- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (034)سورة سبأ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العاشر والأخير من سورة سبأ، وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية التاسعة والأربعين من سورة سبأ، وسوف نمهِّد لها بالآيات التي قبلها، الله سبحانه وتعالى يقول:
تمهيد:
﴿
1 ـ الطعن في القرآن والأنبياء سنة المعاندين:
بماذا طعنوا؟ طعنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، ليس نبياً، وليس رسولاً، إن هو إلا رجلٌ له مصالح شخصية.
2 ـ آيات كونية وشرعية تدل على الله:
3 ـ تهمة قديمة متجدِّدة: الدين سحرٌ:
الدين سحر، والناس حتى هذه الساعة إذا تدين الرجل، واستقام على أمر الله، وأحق الحق وأبطل الباطل، وقال: هذا حرامٌ وهذا حلال، وهذا يجوز وهذا لا يجوز، وهذا مقبول وهذا غير مقبول، إذا دخل في عالم القيَم، دخل في عالم المنهج الإلهي، أراد أن يطبِّق المنهج، يقال له: من سَحَرَكَ؟ أريد أن أطبق منهج ربي، يقال له: لِمَ هذا التزمُّت؟ ليس هذا تزمتاً.
﴿ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ(44)﴾
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ
أي أنتم أيها العرب هل جاءكم رسولٌ منكم قبل هذا الرسول حتى تتمسكوا به، وتقولوا في ضوء رسولنا: إنّ هذه الدعوة باطلة، ما جاءكم رسولٌ منكم عربيٌ قبل هذا الرسول، وما جاءكم كتابٌ قبل هذا القرآن، والخطاب الآن للعرب، لأنه لو كان هذا الخطاب لعامَّة الناس بما فيهم أهل الكتاب، وبالطبع أهل الكتاب جاءهم رسولٌ وهو سيدنا موسى وسيدنا عيسى، وجاءهم كتاب وهو التوراة والإنجيل، هنا الخطاب خاصٌ للعرب.
﴿ وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ(44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(45)﴾
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ
1 ـ إهلاك الله للأمم السابقة المكذّبة:
هذه الآية لها طعم خاص، أي أن هذا المُعْرِض، هذا المكذِّب، هذا الكافر، هذا الجاحد، لو كان قوياً، الله عزَّ وجل أهلك من هو أقوى منه، لو كان غنياً أهلك من هو أغنى منه، لو كان ذكياً أهلك من هو أذكى منه، لو كان معتداً بمنجزاتٍ كبرى، أهلكَ من أشاد الآثار التي هي باقيةٌ حتى الآن، فأصحاب الأهرامات في مصر، وأصحاب آثار تدمر والأنباط والغساسنة، وقوم عاد وقوم ثمود، هؤلاء تركوا آثار تكاد تكون معجزةً، ومع ذلك أهلكهم الله عزَّ وجل، فالإنسان حينما يحمله غناه على أن يُنْكِر، حينما تحمله قوته على أن يجحد، حينما يحمله مركزه القوي على أن يكذِّب، نقول له: لقد أهلك الله من هو أقوى منك، ومن هو أغنى منك، ومن هو أذكى منك.
2 ـ قريشٌ لم تبلغ ما بلغته الأمم السابقة في الحضارة:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ
إذا أراد ربك إنفاذ أمرٍ أخذ من كل ذي لبٍ لُبَّهُ، ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
3 ـ ادرسْ قبل أن تكذِّب:
الآن يقول الله عزَّ وجل لهؤلاء الذين ركبوا رأسهم، وأنكروا نبوة نبيهم، وكذبوا رسالة ربهم، وأنكروا الدين في الأصل كله، هناك دعوةٌ هادئةٍ إلى التفكر، أي قبل أن تكذِّب أيها الإنسان، قبل أن تجحد، قبل أن تستهزئ، قبل أن تقول: هذا لا يقبله عقلي، قبل أن تستنكر، تعال اجلس، وفكر، وتأمل، وابحث، ودقق، وبعد كل هذه الدراسة، وكل هذا التأمُّل، وكل هذا البحث والدرس أنكرت، نقول لك: معك الحق، ولكن تنكر قبل أن تدرس، تُنكر قبل أن تبحث، تنكر قبل أن تتأمَّل، تنكر قبل أن تُحاول معرفة الحقيقة! هذا الموقف موقف غبي جداً.
اقرأ الرسالة، وبعدئذٍ ألقها في سلة المهملات، أما أن تأخذ رسالةً مختومةً لا تعرف من أرسلها، ولا تعرف فحواها، تمسكها وتلقي بها في سلة المهملات، هذا موقف غبي جداً، وهذا الذي يُعرِض عن فهم كتاب الله، ويحاول أن يقول: هذا كلامٌ لا يصلح لهذا الزمان قبل أن يقرأه، وقبل أن يفهمه، هذا موقفه غبيٌ جداً.
فيا أيها الإخوة الأكارم، قبل أن تصدر حكماً ادرس الأمر مَلِيّاً، قبل أن تحكم؛ دقق، حقق، ابحث، وازن، تفهَّم، هذا موقف علمي، لذلك:
﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ
شاهدت، كيف تُسأل عن مشاهداتك؟ هذه المشاهدات ألم تستنبط منها حقيقةً؟
سمعت، هذا الذي سمعته ألم يكن لك إنذاراً وتوعيةً ولفتاً للنظر؟ هذا التفكر الذي فكرت به، لمَ لم تهتدي به إلى الله عزَّ وجل؟ لذلك جاء الآن التوجيه توجيهٌ هادئٌ إلى هذا الإنسان: أن يا إنسان قبل أن تعارض، قبل أن تنكر، قبل أن تهمل، قبل أن تكذب..
﴿
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ
1 ـ مخاطبة العقل والقلب معا:
لذلك الداعية الصحيح هو الذي يخاطب العقول، ويخاطب القلوب معاً، فالإنسان له عقل، والإنسان بالفطرة حريصٌ على سلامته، وحريصٌ على سعادته، يحب وجوده، ويحب سلامة وجوده، ويحب كمال وجوده، ويحب استمرار وجوده، فإذا أردت أن تدعوه إلى الله عزَّ وجل فاستعن بحاجاته الأساسية، استعن بما أودع الله فيه من رغباتٍ ثابتة، استعن بفطرته، استعن بطبيعته الإنسانية.
﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(27)﴾
أم:
﴿ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ(1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ(2)﴾
أم تنطبق عليَّ آية:
﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي
أم تنطبق علي النفس الظالمة، أو الشحيحة، أو المُخادعة، أو الآثمة، أو المنحرفة، أو المتكبِّرة، أو المستعلية، أنا أي إنسان في القرآن؟ هذه وقفة التأمُّل.
2 ـ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى
أحياناً بعثة، شهادة، منزل، مزرعة، تجارة، لو فرضنا وكيل شركة والشركة أعطت الوكالة لغيرك، هل تبقى قاعداً؟ أم تنهض وتحاجج هذه الشركة، وتشتكي عليها، وتبحث وتسأل، كيف السبيل؟ تراسل، تأتي بموظف يتقن اللغة الأجنبية، انظر إلى هذه الوقفة، أنت تقف أحياناً، إذا كان الأمر يهمك تقف.
3 ـ الموت أخطرٌ حدثٍ مستقبلي:
قلت: سبحان الله! بيتٌ يعدُّ من أرقى البيوت في هذه المدينة، حينما كان أغلى بيوت دمشق مليون، كان ثمنه ثلاثين مليوناً؛ الرخام وحده كلَّف كذا مليون، طوابق، حدائق، أنا رأيت هذا البيت بأم عيني، وقيل لي صاحبه حينما دُفن جاء القبر أقصر من طول قامته، فدُفع في صدره دفعاً حتى يستقر في أرض القبر.
إلى متى أنت باللـذات مشــغول وأنت عن كل ما قدمت مسؤول
﴿ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ(59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ(60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ(61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا(62)﴾
4 ـ ليس في الرسول مسٌّ من الجن:
﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(128)﴾
5 ـ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
ما هو النذيرُ ؟
سؤال لعله محرج، كل منا ليسأل نفسه هذا السؤال: هل بقي بقدر ما مضى؟ كيف مضى الذي مضى؟ إذا كان الذي مَضى مضى كلمح البصر، إذاً: الذي بقي سوف يمضي كلمح البصر، وبعدئذٍ أواجه الدار الآخرة، أواجه الحق، أواجه المسؤولية، أواجه تبعة العمل.
6 ـ النبي نذيرٌ بين عذاب الله:
إن الذي يعصي الله عزَّ وجل لابدَّ من أن يكون أحد رجلين، إما أنه جاهل، وإما انه كافر، إن كان المرض أشد عندكِ من النار فما أجهلكِ، وإن كان الطبيب أصدق عندكِ من الله فما أكفركِ.
﴿ قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(47)﴾
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
من علامات إخلاص الداعي عدمُ رجائه الأجر من الناس:
هذه علامة إن شاء الله صادقة لكل دعوة مخلصة، مُنزَّهة عن كل مقصد دنيوي، منزهة عن كل مطمح مادي، لا علاقة للدعوة إلى الله بالدنيا كلها، فحينما ترى هناك فصلاً واضحاً بين الدنيا وبين الدعوة إلى الله، أما إذا تداخلت الدنيا مع الدعوة إلى الله عندئذٍ تدخل الشكوك، وتدخل الظنون، لماذا شاء الله عزَّ وجل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام فقيراً مثلاً؟ لو كان نبياً كما كان، لكنه غني جداً، ومُنعَّمٌ جداً، ومُرَفَّه جداً لداخلَ الناس شكٌ في دعوته، لعله فعل هذا من أجل الدنيا، لعله فعل هذا من أجل حطامها، لعله فعل هذا من أجل مالها، لكن جاء الحياة فأعطى ولم يأخذ، لم يأخذ شيئاً، غادر الدنيا كما جاءها، وهذا وسام شرف له، أتحب أن تكون نبياً ملكاً أم نبياً عبداً؟ قال بل نبياً عبداً، أجوع يوماً فأذكره، وأشبع يوماً فأشكره.
﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ(48)﴾
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ
من آيات الله في الناس معاقبة المسيء وتوفيق المحسن:
يقذف بالحق، في الدرس الماضي بيَّنت أن دائماً وأبداً ترى وجود الله واضحاً، يعبر عنه العوام بكلمة: الله كبير، أحياناً الله عزَّ وجل ينتقم من الظالم انتقاماً مروِّعا، وأحياناً يوفق الضعيف المستقيم توفيقاً رائعاً، توفيقاً أو بطشاً، أحياناً يهب لمن يشاء الذكور بعد عُقْمٍ يائس، دائماً وأبداً ترى آيات الله بإكرام المستقيم، وبمعاقبة المنحرف، قال بعض العارفين:
قد تضع خطةً محكمةً دقيقةً دقيقة دَقيقة، وقد حبكتها من كل الجوانب، وغطَّيتها من كل الوجوه، وأغلقت كل الثغرات، وبعدئذٍ تُفاجَأ بخطرٍ لم يكن في الحسبان، إذاً: هذا هو الله، ليس مع الله ذكيٌ أبداً، يا رب لا ينفع ذا الجَد منك الجَد، صاحب الذكاء والحيلة، وصاحب التخطيط، وصاحب المكر والخداع، هذا عند الله عزَّ وجل لا شيء.
﴿ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ(49)﴾
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
فالباطل لا يصنع شيئاً، ولا يعيد شيئاً، الله سبحانه وتعالى هو الحق، وكلامه حق، ودعوته حق، ووعده حق، ووعيده حق، وهذا مما يلقَّن به الميت، أشهد أن النار حق، وأن الجنة حق، وأن القرآن حق، وأن النبي حق، معنى حق أي مستقر وثابت، شيءٌ لا يتغير، الحق هو الشيء الثابت، الشيء الذي لا يتغيَّرُ أبداً.
﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ(50)﴾
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ
1 ـ الهدى من فضل الله تعالى:
إن الإنسان إذا عرف الله عزَّ وجل فهذا من فضل الله، إذا عرف الله، واهتدى بهدي الله، وطبق سُنَّةَ رسول الله، واستقام على أمر الله، وأجرى الله على يده الخير، هذا كله من فضل الله، وإن فعل شيئاً آخر فهذا من تقصيره، وهذا من ضعفه.
2 ـ الضلال يُعزا إلى الإنسان كسبًا:
أنا أقول هذه الكلمة: إن رأيت كمالاً من إنسان فهذا من فضل الله عليه، وإذا رأيت نقصاً فهذا من عدم عصمته أولاً، ومن عدم اتباعه للنبي ثانياً، وهذا الحق، وليس هذا من باب الأدب، هذا هو الحق، الفضل يُعزا إلى الله، والشر يُعزا إلى الإنسان.
إشارة لطيفة:
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)﴾
لم يقل: وإذا أمرضني فهو يشفيني:
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ
1 ـ كيف هي حال الضالين يوم القيامة ؟
﴿
أي يا محمد لو ترى هؤلاء الخصوم، هؤلاء العارضين، هؤلاء الملحدين، هؤلاء المكذبين، هؤلاء المرجفين، ولو ترى هؤلاء الذين كذبوا رسالتك، وكذبوا نبوَّتك، وكذبوا كلام الله عزَّ وجل، وكذبوا هذا الدين، لو تراهم حينما يُدعون للحساب، لو تراهم حينما يأتيهم الموت، لو تراهم حينما تنكشف لهم الحقائق، لو تراهم حينما يُكشف عنهم الغطاء.
شخص أعرفه جيداً أمضى حياةً غارقاً في الملذَّات المحرمة، وكان تاجراً ماهراً في تجارته، وذا دخلٍ كبير، ولكن نفسه تميل مع هواها، تبحث عن اللذَّة أينما كانت، أصابه مرضٌ عُضال، فحينما علم بهذا المرض صارت تأتيه نوبةٌ هستيرية كل حين، يقول: لا أريد أن أموت، فلما جاءه ملك الموت، روى لي جيرانه أن كل من في البناء سمعوا صيحةً لم يسمعوها من قبل، ولو ترى هذا المتكبر، المعاند، العاصي، الفاسق، الفاجر، الذي يتباهى بالمعصية، لو رأيته وقد جاءه ملك الموت، لو رأيته وقد عُرِضَ للحساب.
2 ـ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ
﴿ فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمْ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(52)﴾
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمْ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
كان عليه أن يؤمن وهو في الدنيا، الآن صار في الآخرة، كان عليه أن يؤمن في الدنيا؛ كان عليه أن يؤمن حينما كان شاباً، حينما كان قوياً، حينما كان غنياً، حينما كان معتداً بقوته وذكائه وماله، الدنيا وقت الإيمان، الآن أصبح من أهل الآخرة، أنَّى لهم الحوار والتناوش والحساب والسؤال والعتاب، هذا انتهى وقته، من مكانٍ بعيد، الإنسان يؤخذ من مكانٍ قريب، وحينما يدخل الدار الآخرة تصبح الدنيا عنه بعيدةً.
﴿ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(53)﴾
يلقي الكلام على عواهنه، يتكلَّم بلا حساب، يتكلم بلا دقَّة، بلا دليل، يكذِّب من دون دليل، يقبل هذه القصة من دون دليل.
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ
من دون علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منير، العلم هو اليقين الاستدلالي، والهدى اليقين الإشراقي، والكتاب اليقين الإخباري، لا يوجد معه خبر صادق، ولا معه حجة قوية، ولا معه إشراق في قلبه، ومع ذلك يكذب، ويناقش، ويكابر.
﴿
1 ـ يشيب المرء على ما شبّ عليه:
الحقيقة يشيب المرء على ما شَبَّ عليه، ويموت المرء على ما شابَ عليه، ويحشر المرء على ما مات عليه، الإنسان حينما ينشأ على معصية الله يتكون عنده شهوات آثمة، ميول منحطة، هذه إذا استمر عليها وبقي معها، رافقته إلى وقت حشره.
2 ـ الإنسان بين خمسة أيام:
والإنسان بين خمسة أيام؛ يومٌ مفقود، ويومٌ مشهود، ويومٌ مورود، ويومٌ موعود، ويومٌ ممدود، أما اليوم المفقود فهو الوقت الماضي، والزمن الماضي الحديث عنه لا يقدِّم ولا يؤخر، مضيَعَةٌ للوقت، بذلٌ للجهد بلا طائل، واليوم المشهود هو أخطر أيام الحياة، ما من يومٍ ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة، هذا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام:
(( لا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله قرباً. ))
اليوم المورود الموت، اليوم الموعود الوقوف بين يدي الله عزَّ وجل للحساب، اليوم الممدود إما في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفدُ عذابها، وقال بعضهم:
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ
إن الأعمال الخالصة لله عزَّ وجل هي التي تبقى
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزيّنا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجمّلنا بالعافية، وطهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.