- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (031)سورة لقمان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مقدمات مهمة بين يدي الآيات:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة لقمان.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
أيها الإخوة الأكارم؛ كمقدمة سريعة لهذه الآيات التي ربما ختمنا بها سورة لقمان في هذا الدرس أتمنى أن أضع بين أيديكم بعض الحقائق.
المقدمة الأولى؛ العلم دين:
أولاً: حينما يطلب الإنسان العلم يجب أن يعلم علم اليقين أن هذا العلم دين، وأن هذا العلم إذا ألقي على سمعه جعله مسؤولاً، وأن الدين الحق هو ما أوصلك إلى الله عز وجل، فلذلك سماع دروس العلم وحده لا يكفي.
المقدمة الثانية؛ طلبُ العلم عمود الدين:
هذا الدين يقوم على أعمدة كبيرة، أحد هذه الأعمدة طلب العلم، طلب العلم الشرعي، طلب تفسير كتاب الله، طلب حديث رسول الله، طلب سيرة رسول الله، طلب الأحكام الفقهية التي أنت بحاجة إليها، فكل هذه كعقيدة وتفسير وسنة وسيرة هي من العلم، ولكنك إذا طلبت العلم، ولم توقع سلوكك، وحياتك، وعلاقاتك، ومهنتك، وزواجك وفق ما أراد الله عز وجل فأنت خاسر، لأن هذا العلم يصبح حجة عليك، لا يكون هذا العلم حجة لك إلا إذا انقلب إلى سلوك.
المقدمة الثالثة؛ لا سعادة إلا بقطف ثمار الدين:
لذلك هذا الدين لا ينُبغُ فيه الإنسان.. لا يسعد فيه.. لا يقطف ثماره إلا من حاطه من كل جوانبه، أحد جوانبه طلب العلم، فإذا طلبت العلم ينشأ سؤال كبير: أين أنا مما أسمع؟ هل أنا في مستوى هذا التفسير؟ هل أنا في مستوى سنة رسول الله؟ هل كسبي للمال، إنفاقي له، بيتي، علاقاتي، مناسباتي هل تقع وفق ما جاء في كتاب الله؟
يا أيها الإخوة الأكارم؛ الأمر خطير، والأمر أخطر بكثير من أن تأتي إلى مسجد، وتَمضي فيه ساعة أو أكثر، الأمر أخطر من ذلك بكثير، إنك في حياة دنيا كلفك الله أن تزكي نفسك فهل زكيتها؟ كلفك الله أن تتعرف إليه فهل عرفته؟ كلفك أن تعرف رسوله فهل عرفته؟ كلفك أن يأتي عملك وفقاً لسنة رسوله فهل فعلت ذلك؟ حتى يقول الإنسان: ليس في الأرض من هو أسعد مني، حتى تشعر إذا التزمت بأوامر الله عز وجل ونواهيه، حتى تشعر أنك من السعداء، أنك من الموفقين، أنك من المتفوقين، أنك من الفائزين، أنك من المفلحين، لابدّ من أن تمشي على خطين؛ خط العلم وخط العمل، وأن تكون متوازناً بينهما، لأنك إذا عرفت كلام الله عز وجل، واستمتعت بالمعاني الدقيقة، والإشارات اللطيفة، واللمحات الغريبة، وعرفت مدلول الكلمات، ومعاني التراكيب، ولم تكن في حياتك اليومية في هذا المستوى فقد ضيعت الكثير.
المقدمة الرابعة؛ لا بدّ من تعاهُد القلب في إخلاصه:
إذاً حياتك يجب أن تبنى على أعمدة، العمود الأول طلب العلم، طلب العلم بكتاب الله، طلب العلم بسنة رسول الله، بكتاب الله يوم الجمعة، بسنة رسوله القولية والفعلية يوم الأحد، يجب أن تعرف أحوال القلب، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
يا ترى هل أنا مِن الإخلاص، ومن الصدق، ومن التوكل، والخشوع، والمحبة، ومن العمل الطيب، ومن طلب الأسباب.. هذه الأحوال القلبية التي أشار القرآن إليها يجب أن تكون متمثلة في قلب كل مؤمن، إذاً: طلب العلم جانب من جوانب طريق الإيمان.
المقدمة الخامسة؛ الخط المقابل للعلم هو خطّ العمل:
الآن أن تعمل بما علمت هو الجانب الآخر، هو الخط الآخر الذي ينبغي أن تسير فيه، يجب أن تسير في طريق العلم وفي طريق العمل، راجع نفسك عشرات المرات، أحد العارفين يقول: "المنافق يلزم حالة واحدة طوال أربعين عاماً، بينما المؤمن يتقلب في اليوم الواحد بين أربعين حالاً"، لشدة خوفه من الله، لشدة رجائه، لشدة طمعه، لشدة طلبه، لصدق يقينه، بين الخوف والرجاء، وبين الثقة وعدم الثقة، والطمأنينة والقلق، هذه الأحوال المتعددة التي تجري على قلب المؤمن دليل صدقه، أي القضية قضية مصيرية، قضية سعادة إلى الأبد أو شقاء إلى الأبد.
