وضع داكن
23-11-2024
Logo
موسوعة الأخلاق الإسلامية - الندوة : 16 - خلق الحرية
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، أعزائي المشاهدين يسرنا أن نلتقي بكم اليوم في حلقة جديدة من حلقات : " موسوعة الأخلاق الإسلامية" ، مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية ، في كليات الشريعة وأصول الدين في دمشق ، فأهلاً وسهلاً بكم دكتور .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ أحمد جزاك الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
دكتور موضوع حلقاتنا اليوم عن أحد مقومات التكليف ألا وهو الحرية ، والحرية أمر ينشده الناس جميعاً ، بل وينشده حتى غير الإنسان من المخلوقات كالحيوانات على سبيل المثال ، إذاً الحرية أمر عظيم ، نتمنى أن نصحبك وتصحبنا اليوم في ظلال هذا المعنى الكريم .

 

الله عز وجل لا يريد من الإنسان إلا أن يأتيه بدافع من الحب لأن الله يحب عباده :

الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ أحمد بادئ ذي بدء : لو أن الله سبحانه وتعالى أراد أن نكون جميعاً مؤمنين لكان ذلك ، ولكن الله لا يريد إلا أن نأتيه بمبادرة منا ، إلا أن نأتيه طائعين ، لذلك قالوا في تعريف العبادة : العبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، أي أن الله لا يريد من الإنسان إلا أن يأتيه بدافع من الحب ، لأن الله يحب عباده ، قال تعالى :

﴿ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾

( سورة المائدة الآية : 45 )

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

( سورة البقرة الآية : 256 )

﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ﴾

( سورة يونس الآية : 99 )

ولكن الله أراد أن يكون الإنسان مخيراً .

 

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

( سورة الكهف الآية : 29 )

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

( سورة الإنسان )

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

( سورة البقرة الآية : 148 )

العمل الصالح الذي هو ثمن الجنة لا قيمة له إطلاقاً إن لم يكن الإنسان حراً في فعله :

نصوص القرآن الكريم تؤكد أن الإنسان يتمتع بحرية من أجل شيء واحد ، هذا الشيء هو أن عمله الصالح الذي هو ثمن الجنة لا قيمة له إطلاقاً إن لم يكن حراً في فعله .
إذاً قيمة العمل أن يكون فاعله حراً ، أما إذا أُجبر لا قيمة لهذا العمل ، بمعنى آخر : العمل لا يثمن إلا إذا انطلق صاحبه من حرية في أن يفعله أو لا يفعله ، على حيز الواقع أنت حر تصلي أو لا تصلي ، تصدق أو لا تصدق ، تنصف أو لا تنصف ، تحب أو لا تحب ، ترحم أو لا ترحم ، تذهب إلى المسجد أو إلى الملهى ، أنت حر ، لولا هذه الحرية لما كان هناك عمل صالح إطلاقاً .
بمعنى أن الله لو أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً .
إذاً لولا الحرية لما كان من قيمة للعمل الصالح الذي هو ثمن الجنة ، فالله عز وجل خلقنا أحراراً ، من هنا الإمام علي ـ رضي الله عنه ـ يقول :
" ركب الملك من عقل بلا شهوة ، وركب الحيوان من شهوة بلا عقل ـ الملك مسير ، والحيوان مسير ـ وركب الإنسان من كليهما ـ لكنه مخير ـ فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة ، وإن سمت شهوته على علقه أصبح دون الحيوان " .
الأستاذ أحمد :
هذا الكلام يذكرنا بالحديث القدسي الذي يقول فيه ربنا جلّ في علاه :

(( يا عبادي إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي ، وجعلتُه بينكم محرَّماً ، فلا تَظَالموا ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذرالغفاري ]

أمرنا الله عز وجل بألا نتظالم ، وبألا يقيد بعضنا حرية الآخرين ، وهو مع أنه إله ، ويجوز له أن يظلم ، ومع ذلك لا يأتينا من الله إلا الخير ، فما معنى قول الله عز وجل

(( إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي ، وجعلتُه بينكم محرَّما ، فلا تَظَالموا ))

الله عز وجل لا يُسأل عما يفعل أصلاً ومع ذلك ألزم نفسه بالعدل و الرحمة :

الدكتور راتب :
بادئ ذي بدء : أين ما وردت كلمة على مع الذات الإلهية فمعناها الإلزام الذاتي .

﴿ إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

( سورة هود )

﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾

( سورة النحل الآية : 9 )

الرزق على الله ، حيث ما جاءت على إلى جانب لفظ الجلالة معنى ذلك أن الله ألزم نفسه بالعدل ، ألزم نفسه بالرحمة .

 

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾

( سورة الأنعام الآية : 54 )

إذاً الله عز وجل لا يُسأل عما يفعل أصلاً ، ومع ذلك ألزم نفسه بالعدل .

(( يا عبادي إني حَرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي ، وجعلتُه بينكم محرَّماً ، فلا تَظَالموا ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

في ثنيات الحديث القدسي الصحيح :

(( لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنْسَكم وجِنَّكم ، كانوا على أتْقَى قلب رجل واحدِ منكم ما زاد ذلك في مُلْكي شيئاً ، يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، كانوا على أفجرِ قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي ، لو أنَّ أوَّلكم وآخرَكم ، وإنسَكم وجِنَّكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني ، فأعطيتُ كُلَّ إنسان مسألتَهُ ما نقص ذلك في ملكي إلا كما يَنْقُص المِخْيَطُ إذا أُدِخلَ البحرَ ، ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام ، فمن وَجَدَ خيراً فليَحْمَدِ الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يَلُومَنَّ إلا نَفْسَهُ ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن أبي ذر الغفاري ]

الله عز وجل شاءت مشيئته ، واقتضت حكمته أن نكون أحراراً ،

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾

ولولا الحرية لما كان هناك ثواب ، ولا عقاب ، ولا مسؤولية ، ولا جنة ، ولا نار ، ولا تكليف ، ولا أمانة، و لأصبحت الحياة تمثيلية سمجة .

 

عقيدة الجبر هي وراء حالة المسلمين الذين توهموا أنه لا حول لهم ولا قوة :

ما من عقيدة فاسدة أحبطت أعمال المسلمين ، وجعلتهم في المؤخرة من عقيدة الجبر ، التي يتوهم أصحابها أن كل شيء كُتب على الإنسان قبل أن يولد دون أن يكون متسبباً بهذا الذي كتب عليه ، أي ألقاه في اليم مكتوفاً ، وقال له : إياك إياك أن تبتل بالماء .
هناك أدعية تلقى في بعض المناسبات ليس لها أصل إطلاقاً ، إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقياً محروماً ، هذا الدعاء لا أصل له ، ولم يرد عن النبي عليه الصلاة والسلام ، يجب أن نؤمن أن الإنسان حر ، والآيات كثيرة جداً وتؤكد هذا .
الأستاذ أحمد :
وكما قال العلماء ـ علماء العقيدة ـ : بأن علم الله علم كاشف وليس مؤثراً ، علم الله في الأزل .
الدكتور راتب :
علم كشف لا علم جبر .
الأستاذ أحمد :
أستاذي الكريم ، مقولتكم من عمل يُثمن بالحرية ، يستدعي سؤالاً آخر هل إذا سلبت الحرية لم يعد هناك داعٍ أن يكون هناك جنة ونار ؟.

الحرية تُثمن العمل :

الدكتور راتب :
طبعاً ، الإمام الحسن رضي الله عنه يقول : "لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، لو أجبر عباده على المعصية لبطل العقاب ، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة ، إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلف يسيراً ، ولم يكلف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً " ـ لولا الحرية لما ثُمن عمل الإنسان ـ .
الأستاذ أحمد :
هذا يستدعي فضيلة الأستاذ أن نتساءل سؤالاً جديداً ، كثيرة هي المقولات والأحاديث التي يطلقها بعض الناس بأنهم أحرار ، وبما أنهم أحرار يجوز لهم أن يفعلوا ما يشاؤون ، وأن يأكلوا ما يريدون ، وأن يلبسون ما يستذوقون ، فهل الحرية مطلقة أم أنها مقيدة ؟.

الإنسان بدافع من حبّه لذاته ينبغي أن يقيد نفسه بمنهج الله عز وجل :

الدكتور راتب :
الحقيقة الحرية مقيدة ، مقيدة بمنهج الله عز وجل ، الإنسان أرسل لهذه الدنيا ، أعطي منهجاً ، أعطي حرية ، فإما أن يختار اتباع المنهج ، وإما أن يختار التفلت من هذا المنهج ، أي الخلق كلهم على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، ومذاهبهم نموذجان ، نموذج عرف الله فانضبط بمنهجه ، وأحسن إلى خلقه ، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة ، نموذج آخر تفلت من منهج الله ، لأنه غفل عنه ، وأساء إلى خلقه فشقي في الدنيا والآخرة ، فالحرية تثمن العمل .
والإنسان إذا تصورناه حراً حرية مطلقة هو في الحقيقة دابة متفلتة ، هذه كلمة تليق به ، لأنه يبني مجده على أنقاض الآخرين ، يبني غناه على فقرهم ، يبني عزه على ذلهم، يبني أمنه على خوفهم ، يبني حياته على موتهم ، الضوابط في تطبيق منهج الله عز وجل ، والإنسان أعقد آلة في الكون ، ولأنه آلة بالغة التعقيد له صانع عظيم ، ولهذا الصانع العظيم تعليمات التشغيل والصيانة ، فلمجرد أن يطبق منهج الله سلم وسعد ، ذلك لأن كل إنسان جُبل على حبّ وجوده ، وعلى حبّ سلامة وجوده ، وعلى حبّ استمرار وجوده ، وجوده ، وسلامة وجوده ، وكمال وجوده ، واستمرار وجوده منوط بتطبيق تعليمات الصانع ، فأنت بدافع من حبك لذاتك ينبغي أن تقيد نفسك بمنهج الله عز وجل .
دعك من هذا ، أحياناً نشتري آلة غالية جداً ، هناك أجهزة بمئات الملايين ، ومعها تعليمات دقيقة ، حرصاً مني على سلامة الجهاز ، وعلى حسن مردوده ، لأنه عظيم النفع ، وهناك كمبيوترات للتحليل الطبي ، يوضع عليها نقطة دم بكبسة زر تعطي ثمانية و ثلاثين تحليلاً ، إذا كان أجرة كل تحليل مبلغاً كبيراً ، معنى هذا أن الجهاز له أرباح طائلة ، تصور أن شركة أرسلت هذا الجهاز ، ولم ترسل خطأ تعليمات التشغيل ، موقف صاحب الجهاز إن شغله من دون تعليمات أفسده ، وإن تركه خوفاً عليه جمد ثمنه ، أليست التعليمات أثمن من الجهاز ؟ .

 

وجود الإنسان كله لا معنى له من دون منهج يسير عليه :

لذلك قال تعالى :

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾

( سورة الرحمن )

أيعقل أن يعلم الإنسان القرآن قبل أن يُخلق ؟

﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ ﴾

العلماء قالوا : هذا الترتيب ليس ترتيباً زمنياً ، هو ترتيب رتبي ، بمعنى أن وجود الإنسان كله لا معنى له من دون منهج يسير عليه ، فالمنهج مقدم ، الإنسان الحضاري معه منهج ، بلا منهج دابة متفلتة

مفهوم الحرية بلا ضوابط مفهوم ساذج ، مفهوم غبي ، مفهوم يحرص عليه الإباحيون والمتفلتون ، أما الحرية قيمة علمية وأخلاقية ، تنتهي حريتي ـ عندهم يقولون ـ حينما تبدأ حرية الآخرين ، لكن تنتهي حريتي عند حدود الشرع ، بالضبط .
تمشي أنت في حقل ، رأيت لوحة كتب عليها حقل ألغام ، تقف ، هذه اللوحة هل تعدها حداً لحريتك أم ضماناً لسلامتك ؟ هذا هو الفقه ، حينما أتيقن أن كل حدود الله ضمان لسلامتي أنا عندئذٍ فقيه ، ضمان لسلامتي وليست حداً لحريتي .
مرة قلت وأقول دائماً : ليس في الإسلام حرمان ، الإسلام فيه نظام ، فيه قيود إيجابية لصالح المجموع ، فلذلك الحرية تثمن العمل ، ولكنها في الإسلام مأخوذة من منهج الله عز وجل .
في بلاد متفلتة الإنسان يفعل ما يشاء ، لكن قد يسهم في إفساد البشر ، كيف أن الآن في الإنترنيت ما يزيد عن ثلاثة و عشرين مليون موقعاً إباحياً ، هذه الحرية ، أما إذا كان هناك انضباطاً بمنهج خالق الأرض والسماوات فسنصون بهذا الانضباط أخلاق أولادنا .
الأستاذ أحمد :
لذلك قال البعض : الحرية المطلقة ليست موجودة ، ولا بد أن تتعارض مع الحرية الشخصية ، أو الاجتماعية ، أو الربانية ، الشخصية حتى على ذاته ، على نفسه ، على سبيل المثال لا يمكن أن يسمح الإسلام لشخص بأن ينتحر تحت حجة أنه حر ، هذه حرية شخصية ، أما الحرية الاجتماعية كما تفضلتم لا يسمح لهذا الشخص بإيذاء الآخرين تحت حجة أنه حر ، وأما الحرية الربانية فلا يسمح لشخص بأن يتعدى حدوده مع من منحه هذه الحرية ، الناس السذج يقولون : بما أنها حرية وهي قيّمة لا بد من أن تكون مطلقة ، فهل من مثال علمي واقعي ملموس يرد على هؤلاء ؟.

 

عدم استقامة الحياة إلا بمنهج إلهي :

الدكتور راتب :
بارك الله بك ، هناك نقطة مهمة جداً ، أنا كإنسان حينما أضع حداً أقيد فيه الناس أنا إنسان مثلهم ، وقد تكون هذه التعليمات لصالحي ، لذلك هناك من يعارضني ، لذلك واضع القانون إنسان له عقل ، والإنسان الذي يطبق عليه القانون إنسان له عقل ، وقد يكون الذي يطبق عليه القانون أذكى من واضع القانون ، إذاً يحتال ، هذه قضية واضحة جداً هي حرب بين عقلين .
اخترعنا جهازاً لكشف السرعات الزائدة ، وضعناه على الطرقات العامة ، هناك إنسان يخترع جهازاً لكشف هذه الأجهزة قبل وقت معين ، إذاً أبطل الإنسان الذي سيطبق عليه القانون قيمة هذه الأجهزة ، نحن في متاهة اختراع يقابل اختراعاً .
أما حينما يكون واضع المنهج خالق الإنسان الوضع اختلف ، الإنسان لا يقبل أن يأتي إنسان مثله ثم يقيده بقيود ، أما إذا جاء القيد من عند خالق السماوات والأرض ، من عند الخبير مقبول عند الجميع ، الحياة لا تستقيم إلا بمنهج إلهي .
الأستاذ أحمد :
ومن ذلك قول الله عز وجل لسيدنا آدم وحواء عندما قال له :

﴿ وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾

( سورة البقرة الآية : 35 )

بالبداية قال

﴿ حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾

ثم قال :

﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾

مما يدل على أن الحرية ليست مطلقة .
الدكتور راتب :
وفي هذه الآية ملمح لطيف آخر أنه :

﴿ وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا ﴾

الأشياء المباحة بالألوف ، بالملايين

﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾

أي كم شراب مسموح به ؟ بالمئات ، هناك خمسمئة شراب ، ممنوع الخمر فقط ،

﴿ وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾

هذا ملمح آخر .
الأستاذ أحمد :
السؤال الآن يطرح نفسه أستاذنا ، أن الإنسان والجن هما وحدهما أعطيا الحرية ، وغيرهما من المخلوقات لم يعطَ هذه الحرية ، ما المحكمة من ذلك ؟.

 

الحكمة من أن الجن و الإنس وحدهما أعطيا حرية الاختيار :

الدكتور راتب :
هذه آية كريمة يقول الله فيها :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

( سورة الأحزاب الآية : 72 )

في عالم الأزل ، عالم الذر لا عالم الصور ، كل الخلائق خلقت دفعة واحدة وعرضت عليها الأمانة ، فبقية المخلوقات أحجموا عن قبولها ،

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

أي الحيوانات اختارت الشهوة من دون مسؤولية ، والملائكة اختارت العقل من دون مسؤولية ، فلا الحيوان مكلف ، ولا الملك مكلف ، لذلك هي كائنات مسيرة ، لكن الإنسان كان طموحاً جداً

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ ﴾

منْ منَ المخلوقات تكون نفسه أمانة بين يديه ؟ قال تعالى :

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

( سورة الشمس )

فهذه الأمانة التي يأخذها بحقها يستحق عليها جنة الأبد ، يستحق جنة عرضها السماوات والأرض ،

﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

من هو الإنسان؟ هو مخلوق ، أودعت فيه الشهوات ، قُدم له الكون كأكبر ثابت لمعرفة الله ، أودعت فيه الشهوات ، مُنح فطرة تكشف له خطأه ، أُعطي منهجاً ، أُعطي حرية ، لذلك الإنسان مخير ، والجن كذلك ، بينما بقية المخلوقات ليست مخيرة .
فالإنسان أمام خيارين إما أن يفوق الملائكة ، أو أن يهوي إلى أسفل سافلين .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ﴾

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ﴾

( سورة البينة )

أي بالإيمان ، والعقل ، والفطرة ، ومعرفة الله ، يرقى الإنسان إلى فوق جميع الكائنات ، وبترك منهج الله يهوي إلى أسفل سافلين .
الأستاذ أحمد :
يسأل الناس فيقولون : هل الإنسان مخير أم مسير ؟ أنتم تقولون أنه مخير والبعض يرى أنه مسير ؟ .

 

الإنسان مسير فيما لم يكلف به ومخير فيما كلف به :

الدكتور راتب :
هو في الحقيقة مسير ومخير ، مسير في كونه ذكراً أو أنثى ، من منا اختار جنسه ؟ مسير في أمه وأبيه ، مسير في بلدته ، ومكان ولادته ، مسير في زمان ولادته ، مسير في إمكاناته ، هناك إنسان قوي ، إنسان وسيم ، إنسان ضعيف ، إنسان متألق الفكر ، وهناك قدرات عامة ، وقدرات خاصة ، وهناك مكان ولادة ، و زمان ولادة ، و هناك أب ، و كون الإنسان ذكر أو أنثى ، هذه من التي سُير فيها .
لكن هذا الذي سير فيه الإنسان قولاً واحداً لصالحه ، ليس في الإمكان أبدع مما كان ، هذا قاله بعض العلماء ، ليس في الإمكان ، فلما شرحه قال : ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني ، أي أنسب جنس ـ ذكر أو أنثى ـ أنسب أم ، أنسب أب ، أنسب مكان ولادة ، أنسب زمان ولادة الذي كان فيه الإنسان ، فهذا الجانب التسييري ، بعد أن حدد الله له جنسه ، وأمه ، وأباه ، ومكان ولادته ، وزمان ولادته ، جعله مخيراً فيما كلف ، كلفه بالإيمان ، كلفه بالأركان ، كلفه بالصدق ، بالأمانة ، بالعفة ، بالاستقامة ، كلفه بأداء العبادات ، أنت مخير فيما كلفت ، والواقع يؤكد ذلك ، أنا أصلي أو لا أصلي ، أصدق أو لا أصدق ، أكذب أو لا أكذب ، أنا مخير ،

 

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾

الفلاح كل الفلاح في طاعة الله ، والشقاء كل الشقاء في معصيته ، فالإنسان مسير فيما لم يكلف به ، ومخير فيما كلف به ، هذا الصواب .

 

الإضلال إذا عُزي إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري:

لكن هناك نقطة دقيقة جداً : الإنسان مخير لو أنه اختار شيئاً يشقيه ، الله عز وجل رب العالمين ، ماذا يفعل ؟ يسوق له شدة لعله يتوب ، في وقت الشدة يؤخذ اختياره ، إذا أراد ربك إنفاذ أمر أخذ من كل ذي لبّ لبه ، أي إنسان أحياناً يتخذ قراراً بغش الناس ، هو تاجر هذا قراره ، هذا اختياره ، لو أن الله تركه وتابع هذا الغش إلى أن وافته المنية استحق عذاباً أبدياً ، لكن الله رب العالمين ، الآن يتورط هذا الإنسان بعمل دون أن يشعر يأتيه العقاب كعلاج لاختياره السيئ ، فالإنسان مخير ، أما تقتضي حكمة الله أن يأخذ منه اختياره ليؤدبه ، فإذا أدبه وتاب عاد إلى الجادة الصحيحة .
إذاً الإنسان مخير ، ومسير ، مسير فيما لم يكلف ، ومخير فيما كلف ، لكن هناك آيات كثيرة يتوهم فيها الإنسان أنه مسير :

﴿ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾

( سورة النور الآية : 46 )

هذه المشيئة مشيئة العبد أحياناً ، من شاء الهداية يهديه الله عز وجل ، وأحياناً :

 

﴿ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ﴾

( سورة فاطر الآية : 8 )

إذا عزي الإضلال إلى الله فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري ، يؤكده قوله تعالى :

 

﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾

( سورة الصف الآية : 5 )

بمعنى أن الطالب لم يداوم ، ولم يؤدِ امتحاناً ، ولم يقتنِ كتاباً ، ولم يلتقِ بالمدرس ، فأرسل له إنذار ، وثان ، وثالث ، أصرّ على ترك الجامعة ، صدر قراراً بترقيم قيده ، هل هذا القرار فيه قهر ؟ لا ، هو تجسيد لرغبته ،

﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾

الأصل أن الإنسان مخير .

 

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

( سورة الأنعام )

خاتمة و توديع :

الأستاذ أحمد :
جزاك الله خيراً فضيلة أستاذنا على ما أفدت به وأجدت في موضوع الحرية ، وإلى لقاء آخر أعزائي المشاهدين مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور