- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠09برنامج موسوعة الأخلاق الإسلامية - قناة إقرأ
مقدمة :
أيها الأخوة المشاهدون نرحب بكم في هذه الحلقة الجديدة من حلقات : "موسوعة الأخلاق الإسلامية" ، حيث نبحر مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، فأهلاً وسهلاً بكم فضيلة الأستاذ .
الدكتور راتب :
بكم أستاذ أحمد جزاك الله خيراً .
الأستاذ أحمد :
سيدي الكريم نتمنى اليوم أن نتحدث عن خلق جديد من الأخلاق الإسلامية ألا وهو خلق الاستقامة ، لكن السؤال الذي يعيشه كل واحد منا في واقعه المعاصر ، أننا نجد كثيراً من الناس ربما يقومون بأعمال هي نتاج طبيعي لتربيتهم الأسرية الطيبة ، لكنهم لا يتمثلون العبادات والشعائر ، كثيراً ما سمعنا أشخاصاً يقولون : أنا لا أكذب إلا أني أيضاً لا أصلي ، أنا لا أسرق إلا أني لا أصوم ، أنا قلبي لا يحمل حقداً على أحد ، فهل مثل هذه الأخلاق تكفي وتغني عن الرابط ، والدين ، والقيام بالشعائر ، أو بمعنى أصح هل هناك رابط وصلة ما بين الاستقامة و الدين ؟ .
منهج الله كلُّ لا يتجزأ :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .
أستاذ أحمد ، بادئ ذي بدء : منهج الله كلٌّ لا يتجزأ ، فإما أن نأخذه كله ، وعندئذٍ نقطف ثماره ، أو أننا إذا أخذنا بعضه كل عمل صالح له حساب عند الله ، لكن مجموع الأعمال الصالحة من دون استقامة لا ترقى بنا إلى أن نقطف ثمار الدين ، على كلٍّ قضية الاستقامة وعلاقتها بالدين قضية دقيقة جداً ، لا بدّ من مثل :
التجارة ، كم نشاط لها ؟ آلاف الأنشطة ، بدءاًً من تأسيس شركة ، إلى شراء مقر ، شراء مستودعات ، شراء مكاتب ، تعيين موظفين ، استخدام شركات ، أخذ وكالات ، شراء بضاعة ، شحن بضاعة ، توزيع البضاعة ، جمع ثمنها ، الدعاية ، المحاسبة ، الضرائب ، آلاف الأنشطة ، لكن كل هذه الأنشطة على كثرتها وتنوعها يمكن أن تضغط بكلمة واحدة ، هي الربح ، فما لم يربح الإنسان في العمل التجاري فليس بتاجر ، هذا التمهيد.
الآن العمل الديني بشكل عام ، والعمل الإسلامي بشكل خاص ، بدءاً من طلب العلم ، تأسيس مدارس ، جامعات ، إنشاء مساجد ، تعيين خطباء ، تعيين مدرسين ، تأليف كتب ، مؤتمرات إسلامية ، أداء عبادات ، يمكن أن نعدد مئات ألوف الأنشطة في الدين ، وكذلك يمكن أن تضغط كلها بكلمة واحدة هي الاتصال بالله ، ومفتاح الاتصال بالله الاستقامة على أمره ، وما لم نحكم اتصالنا بالله عن طريق استقامتنا على أمره لن نقطف من ثمار الدين شيئاً .
ما لم نحكم اتصالنا بالله عن طريق استقامتنا على أمره لن نقطف من ثمار الدين شيئاً :
لذلك الداعية الذي يحض أخوانه على الاستقامة يكون مفلحاً ، وناجحاً ، وموفقاً، لأن هذا الطالب ـ طالب العلم ـ لن يقطف ثمار الدين إلا بطاعة الله عز وجل ، إذاً موقع الاستقامة كما نقول في التعريف الدقيق الذي أذكره كثيراً : العبادة طاعة طوعية ، ممزوجة بمحبة قلبية ، أساسها معرفة يقينية ، تفضي إلى سعادة أبدية ، هذا التعريف فيه ثلاث كليات ، الكلية الأولى والأخطر هي : الالتزام ، طاعة طوعية ، سببها معرفة يقينية ، ثمراتها سعادة أبدية .