المقدمة السادسة؛ موضعُ المعالجة الإلهية:
إذا خلط الإنسان عملاً صالحاً وآخر سيئاً معناها لابدّ من أن يعالجه الله في الدنيا، أو يعالجه عند سكرات الموت، أو يعالجه في القبر، وفي البرزخ، فالبطولة أن يأتي ملك الموت، وأنت كما ولدتك أمك، لذلك الحديث القدسي المعروف عندكم قال:"يا رب ارحمه، قال: كيف أرحمه مما أنا به أرحمه، وعزني وجلالي لا أقبض عبدي المؤمن، وأن أحب أن أرحمه إلا ابتليته بكل سيئة كان عملها، سقماً في جسده، أو إقتاراً في رزقه، أو مصيبة في ماله أو ولده، حتى أبلغ منه مثل الذر، فإذا بقي عليه شيء شددت عليه سكرات الموت حتى يلقاني كيوم ولدته أمه"، حتى لا تقول: يا أخي، أنا ما استفدت، أنا أمضيت في هذا المسجد عشرين عاماً، خمسة عشر عاماً، عشرة أعوام، حتى تشعر أنك ترقى باستمرار، حتى تشعر أن يومك خير من أمسك، حتى تشعر أن رمضانك هذا خير من رمضان السابق، حتى تشعر أنك في ازدياد دائماً يجب أن تجمع بين خط طلب العلم وخط العمل به، أما إذا اكتفيت بطلب العلم، طلب العلم من غير عمل يُبقي بينك وبين الله حجاباً، لأن أية معصية، وأية مخالفة، وأي تقصير يجعل بينك وبين الله حجاباً، وإذا كان الحجاب أظلم القلب، وشعر الإنسان بالوحشة، وشعر بالضيق، وشعر بالضياع، وسئم الحياة حتى يسأم مباحاتها، حتى يسأم مباهجها. أما إذا استنار القلب بنور الله عز وجل، إذا أقبلت عليه، إذا أخلصت له، إذا كنت وفق السنة الشريفة، إذا جهدت في خدمة الخلق، إذا جهدت في طلب العلم، إذا أردت أن تكون مناراً للناس، إذا أردت أن تكون قدوة للناس عندئذ أنت أسعد الناس.
المقدمة السابعة؛ لئلا يصبح الدين ثقافة لابدّ أن نعيش الإسلام بالعمل:
الذي أتمناه أن هذه الدروس ليست محاضرات تلقى كما تلقى المحاضرات في الجامعات، أي أستاذ يلقي محاضرة، وانتهى الأمر، والمستمع أعجب بهذه المحاضرة، وانتهى الأمر، القضية قضية مصير، قضية جنة لا ينفد نعيمها، أو جهنم لا ينفد عذابها، قضية أن تعيش في الحياة موفقاً، أم أن تعيش في عسر شديد، أن تعيش ولك عمل طيب ترقى به، أو أن تعيش وأنت تدافع التدني، بين أن تتابع الترقي وبين أن تدافع التدني.
أي جميل بالإنسان أن يكون مذنباً توّاباً، أن يراجع نفسه دائماً كلما زلت قدمه، كلما غفل قلبه، كلما قصر عمله، كلما شعر أن حجاباً بينه وبين الله، المؤمن حكيم نفسه، إذا صليت هل تعجبك صلاتك؟ إذا أنفقت مالاً هل عاد هذا العمل عليك بالثواب؟ من أجمل التفاسير التي اطّلعت عليها في مفهوم الثواب أنك إذا عملت عملاً خالصاً لله عز وجل لك عليه ثواب، والثواب من ثاب، وثاب معناه رجع، أي رجع عليك إيناس من الله عز وجل، شعرت أن قلبك يمتلئ سعادة إثر هذا العمل الصالح، فعلامة إخلاصك في عملك الصالح أن القلب يهتز طرباً، أن القلب ينتشي سعادة من جراء هذا العمل، فلئلا يقسو القلب، لئلا تجمد العينان، لئلا يصبح حضور دروس العلم عادة من عوائدنا، لئلا ينقلب الدين إلى طقوس، لئلا تصبح مجالس العلم محاضرات تلقى كما تلقى المحاضرات في الجامعات، أنت لست مستمعاً، أنت ممن يسير في طريق الإيمان، لاحِظْ سنة النبي يجب أن تطبقها في البيت، لاحظ أوامر الله عز وجل، دائماً حاسب نفسك هل أنا في مستوى هذه الأوامر؟ إنك إن فعلت هذا قطفت ثمار الدين، وشعرت أن الدين هو الحياة، وأنه من لا دين له لا حياة له، وأن الله عز وجل حينما وصف أهل البعد بأنهم أموات غير أحياء فقد صدق الله العظيم، وحينما قال الله عز وجل:
﴿
يقول: صدق الله العظيم، وحينما تشعر أن خالق الكون يوقّع حياتك على ما يرضيك، وأن هذا الأمر تمّ بفضل الله، وأن هذا الأمر تمّ بإكرام الله، وأن هذا الأمر تمّ بتوفيق الله، وأن هذا الأمر تمّ بلطف الله عز وجل، إذا كان بينك وبين الله مناجاة.. إذا كان بينك وبين الله دعاء.. إذا كان بينك وبين الله اتصال.. إذا انتشى هذا القلب بذكر الله عندئذ تصبح كوكباً درياً يشيع النور من حوله. فلئلا ينقلب مجلس العلم عادة من عوائدنا، لئلا نكتفي بالسماع، لئلا نثني بألسنتنا على الدروس، وعلى ملقيها، لئلا يصبح هذا مجاملات، أنا أتمنى أن يكون أحدكم أو كل من يحضر هذا المجلس أن يكون ممن يقطف ثمار هذا المجلس، أي افتح مع الله صفحة جديدة، تب إليه من كل مخالفة، تفكر في خلق السماوات والأرض، أكثر من ذكر الله، حاول أن تجعل من صلاتك صلة بالله عز وجل، حاول أن يستنير قلبك بنور الله، إذا فعلت هذا قطفت ثمار هذا الدين العظيم، وشعرت أنك من السعداء في الدنيا، ولا تنس أن بعض العلماء فسر قول النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: عن عبد الرحمن بن عوف:
(( أبو بكرٍ في الجنَّةِ، وعمرُ في الجنَّةِ، وعليٌّ في الجنَّةِ، وعثمانُ في الجنَّةِ، وطَلحةُ في الجنَّةِ، والزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ في الجنَّةِ، وعبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ في الجنَّةِ، وسَعيدُ بنُ زيدِ بنِ عمرو بنِ نُفَيلٍ في الجنَّةِ، وأبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ في الجنَّةِ. ))
أبو بكر في الجنة أنه يقصد النبي عليه الصلاة والسلام أنه الآن في الجنة، في جنة القرب، فكلما استقمت على أمره، وكلما تتبعت سنة رسوله، وكلما قلدت النبي عليه الصلاة والسلام في بيتك، مع أهلك، في بيعك وشرائك، مع إخوانك، جاءتك أنوار النبوة، وجاءك توفيق الله عز وجل، فلذلك كم هي سعادة كبرى أن يكون الإنسان في مستوى هذا الكتاب! أن يجعل من بيته بيتاً مسلماً، أن يجعل من زواجه زواجاً إسلامياً، أن يجعل من مهنته دعوة إلى الله عز وجل، ليقول التجار: انظروا إلى فلان المسلم إنه قدوة، ليجعل من حرفته، إن كان طبيباً، أو صيدلياً، أو محامياً، أو مدرساً، أو موظفاً، أو تاجراً، أو صانعاً، أو صاحب مصنع ليجعل من مهنته مناراً لهذا الدين، انظروا إلى هذا المصنع صاحبه مسلم؟ انظروا إلى تعامله مع الناس؟ انظروا إلى جودة بضاعته؟ انظروا إلى إكرامه لعماله إن كنت صاحب معمل، إن كنت مدرساً، إن كنت طبيباً، ينبغي أن نعيش الإسلام، أخطر ما في الدين أن يبقى في أطراف أدمغتنا معلومات، ثقافات، الإسلام سلوك، الإسلام حياة، الإسلام قلب مستنير، فلذلك إذا اختصرنا الدين إلى درس نحضره، وركعتين نؤديهما، ومبلغ تدفعه إلى الفقير، وأنت لك همومك، وأحزانك، وانشغالاتك، وأنت ممزق بين شهوات الدنيا، أنت ضائع بين الشرك الخفي والجلي، ليس هذا هو الإسلام، أي هذا الدين العظيم، كيف أن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام في بضعة عشر عاماً رفرفت راياتهم في الشرق والغرب، كيف أنهم أحبوا النبي؟ إذا حضرتم درس الأحد ترون بأم عينكم كيف كان أصحاب النبي مع النبي صلى الله عليه وسلم، كيف صدقوه، كيف أحبوه، كيف باعوا أنفسهم في سبيل الله، كيف كانوا كالبنيان المرصوص، كيف أحب بعضهم بعضاً حباً يفوق كل تصور، الله هو الله في كل مكان وزمان.
لا تربى وأنت الرب، والله هذه الكلمة لو عقلناها ، يا رب، لا تربى وأنت الرب، أي قلب هذا؟! خزائن كل شيء بيده، كل المخلوقات بيده، كل الظروف بيده، كل المعطيات بيده، كل القوى بيده، كل من فوقك بيده، ومن دونك بيده، ومن حولك بيده، وما حولك بيده، كل أعضائك وأجهزتك بيده، إذاً، يا رب لا تربى وأنت الرب، لا يحزن قارئ القرآن، إذا قرأت القرآن لا تحزن أبداً، أين الحزن؟ إن جاءت الدنيا على ما تريد فالحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وإن جاءت الدنيا على خلاف ما تريد فالحمد لله على كل حال، قال عليه الصلاة والسلام: عن صهيب بن سنان الرومي :
(( عَجِبْتُ لأمرِ المؤمنِ، إنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، إن أصابَهُ ما يحبُّ حمدَ اللَّهَ، وَكانَ لَهُ خيرٌ، وإن أصابَهُ ما يَكْرَهُ فصبرَ كانَ لَهُ خيرٌ، وليسَ كلُّ أحدٍ أمرُهُ كلُّهُ خيرٌ إلَّا المؤمنُ. ))
أنت غالٍ على الله، أنت مطلوب من قبل الله عز وجل، هو الذي يطلبك، إن تابوا فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب، فإذا وجد الإنسان في بيته مخالفة يا إخوان فلا ينم الليلة، بل يحاول أن يصلحها، إذا كان بِزَيّ زوجته كان زياً غير إسلامي يحاول أن يقنعها، إذا كان في بيته أجهزة لهو تحجبه عن الله عز وجل يحاول أن يمنعها، إذا كان هناك حجاب بينه وبين الله يحاول أن يهتكه، إذا كان له صديق يبعده عن مجالس العلم يحاول أن يقطعه، إذا كان له قريب يغريه بالدنيا يحاول أن يقطعه حتى يستقيم على أمر الله، وحتى يقطف ثمار الدين.
﴿
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( لَا تُصَاحِبْ إِلَّا مُؤْمِنًا، وَلَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ. ))
أخطر ما يواجه المؤمن أنه حينما يلتقي مع غير المؤمن، مع أرباب الدنيا، مع محبي الدنيا، مع الفساق، مع الفجار، هؤلاء يغرونه بالدنيا، ويبعدونه عن طريق الصواب، لذلك أنت حكيم نفسك، الشخص الذي إذا عاملته ...إذا صاحبته... إذا التقيت به... إذا عاملته يرفعك إلى الله عليك بصحبته، والشخص الذي يبعدك عن الله.. يبعدك عن مجالس العلم.. يبعدك عن العمل للآخرة عليك أن تبتعد عنه، إما أن تجره إذا كان بإمكانك أن تجره إلى الدين فأنعِم وأكرِم بهذا العمل، أما إذا كان بإمكانه أن يجرك فلا كانت هذه الصحبة، ولا كانت هذه العلاقة، ولا كانت هذه المودة، لأن الله عز وجل يأمرنا أن نبتعد عن كل رجل من شأنه أن يبعدنا عن طريقه، دقق في قوله تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
المقدمة الثامنة؛ إذا استعصت عليك نفسُك فذكِّرْها بالموت:
من أركان الطريق إلى الله عز وجل أن هذه النفس البشرية إذا استعصت عليك.. إذا أبت أن تطيع الله عز وجل.. إذا استهوتها الدنيا ما المانع أن تذكرها بالموت؟ لأن الله عز وجل كان من الممكن أن يأتي بنا إلى الدنيا دفعة واحدة، وأن نغادرها دفعة واحدة، عندئذ لا موت، ولا حزن، ولكن شاءت حكمة الله أن نأتي إلى الدنيا تباعاً، وأن نغادرها تباعاً ليتعظ بعضنا ببعض.
انظر إلى الذي يتوفاه الله عز وجل، كيف أن الذي جمّعه في ستين عاماً يتركه في ثانية واحدة لمجرد أن هذا القلب توقف عن النبض، أحياناً يتوقف القلب فجأة، وأحياناً يتباطأ ثمانين ضربة في الدقيقة، إلى سبعين، إلى ستين، إلى خمسين، وقفت أمام ميت تباطأت ضربات قلبه حتى الصفر، حتى قال الطبيب: عظّم الله أجركم، فإذا توقف القلب كل الذي حصّلته في الدنيا تخسره في ثانية واحدة، وأنت مقدم على حياة أبدية، على حياة لا تنقضي، على جنة لا ينقضي نعيمها، أو على نار لا ينفد عذابها، فالإنسان إذا استعصت عليه نفسُه... إذا غلبته نفسه.. إذا رأى نفسه مقيمة على معصية فعليه أن يذكرها بالموت، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
إذاً: كلما استعصت عليك نفسك، كلما غلبتك نفسك، كلما تاقت نفسك إلى الدنيا، علاجها أن تفكر بالموت.
هذا من مضمون هذا الدرس:
أعمدة طريق الإيمان:
1 ـ طلب العلم :
شيء آخر:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾
إلقاء السمع أحد أركان الإيمان، أن تحضر مجلس علم، أن تتعلم ما علمت، أن تسأل به خبيراً، أن تفهم كتاب الله، إذاً: حضور مجالس العلم أحد دعائم طريق الإيمان، طلب العلم، وهذا الوقت الذي تحضر به درس العلم هو زكاة وقتك، فإذا أنفقت زكاة وقتك بارك الله لك في وقتك.
الله عز وجل من الممكن أن يهدر لك عشرات الساعات، بل مئات الساعات لأسباب سخيفة جداً، شيء ينكسر في آلة عندك، قد يستهلك من وقتك عشرات الساعات، ارتفاع حرارة ابنك قد يستهلك من وقتك عشرين ساعة بين طبيب، ومحلل، ومراجعة، وتأمين دواء، ومتابعة، إذاً إذا ضننت على الله عز وجل بساعة تعرف فيها كلامه، إذا ضننت على الله عز وجل بوقت تتعلم فيه سنة رسوله، إذا ضننت على الله بوقت تعرف فيه سيرة رسوله، إذا ضننت على الله بوقت تعرف فيه أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، إذا ضننت على الله بوقت تعرف فيه أحوال القلب المؤمن فربما أهدر الله لك عشرات بل مئات الساعات بموضوعات سخيفة جداً لا تقدم ولا تؤخر، فإذا حضرت مجالس العلم فإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، اقرأ قوله تعالى:
﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى(4)﴾
هذا يركض ليحضر حفلة لا ترضي الله عز وجل، وهذا يقود مركبته ليوقع أذى في إنسان، وهذا يجتهد ليقيم دعوى على فلان، وهذا ليقتنص شهوة، وهذا ليكسب مالاً حراماً، أما المؤمن فيسارع إلى بيت الله ليتعلم كتابه، ليتعلم أحكام دينه، ليتعلم سيرة رسوله. إذاً: أحد أعمدة طريق الإيمان طلب العلم.
2 ـ التفكر في خلق السماوات والأرض:
أحد الأعمدة الأخرى التفكر في خلق السماوات والأرض، كلما مرت بك آية، كلما مرت بك ظاهرة في صحتك، في جسدك، في أعضائك، في طعامك وشرابك، في أهلك، في أولادك، في من حولك، فيما حولك، قيل: "أُمرت أن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة"، فإذا كان في جانب من جوانب حياتك تفكرت في خلق السماوات والأرض، وفي جانب آخر حضر مجالس العلم، وكلما استعصت عليك نفسك تفكرت في الموت.
3 ـ إقامة الصلاة:
الجانب الثالث الصلاة، إذا أديت الصلوات الخمس أداء يرضي الله عز وجل، إذا أتقنت ركوعها وسجودها، إذا أردت أن تكون في الصلاة خاشعاً، وإليها مسرعاً، فهذا عماد آخر من أعمدة طريق الإيمان، بقي عليك أن تتحرى أمر الله عز وجل، وأن تستقيم على أمره في كل صغيرة وكبيرة، لا شيء يملأ قلبك سعادة من أن تشعر أنك سائر على منهج الله، وأنك وفق الصراط المستقيم، وأنك وفق الأمر والنهي.
إذاً التفكر في خلق السماوات والأرض، وحضور مجالس العلم، والتفكر في الموت إذا استعصت عليك نفسك، والاستقامة على أمر الله لأنها أساس الإقبال على الله، والأعمال الصالحة التي هي زادك في الآخرة، هي العملة المتداولة.
الموت شيء يجب أن نُعد له عدته:
سؤال صغير؛ إذا أردت أن تذهب إلى العمرة، أول شيء يخطر على بالك الريال السعودي، كيف أشتريه؟ ما سعره اليوم؟ من أين أشتريه؟ كم من الريالات مسموح أن آخذه معي؟ هذا أكبر سؤال، وإذا أردت أن تذهب إلى بريطانيا الجنيه، إلى فرنسا الفرنك، إلى روسيا الروبل، إلى أمريكا الدولار، أما إذا أردت أن تذهب إلى الله فما الذي ينبغي أن يشغل فكرك؟ العملة المتداولة هناك العمل الصالح، ماذا أعددت من عمل صالح؟ ماذا فعلت؟ جئت إلى الدنيا وغادرتها ما الذي فعلته في الدنيا؟ هل ربيت أولاداً صالحين؟ هل كنتَ في حرفتي ناصحاً للمسلمين؟ هل قدمت لهذا المجتمع المسلم خدمة ثمينة؟ هل كنت عضواً نافعاً؟ هل كنت عضواً شريراً؟ هل دعوت إلى الله؟ هل علمت العلم؟ هل علمت القرآن؟ هل علمت تجويد القرآن؟ هل علمت أحكامه؟ هل علمت آياته الكونية؟ هل طبقته؟ يا بشر: لا صدقة ولا جهاد فبمَ تلقى الله إذاً؟ هذا أكبر سؤال.
إذا جاء ملك الموت، والموت لا يعرف صغيراً ولا كبيراً، لحكمة أرادها الله يموت المرء شاباً، ويموت كهلاً، ويموت شيخاً فانياً، ويموت بمرض، وبلا مرض، يموت إثر مرض عضال، وإثر صحة جيدة، كل الأحوال تمر على الإنسان، إذاً الموت شيء يجب أن نُعد له عدته.
أنا أردت من هذه المقدمة ألا تنقلب مجالس العلم إلى سلوك يومي، إلى سماعٍ وهزّ الرأس، والحمد لله على الإسلام، والسكنى بالشام، الحمد لله، هذه الأقوال التي يقولها عامة الناس، الإسلام التزام، الإسلام سلوك، الإسلام منظومة قيم، الإسلام يدخل في بيتك، يتعلق بعملك، يتعلق بكلامك، يتعلق بلهوك، الإسلام نظام كامل، نظام دقيق يدخل في كل جزئيات حياتك.
محاسبة الناس على التطبيق:
لذلك أيها الإخوة الأكارم؛ قلت لكم في درس سابق: إنكم تحاسبون لا على سماعكم، بل على التطبيق، وأنا أُحاسب لا على إلقاء الدرس، بل على تطبيقه، فقد يسأل الله المستمع: هل استجبت لما قيل لك؟ وقد يسأل الله المتكلم: هل كنت في مستوى كلامك؟ فلا كلامي له قيمة عند الله عز وجل إن لم أطبقه، ولا سماعكم له قيمة عند الله عز وجل إن لم تطبقوا ما تسمعون، وهذه الكلمة أردت منها وجه الله عز وجل، وأن يكون الانتماء لهذا المسجد انتماءً حقيقياً، وأن يكون هذا المجتمع مجتمعاً مسلماً، لا أن يكون هذا المجلس أفراداً يستمعون إلى محاضرة، بل يكونوا مؤمنين، متوادين، متناصحين، متآخيين، متزاورين، متباذلين، متكاتفين، متعاونين، إذا رأى الناس مجتمعاً مسلماً هذا أفضل من مليون محاضرة.
سمعت قصة والله هزّت كل مشاعري، رجل عنده بيت أراد أن يبيعه، رأى هذا البيت إنسان قال: يا سيدي، بكم تبيعني هذا البيت؟ قال له: هذا البيت ثمنه ثلاثمئة ألف.. قصة قديمة.. وأنت أحببتك، سأبيعك إياه بمئتين وتسعين ألفًا فهل اشتريت؟ قال له: اشتريت، ولم يكن بينهما إلا هذا الإيجاب والقبول فقط، لحكمة أرادها الله عز وجل جاء إنسان آخر لصاحب البيت في اليوم التالي، فحينما رآه أعجبه جداً، وقال: أنا أشتري هذا البيت بثلاثمئة وخمسة وعشرين ألف ليرة، فما كان من صاحب البيت إلا أن قال: لقد بعته، وانتهى الأمر، ولن أبيعه مرة ثانية، أصبح الآن ملكاً لفلان، فإذا أعجبك البيت فاذهب إليه واشترِه منه، وليس بينهما إلا المباركة، لا يوجد ورقة، ولا قلم، ولا عقد، ولا عربون، ولا ما يسمى في العقود غرامة نكول، أبداً.
الشاري علم أن شخصاً في اليوم التالي دفع فيه 325 ألفاً، فتألم ألماً شديداً، وظنّ أن البائع نكص وقد نقض عهده معه، الموعد بعد أسبوع، بعد أسبوع وجد الوضع طبيعياً، جاء إلى البائع، وقال له: البيت جاهز، وهذا مفتاحه، وهذا عقد التنازل، وانتهى الأمر، هو شده، ما هذه الأخلاق؟! إنسان قبل عشر سنوات يفوت عليه خمسًا وعشرين ألف ليرة لا لشيء إلا لأنه قد قال: لقد بعتك، والبيت مبارك لك. قال لي هذا الرجل بعد أربعة أسابيع: البيت تابع إلى جمعية تعاونية، فرضوا على صاحب البيت الأول المالك سبعة وعشرين ألف ليرة، فما كان من شاري البيت إلا أن وضع هذا المبلغ في مغلف، وأرسله إلى صاحب البيت الأول، وقال: هذا عليّ، وليس عليك، هكذا الإسلام، الأول بقي عند كلمته، والثاني عرف للأول كماله، ومواقفه الطيبة، فنحن إذا طبقنا الدين شعرنا بسعادة لا توصف، والله الذي لا إله إلا هو الحقيقة الإنسان لا يسعد بالطعام والشراب، ولا بالبيت الفخم، يسعد بعلاقته الطيبة مع أخيه الإنسان، يسعد بمجتمع مسلم، يسعد بمجتمع فيه المحبة، والألفة، والصراحة، والنصح، والرحمة، والمودة، بهذا يسعد.
مجتمع المؤمنين: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ:
إذا كنا نحن على مستوى مجتمع صغير، على مستوى رواد هذا المسجد لنكن إخوةً، الله عز وجل ماذا قال؟ قال:
﴿
﴿
دقة القرآن الكريم عجيبة، المؤمنون بعضهم أولياء بعض، المؤمن ولي أخيه المؤمن، ينصحه، ويرشده، ويحذره، ويحرص عليه، ويخاف على سمعته، ويرجو له الخير، ويخاف عليه من الشر، وليه، كيف أن الولي، أنك أب وعندك ابن غالٍ عليك، كيف أنك تحرص على صحته، وعلى تحصيله العلمي، وعلى دراسته، وعلى مستقبله، وعلى أخلاقه، وعلى دينه، تجد نفسك دائماً في رغبة جامحة للعناية به، أنت وليه، والتعبير الشائع في المدارس أرسل وليّ أمرك، من هو؟ الأب، الأخ الكبير، العم،
من بنود الولاية للمؤمنين المؤاخاة في الله:
أنا أحياناً -هذه الملاحظة العابرة- أخ من إخواننا الكرام يتغيب عن دروس العلم، والله من يومين أخ لاحظت أنه لم يأت من أربعة أسابيع، والله قلقت عليه قلقاً كبيراً، يا ترى هو مريض؟ يا ترى أصابته مشكلة؟ يا ترى إنسان ألقى عليه شبهة؟ يا ترى زاغت نفسه؟ ثم علمت أنه مسافر، قلت: يل ليت الذي يسافر يعلم فقط أنني مسافر لأرحت أخاك راحة كبيرة، بدل أن يفكر أنك انقطعت، أو أنك وقعت في شبهة، أو أنك مريض، أو أنك تعاني من مشكلة، كل هذه الاحتمالات وهذه الوساوس وهذه الخطرات تريحنا منها لو قلت: أنا مسافر إلى المكان الفلاني انتهى الأمر، بارك الله لك في سفرك، ورافقتك السلامة، وندعو لك.
هذا مجتمع، أنت تعيش في مجتمع، تعيش مع إخوانك المؤمنين، أنت منتمٍ إلى مسجد، إلى جماعة مؤمنة، فيجب أن نتمثل هذه التوجيهات النبوية، النبي عليه الصلاة والسلام قال: "تآخيا اثنين اثنينِ"، ألا تريد عملاً صالحاً؟ أقلُّ عمل صالح في هذا المسجد أن تؤاخي أخاً تتفقده من حين لآخر، لعله مريض، لعله مصاب بمشكلة، لعله يعاني أزمة، لعله خلاف مع زوجته، فإذا تفقدت أخاك، وعرفت أحواله، غاب عن الدرس فسألت عنه، اختر أخاً وآخه في الله، وهو عملك الصالح، قد يكون هو أعلى منك، ليس هناك مانع، قد يكون أكبر منك سناً، لكن أنت اختر أخاً بحسب مهنتك، بحسب مسكنك، بحسب عملك، بحسب مجيئك إلى المسجد، هذا الأخ إذا تآخيت معه، وتفقدت أمره، وتفقد أمرك، تفقدت غيابه، وتفقد غيابك، واسيته في مرضه، وواساك في مرضك، أصلحت بينه وبين زوجته، وأصلح بينك وبين زوجتك، أعلمتني عن كل أحواله فساهمت معك في خدمته، هذا مجتمع مؤمن، هذا المجتمع الذي يرضي الله عز وجل.
القضية أعظم من أنه درس ألقي، ومستمع استمع، أعظم بكثير، أنت منتمٍ إلى جماعة مؤمنين، يمكن موقف أخلاقي، معاونة سابقة أخيك أبلغ عنده مِن ألف محاضرة، ما قيمة الكلام؟ أنت بحاجة إلى أخ إلى جانبك يرعاك، إذا كان الجار العادي كما قيل: "أتدرون ما حق الجار: إذا استعانك أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فأهدِ إليه منها، فإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها"، إذا كان الجار، وإذا كان الجار مسلماً فله حقان عليك، جار مسلم قريب له ثلاثة حقوق، أما الأخ في الجامع فله أربعة حقوق، هذا الأخ مسلم، وجارك في المسجد، وقرابة الإيمان أعلى قرابة، وقرابة الأخوّة في الله أعلى قرابة، فلذلك الذي أتمناه عليكم أن تتآخيا اثنين اثنَين، اختر أخاً لك، جارك في البيت، زميلك في العمل، مقارباً لك في السن، في الحرفة، تفقده وليتفقدك، زره وليزرك، اسأل عنه وليسأل عنك، أبلغني عنه إذا كان بالإمكان أن أقدم خدمة له، هذا المجتمع أساسه متين، المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، أخوك تألم اعتذر منه، قدِّم له هدية تجلو بها قلبه.
أحياناً يقع سوء تفاهم بين أخوين في المسجد، قد يصبح هناك حساسية مفرطة، أو شيء من الغيرة أحياناً، أو تقصير، أو ضعف، فأنت عليك أن تجعل منك ومن أخيك بنياناً مرصوصاً يشد بعضه بعضاً، فهذه المقدمة لعلي أطلت فيها، أردت منها ألا يكون حضورنا لمجالس العلم حضوراً شكلياً، أريد أن يكون انتماؤكم لهذا المسجد انتماءً حقيقياً، انتماء لجماعة المؤمنين، قال تعالى:
﴿
لا تكون مؤمناً إلا إذا كنت أخاً لأخيك المؤمن، إنما تفيد الحصر، لا تكن مؤمناً إلا إذا شعرت بالأخوة الصادقة مع أخيك المؤمن، وأي مؤمن، إياك أن تظن أن المؤمنين هم الذين يحضرون معك مجلس العلم، لا.. يجب أن يكون انتماؤك إلى أي مؤمن مادام هذا الرجل قد عرف الله، واستقام على أمره، وأحبه، وعمل لآخرته فهو مؤمن يجب أن تنتمي إليه، وأن تحبه، وأن تعينه، وأن تنصره.
الحق والباطل:
آيات اليوم، الله سبحانه وتعالى يقول:
أَلا كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللَهَ باطِلُ وَكُلُّ نَعيمٍ لا مَحالَةَ زائِلُ
* * *
فأنت إما أن تربط مصيرك مع شيء زائل سرعان ما يتهاوى.. سرعان ما يتداعى.. سرعان ما ينتهي.. سرعان ما تُكشف حينما يزول، وإما أن تكون مع الثابت مع الحق، إن كنت مع الحق فالله سبحانه وتعالى لا يحول ولا يزول، إن كنت مع الحق فأنت في صعود، إن كنت مع الباطل فأنت في نزول، إن كنت مع الحق فأنت في ثبات، وإن كنت مع الباطل فأنت في زلزال، إن كنت مع الحق فأنت في تقدم، وإن كنت مع الباطل فأنت في تأخر،
المعنى الآخر الحق الشيء السامي، الثابت والسامي يقابل الباطل اللعب.
﴿
الباطل هو الزائل.
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)﴾
إذاً: الحق دائماً على عكس الباطل الزائل، وعلى عكس اللعب العابث، فأنت إذا كنت مع الله فهو الثابت، وهو العظيم، وهو الكامل،
لا حقّ إلا ما حقّه الله:
لو أن الله سبحانه وتعالى قال: ذلك بأن الله حق، ما الفرق بين التعبيرين؟ ذلك بأن الله حق، أي قد يكون هناك حق آخر غير الله عز وجل، الله حق وهناك حق آخر، أما ذلك بأن الله هو الحق أي لا حق سواه، إذا جاء الخبر معرفاً بـ (ال) فهو أحد أنواع القصر، أي الحق هو الله، ولا حق سواه،
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
أنت مع الدائم، مع الأبدي السرمدي، مع الذي لا يحول، ولا يزول، أما مع الأشخاص، علقت الآمال على إنسان فيُعزل من منصبه، علقت الأمل على فلان فمات، علقت الأمل على هذا القرار فألغي القرار، علقت الأمل على زيد فمات زيد، علقت الأمل على عبيد فتنكر لك عبيد بلا سبب، فكل ما سوى الله باطل، أشخاص، أفكار، أيّ شيء ما سوى الله باطل، فالبطولة أن تكون مع الحق لا مع الباطل.
الباطل قد يكون فكراً وعملاً وسلوكاً واعتقاداً:
هناك فكر باطل، وعقيدة باطلة، ومذهب باطل، واتجاه باطل، وتجمع باطل، وسلوك باطل، وعمل باطل، ومهنة باطلة، إياك أن تكون مع الباطل، كن مع الحق، والحق من معانيه السمو، إياك أن تسفل. عن الحسين بن علي بن أبي طالب
(( إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ مَعاليَ الأُمورِ، وأَشرافَها، ويَكرَهُ سَفْسافَها. ))
وجوب إخلاص الوجهة لله تعالى وحده:
إذاً في هذه الآية إشارة إلى ثلاثة أشياء أساسية، إلى أن الله واجب الوجود هو الحق، وإلى أن الله عز وجل منزه عن كل نقص، وإلى أن الله ذو أسماء حسنى وصفات فضلى، إذاً موجود وجوداً واجباً، الواجب الوجود هو الله، ومنزّه عن كل نقض، ومتصف بكل كمال، هذا هو الله عز وجل، موجود، كامل، منزّه عن النقص، هل يمكن أن تتجه لغير الله عز وجل؟ هل هناك جهة في الأرض تستحق أن تلتفت إليها؟ هل يمكن أن تمضي عمرك الثمين لغير الله عز وجل؟
معجزة جريان الفلك في البحر:
المؤمن يعظِّم صنعة الخالق:
الإنسان لضعف إيمانه يتجه إلى تعظيم مصنوعات الخلق، بينما المؤمن يتجه إلى تعظيم صنعة الخالق، إذاً:
أنت املأ وعاء من الماء، وضعه في حوض، تشعر أن وزنه انخفض إلى الربع، قوة تدفع نحو الأعلى، هذا قانون قننه الله عز وجل رحمة بنا، لو أن كل شيء انغمس في الماء غاص إلى أعماقه أصبح البحر حاجزاً منيعاً بين القارات.
البحر طريق وهمزة وصلٍ بين القارات:
أما بفضل هذه الخاصة التي جعلها الله في الماء أصبح البحر أداة اتصال بين القارات، أي طريق معبد، الطرق المعبدة في البر تكلف مئات الألوف بل ملايين والملايين، بينما البحر كله طريق، والحمولات كبيرة جداً، مليون طن.
الآن هناك مراكب ناقلات نفط، بواخر عملاقة تحمل مليون طن، هل هناك مركبة تمشي على عجلات، إذا أردنا أن ننقل معملاً على طريق قال: يجب أن نعدل كل الجسور، لأن وزن هذه المحطة ثلاثمئة طن، ولا يوجد جسر من طرطوس إلى دمشق يتحمل ثلاثمئة طن، إذاً الطرق البرية متعبة جداً، ومكلفة جداً، الله جعل البحر همزة اتصال بين القارات، طريق معبد، لذلك تجد عشرات بل مئات بل ألوف الألوف من المراكب كلها تنقل السلع والمواد والخيرات والمحاصيل والأغذية والآلات بين القارات، هذا من فضل الله عز وجل.
الماء من آيات الله:
هذه آية أمام أعيننا،
الماء في الدرجة(+4) إذا جمدته يزيد حجمه، لولا هذه الظاهرة لانعدم المطر، وانعدم النبات، ومات الحيوان، وتبعه الإنسان، وانتهت الحياة من على سطح الأرض، إذا تابع الماء انكماشه في التبريد، الماء درجته ثلاثون تبرّده ينكمش إلى الدرجة (+4)، إذا تابعت تبريده يزداد حجمه، فإذا ازداد حجمه، وآلية ازدياده معقدة تعقيداً يصعب فهمه، هذه من آيات الله. ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ أية آيات الله ننكر؟!
على الإنسان أن يكون كثير الصبر على الأمر التكليفي والتكويني:
وشكور لنعمة الإيجاد، وشكور لنعمة الإمداد، سخر لك الماء، والهواء، والطعام، والشراب، والزوجة، والولد، والمأوى، والصوف والقطن، والألبسة، والمعادن، وأشباه المعادن، والغازات، والمائعات، والسوائل، لكل صبّار شكور على نعمة الإيجاد، وعلى نعمة الإمداد، وعلى نعمة الهدى والرشاد.
نموذج بشريٌّ متكرِّر: وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوٌجٌ كَالظُّلَلَ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ:
البطولة معرفةُ الله في الرخاء والشِّدة:
البطولة أن تعرفه وأنت صحيح، وأن تعرفه وأنت غني، وأن تعرفه وأنت شاب، وأن تعرفه وأنت في بحبوحة، وأن تعرفه وأنت قوي، هذه البطولة، أما إذا جاء المرض، إذا جاء الضيق، إذا فقدت حريتك، إذا ألمّ بك ما ألمّ: يا رب، ليس لي غيرك، هذه نموذج بشري متكرر، اسمعوا إلى قوله تعالى:
من أسوأ ما في نهاية النجاة نسيانُ فضلِ الله:
والله سمعت أن قائد الطيارة الذي قادها إلى برّ السلامة نسي جميع الركاب أن الله لطف بهم، وعزوا هذا إلى أعصاب الطيار المتينة، لو أن الله عز وجل أضعف مقاومته لانهار مع الركاب، وكانوا كلهم في نعوة واحدة، ويقول لك: مات جميع ركابها،
في الدرس القادم إن شاء الله نكمل تفسير قوله تعالى:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين