبك ، بيده كل شيء ، فأنت بالدعاء أنت مع الله ، وإذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان عليك فمن معك ؟ ويا رب ماذا فقد من وجدك ؟ وماذا وجد من فقدك ؟
أيها الأخوة الكرام ، شيء دقيق هو :
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
رفع الصوت بالدعاء ليس مستحباً ، يمكن أن تدعو الله بينك وبينه ، يمكن أن تدعو الله في سرك ، يمكن أن تتوجه إلى الله بقلبك ،
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً ﴾
من تذلل لله رفعه :
الدعاء يحتاج إلى تذلل لله ، والشيء الدقيق أنه كلما تذللت لله رفعك الله ، وكلما رفعت نفسك أذلك الله ، الله عز وجل في آية يقول :
﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾
لأنهم تضرعوا إلى الله ، وافتقروا إليه ، ودعوه أن ينصرهم ، فنصرهم ، الصحابة هم هم ، ومعهم سيد الخلق وحبيب الحق في حنين قالوا : لن نُغْلَب اليوم من قلَّة ، فتخلى الله عنهم ، قال تعالى :
﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ(25)﴾
إذاً أنت بين حالين ، حال التولي وحال التخلي ، إذا قلت الله ، إذا دعوت الله مخلصاً ، إذا افتقرت إلى الله ، إذا رجوت الله ، وأنت بهذا الحال تكون أقوى الأقوياء ، وأعلم العلماء ، أما إذا اعتززت بقوتك ، أو بشيء من متاع الدنيا ، يتخلى الله عنك ، فأنت بين التولي والتخلي ، تقول : الله يتولاك ، تقول : أنا بخبراتي ، بعلمي ، بتجاربي ، بمن حولي ، بعشيرتي ، بأسرتي ، بأولادي ، يتخلى عنك ، هذا هو التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد .
المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء :
المؤمن الصادق يأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ويتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، حينما يأخذ بالأسباب يأخذها تعبداً ، لأن الله عز وجل أمرنا أن نأخذ بالأسباب :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)﴾
ينبغي أن تأخذ بالأسباب ، عليك بالكيس ، عليك بالسعي ، عليك أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، ذلك أن العالم الغربي أخذ بالأسباب، واعتمد عليها ، بل وألهها ، ونسي الله عز وجل ، فوقع في وادي الشرك ، والعالم في المشرق لم يأخذ بها متواكلاً على الله ، وكلاهما أخطأ ، لذلك الموقف الكامل وكأنه طريق ضيق على يمينه واد سحيق ، وعلى يساره واد سحيق ، هذا الطريق الضيق أن تأخذ بالأسباب وكأنها كل شيء ، ثم تتوكل على الله وكأنها ليست بشيء ، لو أخذت بالأسباب واعتمدت عليها وقعت في وادي الشرك ، لو لم تأخذ بها لوقعت في وادي المعصية ، فلذلك :
﴿ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾
تضرعاً أي تذللاً وخفية ، لا يحب الله رفع الصوت بالدعاء أنك تخاطب خالق الأرض والسماوات ، الذي يعلم السر وأخفى ، وهو معكم أينما كنتم .
اجتماع التعظيم والخوف والمحبة في قلب المؤمن تجاه الله عز وجل :
أيها الأخوة ، شيء آخر بالدعاء يقول الله عز وجل يصف المؤمنين بأنهم يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ، ورد في الأثر :
(( يا رب ، أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك ؟ فقال : أحب عبادي إليّ تقي القلب ، نقي اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني ، وحببني إلى خلقي ، قال : يا رب إنك تعلم أني أحبك وأحب من يحبك ، فكيف أحببك إلى خلقك ؟ قال : ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ))
ذكرهم بآلائي كي يعظموني ، وذكرهم بنعمائي كي يحبوني ، وذكرهم ببلائي كي يخافوني ، معنى ذلك أنه لابدّ أن يكون في قلب المؤمن تعظيم لله عز وجل من خلال آياته الكونية والتكوينية والقرآنية ، ولا بد من أن يكون في قلب المؤمن حب لله من خلال نعمه التي لا تتناهى ، ولابدّ من أن يكون في قلب المؤمن خوف من الله عز وجل من خلال البلاء الذي يساق إلى بعض الناس ، إذاً
(( ذكرهم بآلائي ، ونعمائي ، وبلائي ))
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا (16)﴾
ينبغي أن تخافه ، وأن ترجوه ، الخوف وحده يسبب إحباطاً ويأساً ، واليأس كفر، والطمع الساذج وجده يسبب تساهلاً في الطاعات ، فلذلك ينبغي أن توازن بين الخوف والرجاء مع الله عز وجل ، أن تدعوه راجياً وأن تدعوه خائفاً .
الإخلاص عبادة القلب :
أيها الأخوة الكرام ، لكن البطولة أن تكون مخلصاً في دعائك ، الله عز وجل يقول :
﴿ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ (65)﴾
والإخلاص عبادة القلب ، وعلامة إخلاصك أنك إذا عملت عملاً صالحاً هذا العمل يستوي أمام الناس أو كنت وحدك في البيت ، يستوي إذا علم الناس به أو لم يعلموا ، استواء العمل أمام الناس ومن دون أناس يرونك علامة إخلاصك ، ثم إن هذا العمل يستمر من دون ثناء الناس وإطرائهم ، ويستمر مع ثنائهم وإطرائهم ، أي العمل الصالح لا يتأثر لا أمام الناس ولا إذا كنت خالياً ، ولا يتأثر لا مع المديح ولا مع الذم ، إذا العمل تحرر من الثناء والمديح والرؤية وعدم الرؤية ، فأغلب الظن أن في هذا العمل إخلاصاً يكشف الإنسان حقيقته حينما تتنزل عليه من الله سكينة .
من اشتقّ من الله كمالاً يتقرب به إليه اكتسب الرحمة منه :
أيها الأخوة الكرام ، لكن هناك شيء دقيق جداً قوله تعالى :
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (180)﴾
أنت حينما تشتق كمالاً من كمال الله ، وتتقرب إلى الله بهذا الكمال ، أنت حين اتصالك بالله اكتسبت الرحمة منه ، قال تعالى :
﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾
أنت حينما تشتق كمالاً من كمال الله تتقرب به إليه أنت تحقق هذه الآية الكريمة :
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (180)﴾
حينما تشتق من الله الإنصاف تتقرب إلى الله بإنصافك ، عندئذ يتجلى الله عليك بالسكينة التي تسعد بها ولو فقدت كل شيء ، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء ، إذاً الآية الكريمة :
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا (180)﴾
والآية التالية :
﴿ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾
الدعاء سبب سعادة الإنسان الأبدية :
الإنسان إذا دخل الجنة ، وتذكر حاله في الدنيا ، كيف كان يدعو الله ليلاً نهاراً ؟ يدعوه وحده ومع المؤمنين ، هذا الدعاء أثمر هذا الهدى ، وهذا العمل الصالح ، وهذا القرب من الله عز وجل ، وكأن الدعاء سبب سعادة الإنسان الأبدية ، لكن الذين غفلوا عن الله ، وشردوا عنه ، مشكلتهم الكبرى أن الله عز وجل وصف دعاءهم إن تدعوهم للشركاء ، لأهل الدنيا ، للأقوياء :
﴿ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)﴾
إذا اتجهت إلى غير الله اتجهت إلى لا شيء ، اتجهت إلى ضعيف ، اتجهت إلى فقير ، اتجهت إلى لئيم أحياناً ، قيل ما الذل ؟ أن يقف الكريم باب اللئيم ثم يرده ، فلذلك المؤمن يتجه إلى الله وحده ، وحينما يتعرف إلى الله لا يرى إلا الله عز وجل يستجيب دعاءه ، ويحفظه ، وينصره ، ويقويه ، قال الله :
﴿ وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ﴾
أرجو الله سبحانه وتعالى أن ننتفع جميعاً بهذه الحقائق الدقيقة ، والله سبحانه وتعالى يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى ، وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .