الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
دعوة الناس جميعاً إلى معرفة الله وطاعته:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثالث عشر والأخير من سورة لقمان.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)﴾ ..أول استنباط من قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ أي أن الله عز وجل دعا الناس جميعاً إلى معرفته، وإلى طاعته، وأنه ليس بين الناس تفاوت، فكل الناس مطلوبون، قد يتوهم متوهم أن الله خلق فلاناً مؤمناً، وخلق فلاناً كافراً، وأنه خصّ المؤمنين بفضله، وحرم الكافرين من عطائه، هذا كلام مرفوض، لأن الخلق كلهم عباده، والخلق كلهم خلقهم ليرحمهم.
﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾
[ سورة هود ]
فلذلك من حين لآخر يخاطب الله الناس كافة، بل إن الأصح أن نقول: إن الله عز وجل يخاطب عامة الناس بأصول الدين، ويخاطب المؤمنين بفروعه. مثلاً: لا يعقل أن تقول لإنسان لم يؤمن بالله: غض بصرك عن محارم الله، تقول للإنسان غير المؤمن: آمن، انظر إلى السماء، انظر إلى الأرض، انظر إلى ملكوت الله عز وجل، انظر إلى طعامك، إلى شرابك، إلى خلقك، إلى نفسك، إلى ولدك، فعامة الناس يخاطبون بأصول الدين، وخاصتهم المؤمنون يخاطبون بفروعه، فهذه دعوة عامة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ ..اتقوا فعل أمر، ماضيه اتّقى، واتّقى فعل خماسي مَزيد على وزن افتعل، مجرده وقى، والوقاية لا تكون إلا من شيء مخيف أو شيء خطير، إذاً: إذا عاش الإنسان في الدنيا يجب أن يعلم أن هناك شيئاً سوف يقع به إن لم يعرف لماذا خلق؟ إن لم يعرف لماذا جاء الله به إلى الدنيا؟ فكلمة اتقوا أي اتقوا عذابه بطاعته، اتقوا الشرك بالتوحيد، اتقوا عذاب النار بطاعته في الدنيا، اتقوا المصائب بالقيام بأمره، والانتهاء عما عنه نهى، فلذلك اتقوا ربكم أي تعرفوا إليه وأطيعوه لئلا تلقوا شرّ أعمالكم.
أحياناً لو قلت لإنسان: كن طبيباً، هذا الأمر يقتضي أن يحمل شهادة ثانوية، وأن يدخل الجامعة، وأن يُقبل في كلية الطب، فكن طبيباً تعني أن ادرس الثانوية أولاً.
أحياناً يأتي الأمر، وينطوي فيه أمر آخر، إذا قال الله عز وجل: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ كيف تتقي عذابه؟ بطاعته، كيف تطيعه؟ إذا عرفته، إذاً: اعرفه وأطعه عندئذ تتوقى عذابه في الدنيا والآخرة.
طبيعة النفس الإنسانية أي نفس بشرية تحب السلامة، تحب الكمال، تحب الاستمرار، تحب الصحة، تحب الغنى، تحب المكانة الاجتماعية، هذه أشياء محببة للنفس، ما منّا إنسان إلا ويكره المرض، ويكره الفقر، ويكره أن يهان، يكره أن يعذب، يكره أن يحرم، فالإنسان مفطور على حبّ الخير، ومفطور على كره الشر، فإذا كانت هذه فطرتك لن تتحقق فطرتك إلا إذا أطعت ربك، ولن تطيعه إلا إذا عرفته، إذاً إذا قال الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ أي تعرفوا إليه، وأطيعوه، إذا أطعتموه، وطبقتم منهجه، ونفذتم تعليماته، وائتمرتم بأمره، وانتهيتم عما عنه نهى، صدقتم بشارته، وصدقتم إنذاره، وفعلتم حلاله، وتركتم حرامه، صدقتم وعده، وصدقتم وعيده، إذا فعلتم ذلك سعدتم في الدنيا والآخرة، إذا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ .
أصلان اعتقاديان متلازمان؛ الإيمان بالله واليوم الآخر:
الحقيقة في العقيدة شيئان متلازمان؛ الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، لو أن إنساناً آمن بالله كمال الإيمان، ولم يؤمن باليوم الآخر فلن يستقيم على أمره، ما الذي يحملك على طاعة الله؟ أشياء كثيرة، أولاها: إيمانك بالله عز وجل، وإيمانك بأنه يراك، وإيمانك بأنه سيحاسبك، إذا آمنت به، ولم تؤمن بأنه يراك فلن تستقيم على أمره، إذا آمنت به، وآمنت بأنه يراك، لكن لن يحاسبك، فلن تستقيم على أمره، ثلاثة أشياء احفظوها: لن تستقيم على أمره إلا إذا آمنت بوجوده، وآمنت بأنه يراك، وآمنت بأنه سيحاسبك. لذلك مع أن أركان الإيمان خمسة، لكن اثنين منها يركز القرآن عليهما كثيراً: الإيمان بالله واليوم الآخر.
الدنيا ليست مقياساً:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ ..يوجد سبب لأن هذه الدنيا دار عمل ودار ابتلاء، فكثيراً ما يستقيم الإنسان، ويُعالج من قبل الله عز وجل على الرغم من بعض استقامته، وكثيراً ما يكون بعض الناس خارج المعالجة الإلهية، يُمدهم الله بالقوة والصحة والمال، وهم غارقون في المعصية، فإذا نظرت إلى الدنيا وعددت الدنيا هي المقياس هذا خطأ، قد تجد إنساناً مستقيماً، وفي حياته خشونة، قد تجد إنساناً مستقيماً، وفي حياته بعض المتاعب، لماذا؟ لأن الله يحمي صفيِّه من الدنيا كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام.
إذاً: ليس من باب القياس أن تظن أن هذا الغني الفاسق الفاجر على حق، لأنه معافى بصحته، وماله وفير، وأن هذا المؤمن المستقيم الذي يتولاه الله بالرعاية والعناية المكثفة، أن هذا الإنسان ليس على حق لأنه معذب.. لا، ليست الدنيا مقياساً، لكن الله عز وجل في الدنيا يكافئ المحسن، ويعاقب المسيء، لكن مكافأة المحسن مكافأة تشجيعية له ولغيره، ومعاقبة المسيء معاقبة ردعية له ولغيره، لكن ما كل محسن يثاب في الدنيا، وما كل مسيء يعاقب.
أناس كثيرون في أعلى أنواع القوة، والصحة، والبحبوحة يموتون، لكن أين الفصل؟ في يوم الفصل، أين الحساب؟ يوم الحساب، أين الجزاء؟ يوم الجزاء، أين دفع الثمن الكامل؟ يوم القيامة، فلذلك أنا أعرف أن المستقيم يكافئه الله في الدنيا قبل الآخرة، والمسيء يعاقبه في الدنيا قبل الآخرة، لا أن تكون قاعدة مطردة، لا، قاعدة في الأعم الأغلب لحكمة أرادها الله عز وجل، قد يكون من الحكمة أن يسيء المسيء، ولا يعاقب لخير يعلمه الله فيه، فإذا ساق له بعض الإكرام لعل بالإكرام وحده يعود إلى الله عز وجل، فأنت لا تعلم كل الحقيقة، تعلم بعضها، اجعل اليوم الآخر هو المقياس، أي إن لم تجد إنساناً قد عوقب في الدنيا فاعلم علم اليقين أنه لا يمكن أن يتفلت من العقاب يوم القيامة.
الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء:
لكن أقول لكم: الدنيا دار عمل كلياً، ودار جزاء جزئياً، والآخرة دار جزاء كلياً، لهذا قال الله عز وجل:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)﴾
[ سورة آل عمران ]
التوفية الكاملة.. الحساب الدقيق.. الحساب الكامل.. الفصل الكامل يوم القيامة، إذًا: يجب أن نؤمن أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار جزاء، أن الدنيا دار تكليف، وأن الآخرة دار تشريف، أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الآخرة دار عطاء، لذلك لن يستقيم إيمانكم إلا إذا جمعتم بين الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر، إن لم تؤمن أن الله موجود، وأنه مطلع عليك، سميع لقولك، عليم بحالك، وأنه لابدّ من أن يحاسبك:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
[ سورة الحجر ]
إن لم تؤمن كذلك لن تستقيم على أمر الله، هذا الموضوع ينقلنا إلى موضوع قريب جداً نحن بحاجة إليه.
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾
[ سورة الطلاق ]
أي خلق السماوات والأرض علّته أن تعلم: ﴿أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ أي اختار الله من بين أسمائه الحسنى كلها اسمين فقط: علمه وقدرته، أي علمه يطولك وقدرته تطولك، هو موجود، ويعلم، وسيحاسبك، انتهى الأمر، كن بطلاً، واعصِ أمره، اعص وانظر، لن تتفلت من عقابه، لابدّ من أن تدفع الثمن باهظاً، فلذلك إذا أحبّ الإنسان نفسه، إذا كان محباً لذاته فقط، إذا طلب السلامة، طلب الكمال، طلب وجوده، طلب سلامة وجوده، طلب كمال وجوده، طلب استمرار وجوده فعليه بطاعة الله عز وجل، لذلك أرجحكم عقلاً أشدكم لله خشية.
أنا الذي أتمنى عليكم أن تجمعوا بين هذين الشرطين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً﴾ اتقوا، تعرف، وأطع تتق عذابه في الدنيا والآخرة.
خالق الكون يعلم السرَّ وأخفى:
﴿وَاخْشَوْا يَوْماً﴾ ..هناك يوم يقف الناس فيه بين يدي رب العالمين، والله أيها الإخوة الأكارم لو دعي إنسان قبل سبعة أيام ليلقى شخصاً مهماً، تعال يوم السبت، الساعة العاشرة، لنا عندك سؤال، والدعوة لطيفة، بورقة لطيفة، أنا أقسم، ولا أبالغ أنك لا تنام الليل خلال سبعة أيام، لأن إنساناً قوياً سيسألك، لماذا قلت كذا؟ مع من التقيت؟ ماذا أردت بهذه الكلمة؟ إذا قال لك إنسان: تعالَ إليّ لأسألك، لا تنام الليل سبعة أيام، خالق الكون يعلم السرَّ وأخفى، ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾ .
افعلْ مَا تشاء وهيئ لله جواباً عن كلِّ ذلك:
لذلك أيها الإخوة؛ هذه كلمة من قلب إلى قلب، افعل ما تشاء، ولكن إذا كنت بطلاً هيئ لربك إجابة عن كل فعل تفعله، لماذا فعلت كذا؟ لماذا أعطيت؟ لماذا منعت؟ لماذا حرمت؟ لماذا سخوت؟ لماذا ابتسمت؟ لماذا عبست؟ لماذا حابيت فلاناً؟ لماذا نفرت من فلان؟ لماذا طلقت؟ لماذا قلت هذا الكلام في البيع؟ ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾ المؤمن لا ينجو من عذاب الله عز وجل إلا إذا تمثل في كل موقف يقفه في الدنيا أن الله سيسأله، سيحاسبه، ليس هناك كذب.
﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)﴾
[ سورة يس ]
كتابك الذي فيه أعمالك كتاب مرقوم، أي صفحاته مرقمة، ليس بالإمكان أن تنزع منه صفحة، وصفحاته فيها الذنب مع الصورة، الصورة هي الدليل، والآن أرقى المخالفات، تخالف يقدم لك المسؤول عن هذه المخالفة صورة مركبتك وهي متلبسة بالمخالفة، هل تقول: لم أكن في هذا المكان؟ أليست هذه مركبتك؟ أليس هذا رقمها في مؤخرتها؟ فلذلك مرة ثانية: إذا آمنت بوجوده، وآمنت بأنه يعلم، وآمنت بأنه سيحاسبك لا بدّ من أن تستقيم على أمر الله، بل إن الأمر أقلّ من ذلك..
لا تعصي مخلوقاً مثلك أقوى منك فكيف تعصي الخالق العظيم؟!
شخص مثلك من بني الشر، إذا أيقنت أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك.
أبسط مثل بين أيديكم: راكب مركبة، والإشارة حمراء، والشرطي واقف، ودورية واقفة، ودراجات الشرطة جاهزة، تفضل خالف لنرى؟! وأنت طبعاً إنسان عادي، تفضل خالف! لا يمكن أن تخالف، لو تجاوزت هذه الإشارة تبعك أصحاب الدراجات النارية، وهناك من يضعك في موقف حرج، لاحظ نفسك مع إنسان عادي، مع شخص من بني البشر، من جلدتك، أقوى منك قليلاً، ويطَّلع عليك، وبإمكانه أن يتابعك، لن تخالف، فكيف يعصي الإنسان ربه؟ كيف يعصيه؟ أي إنسان أصدر قراراً وهو يعني ما يقول ولم يعفُ عنك، ولم تتفلت من رقابته، تجد نفسك مطواعاً، تقدم له الطواعية، الطاعة طواعية، هذا شأن النفس البشرية، فربنا عز وجل أكثر الأحيان يقول:
﴿ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)﴾
[ سورة النساء ]
لا نسب ولا خلة ولا علاقات يوم القيامة:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ .. السيدة عائشة قالت: يا رسول الله، أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ نحن عندنا علاقات، أم، يوجد ابن، يوجد أب، يوجد أخ، يوجد ابن عم، يوجد شريك، يوجد جار، يوجد صهر، يوجد بنت، يوجد علاقات نسب، وعلاقات مصاهرة، وعلاقات تجارية، وعلاقات جوار، وعلاقات كثيرة جداً، علاقات مجتمع معين، يا ترى لو أن الإنسان وقعت عينه على أمه يوم القيامة أيعرفها؟ أيقول لها: يا أمي؟ أتعرفه؟ أتقول له: يا ولدي؟ سألت السيدة عائشة هذا السؤال، قالت: يا رسول: أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ قال: نعم يا أم المؤمنين، إلا في ثلاثة مواقف: عند الصراط، وإذا الصحف نشرت، وعند الميزان، في هذه المواقف لو وقعت عين أحدنا على أمه لا يعرفها، ولو وقعت عين الأم على ابنها لا تعرفه لهول الموقف ، ولا في الدنيا كذلك، إذا كان هناك أزمة كبيرة جداً، إنسان في مشكلة فوق طاقته لا يرى ابنه، أنا أذكر أن في بعض الزلازل أقبلت أمّ على ابنها لتحمله، وتذهب خارج البيت، بعد أن أصبحت في العراء رأت وسادة على يديها، وليس ابنها، من شدة الخوف اتجهت على ابنها لتحمله فحملت الوسادة، لم تفَّرق حينما اضطربت بين ابنها وبين الوسادة.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)﴾
[ سورة الحج ]
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ ، تعرفوا إليه، وتعرفوا إلى أمره، وأطيعوه حتى تسعدوا في الدنيا والآخرة، حتى ينجو الإنسان من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
كل إنسان محاسب على اختياره وعلى فعله:
﴿وَاخْشَوْا يَوْماً﴾ ..هذه السيدة عائشة لما سألت النبي عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله، أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ قال: نعم يا أم المؤمنين إلا في ثلاثة مواطن: عند الصراط، وعند الميزان، وإذا الصحف نشرت، وفي غير هذه المواطن قد تقع عين الأم على ولدها تقول له: يا ولدي! جعلت لك بطني وعاءً، وصدري سقاءً، وحجري وطاءً، فهل من حسنة أنتفع بها؟ يجيبها ابنها: ليتني أستطيع ذلك يا أماه، إنما أشكو مما أنت منه تشكين، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ والله الذي لا إله إلا هو لو أنك ابن رسول الله، ولم تكن مستقيماً على أمر الله لا تنفعك هذه الأبوة من الله شيئاً، والدليل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
قَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا .
[ رواه البخاري ومسلم ]
(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسام : مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلمًا سهَّل اللهُ له به طريقًا مِن طُرقِ الجنَّةِ ومَن أبطَأ به عمَلُه لَمْ يُسرِعْ به نسَبُه . ))
[ صحيح ابن حبان أخرجه في صحيحه ]
لماذا قدّر الله عز وجل أن تكون امرأة لوط هي كافرة وزوجها نبي؟ ولماذا قدّر الله عز وجل أن تكون امرأة فرعون صديقة وزوجها قال: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ ؟ هذه إشارة دقيقة جداً لنا إلى أن الإنسان مخير، وأن المرأة مستقلة في اختيارها عن زوجها، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن كل إنسان محاسب على فعله، فلذلك: ﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ لو أنك منتسب إلى أب عظيم، إلى أب عالم، إلى أب عارف بالله، أنا جدي فلان، أنعم وأكرم من جدك، أما أنت فما عملك؟
لا تقلْ أصلي وفصلي أبداً إنما أصلُ الفتى ما قدْ حصلْ
[ ابن الوردي ]
* * *
كُن اِبنَ مَن شِئتَ واِكتَسِب أَدَباً يُغنيكَ مَحمُودُهُ عَنِ النسَبِ
[ علي بن أبي طالب ]
* * *
كأن الله عز وجل يريد أن يقول: إذا قصرت في عملك، وكنت ابن فلان، ابن العالم الفلاني، ابن العارف بالله الفلاني ماذا تنفعك هذه الأبوة؟ وماذا ينفعك هذا النسب؟ النبي الكريم يقول: "أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً"، هذا أقرب مثل.
﴿ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)﴾
[ سورة الأنعام ]
قد تجد أباً صالحاً له ابن شقي، وقد تجد أباً شقياً له ابن صالح، كل إنسان محاسب على اختياره، وعلى فعله.
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)﴾
[ سورة إبراهيم ]
لذلك: ﴿وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ لا يستطيع والد أن يغني ولده المقصر.
لا يغني الابن عن أبيه وأمه شيئاً:
﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا﴾ ..أحياناً أب له اتجاه لا ديني، يخرج من صلبه ابن غارق في محبة الله، إذا كان الأب ينهى ابنه عن هذا الطريق، ومات الأب لا ينفعه ابنه الصالح، على خلاف ما يتوهم البعض، متى يكون ابنك الصالح صدقة جارية لك؟ إذا وجهته أنت هذه الوجهة، إذا حرصت على هذه الوجهة، إذا نمَّيت هذا الاتجاه عنده، إذا سررت بهذا الاتجاه، إذا رضيت عن هذا الاتجاه، أما إذا حاربته حينما كان صالحاً، وإذا حملته على معصية الله، وإذا أنكرت عليه دينه، وإذا ضغطت عليه حتى ينحاز إلى مِلَّتك وإلى اتجاهك، هذا العمل لو أن إنساناً فاجراً جاءه ابن ولي، هذا الابن لا ينفع والده يوم القيامة، أعماله ليست في صحيفته، لأن الأب ما أراد هذا الابن، ما أراد له هذا الاتجاه، لأنه حاربه على اتجاهه، لأنه ضيَّق عليه. متى يكون الولد الصالح صدقة جارية؟ إذا حرص الأب على تربية ابنه تربية دينية، وإذا سعى لذلك، وإذا شجعه وأكرمه ودعَّمه، فإذا خلّف ولداً صالحاً ينفع الناس من بعده فهذه صدقة جارية تحسب للأب.
إذاً لا يستطيع ولد أن ينفع والده، ولا والد بإمكانه أن ينفع ابنه، لكن إذا كان الأب سبباً في شقاء ابنه هكذا ورد في بعض الأحاديث أن الابن يتعلق بأبيه يوم القيامة ويقول: يا ربي لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، لأنه هو السبب.
امرأة تساهلت مع ابنها حينما سرق بيضة، بل شجعته، ورأت في ذلك رجولة، فلما أَلِف السرقة وقع في سرقة كبيرة رافقتها جريمة حُكم عليه بالإعدام، عرف أن أمه الجاهلة كانت هي السبب، فقبل أن ينفذ فيه حكم الإعدام طلب ممن حوله أن يأتوا بأمه كي يراها – هكذا قال- جاؤوا له بأمه، فقال: يا أماه مدّي لسانك كي أقَبِّله، فمدت لسانه فعضها منه فقطعه، وقال: لو لم يكن هذا اللسان مشجعاً لي في الجرائم ما فقدت حياتي، أحياناً يفرح الأب بابن له دخل كبير، لكن هذا الدخل غير مشروع، يفرح بمكسب من مكاسب ابنه، لكن هذا المكسب لا يرضي الله عز وجل، يفرح أن ابنه أتقن اللغة الأجنبية، لكن على حساب دينه، أرسله إلى بلاد يُعدّ فيها الزنا شيئاً عادياً جداً، عاد من بلاد الغرب، وقد خرج من دينه لكنه أتقن اللغة الأجنبية، فإذا فرح الأب بابنه ربما وقف الابن يوم القيامة وقال: يا رب! لا أُدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، لأنه كان هو السبب.
الأبوة مسؤولية كبيرة:
الأبوة مسؤولية كبيرة جداً، قبل أن تسمح لابنك، قبل أن تدفعه لهذا العمل، قبل أن تشجعه، قبل أن ترضى عنه، انظر إلى طاعته لله عز وجل، لهذا قال الله عز وجل:
﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)﴾
[ سورة طه ]
هذا الذي يدفع بأبنائه إلى أعمال لا ترضي الله، يدفع بابنته إلى عمل بين الرجال من أجل أن تكسب راتباً، هذه الفتاة فيها الحياء، وفيها الحشمة، وفيها الوقار، فمع الرجال سلام، وكلام، ومزاح، وتعليقات، وإحراجات، بعد أسبوع، أو أسبوعين، أو ثلاثة أصبحت مسترجلة، أصبحت أخلاقها لا ترضي الله عز وجل، أصبحت لها جرأة لا تستساغ من فتاة مسلمة، إلى أن اندفعت إلى أن تبرز مفاتنها للرجال، وأن تتسلى في وظيفتها، وكيف أنه كان هو السبب من أجل دريهمات يحرص عليها.
معنى: وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا:
لذلك: ﴿وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ .
أيها الإخوة الأكارم، الحقيقة الآية فيها معنيان؛ أن الابن لا ينفع والده يوم القيامة، وأن الأب لا ينفع ابنه، ولكن إذا كان الأب سبباً في إضلال ولده فسوف يحاسب حساباً عسيراً، وإذا كان الابن سبباً في إضلال أبيه، أي الابن عقله متفتح، عقليته علمانية، أقام مشروعاً لوالده أساسه الربا، وقال له: لا يا بابا، هذا شيء لا تعرفه، هذه قضية سهلة جداً، فإذا وافق الأب ابنه على هذا المشروع الربوي فقد جرّ هذا الابن أباه إلى الضلال، فلن ينفعك ابنك إذا حملك على معصية، ولن تنفع ابنك إذا حملته على معصية.، فإذا كان هناك انحرافات كل إنسان يحاسب على فعله، أما إذا كان أحدهما في فعلته سبباً لمعصية الآخر فيحاسب عن فعله، وعن النتائج التي توصل لها ابنه.
وَعْدُ اللهِ حقٌّ:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ .. معنى حق أنه واقع، أحياناً الامتحان في الخامس من حزيران، خلال ثلاثين سنة، أربعين سنة، منذ أن أحدثت الشهادة الثانوية الامتحان في وقته، ما مرّ معنا سنة ليس فيها امتحان، فالاستمرار يوحي إلى الطلاب أنه لا بدّ من الامتحان، هذا إنسان، فإذا لم يخلف الإنسان وعده يصبح كلامه حقاً، خالق الكون قال: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ، القرآن يقول: هناك يوم قيامة، هناك يوم نشر، هناك حساب، هناك جنة، هناك نار، هناك صعق، هناك وقوف بين يدي الله عز وجل، هناك صراط مستقيم، هناك حوض يَرِدَهُ المؤمنون على النبي عليه الصلاة والسلام، هذا كله من غيب المستقبل، ونحن قرأناه في كتاب الله، لكن يجب أن تؤمن أن زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعده ووعيده، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ لذلك أحد أصحاب رسول الله قال له النبي: كيف أصبحت يا زيد؟ قال: أصبحت بعرش ربي بارزاً، وكأني بأهل الجنة يتنعمون، وكأني بأهل النار يتصايحون، قال: عبد نوّر الله قلبه، عرفت فالزم، إني لك ناصح أمين، إذا كنت ميكانيكياً من الطراز الأول، وتعرف أن هذه المركبة بلا مكبح، وأن صاحبها قد انطلق بها في طريق هابطة هبوطاً حاداً، وأن في نهاية الطريق انعطافًا حاداً، ماذا تقول؟ تقول: وهو في أول الطريق راح، انتهى، مات، هلك، دُمّر، ولم يحدث شيء بعد، هذا علم القوانين، أنت ميكانيكي، سيارة وزنها طن ونصف، مندفعة بأقصى سرعة في طريق هابطة، وفي النهاية انعطاف خطير، وليس هناك مكبح، فقبل أن يقع تقول: وقع، قبل أن يتدهور تقول: تدهور، وأنت بشكل غير شعوري تستخدم الفعل الماضي، أحياناً يقول لك: قضي علينا، إذا كان هناك خطرٍ، لم يُقضى علينا بعد انتظر، مثلاً: إذا أشعل الواحد في بيته نارًا، وهناك أسطوانة غاز، يقول لك: انفجرت، وهي لم تنفجر بعد، لكن هذا بحكم القوانين، فربنا عز وجل قال: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ..
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)﴾
[ سورة البقرة ]
أنت مخير، لكن: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا﴾ تذهب إلى أمريكا، تذهب إلى اليابان، إلى إنجلترا، وتسكن في فندق خمس نجوم، تجلس في بيت فخم جداً، عندك سيارة فخمة: ﴿أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا﴾ ، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ والموت حق، هل هناك أحد ما مات؟ كل مخلوق يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت:
والليل مهما طال لا بدّ من طلوع الفجر والعمر مهما طال لا بدّ من نزول القبر
[ صالح بن محمد بن عبد الله ]
* * *
كُلُ اِبنِ أُنثى وَإِن طالَت سَلامَتُهُ يَوماً عَلى آلَةٍ حَدباءَ مَحمولُ
فإذا حملت إلى القبور جنــــازة فــاعلـــم بأنك بعدها محمول
[ كعب بن زهير ]
* * *
انظر الإنسان، كل يوم ينظر إلى النعوات يقول: رحمة الله عليه، كأنه هو لن يموت، فلان يقول لك: هذا صيدلي، وهذا تاجر، وهذا كان يعمل بالدرك، الله يرحمه، وهذه شابة ماتت بحادث، وهذا شاب، كل يوم يوجد بالشام عشرون نعوة تقريباً، سألت واحداً بمكتب الدفن فقال: يموت خمسون بالشام يومياً، النعوات تقريباً عشرون، فاعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، كلما قرأت نعوة فاعلم أن ملك الموت قد تخطاك إلى غيرك، ولكن يوجد يوم وسيتخطى غيرنا إلينا، سيقرأ الناس النعي، ستعيش أربعين، خمسين، ستين، سبعين، وتقرأ نعوات في الطريق كل يوم، وسيأتي يوم سيقرأ الناس نعوتك، هذا حق، ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ ماذا أعددنا لهذه الساعة؟ يا بشر: لا صدقة ولا جهاد، فبمَ تلقى الله إذاً؟ مجلس علم، على العين والرأس، لكن ماذا عملت مما تعلمت؟ ليس القصد حضور المجلس، الحضور وسيلة، الغاية أن تعمل بما علمت، ومن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم.
الحذر من الدنيا لأنها ساعة غرور:
الآن: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ .. هناك مثل أرويه دائماً وهو مَثَلٌ مضحك: لي صديق، توفي رحمه الله قبل سنوات، قال لي: كنت صانعاً في سوق الحميدية، وكان لي هواية، هكذا كنت أفعل، يكنس المحل التجاري، ويجمع قمامته في علبة، يضع هذه القمامة في هذه العلبة، ويغلفها بورق فخم، ورق هدايا، وشريط حرير، ويضعها على الرصيف، يمر أحد الأشخاص فينكب عليها، وقد امتلأ فرحاً، أي أشرق وجهه، يحملها وينطلق، يتبعه بعد مئة متر يفك الشريط، بعد مئة متر أخرى يفك الورق، يتفاجأ بهدية، يتفاجأ بساعة، فإذا بالعلبة قمامة، حينئذ يرغي ويسب ويلعن ويزبذ، هذا مثل صارخ، والله الدنيا هكذا، الدنيا تغر وتضر وتمر، ما معنى: ﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ ؟ يا عبادي، إياكم أن تروا الدنيا بحجم أكبر من حجمها، حجمها صغير: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
[ صحيح الترمذي ]
أعطى أعداءه المال وهو لا يحبهم.
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾
[ سورة القصص ]
وأعطى أعداءه الملك وهو لا يحبهم، ولكن ماذا أعطى أحبابه؟
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)﴾
[ سورة القصص ]
فإذا أتاك الله حكمة وعلماً، ومعرفة ويقيناً، وطاعة واستقامة، فأنت المحبوب، وأنت المتفوق، وأنت الفائز، وأنت الفالح، وأنت الناجح، وأنت الذي تزهو على أقرانك يوم القيامة، إذاً: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ الإنسان في أول حياته يرى هذا الشيء كل ما في الحياة، إنسان يرى المال كل شيء، إنسان يرى المتعة كل شيء، إنسان يرى المكانة الاجتماعية كل شيء، إنسان يرى الدرجات العلمية العالية كل شيء، فإذا مضت أعوام تلو أعوام رأى المال شيئاً، ولكنه ليس بكل شيء، فإذا كان على شفير القبر لم ير المال شيئاً، كان الإنسان يراه كل شيء، ثم رآه شيئاً، ثم رآه لا شيء، ما هو الشيء؟ معرفة الله عز وجل.
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾
[ سورة الكهف ]
﴿فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ أي لا تر الحياة بحجم أكبر من حجمها الحقيقي، لها حجم: عن سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ - وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))
[ رواه البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي في "السنن" وقال : حسن غريب . ]
ليس لك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت، الصدقة باقية، واللباس مهترئ، والطعام فانٍ، وما سوى الطعام واللباس والصدقة ليس لك، أرقام على ورق تحاسب عليها، من أين اكتسبتها؟ وفيمَ أنفقتها؟ أرقام حبر على ورق مع المحاسبة.
مثلاً: إذا دخلت الضابطة الجمركية على محل تجاري ليس فيه بضاعة أبداً، فتحوا الدرج فوجدوا فاتورة، هذه الفاتورة التي فيها بضاعة اشتراها وباعها، غير نظامية، تعامل كأنها بضاعة مصادرة، هي ورقة يدفع عليها مئتي ألف، مثل دقيق، فكذلك المال الزائد حبر على ورق، أنت لست مستفيداً منه، ليس لك إلا ما أكلت فأبليت، الذي أكلته رزقك فقط، والذي لبسته رزقك، والذي أنفقته رزقك، أما الباقي فحبر على ورق، ومحاسب عليه، مثل الجمارك، حبر على ورق، ومحاسب عليه، من أين اكتسبته؟ وفيمَ أنفقته؟ حديث رائع جداً، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟ ))
[ صحيح الترغيب: حسن صحيح ]
على الإنسان ألا يصغي لكلام الشيطان:
إذاً: ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ .. الغرور هو الشيطان، فكيف يغرك بالله عز وجل؟ إذا قال لك: الله لا يدقق، يغرك، الله لن يحاسبنا، نحن مسلمون، والحمد لله.
﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)﴾
[ سورة البقرة ]
﴿ وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)﴾
[ سورة البقرة ]
سبعة أيام فقط، وبعدها نخرج، تلك أمانيهم، فهذا غرور، يقول لك: الله عز وجل لن يضع عقله بعقلك ويحاسبك، النبي الكريم يسجد يوم القيامة، ولا يرفع رأسه حتى يشفع لنا جميعاً، انتهت القضية كلها، فكل إلقاء في قلب الإنسان من هذا القبيل هذا تغرير.
مثلاً: إذا جاء طالب إلى صديقه، وقال له: لا تدرس، هذا الأستاذ نجعل له هدية فيعطينا الأسئلة، فلم يدرس، يوم الفحص فوجئ أن الأستاذ نزيه جداً، والأسئلة صعبة، وهو لم يدرس، يكون بهذا قد خرب بيته.
لك دعوة عند قاضٍ، بدل أن توكل محامياً لامعاً، وتهتم بالمرافعة، قال لك: هذا القاضي يقبض قبل الدعوة بيوم نجعل له هدية، ثم وجد أن القاضي نزيه، وصديقه كذاب، ورطك، هذا معنى: ﴿وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ أي الشيطان يخوفك.
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)﴾
[ سورة آل عمران ]
﴿ الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)﴾
[ سورة البقرة ]
فالإنسان عليه ألا يصغي إلى كلام الشيطان.
مفاتيح الغيب:
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾. . يوم القيامة عنده وحده، لذلك الإنسان إذا قال: يومُ القيامة يوم كذا فهو جاهل، وهو مكذب بنص هذه الآية.
﴿وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ﴾ .. لم يقل: يعلم من في الأرحام، قال: ﴿مَا فِي الأَرْحَامِ﴾ على الحوين المنوي شريط مورثات عددها خمسة آلاف مليون معلومة، من الذي يعلم مصير هذا الإنسان؟ يا ترى ذكي أم أقل ذكاء؟ بار لوالديه أم عاق لهما؟ هل سيكون مخترعاً عظيماً أم مصلحاً كبيراً؟ هل سيكون مجرماً أم شقياً أم سعيداً؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ ...قصة رمزية: يقال: إن سيدنا سليمان كان عنده ملك الموت، فإذا بملك الموت يحدّ بصره برجل، أحدّ بصره إلى درجة أنه قال: من هذا؟ قال له: هذا ملك الموت، فانخلع قلب هذا الرجل، وقال: أرجوك أن تأخذني إلى أطراف الدنيا؛ أوتي سليمان الريح، أركبه بساط الريح، وأوصله إلى الهند، بعد أيام توفي هناك، التقى بملك الموت، فقال له: لماذا تنظر إليه هكذا؟ قال: عجبت من حاله، معي أمر بقبض روحه في الهند فلماذا هو عندك؟!! هذه قصة رمزية، لكن مغزاها أن الإنسان لا يدري أين يموت.
أعرف رجلاً موظفاً كبيرًا أرسل بمهمة إلى أمريكا، عقد قرانه دون أن يعقد القران الرسمي، وسافر إلى أمريكا، في المطار توفي، من يصدق أن يموت هناك؟ ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ لذلك رأى ملك الإمام مالك الموت، قال له: يا ملك الموت، كم بقي من عمري؟ فقال له هكذا، فلما أفاق الإمام مالك ازداد قلقاً، يا ترى خمس سنوات، خمسة أشهر، خمسة أسابيع، خمسة أيام، خمس ساعات، خمس دقائق، شيء واسع، فذهب إلى الإمام ابن سيرين، فقال له: يا إمام، هكذا رأيت ملك الموت، وأشار لي هكذا، ما تفسير هذه الرؤيا؟ قال له ابن سيرين: يقول لك ملك الموت: إنّ هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله، هذا هو التفسير، سؤالك يا إمام مالك من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله.﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ أي يوم القيامة.
هناك إنسان ادّعى من حساب أرقام وكمبيوتر أن يوم القيامة يوم كذا وكذا، كذب وانتحر، ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين