- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (034)سورة سبأ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الرابع من سورة سبأ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قصَّة سيدنا داوود عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام، يقول الله عزَّ وجل في الآية العاشرة من سورة سبأ:
﴿
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا
1 ـ من معاني الفضل:
من معاني الفضل أنه الزيادة عن المألوف، لقوله تعالى:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۚ
الإنسان قد يزيده الله قوةً، قد يزيده علماً، قد يزيده ذكاءً، قد يزيده شأناً، قد يزيده وسامةً، قد يزيده حكمةً، قد يزيده قُرباً، فما أوتيت زيادةً على عموم الناس فهذا هو الفضل.
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ ۖ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ ۚ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ
فكل مؤمن حينما سمح الله له أن يتعلَّم، وأن يكون مهتدياً، حينما يَسَّرَ الله له طريق الهداية وطريق العلم، آتاه الله منه فضلاً كبيراً، عامَّة الناس الذين تراهم أمامك في الطريق؛ يأكلون، ويشربون، ويتمتَّعون، ولا يفقهون شيئاً، لكن الذي آتاه الله بعض العلم، بعض الحكمة، الذي آتاه الله قوةً في نفسه، الذي مكَّنه الله من طاعته، الذي أعانه على عبادته، هذا آتاه فضلاً عظيماً.
إذاً: معنى الفضل ما زاد عن مجموع الناس، عن السواد الأعظم.
سيدنا عمر مرَّةً سمع رجلاً يدعو ربَّه فيقول: "اللهمَّ اجعلني من القليل"، قال عمر: "ما هذا الدعاء؟"، قال: أقصد قوله تعالى:
﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ
فقال عمر يخاطب نفسه: "كل الناس أعلم منك يا عمر"، اللهمَّ اجعلني من القليل الشاكر، لا من الكثير الساهي واللاهي.
إذاً: كلمة فضل تعني إذا خصَّك الله بمعرفته فهو فضلٌ عظيم، إذا خصَّك الله بالحكمة فهو فضلٌ عظيم، هذا المعنى الذي يمكن أن نستنبطه، والذي يمكن أن يُطبَّق على المؤمنين، وإذا تلوت قوله تعالى:
إذاً معنى كلمة:
2 ـ الفضل الذي آتاه الله لداود:
الإمام القرطبي في تفسيره يقول: الفضل هو النبوَّة، والفضل هو الكتاب، آتاه الله الزبور، والفضل هو القوة، آتاه الله قوة.
﴿ اصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ
والعلم من فضل الله عزَّ وجل، وتسخير الجبال والطير من فضل الله عزَّ وجل، وتوبة الله عليه من فضل الله عزَّ وجل.
المرء أحياناً يخالف أوامر إنسان، هذا الإنسان قوي، يسترضيه فلا يرضى، يستغفره فلا يغفر، يرجوه فلا يُرجى، الإنسان أحياناً لا يُسترضى، إذا خالفت أمره يسحقك أحياناً، لكن الله سبحانه وتعالى إذا تُبت إليه تاب عليك، فمن فضل الله على الإنسان أنه يتوب عليه، الإنسان يخطئ، ويستغفر، ويتوب الله عليه، وهذا من فضل الله على الإنسان.
ومن فضل الله على داود أنه ألهمه الحكم بالعدل، لأن حجراً ضجَّ بالشكوى إلى الله عزَّ وجل فيما ترويه الكتب قال: يا رب عبدتك خمسين عاماً، ثمَّ تضعني في أُسِّ كنيف، فقال: تأدَّب يا حجر إذ لم أجعلك في مجلس قاضٍ ظالم، مكانك في أسّ الكنيف أشرف لك ألف مرَّة من أن تكون في مجلس قاضٍ ظالم، فالإنسان إذا ألهمه الله العدل في ميراثه، في أولاده، في إخوانه، في موظَّفيه، في طُلاَّبه، فهذا فضل من الله عزَّ وجل، لأن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
إذاً:
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
قال بعض المفسرين: تسخير الجبال والطير له، وبعضهم قال: أنه تاب عليه، والتوبة فضلٌ عظيم، بعضهم قال: إنه مكَّنه من أن يحكم بالعدل، لأن القاضي العادل الله عزَّ وجل يسدِّد خُطاه، يلهمه الصواب، ينير له الطريق، فالعدل فضلٌ عظيم.
ومن فضل الله على سيدنا داود أنه ألان له الحديد، ومن فضل الله على سيدنا داود أنه جعل صوته حسناً ووجهه حسناً، فالصوت الحسن من نِعَم الله الكبرى.
النبي عليه الصلاة والسلام استمع مرَّةً إلى أبي موسى الأشعري يقرأ القرآن، فتأثَّر النبي تأثُّراً شديداً وقال:
(( يَا أَبَا مُوسَى، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ. ))
والمزمار في أصل اللغة الصوت الحسن، فمن وهبه الله صوتاً حسناً فعليه أن يُسَخِّرَهُ لتلاوة القرآن لا للغناء، لذلك المغنون الذين آتاهم الله الأصوات العذبة، كان من الممكن أن يرقوا بأصواتهم تلك إلى أعلى درجات الجنَّة إذا سخَّروها في تلاوة القرآن، أما حينما سخَّروها في إثارة الغرائز هبطوا بها إلى قيعان النيران، فكلمة:
التطبيق العملي لهذه الآية:
الفضل هذه الأشياء، أما التطبيق العملي لهذه الآية فيما يخصُّ المؤمنين: إذا ميَّزك الله عن عامة الناس بمعرفته فهذا فضلٌ عظيم، لا ترى نفسك محروماً في الدنيا، إذا خصَّك الله بلسانٍ طليقٍ في الدعوة إليه هذا فضلٌ عظيم، إذا خصَّك الله عزَّ وجل بقلبٍ شاكر، ولسانٍ ذاكر، وجسدٍ على البلاء صابر فهذا فضلٌ عظيم، إذا ألهمك شكره، وألهمك الصبر عند المصائب، ألهمك الشكر عند الرخاء، إذا جمعك مع أهل الحق، إذا جعلك بين المؤمنين، إذا هيَّأ لك أسرةً طيِّبةً، ذريَّةً صالحةً، زوجةً صالحةً، أولاداً أبراراً، هذا كلُّه فضل من الله عزَّ وجل، إذا جعل لك مأوىً تُؤوي إليه، هذا أيضاً من فضل الله عزَّ وجل
يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
من هذا الفضل:
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ۚ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
لا تفقهونه أنتم، فسيدنا داود أوتي القدرة على سماع تسبيح الجبال، إنه يسمعها، وتسبِّح معه، فهذه الشفافيَّة التي يبلغها الأنبياء شيءٌ فوق الوصف، النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول:
(( إنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا بمَكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أنْ أُبْعَثَ إنِّي لأَعْرِفُهُ الآنَ. ))
وقف على جذع نخلة كان يخطب عليها، فلمَّا صنع له أصحابه منبراً، وقف على المنبر، ووضع يده على جذع النخلة، لأنها حنَّت إليه، هذا الشعور صعب أن يدركه إنسان، ولمَّا وصف له الصِّديق حالة سيدنا حنظلة، قال:
(( إنَّا معشرَ الأنبياءِ تَنامُ أعينُنا ولا تَنامُ قلوبُنا ))
(( فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حتَّى دَخَلْنَا علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ،
معنى هذا أن الإنسان إذا أقبل على الله عزَّ وجل، واتصل بالله شفَّت نفسه، فرأى ما لا يراه الآخرون، وسمع ما لم يسمعه الآخرون، هذا الاندماج بينه وبين بقيَّة المخلوقات يُنشئ في نفسه مشاعر طيِّبة، حتى باتجاه النبات.
فربنا سبحانه وتعالى ألهمه أن يصنع دروعاً لا من الصفائح بل من السلاسل، من الحلقات، فهذه الدروع بهذه الطريقة يخف وزنها، وتصبح موافقة لجسم الإنسان، ممكن أن يكون لها كم وصدر وظهر، أن يصنع الدرع من سلاسل متداخلة؛ أولاً: هذا الدرع أخف على الجسم من الصفائح، وثانياً: أيسر في استعماله من درع الصفائح، فربنا سبحانه وتعالى علمه هذه الصنعة، وكان يبيع الدرع بمبلغ مجزٍ، فعاش في بحبوحة وأنفق من هذا الدخل، وكانت له حرفة مع أنه نبي.
أعجبني في هذه الآية ما ورد في كتاب القرطبي، قيل في هذه الآية دليل على تعلم أهل الفضل الصنائع، وهل أعلى من الأنبياء؟ هم قمة البشر ومع ذلك
﴿
لهذا النبي العظيم صنعة وحرفة، وهي صناعة الدروع، ألم يكن نبينا عليه الصلاة والسلام راعي غنم؟ ألم يكن نبيُّنا عليه الصلاة والسلام شريكاً مضارباً مع السيدة خديجة، وهي أول شراكة مضاربة في الإسلام؟ ألم يكن للنبي عليه الصلاة والسلام شريك في مكَّة يبيعان السلع ويقتسمان الربح؟ إذاً ورد في تفسير القرطبي: أن في هذه الآية دليلٌ على تعلُّم أهل الفضل الصنائع، وأن اتخاذ الحرفة لا ينقص من مناصبهم العليَّة.
مقام النبوَّة لا يجرحه أن يكون صاحب حرفة، سيدنا الصديق كان بزازاً ـ بائع قِماش ـ سيدنا أبو عبيدة كان قصَّاباً، وأنعِمْ به من قصَّاب، أصحاب النبي كانوا يعملون، قال سعد بن الربيع لعبد الرحمن بن عوف: "دونك نصف مالي إني من أكثر أهل المدينة مالاً، دونك نصف مالي أي خذ نصف مالي، قال له عبد الرحمن:
إذاً: لا ينقص التَحَرُّفُ أهلَ الفضل من مناصبهم، بل يزيد في فضلهم وفضائلهم؛ إذ يحصل لهم التواضع في أنفسهم، الإنسان حينما يعمل إذاً هو مضطر أن يعمل حتَّى يأكل، العمل يجعله متواضعاً، يجعله بحجمه الحقيقي، لا يتكبَّر على خلق الله، إذ يزيد التحرُّفُ أو اتخاذ الحرفة في فضلهم وفضائلهم، فيحصل لهم التواضع في أنفسهم، والاستغناء عن غيرهم.
بمَ نلت هذا المقام يا إمام؟ قال:
والكسب الحلال يُبعِد عن الامتنان، فالإنسان إذا أعطى قد يمنّ، أما إذا كسبت مالك بتعبك وعرق جبينك وكدِّك، فهذا الكسب بهذه الطريقة لا يجعل لأحدٍ عليك منَّة، لهذا قال عليه الصلاة والسلام، ودققوا في هذا الحديث الذي ورد في الصحاح:
(( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.))
3 ـ كل حرفة مسخَّرة لحرفة أخرى:
الآن ننتقل إلى شيء آخر، هو أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان قدرة، خصَّه بشيء، وجعله في حاجةٍ إلى مليون شيء، من أجل أن تقوم الحياة بين البشر، أنت بحاجة إلى طبيب، وإلى مدرِّس لابنك، وإلى من يصنع لك الثياب، وإلى من يزرع لك القمح، وإلى من يقدِّم لك الخدمات، وأنت لك حرفةٌ واحدة تخدم بها الناس، والناس جميعاً من خلال حرفهم ومهنهم يخدمونك، إذاً: شاءت حكمة الله عزَّ وجل أن يكون لكل إنسان منَّا حرفة يتقنها، ويقدِّم ثمار عمله للناس، ويستخدم خبرات الناس في قضاء حاجاته، فالدنيا أخذٌ وعطاء، هذه واحدة.
4 ـ الانتفاعُ بفوائد خيرات الأرض تكون بالوسيط:
النقطة الثانية: هو أن الله سبحانه وتعالى أودع في الأرض خيرات كثيرة، ولكن شاءت حكمة الله أن تكون الفائدة من هذه الخيرات لا بشكلٍ مباشر؛ بل بوسيطٍ من عمل الإنسان، وعلمه، وجهده، فالحديد مثلاً لا تراه في الطرقات على شكل قضبان قياسها 6، 8، 12 وبأشكال أخرى، الله جعل الحديد فلزات، نحتاج إلى استخراج هذه الفلزات، وإلى أفران لصهر الحديد، وإلى تشكيل الحديد، وإلى صب الحديد، لابدَّ كي تستفيد من خيرات الأرض من علمٍ وعمل، أنت بالعلم والعمل ترقى إلى أعلى عليين إذا استقمت على أمر الله، وبالعلم والعمل تهبط إلى أسفل سافلين إذا انحرفت عن أمر الله.
إذاً: لما قال الله عزَّ وجل:
5 ـ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ
وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
اعملوا عملاً صالحاً، ليكن عملك صالحاً:
1 ـ أهمية الإخلاص في العمل:
هنا نقف قليلاً، إذا أخلصت في عملك يجب أن تعلم دائماً أن الله يراك، وسيكافئك على عملك، أحياناً الذي تتعامل معه لا يكشف خطأك، تصنع غرفة نوم مثلاً، الخشب الداخلي المستور قد تضعه من نوع رديء، ولا يدري صاحب هذه الغرفة عن هذا شيئاً، قد تقلِّل المواد الأوليَّة، قد تجعل من هذه الغرفة غرفة مغشوشة فلا تصمد هذه الغرفة للاستعمال، أما إذا عملت صالحاً، وصاحب هذه الغرفة لا يعلم، ولكن الله يعلم.
عندما جاء لسيدنا عمر رسول القادسيَّة قال له:
مثلاً: إذا كنت باراً بأمِّك وأبيك فالله بصير، وسيلهم أولادك أن يقدِّموا لك كل هذه الخدمات، إن كنت صادقاً في معاملاتك الله بصير، إن كنت نصوحاً في بيعك الله بصير، إذا كنت متقناً لعملك الله بصير، الأشياء التي تخفى عن البشر على الله لا تخفى، فإذا عملت صالحاً؛ إن في بيتك، إن مع أهلك، إن مع أولادك، إن في حرفتك، إن في صنعتك، في تجارتك، إن في زراعتك، هناك أدوية تنمي الثمار تنميةً سريعةً جداً، لكنها ضارةً بالإنسان
2 ـ وجوب مراقبة الله تعالى في جميع مجالات الإنسان:
الآية دقيقة:
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ
﴿
إذاً سيدنا داوود آتاه الله فضلاً؛ النبوَّة، والزبور، والقوّة، والعلم، وتسخير الجبال، والتوبة، والحكم بالعدل، وإلانة الحديد، وحسن الصوت، وجعل له صنعةً يعيش بها، والصنعة، الحرفة، والعمل يرفع شأن الإنسان، ولا يجرح من قدره ولو كان عالِماً أو داعيةً، إنه يجعله متواضعاً، ويجعله في استغناءٍ عن منَّة الخلق، النبي الكريم يقول:
(( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ.))
الآن سيدنا سليمان:
تسخير الريح لسليمان عليه السلام:
الله سخَّر له الرياح، ما يحتاج إلى مسيرة شهر يقطعه في غدوةٍ، أي في وقتٍ مبكِّر، أقل من يوم، وما يحتاج إلى مسيرة شهرٍ يقطعه في روحةٍ، أي أقل من يوم، أي مساء، الغدو: الذهاب إلى العمل صباحاً، الإنسان ينطلق إلى عمله بساعة أو ساعتين مسافة الطريق، ويعود من عمله إلى بيته في ساعةٍ أو أكثر، فما يحتاج إلى أن يسيره في شهرٍ بأكمله يقطعه في ساعة..
وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ
مرَّة قرأت في الفيزياء في عنصرين متجاورين، العناصر في الأرض مرتَّبة حسب عدد الإلكترونات التي تدور حول المدارات الخارجيَّة، فأول عنصر حوله إلكترون واحد يدور، العنصر الثاني إلكترونان، وهكذا، بين عنصرين متجاورين الفرق بينهما إلكترون واحد، العنصر الأول غاز، والثاني صُلب، إذا أضفنا إلكتروناً أو كُهروباً واحدا على المدار الخارجي ينقلب هذا العنصر من غاز إلى صلب، أو من صلب إلى غاز، فعلى قدرة الله عزَّ وجل كل شيءٍ مقبول ومعقول..
وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ
وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ
﴿
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ
المحاريب جمع محراب، وهو مكان الصلاة، أو المكان المُرْتَفِع، وقد نجمع بين المعنيين، ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
أن تُبْنَى عاليةً، لذلك المئذنة يجب أن تكون شامخة ليراها جميع الناس، فالعلماء استنبطوا من هذه الآية أن الأَولى أن يكون الجامع عظيم الهيئة، لماذا؟ هذا بيت الله.
فهنا المحاريب جمع محراب، المكان المرتفع الذي يُصْلَّى فيه، لذلك الآن لا يُقْبَل أن يكون المسجد قبواً، يجب أن يكون على أرضٍ حُرَّة، ومرتفعاً، ولا شيء فوقه، لكن الآن تساهلوا، في بعض الأبنية جُعِل أحد الطوابق مسجداً، والطوابق الأخرى للسكن، أما الأصل والأكمل أن يُبْنَى على أرضٍ حُرَّة، وألا يكون فوقه أي بناء.
وَتَمَاثِيلَ
هؤلاء الجن
كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ
اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ
1 ـ الشكر عملٌ:
عملك يجب أن يكون لا خوفاً ولا طمعاً؛ ولكن شكراً.
الشيء الآخر:
2 ـ يجب أن يكون العمل شكرا:
الشيء الثاني: العمل ينبغي أن يكون لا خوفاً ولا طمعاً؛ ولكن شكراً، من عرف نعم الله عزَّ وجل كان عمله شكراً لله عزَّ وجل.
إذاً:
ثانياً: العمل يجب أن لا ينطلق من خوفٍ ولا من طمعٍ؛ بل من شكرٍ للمولى عزَّ وجل.
3 ـ يجب أن تستخدم النعم في طاعة الله:
وأدقُّ تعاريف الشكر: أن تستخدم النعم التي أنعم الله بها عليك فيما خُلِقْتَ له، وفيما أمرك به، أن تستخدم نعمة الصحَّة لطاعة الله، نعمة العين لرؤية آلاء الله، نعمة السمع لسماع الحق، نعمة اللسان لذكر الله عز َّوجل، نعمة الذكاء لفهم كتاب الله، نعمة الذكاء لإقناع الناس بالحق، إذا استخدمت النعم التي أنعم الله بها عليك فيما يرضي الله، وفيما خُلِقْتَ من أجله فهذا أعلى درجات الشكر، أن تستخدم نِعَم الله فيما يرضي الله.
أما حينما تستخدم نِعَم الله عزَّ وجل فيما يُغضِبه، وفي معاصيه، فهذا أحد أنواع الكفر، لذلك نعمة المال، ونعمة الصحَّة، ونعمة السمع، ونعمة البصر، ونعمة النُطق، ونعمة القوَّة، ونعمة الوسامة، ونعمة الغنى، ونعمة الحكمة، كل هذه النِّعَم يجب أن تسخِّرها فيما يرضي الله عزَّ وجل حتَّى تكون شاكراً له.
﴿
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ
سيدنا سليمان
الجن لا يعلمون الغيب:
الحقيقة هنا وقفة دقيقة جداً هي: أن الجن لا يعلمون الغيب، لقد أمرهم هذا النبي العظيم بأعمال شاقَّة ومرهقة، وقضى الله عليه الموت وهو متكئٌ على عصاه، هم يعملون هذه الأعمال الشاقة، ولو علموا أنه مات لوقفوا عن أعمالهم، لذلك هذا دليل قوي قطعي على أن الجن لا تعلم الغيب، بإمكانك أن تردُّ آلافَ آلافِ القصص بهذه الآية، أكثر الناس يتوهَّمون أن الجن يعلمون الغيب، ودائماً على شكل قراءة فنجان، على شكل أقوال الكُهَّان، على شكل السحرة، دائماً الساحر والكاهن ينبئك عن الغيب، فيقول لك: أمامك مشكلة، أمامك قضيَّة، هذا كله غلط.
فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ
﴿ يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ
فكل القصص التي تقول: رأينا الجن أقزاماً صغيرة تتحرَّك، هذا كله لا أساس له من الصحَّة.
خاتمة:
﴿ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ(201)﴾
﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)﴾
انتهى الأمر، علاقة الإنسان مع الجن أنه إذا استعاذ بالله وقاه الله شرَّهم.
﴿
فالآيات واضحة جداً. إذاً:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.