فما لم نلتزم ، ما لم يكن عطاؤنا وفق منهج الله ، ما لم يكن منعنا وفق منهج الله، ما لم يكن سرورنا وفق منهج الله ، ما لم تكن تصرفاتنا وفق منهج الله ، ما لم يكن بيتنا إسلامياً ، عملنا إسلامياً ، أفراحنا إسلامية ، أتراحنا إسلامية ، علاقاتنا إسلامية ، العلاقات الجزئية والدولية ، ما لم يكن الإسلام منهجاً مطبقاً في حياتنا ، يغطي كل شؤون حياتنا لن نستطيع أن نقطف من هذا الدين ثماره اليانعة التي وعد الله بها .
الأستاذ أحمد :
أستاذ الكريم ، عندما يقول الله عز وجل في سورة فاتحة الكتاب :
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
ويطلب منا ، بل ونكررها في كل ركعة من ركعات صلواتنا ، مما يدل على أهمية هذا الدعاء ألا وهو الصراط المستقيم ، هل في آيات الذكر الحكيم من آيات أخر تحض وتحث على الاستقامة ؟.
الصراط المستقيم يفضي إلى معرفة الله وطاعته والسعادة بقربه :
الدكتور راتب :
لعل الصراط هو الطريق ، أما المستقيم الذي يوصل إلى الله ، والدليل :
﴿ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ ﴾
هناك آلاف الطرق تفضي إلى نتائج مرضية أو غير مرضية ، لكن الطريق المستقيم الذي أراده الله في آية الفاتحة
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾
الذي يوصل إلى الله ، أي مثلاً : أنا أمام مجموعة طرق وأنا في الصحراء ، أحد هذه الطرق يوصل إلى الماء ، وأنا أكاد أموت عطشاً ، فلذلك لو سلكت أي طريق ، ولا ينتهي بنبع ماء فأنا هالك ، إلا إذا عرفت الطريق الذي يفضي بي إلى نبع الماء .
لذلك الصراط المستقيم هو الذي يفضي إلى معرفة الله ، وطاعته ، والسعادة بقربه .
الآية التالية أصل في الاستقامة :
لكن الآية الدقيقة :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
لن تستقيم على أمره إلا إذا عرفته ، خالقاً ، رباً ، مسيراً ، واحداً ، موجوداً ، هو القوي ، هو الغني ، هو العاطي ، هو الرازق ، هو الحليم ، هو الرحيم ،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
فالاستقامة يجب أن تسبقها معرفة بالله ، حتى تكون صحيحة.
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾
الثمار .
﴿ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
أستاذ أحمد هذه الآية فيها معنى دقيق جداً ، وملمح خطير ، نحن الآن في هذه الثانية وراءنا ماض ، وأمامنا مستقبل ،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا ﴾
مما سيكون ، وألا تندموا على ما كان ، غطت الزمن كله ، علامة المستقيم لا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت .
﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾
هذه الآية أصل في الاستقامة ،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
.
من استقام على أمر الله لا يضل عقله ولا تشقى نفسه :
لذلك قال تعالى :
﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾
أي لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه .
﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾
أي : لا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت ، ولا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ماذا بقي من السعادة ؟ الذي يستجيب لأمر الله ، الذي يتبع منهج الله ، لا يضل عقله ، أفكاره كلها صحيحة ، تصوراته كلها صحيحة ، ولا تضل نفسه ، مشاعره ، أخلاقه ، استقامته واضحة ، ولا يخشى مما هو آت ، كما أنه لا يندم على ما هو آت .
فلذلك الاستقامة واضحة جداً في هذه الآية .
الاستقامة هي الحجر الأساس في البناء الإسلامي :
بالمناسبة يأتي بعد هذه الآية :
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾
أي لا يكون المؤمن مؤمناً إلا إذا استقام على أمر الله ، الآن ولا يكون الداعية داعية إلا إذا جاء عمله مطابقاً لأقواله ، كلام دقيق ورائع ،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً ﴾
﴿ وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾
إذاً الاستقامة هي الحجر الأساس في البناء ، ما لم نستقم على أمر الله ما الذي يكون ؟ خلفية إسلامية ، نزعة إسلامية ، أرضية إسلامية ، ثقافة إسلامية ، اهتمامات إسلامية، مشاعر إسلامية ، لكن ليس هناك إسلام .
لذلك القصة التي أرويها أحياناً : أن طالباً سافر إلى بلاد بعيدة ، وأعجبته فتاة وأحبها حباً جماً ، استأذن والده بالزواج منها ، فجاء الرفض والتعنيف والتهديد بالتبرئة منه لو تزوجها ، لكنه بعد شهر استأذن والده أنها إذا أسلمت هل يقبل ؟ فجاء الجواب بالإيجاب ، أعطاها كتباً مترجمة إلى اللغة الإنكليزية ، وطلبت فرصة مقدارها أربعة أشهر كي تقرأ الكتب بعيدة عنه ، وعن تأثيره ، ومداخلاته ، لكنه أمضى هذه المدة بشعور عجيب ، وكأنها أربع سنوات ، فلما انتهت المدة ، والتقى بها ، ونطقت بفمها أنها أسلمت ، كاد يختل توازنه من الفرح ، لكنها قالت له : ولكنني لن أتزوجك ، لأنك بحسب ما قرأت لست مسلماً .
لذلك المسلمون أحياناً يرتادون المساجد ، ويصلون ، ويحجون ، ويزكون ، لكن كسب أموالهم غير إسلامي ، إنفاق أموالهم ، أفراحهم ، أتراحهم ، علاقاتهم ، النمط في حياتهم اليومية نمط آخر غير الإسلام ، لذلك هؤلاء مع اعتزازهم بالإسلام ، ومع شعورهم أنهم مسلمون ، لكنهم لم يقطفوا من ثمار الإسلام شيئاً .
فلذلك الاستقامة هي الدين ، هي حجر الزاوية ، هي الأساس ، فمن لم يستقم لن يقطف من الدين شيئاً .
الأستاذ أحمد :
وهل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما بينت لنا من آيات الذكر الحكيم دعوة إلى الاستقامة ، هل كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته وهديه مع أصحابه تحفيزاً على الاستقامة ؟.
ثمار الاستقامة لا تعد ولا تحصى :
الدكتور راتب :
يقول عليه الصلاة والسلام :
(( استقيموا ولن تُحْصُوا ))
وفي البلاغة أن الفعل إذا حذف مفعوله أطلق معناه ، أي استقيموا ، فإذا استقمتم لن تحصوا ثمار الاستقامة ، أهي الراحة النفسية ؟ أهي العزة ؟ أهي الشعور بالقرب من الله ؟ أهو التوفيق ؟ النجاح ؟ العلو الذي يرضاه الله عز وجل ؟ ثمار الاستقامة لا تعد ولا تحصى
(( ولن تُحْصُوا ))
الخير من استقامتكم ، أي سعادة زوجية ، أولاد أبرار ، صحة ، مكانة ، تألق ، راحة نفسية ، أمن ، سكينة ، سعادة ،
(( استقيموا ولن تُحْصُوا ))
الخير كله ، الخير كل الخير ، والنجاح كل النجاح ، والفلاح كل الفلاح ، والفوز كل الفوز ، في استقامة العبد على أمر الله ، إن استقام العبد على أمر الله ، لن ـ لتأبيد النفي ـ يحصي ثمار هذه الاستقامة التي تعود عليه .
إذاً القرآن يؤكد أن الإنسان إذا استقام لا يخشى مما هو آت ، ولا يندم على ما هو فات ، ذكر النبي الكريم هذا القول الرائع :
(( استقيموا ولن تُحْصُوا ))
أي أن خيرات الاستقامة لن يحصيها المستقيم ، تأتيه الخيرات من كل مكان .
الأستاذ أحمد :
أستاذنا الكريم ، أيضاً يحضرني في هذا المقام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله سيدنا عبد الله بن سفيان قال له : قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ؟ فكان الجواب:
(( قل : آمَنْتُ بالله ، ثم استقم ))
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم :
الدكتور راتب :
طبعاً هذا الحديث له روايات عديدة ، في بعض الروايات فيه زيادة ، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم و قال له : " يا رسول الله عظني ولا تطل " ، قال : " قل آمنت بالله ثمَّ استقم " ـ الشاهد في الزيادة ـ قال : " أريد أخفَّ من ذلك " ـ أي رأى الاستقامة عبئاً شديداً عليه ، فقال عليه الصلاة والسلام ببساطة ما بعدها بساطة : " إذاً فاستعدّ للبلاء " .
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾
أنت تريد الكرامة ، والله يأمرك بالاستقامة ، فما لم نستقم ينبغي ألا نكون سذجاً وننتظر من الله ما لم يكن .
الأستاذ أحمد :
ما هي نتائج عدم الاستقامة بشكل عام ؟.
نتائج عدم الاستقامة :
الدكتور راتب :
الكلام الدقيق والصريح هؤلاء الذين قالوا :
﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾
هذا ادعاء ، بماذا ردّ الله عليهم ؟ ردّ عليهم فقال :
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾
وإذا قال المسلمون : نحن أمة محمد ، نحن أمة القرآن ، نحن الأمة المختارة نحن أمة الوحيين ، هذه دعوى ،
﴿ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ﴾
يأتي في الآية كلام خطير :
﴿ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾
ليس لكم أية ميزة ، وأنا أقول : الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، أنا حينما لا أستقيم ، وأدعي أنني من أمة محمد ، من هذا الدين العظيم ، هذا لا يقدم ولا يؤخر ، لذلك قال تعالى :
﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾
ما علة هذه الخيرية ؟
﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾
فإن لم نأمر بالمعروف ، ولم ننهَ عن المنكر ، ولم نؤمن بالله فقدنا خيرتنا ، فنحن عندئذٍ أمة ممن خلق ، هان أمر الله علينا فهنا على الله ، ثمار عدم الاستقامة ، أو الأصح نتائج عدم الاستقامة خطيرة جداً ، أمة تنتمي انتماءً شكلياًً لهذا الدين ، وليست مطبقة لأحكامه ، إذاً لن تقطف ثماره .
لن يفلح المسلمون ولن يستحقوا نصر الله عز وجل إلا إذا اصطلحوا معه وطبقوا منهجه :
لذلك قال تعالى :
﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾
فإذا كان لهم علينا ألف سبيل وسبيل ، ما التفسير ؟ واضح لسنا على أمر الله :
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾
نحن لسنا مستخلفين ، هذه حقيقة مرة .
﴿ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ ﴾
نحن لسنا ممكنين ، هذه الحقيقة المرة .
﴿ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ﴾
نحن لسنا آمنين ، نحن لسنا مستخلفين ، ولسنا ممكنين ، ولسنا آمنين ، التفسير أن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعوده للمؤمنين ، الخلل عندنا ، والكرة في ملعبنا
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
فلذلك لن نفلح ، ولن نستحق نصر الله عز وجل إلا إذا اصطلحنا معه ، وطبقنا منهجه ، عندئذٍ نقدم لله أسباب النصر .
الأستاذ أحمد :
عندما ذكرتم أستاذي الكريم
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
ذكرتم أن الاستقامة أمر حدّي ، بمعنى عما مضى وعما لحق .
الاستقامة حدّية أما العمل الصالح فنسبي :
الدكتور راتب :
لا ، هذا معنى آخر ، أي لو أن عندك مستودع لوقود سائل ، هذا المستودع قد يوصف بأنه كبير ، أو أقل ، أو صغير ، أو متوسط ، أما إحكامه حدّي ، لا يوجد غير حالة واحدة ، إما أن يكون المستودع محكماً ، أو غير محكم ، لا يوجد نوعاً ما ، غير صحيح ، محكم أي لو ملأته بالوقود السائل لن يتسرب منه شيء ، أما الغير محكم نسبي ، قد يفقد محتواه بسنة ، أو بشهر ، أو بأسبوع ، أو بيوم ، فعدم الإحكام نسبي ، أما الإحكام حدي .
الاستقامة حدية ، أما العمل الصالح فنسبي ، هذا المستودع المحكم قد أملئ نصفه ، ربعه ، ثلثه ، أما إحكامه فحدي ، لذلك إن الله :
(( وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين ))
بالاستقامة لا يوجد تفاوت ، الحرام حرام ، الحلال حلال ، الحق حق ، الباطل باطل ، الخير خير ، الشر شر ، الغيبة حرام ، الصدق واجب ، الكذب حرام ، الاستقامة طبيعتها حدية لا تقبل التفاوت ، نحن والأنبياء في موضوع الاستقامة سواء .
(( وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمر به المرسلين ))
مثلاً : أقل ممرض في المستشفى ، لو أراد أن يعطي المريض حقنة ، لا بد من تعقيمها ، لا بد من غليها ، لا بد من تعقيم المكان ، لا بد من تعقيم الجرح ، هكذا ، ولو أتى أكبر طبيب جراح في هذه المستشفى و أراد أن يعطي حقنة يطبق التعليمات التي نفذها الممرض.
هناك موضوعات بحياتنا حدّية ، لا يقبل التفاوت ، أما العمل الصالح فنسبي ، إنسان ينفق ألف ليرة ، إنسان ينفق مليون ليرة ، هناك إنفاق ، وهناك عمل صالح ، في إنشاء المشاريع ، جميع الأعمال الصالحة نفعلها بقدر ما نستطيع ، أما في الاستقامة لا يوجد بقدر ما نستطيع ، الاستقامة حدية ، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، أقل الناس معرفة بالله ، وأكثرهم معرفة بالله .
الأستاذ أحمد :
لكن لماذا أكثر اللوم على الدعاة ؟ أو ما علاقة الاستقامة بالدعوة ؟ لماذا إذا كان الداعية غير مستقيم كان التثريب عليه أكثر من لو أن شخصاً عادياً لم يكن مستقيماً ؟
على الداعية أن يكون قدوة قبل أن يتكلم :
الدكتور راتب :
يمكن أن تنتفع من طبيب غير مستقيم في حياته الخاصة ، يمكن أن تنتفع من مهندس ، يمكن أن تنتفع من كل أصناف العلوم ، من أصحابها ، دون أن يكونوا مستقيمين في حياتهم الخاصة ، إلا الداعية ، لن تنتفع به إلا إذا كان عمله مطابقاً لسلوكه .
لذلك عظمة الأنبياء والشيء المدهش في حياتهم أنه ليس هناك مسافة بين أقوالهم وأفعالهم ، الداعية يجب أن يكون قدوة قبل أن يتكلم ، الإحسان قبل البيان ، القدوة قبل الدعوة .
لذلك إذا كان مطلوب من المؤمن أن يكون مستقيماً فالمطلوب من الداعية ألف مرة أن يكون مستقيماً .
مرة التقيت بأحد كبار الدعاة في مصر ـ توفي رحمه الله ـ سألته نصيحة للدعاة توقعت أن يتكلم كثيراً ، تكلم كلمة واحدة ، قال : "ليحذر الداعية أن يراه المدعو على خلاف ما يدعو فقط" .
المصداقية ، بل إن بعض العلماء يقول : " لو أن الإنسان دعا إلى الله بمضمون هزيل ، بمضمون غير متماسك ، ولم يجد المدعو المصداقية في الداعية لا يعد هذا المدعو بهذه الطريقة ، وبهذا المضمون ، مُبلغاً عند الله ، ويقع إثم تفلته من منهج الله على من دعاه بهذه الطريقة ".
أشقى الناس من تاجر بالدعوة إلى الله :
لذلك الناس يتعلمون بعيونهم لا بآذانهم ، فالداعية يمكن أن يكون أكبر داعية في الأرض وهو صامت ، أنا الآن أدعو إلى الدعوة الصامتة ، أي استقامته دعوة ، صدقه دعوة، أمانته دعوة ، عفته دعوة ، يمكن أن تصمت وتكون أكبر داعية .
لذلك : ما من شيء يتذبذب بين أن يكون أقدس عمل على الإطلاق يرقى إلى صنعة الأنبياء ، وبين أن يكون أتفه عمل على الإطلاق لا يستأهل إلا ابتسامة ساخرة كالدعوة إلى الله ، إذا بذلت من أجلها الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس ، وإذا طبقت ما تقول ، وإذا كنت مخلصاً فيما تقول ، ترقى هذه الدعوة إلى أن تقترب من صنعة الأنبياء ، أما إذا تاجرنا بها ، وارتزقنا منها ، كما قال الإمام الغزالي : " لأن أرتزق بالرقص أهون من أرتزق بالدين"
فالذي يتاجر بالدين كما لو أن أمامك ورقة مستطيلة ، هي الحقيقة شيك بمليون دولار ، لكن وضعت على ظهرها ، توهمتها ورقة عادية ، كتبت عليها بعض الكلمات أجريت حساباً بسيطاً ، ثم مزقتها ، ثم اكتشفت بعد حين أنها شيك بمليون دولار ، هذا ما تعني الآية الكريمة :
﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً ﴾
لذلك أشقى الناس من تاجر بالدعوة إلى الله ، اللهم أعوذ بك من أن يكون أحد أسعد بما علمتني مني ، اللهم إني أعوذ بك أن أقول قولاً فيه رضاء ألتمس به أحداً سواك ، اللهم إني أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك ، اللهم إني أعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك .
خاتمة و توديع :
الأستاذ أحمد :
جزاك الله خيراً ، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا دعاةً صالحين ، مصلحين لمجتمعاتنا ، وأسرنا ، ونشكر في ختام هذه الحلقة فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وإلى حلقة أخرى من حلقات موسوعة الأخلاق الإسلامية ، نستودعكم الله .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .