- محاضرات خارجية / ٠01دروس صباحية - جامع التقوى
- /
- دروس صباحية جامع التقوى - الجزء أول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
العبادة علة وجود الإنسان في الدنيا :
أيها الأخوة الكرام؛ سبب الوجود، أي أنت أرسلت ابنك إلى باريس لينال الدكتوراه من السوربون، مدينة عملاقة، كبيرة، مترامية الأطراف، فيها أسواق، فيها متاحف، فيها ملاه، فيها نواد ليلية، فيها دور سينما، فيها مؤسسات، علة وجود ابنك الوحيدة في هذه المدينة الدراسة، لا يمنع هذا أن يدخل إلى مطعم يأكل، أن يجلس في حديقة، أن يقتني مجلة.
أما علة الوجود فلو أردت أن أوسع هذا المفهوم، ما علة وجودك في الدنيا؟ سؤال كبير: لماذا أنت في الدنيا؟ لماذا جيء بك إلى الدنيا؟ لماذا ولدت في الدنيا؟ ماذا يعني وجودك؟ ماذا تعني وفاتك؟ ماذا يعني دفنك في القبر؟ هذه المفهومات الكبيرة من أسس العقيدة، لذلك علة وجودنا في الدنيا كما جاء في القرآن الكريم:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾
هذا كلام خالق الأكوان، كلام الخالق، كلام المربي، كلام المسير، الذات المطلقة، أصل الجمال، والكمال، والنوال، يقول لك: علة وجودك في الدنيا العبادة، يأتي إنسان غفل عن علة وجوده، اشتغل ليلاً ونهاراً، جمع ثروة طائلة ثم وافته المنية، كل هذه الثروة عند الموت لا معنى لها.
(( عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت ))
فكل ذكائك، وعقلك، ونجاحك، وتوفيقك، وبطولتك أن تعرف علة وجودك في الدنيا.
رمضان عبادة الإخلاص :
الحقيقة الآية تقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
ما قال هذا الذي دنت منيته: ربي أرجعوني لعلي أتابع بناء الطابق الأخير، لم ينته، لعلي أتابع بيع البضاعة، لم تبع:
﴿ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً ﴾
إذاً علة وجودك الوحيدة في الدنيا العمل الصالح، وسمي العلم صالحاً لأنه يصلح للعرض على الله، ومتى يصلح؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
إذاً العبادة علة وجودنا، لكن عندنا عبادة استثنائية صوم رمضان، عبادة استثنائية سماها العلماء عبادة الإخلاص، أي أنت بالبيت وحدك، والحرارة حوالي خمس وأربعين درجة، واليوم ثماني عشرة ساعة، تكاد تموت من العطش و لا تستطيع أن تضع بفمك قطرة ماء، من يشاهدك؟ لا أحد، من يستطيع أن يكتشف هذه المعصية؟ لا أحد إطلاقاً، فأنت حينما تصوم تؤكد عبادة خاصة هي عبادة الإخلاص، تستطيع أن تشرب لأنك بمفردك بالبيت، لا يوجد قوة تكشف مخالفتك إلا الله، فأنت حينما تصوم توقن أنك تعبد الله.
الآن المعاصي معروفة، هناك زنا، و خمر، و أكل مال حرام، و عدوان، أما برمضان فتمتنع عن المباحات، الطعام مباح، والشراب مباح، واللقاء الزوجي مباح، أنت في رمضان تمتنع عن المباحات، هذا من كمال إيمانك، من كمال مراقبة الله لك، من كمال إخلاصك، إذاً ممكن أن نسمي رمضان عبادة الإخلاص.
أسباب أمراض القلب :
لكن لا يوجد أمر إلهي تفهمه فهماً واحداً، أمر الله عز وجل واسع، أي أنت بحاجة إلى الصيام، السبب، يقولون: إن الدم يمشي بالشرايين، النوم المديد يخفف ضربات القلب إلى الخامسة والخمسين، عندما يمشي الدم ببطء بالشرايين تترسب الدهون على جدران الشرايين، فإذا ترسبت تصلبت، وإذا تصلبت يتعب القلب، القلب عندما يضخ الشريان يتجاوب معه، يتوسع، لأنه مرن، فإذا انتهى الضخ يعود الشريان كما كان، صار قلباً ثانياً، الشرايين قلوب، ضع يدك هنا يوجد نبض، معنى هذا أن الشريان يتجاوب مع القلب، فإذا نام نوماً مديداً النبض ينخفض من ثمانين إلى خمسة وخمسين، يمشي الدم بطيئاً، فإذا مشى مشياً بطيئاً ذرات الدهون تكون على جدران الشرايين يصاب الإنسان بالتصلب.
سألت مرة طبيباً، إنسان لم يمت بأي مرض، كيف يموت؟ أريد أن أعرف آلية الموت؟ قال لي: بالتصلب، عندما نزل النبض، القلب نبضه انخفض، الشريان لم يعد يتجاوب معه، فيتعب القلب.
يقولون: إن النوم المديد أحد أسباب أمراض القلب.
مرة التقيت مع طبيب قلب، قال لي كلمتين عميقتين جداً، قال لي: حياتنا فيها كسل عضلي، لا يقبل سيارة إلا أوتوماتيك، اعمل هكذا، لا، يريد كبسة زر ليصعد البلور، لا تحمل شيئاً إلا أوتوماتيك، صار هناك كسل عضلي، يرافقه شدة نفسية، قلق، خوف، أي أخطار تحيط بالأمة العربية؟ الشدة النفسية مع الكسل العضلي أحد أكبر أسباب أمراض القلب، كيف كان أجدادنا؟ عندهم تعب عضلي، جهد، وراحة نفسية، أمراض القلب سببها كسل عضلي وشدة نفسية، بينما أجدادنا عندهم راحة نفسية، وجهد عضلي.
الصيام دورة استثنائية نوعية عبادية وسلوكية :
لذلك الصيام دورة استثنائية، نوعية، عبادية، سلوكية، دورة استثنائية، قالوا: هذا الشهر شهر الأعمال الصالحة، كما قلت قبل قليل: العمل الذي هو علة وجودك في الدنيا، والعمل الذي يصلح للعرض على الله، متى يصلح؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، الله عز وجل خلقنا ليرحمنا، الدليل:
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ﴾
خلقنا ليرحمنا.
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة، جنة الآخرة جنة الخلد، أما جنة الدنيا فجنة القرب، أنت في الدنيا إن لم تقل ليس على وجه الأرض من هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني هناك مشكلة، أنت مع الله، مع الخالق، مع العظيم، مع الرحمن الرحيم، مع العليم، مع الحكيم، إذا كان الله معك فمن عليك؟ من يجرؤ أن ينال منك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟
(( ابن آدم اطلبنِي تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء ))
لذلك هذا الشهر شهر العمل الصالح، مرة ثانية للتأكيد: سمي صالحاً لأنه يصلح للعرض على الله، ومتى يصلح؟ إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
إذاً هو شهر القربات، تتقرب إلى الله بالصيام، وبغض البصر، لكن إياكم أن تتوهموا أن غض البصر برمضان فقط، فقط يوجد دورة تدريبية، دورة مكثفة، دورة من أجل أن تألف غض البصر، غض البصر، وحفظ اللسان.
(( وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سَخَط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنم سبعين خريفاً ))
قالت له: قصيرة، إحدى زوجات النبي قالت عن ضرتها إنها قصيرة، قال لها: يا عائشة لقد قلت كلمة لو مزجت بمياه البحر لأفسدته، دين عظيم، المؤمن شخصية فذة، المؤمن ليس معنى هذا أنه يصلي، هو يصلي طبعاً، لكن له ألف صفة غير الصلاة، صادق، أمين، وفيّ، رحيم، منصف عادل، محب للخير، متواضع، صفات كلها مشتقة من كمال الله عز وجل.
إن مكارم الله مخزونة عند الله تعالى فإذا أحبّ الله عبداً منحه خلقاً حسناً.
إذاً هذا الشهر شهر الأعمال الصالحة التي تصلح للعرض على الله، تصلح إن كانت خالصة وصواباً.
رمضان شهر صلة الرحم :
أيضاً شهر صلة الرحم، العبادة الغير الشعائرية الأولى بالإسلام صلة الرحم، لك أخت بطرف المدينة تزورها، تصلها، تسأل عنها، تتفقد أولادها، أي صلة الرحم أعظم عبادة غير شعائرية، نحن هذه العبادة بكلمة قاسية مسخت إلى زيارة في العيد فقط، وتتمنى ألا تجده، عندك قائمة طويلة، لا، لا، ليس هكذا، صلة الرحم أن تتفقد أقرباءك مطلقاً، من دون تقييد، أقرباء الأب والأم، تفقد الأقرباء بحاجة إلى مساعدة، بحاجة إلى توجيه، مساعدة مالية أحياناً، مساعدة اجتماعية، الابن بحاجة إلى واسطة أحياناً، تعرف شخصاً لك عنده مكانة، تعينه على تحقيق أهدافه، صلة الرحم العبادة الأولى الغير شعائرية، أن تتفقد أقاربك، طبعاً رمضان، والعيد مناسبة كبيرة لهذه العبادة.
دفع الزكاة فريضة مالية و أنسب وقت لها في رمضان :
شيء آخر: عندنا دفع الزكاة، دفع الزكاة فريضة مالية، أي أنسب شيء برمضان أن تؤدى، أن تؤدى في أول رمضان أفضل، لأنه بالعيد لا يستطيع ان يحل مشاكله، بحاجة إلى ألبسة لأولاده، يمكن أن تؤدى الزكاة في أول رمضان.
بل اقتراح آخر؛ أنت أديت زكاة مالك بالتمام والكمال بشوال، أنت الآن تفتح بحسابك حساب العام القادم، معك ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً تأتيك حالة، ابنها يحتاج إلى عمل جراحي، هي فقيرة، تدفع لها، أنت تأتيك حالات رائعة جداً، واضحة جداً من أجل الزكاة، تجمع ما دفعت في هذا العام، ثمانية آلاف، زكاتك عشرة آلاف، تدفع الألفين، فأنت اعمل السنة كلها مناسبة لدفع زكاة المال مسبقاً بطريقة أيضاً رائعة.
رمضان شهر القرآن الكريم :
الآن رمضان شهر القرآن الكريم، القرآن قال تعالى:
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾
معنى قراءته أن يقرأه قراءة صحيحة وفق قواعد اللغة، وإن أمكن أن يقرأه قراءة مجودة، يوجد مدود، وإدغام، وإقلاب، إلى آخره، ثالثاً: أن يفهمه فهماً صحيحاً، رابعاً: أن يتدبره، بمعنى أن يطبق ما قرأ، هذا معنى:
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾
فنحن برمضان يمكن أن تقرأ القرآن بأسلوبين أو بطريقتين، مرة قراءة تعبدية كل يوم جزء، ومرة قراءة تدبرية، أين أنا من هذه الآية؟ هل أنا مطبق لها؟ مطبق مئة بالمئة؟ أم أنني أطبق خمسين بالمئة؟ فالتدبر:
﴿ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ ﴾
باللغة الصحيحة، بأحكام التجويد إن أمكن، وبالفهم الصحيح، والتطبيق.
أخ كريم- هذه بالشام- قبل عشر سنوات، أو أكثر كان يتابع دروسي، وجد موضوع صلة الرحم، هو كان عن هذا العمل بعيداً جداً، فبحث عن أقربائه وجد قريباً له بشمال دمشق، وصل لعنوانه، زاره، وجد البيت تحت الأرض، يوجد فيه رطوبة عالية، وعنده خمسة أولاد، معهم أمراض، والرجل هذا كان ميسوراً، أخذ له بيتاً في شارع معقول، في الطابق الرابع، قبلي، شمسه رائعة جداً.
هذا معنى صلة الرحم، تتفقد أقرباءك بحاجة إلى مساعدة، أحياناً مساعدة علمية، أي فرع يدخل بالجامعة، وأنت عندك خبرة، مساعدة أحياناً اجتماعية، يريد أن يزوج بناته، صلة الرحم تعاون، تعاون مادي، وروحي، وديني، وعلمي، واجتماعي.
تفريغ رمضان من مضمونه :
لذلك: عندما صار رمضان شهر الولائم، والمسلسلات، بالتعبير المعاصر فرغ من مضمونه، شهر مسلسلات، والمسلسلات خطورتها أنها تطرح قيماً مناقضة للدين، يريك شخصاً متفلتاً، بيته كالقصر، زوجته تستقبل أصدقاءه في غيبته، وبلا أكمام، متفلتة، وهذا البيت فيه غنى، وسيارتان أو ثلاث، و يريك شيخ الجامع، شيخ القرية، شيخ الحارة، بيته صغير، زوجته بعيدة عن أولاده، أولاده متعثرون في دراستهم، هو لم يهاجم الدين لكن أعطاك عن الدين أسوأ صورة، وأعطاك عن الكفر والتفلت أحلى صورة، الأعمال الفنية هذه لهدم الإسلام، والغرب عندما يئس أن يلغي هذا الدين عمد إلى تفجيره من الداخل، يوجد أعمال فنية شيء مخيف، يخرج منها بقيم جديدة، دينك لم يعد له قيمة، انظر الغرب يا أخي، انظر إلى تقدم الغرب، انظر إلى اليابان! كأن اليابان لهم إله آخر.
فكل شيء يمس عقيدتنا، يمس مبادئنا، قيمنا، خطير جداً، وهذه حقيقة مرة، رمضان فقد قدسيته كشهر عبادة، صار شهر ولائم، وشهر مسلسلات، لذلك لا بد من ضبط الشاشة، وإن لم تضبط يوجد نتائج خطيرة جداً تمس حياتنا اليومية.
رمضان شهر معالجة صحية لأجسامنا :
ثم أرادنا الله أن يكون هذا الشهر شهر معالجة صحية لأجسامنا، فيزيد وزننا برمضان، ولائم، أنواع من الطعام، نوع واحد يكفي، يجب أن يكون هناك تبدل جذري بالعادات والتقاليد.
أخواننا الكرام، هذا الشر فرصة سنوية لنقلة نوعية من حال إلى حال، من درجة إلى درجة، من واقع إلى واقع، فإذا لم يكن هناك نقلة نوعية، الشاعر قال والعياذ بالله:
رمضان ولى هاتها يا ساقي مشتاقة تسعى إلى مشتاقِ
***
فإذا كان رمضان قفزة نحو الأعلى ثم عودة إلى ما كنا عليه لم نستفد شيئاً إطلاقاً، رمضان قفزة للأعلى للأعلى ثم للأعلى، أي درج صاعد، أما قفزنا للأعلى وعدنا إلى ما كنا عليه رمضان ما فعل معنى شيء إطلاقاً.
(( بُعداً لمرء أدرك رمضان فلم يغفر له، إذا لم يغفر له فيه فمتى ؟ ))
أخواننا الكرام، الإنسان عنده حدث خطير مغادرة الدنيا، فإذا لم يدخل هذا الحدث في حساباته اليومية، وأعد لهذه الساعة عدتها، عنده خطأ كبير، وإن شاء الله رمضان دورة تدريبية، نوعية، هي قفزة نوعية، وفيها تدريب على طاعة الله التامة.