- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠23برنامج ومضات قرآنية - قناة الرسالة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق :
أيها الأخوة الكرام ، نحن في العشر الأخير من رمضان ، ورمضان كما تعلمون ثاني أكبر عبادة في الإسلام ، هذا الشهر الكريم ينقلنا إلى حقيقة العبادات ، العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق ، بينما الطقوس في الأديان الأرضية التي هي من صنع الإنسان طقوس لا معنى لها ، حركات وسكنات وتمتمات لا تعني شيئاً ، بينما العبادات في الإسلام كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : " العبادات في الإسلام معللة بمصالح الخلق " ، مثلاً :
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا (103)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾
هذه علة الصيام ، الله عز وجل يقول :
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ (45)﴾
في الحج :
﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ (97)﴾
فالعبادات في الإسلام مقننة بمصالح الخلق .
العبادات الشعائرية لا تقطف ثمارها كاملة إلا إذا صحت العبادات التعاملية:
كأن الإسلام مثلث كبير ، القسم الأعلى منه العقيدة إن صحت صحّ العمل ، والقسم الثاني منه العبادات الشعائرية ؛ كالصلاة ، والصيام ، والحج ، والزكاة ، والقسم الثالث منه المعاملات ، العبادات التعاملية ، والقسم الرابع منه الآداب ، فالإسلام في مجمله عقائد وعبادات ومعاملات وآداب ، لا تصح العبادات الشعائرية إلا إذا صحت المعاملات ، والدليل النبي عليه الصلاة والسلام :
(( تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لَا لَهُ دِرْهَمَ وَلَا دِينَارَ وَلَا مَتَاعَ قَالَ الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ يَأْتِي بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُقْعَدُ فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ ))
هذه الصلاة ، أما الصيام :
(( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ))
أما الزكاة :
﴿ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ {53} ﴾
وأما الحج :
(( من وضع رجله في الركاب ، وحج بمال حرام ، وقال : لبيك اللهم لبيك ينادى لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك ))
إذاً الإسلام عقائد وعبادات ومعاملات ، إن صحت العقائد الآن لا تصح العبادات الشعائرية إلا إذا صحت المعاملات ، كما يقول بعض العلماء : "ترك دانق من حرام خير من ثمانين حجة بعد حجة الإسلام ".
العبادات الشعائرية كالصلاة والصوم والحج والزكاة لا تقطف ثمارها كاملة إلا إذا صحت العبادات التعاملية:
(( لأن أمشي مع أخ في حاجةٍ خير لي من أن أعتكف في مسجدي هذا ))
الإنسان عقل يدرك وقلب يحب وجسم يتحرك :
أيها الأخوة الكرام ، الإنسان عقل يدرك ، وقلب يحب ، وجسم يتحرك ، غذاء العقل العلم ، وغذاء القلب الحب ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، إذاً أودع الله في الإنسان قوة إدراكية ، أنا أسميها الحاجة العليا في الإنسان ، وما لم يبحث الإنسان عن الحقيقة ، عن سرّ وجوده ، عن غاية وجوده ، عن ربه الذي خلق السماوات والأرض ، ما لم يبحث عن وسائل العمل الصالح ، ما لم يبحث عن حقيقة ما بعد الموت ، فهو إنسان بعيد كل البعد عن سرّ وجوده ، وعن غاية وجوده ، لذلك لأن الله أودع في الإنسان قوة إدراكية ينبغي أن يبحث عن الحقيقة ، والإنسان الذي لا يطلب العلم هبط عن مستوى إنسانيته إلى مستوى لا يليق به ، لأنه عقل يدرك ، وغذاء العقل العلم ، وقلب يحب ، وغذاء القلب الحب ، وجسم يتحرك ، وغذاء الجسم الطعام والشراب ، إذا لبيت هذه الحاجات الثلاث معاً تفوق الإنسان ، فإذا لبيت واحدة منها تطرف الإنسان ، وفرق كبير بين التفوق وبين التطرف .
من بحث عن الحقيقة و عرفها سلم و سعد في الدنيا و الآخرة :
أيها الأخوة الكرام ، أول كلمة في أول آية في أول سورة من القرآن الكريم اقرأ:
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى(6)أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى(7)﴾
اقرأ أي اطلب العلم ، لبِّ الحاجة العليا فيك ، لأنك عقل يدرك ، والإنسان المؤمن بحث عن الحقيقة فعرفها ، فتعرف وفقها إلى الله ، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة ، وغير المؤمن غفل عن حقيقة كبرى ، لم يطلب العلم ، تحرك وفق شهواته ، عندئذ أساء وظلم ، عندئذ يهلك في الدنيا والآخرة .
وكأن البشر على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، نموذجان ، نموذج عرف الله فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه ، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة ، ونموذج غفل عن الله ، وتفلت من منهجه ، وأساء إلى خلقه فشقي وهلك في الدنيا والآخرة .
الله عز وجل ربط طلب العلم بالإيمان :
لذلك الله عز وجل يقول :
﴿ اقْرَأْ ﴾
أي اطلب العلم ، ولكن البطولة أن تقرأ من أجل أن تؤمن ، ربط الله طلب العلم بالإيمان :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
توصل من علمك إلى وجود خالق عظيم ، ورب رحيم ، ومسير حكيم ، اقرأ من أجل أن تؤمن ، فالإيمان هو سرّ طلب العلم ،
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
وكأنني أصف هذه القراءة قراءة بحث وإيمان ،
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾
هل عرفت الله ؟ هل عرفت أسماءه الحسنى ؟ هل عرفت صفاته الفضلى ؟ هل عرفت لماذا جاء بك إلى الدنيا ؟ هل عرفت ماذا بعد الموت ؟ هل عرفت قبل الولادة أين كنت ؟ هل عرفت ماذا بعد الموت من سعادة أبدية يدوم نعيمها أو شقاء أبدي لا ينفذ عذابه ؟ لماذا أنت مشغول عن هذه الحقائق الكبرى .
إلى متى وأنت باللذات مشغول وأنت عن كل ما قدمت مســؤول
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنـا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جـاء وعدنــــا
فأحبابنا اختاروا المحبة مذهبـاً وما خالفوا في مذهب الحب شرعنا
فـلو شاهدت عيناك من حسننا الذي رأوه لما وليت عنا لغيرنــا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب وجئتنــا
ولو ذقت مـن طعم المحبة ذرة عذرت الذي أضحى قتيلاً بحبنــا
ولو نسمت من قربنا لك نسمـة لمــــت غريباً واشتياقاً لقربنا
***
ارتباط القراءة بالإيمان فما لم يقودك العلم إلى الإيمان فليس علماً :
إذاً اقرأ باسم ربك ، أقرا من أجل أن تؤمن ، اقرأ من أجل أن تسعد بهذا الإيمان، اقرأ من أجل أن تنجح في الدنيا والآخرة ،
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾
هذه قراءة يمكن أن نسميها قراءة البحث والإيمان ، القراءة الأولى ، في هذه السورة أربع قراءات ينبغي أن نقف عندها واحدة واحدة ، هذه القراءة الأولى اقرأ من أجل أن تؤمن ، علة وجودك أن تعرف الله:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
هذه القراءة الأولى قراءة البحث والإيمان ، ثم قراءة شكر وعرفان ، منحك نعمة الإيجاد ، منحك نعمة الإمداد ، يوجد هواء ، يوجد ماء عذب زلال ، يوجد زوجة ، يوجد أولاد ، يوجد طعام ، شراب ، فواكه ، معادن ، كل شيء ، لذلك القراءة الثانية قراءة شكر وعرفان ، ما لم يمتلئ قلبك شكراً لله فأنت بعيد عن الإيمان .
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)﴾
ولعل أقرب آيات الله إليك جسمك الذي بين جنبيك ، هذا آية من آيات الله العظمى :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)﴾
أنواع القراءات :
1 ـ قراءة البحث والإيمان :
في شبكية العين مئة وثلاثون مليون مخروط وعصية ، من أجل أن تأتي الرؤية دقيقة جداً ، من أجل أن ترى ثمانية ملايين لون ، هذه دقة ما بعدها دقة ، بينما أكبر آلة تصويرية احترافية رقمية بالميلمتر مربع فيها عشرة آلاف مستقبل ضوئي :
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ﴾
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ ﴾
سمعك ، بصرك ، دماغك ، جمجمتك ، هضمك ، أمعاؤك ، قلبك ، رئتاك ، كبدك ، قلبك ، عظامك :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
من نطفة لا ترى بالعين ، ومن بويضة لا تزيد عن حبة الملح ، خلقك الله إنساناً سوياً ، دماغ ، وأعصاب ، وعضلات ، وأجهزة متنوعة بالغة الدقة :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴾
هذه القراءة الأولى قراءة البحث والإيمان .
2 ـ قراءة الشكر والعرفان :
القراءة الثانية قراءة الشكر والعرفان :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)﴾
ما معنى أكرم ؟ أي منحك نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، أنت موجود ، وأمدك الله بالهواء والماء ، وبكل ما تحتاج من طعام ، وشراب ، وبزوجة ، وأولاد ، فهذا كله من عطاء الله عز وجل :
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴾
منحك نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، ونعمة الهدى والرشاد ، سخر لك ما في الكون تسخير تعريف وتكريم ، فموقفك من التعريف أن تؤمن ، وموقفك من التكريم أن تشكر ، فإذا آمنت وشكرت حققت الهدف من وجودك ، لذلك قال تعالى :
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ﴾
فالقراءة الأولى قراءة البحث والإيمان من خلال الأكوان والقرآن ، وأفعال الله عز وجل ، والقراءة الثانية قراءة الشكر والعرفان من خلال العمل الصالح ، قال تعالى :
﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾
أرقى درجات الشكر أن تقابل الإحسان بالإحسان وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان هذه القراءة الثانية .
3 ـ قراءة الإذعان والوحي :
أما القراءة الثالثة قراءة الإذعان والوحي ، قراءة الوحي والإذعان ، العقل البشري مرتبط بالأرض ، بالواقع ، فأي شيء لا أثر له مادي العقل البشري لا يستطيع البحث فيه ، فلذلك الإنسان عنده معرفة حسية ، أدوات المعرفة الحسية حواسه ، واستطالة هذه الحواس ، وهناك معرفة عقلية أداتها شيء غابت عينه بقيت آثاره ، من خلال الأثر نعرف المؤثر ، من خلال الحكمة نعرف الحكيم ، من خلال الخلق نعرف الخالق ، من خلال التسيير نعرف المسير ، فالعقل البشري لا بدّ من شيء مادي أمامه ، وليكن هذا الشيء آثار شيء غابت عينه ، يعرف المؤثر من الأثر ، الخالق من الخلق ، الصانع من الصنعة ، المسير من التسيير ، وهكذا فهذه المعرفة الثالثة معرفة الوحي والإذعان ، وأي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به ، فالماضي السحيق أخبرك الله عنه في عالم الأزل :
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ﴾
والمستقبل البعيد أخبرك الله عنه ، عن يوم القيامة ، هناك يوم مفقود الماضي ، ويوم مشهود ، ويوم مورود الموت ، ويوم موعود ، ويوم ممدود ، الله عز وجل أخبرنا عن الماضي السحيق ، وعن المستقبل البعيد ، وأخبرنا عن ذاته العلية ، وعن أسمائه الحسنى ، وعن صفاته الفضلى ، فأي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به عن طريق الوحي .
صار عندك دائرة المحسوسات ، أداة اليقين بها الحواس الخمس واستطالاتها ، ودائرة المعقولات ، شيء غابت عينه بقيت آثاره ، من خلال آثاره نعرفه ، هذه مهمة العقل ، وشيء غابت عينه وآثاره ، أداة اليقين به الخبر الصادق من الله عز وجل ، ففي الإسلام محسوسات ، ومعقولات ، وإخباريات ، فلذلك لا ينبغي أن تُحدث إنساناً غفل عن الله ولم يؤمن به بالإخباريات ، لأن دليلها الوحيد أن الله أخبر بها ، فإذا كان إيمانه بالله ضعيفاً لا معنى من أن تحدثه بالإخباريات ، كوجود الملائكة والجن وما إلى ذلك .
4 ـ قراءة العدوان و الطغيان :
أيها الأخوة :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2)اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3)﴾
قراءة الشكر والعرفان :
﴿ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾
قراءة والوحي والإذعان ، الآن :
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ﴾
بالعلم نفسه ، حينما يصنع هذه الأسلحة الجرثومية ، والكيماوية ، والقنابل العنقودية ، والانشطارية ، والحارقة ، والخارقة ، حينما يتفنن بإبادة البشر ، حينما يستخدم علمه لإبادة البشر ، حينما يستخدم علمه للسيطرة على الآخرين ، ونهب ثرواتهم ، حينما يستخدم العلم كأداة قوية لعمل لا يرضي الله ، فكأن هذا العلم كان طريقاً للعدوان والطغيان ، فلذلك قال تعالى :
﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ﴾
بعلمه أحياناً ، من هنا قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا ))
علم قد يمتعك ، وعلم يمتعك وينفعك ، وعلم يمتعك وينفعك ويسعدك هو العلم بالله عز وجل .
قوم عاد مثال صريح عن طغيان الإنسان بالعلم :
لذلك النقطة الدقيقة أن الإنسان يطغى بالعلم ، وقد ضرب الله لنا مثلاً عن طغيان الإنسان بالعلم حينما حدثنا عن قوم عاد ، قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ أرم ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
تفوقت في شتى الميادين ، وبالمصطلحات المعاصرة ، صناعة ، تجارة ، زراعة، قوة عسكرية ، تفوق في شتى الميادين ، لذلك قال تعالى :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ أرم ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
تفوقت عمرانياً ، قال تعالى :
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ ﴾
تفوقت صناعياً مجازاً :
﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
تفوقت عسكرياً :
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
تفوقت علمياً :
﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾
تفوق علمي ، تفوق بنائي عمراني ، تفوق صناعي ، تفوق عسكري ، إذاً تفوقت عاد في كل المجالات ، وما كان فوق عاد إلا الله ، لأن الله ما أهلك قوماً إلا ذكرهم أنه أهلك من هم أشد منها قوة ، ما أهلك الله قوماً إلا قال : لقد أهلكنا من هو أشد منهم قوة إلا عاد حينما أهلكها قال :
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾
الطغيان بالعلم يكون حينما يُستخدم العلم لا لخدمة الإنسان بل لتدميره :
إذاً هؤلاء القوم طغوا في البلاد ، وأكثروا فيها الفساد ، أي قصفوا وأفسدوا ، إذا أردنا أن نوسع الأمر قصفوا بصواريخهم ، وأفسدوا بأفلامهم :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ أرم ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
هؤلاء كيف دمرهم الله ؟
﴿ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)﴾
أيها الأخوة ، هم طغوا لا في بلدهم ، في البلاد :
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ أرم ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
وكأن هؤلاء القوم نموذج لطغيان الإنسان ، الطغيان بالعلم حينما يستخدم العلم لا لخدمة الإنسان بل لتدمير الإنسان ، والإنفاق على الأسلحة في العالم اليوم يفوق أي إنفاق ، وهذا المبلغ الفلكي الذي ينفق على الأسلحة لو أنفق لرخاء البشر لكان العالم في حال غير هذا الحال .
طلب العلم فريضة على كل مسلم :
لذلك الله عز وجل في هذه السورة الكريمة قال :
﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾
بيّن أن هناك قراءة البحث والإيمان ، تدرس ، تتعلم من أجل أن تؤمن ، وهناك قراءة الشكر والعرفان من أجل أن تؤمن وتشكر :
﴿ مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ﴾
ثم قراءة الوحي والإذعان ، أي شيء عجز عقلك عن إدراكه أخبرك الله به ، وكأن العقل ميزان حساس جداً ، غالٍ جداً ، لكن له إمكانيات محددة ، من خمسة كيلو إلى خمسين كيلو ، فإذا أردت أن تزين به سيارتك مستحيل ، فإذا مشيت فوقه حطمته ، السيارة لها صانع أخبرك عن وزنها ، فالشيء الذي يعجز العقل عن إدراكه أخبر الله به .
إذاً عندنا دوائر ثلاث ، دوائر الحسيات أداة اليقين بها الحواس الخمس ، دوائر المعقولات أداة اليقين بها العقل ، شيء غابت عينه بقيت آثاره ، ودائرة الإخباريات شيء غابت عينه وآثاره ، أداة اليقين بها الإخباريات .
إذاً قراءة البحث والإيمان ، قراءة الشكر والعرفان ، قراءة الوحي والإذعان ، وقراءة الطغيان والعدوان ، هذه قراءة تنم عن استخدام العلم لإيذاء البشر ، لكن المسلمين بحاجة إلى القراءة الرابعة لا من أجل أن يوقعوا الأذى بالبشر بل من أجل أن يكونوا مرهوبي الجانب ، ويدافعوا عن أنفسهم .
فيا أيها الأخوة الكرام ، طلب العلم فريضة على كل مسلم ، فإذا أردت الدنيا فعليك بالعلم ، وإذا أردت الآخرة فعليك بالعلم ، وإذا أردتهما معاً فعليك بالعلم ، والعلم لا يعطيك بعضه إلا إذا أعطيته كلك ، فإذا أعطيته بعضك لم يعطك شيئاً .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .