- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (034)سورة سبأ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الثاني من سورة سبأ، في الدرس الماضي أيها الإخوة فُسِّرَت الآية الكريمة:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)﴾
تذكيرٌ بتفسير الآية السابقة:
1 ـ المستحقّ للحمد هو الله وحده:
بيَّنت في الدرس الماضي أن القضية ليست إثبات النعمة، لأن النعمة ثابتة، وما من مخلوقٍ على وجه الأرض إلا ويقرُّ بها، ولكن القضية قضية المُنْعِم، من المنعم؟ المنعم هو الله، فكلّ النِّعم؛ صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، قريبها وبعيدها، ظاهرها وباطنها، خفيّها وجليِّها، كل هذه النعم ما كان منها في الدنيا، وما كان منها في الآخرة، كل هذه النعم من حضرة الله وحده، فأي اتجاهٍ إلى غير الله كي تشكره على شيءٍ توهمت أنه منه فهذا شرك.
2 ـ الحمد لله على ملكه السموات والأرض:
والقضية الثانية في تلك الآية: هي أن الله سبحانه وتعالى يُحمَد على أن له ما في السماوات وما في الأرض، وكما علّمنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نتلوَ بعد صلاة الفجر: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد"، يُحمَد لأن له الملك، يُحمَد لأنه مالك الملك، يُحمَد لأن الأمور كلها بيده، يُحمَد لأن له الخلق والأمر، يُحمَد لأنه خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل، يُحمَد لأنه لا يغيب عنه شيءٌ في الأرض ولا في السماء.
وذكرنا في الدرس الماضي أيضاً كيف أن المُلْكِيَّةَ لله عزَّ وجل تعني الخلْق والتصرف والمصير.
3 ـ الحمد لله على ملكه أمور الدنيا والآخرة:
وبينت أيضاً أن الحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض في الدنيا، وأن الحمد لله الذي له كل شيءٍ في الآخرة، فهو مالك يوم الدين، مالك الدنيا والدين، مالك الدنيا والآخرة، مالك دار الفناء ودار البقاء، مالك دار العمل ودار الجزاء، سبحان الله! كيف ينصرف الإنسان إلى غير الله؟ فالله مالك الدنيا ومالك الآخرة، مالك كل شيء، وهو يُحمَد على ملكه.
4 ـ مكافأة الله المحسنَ في الدنيا تشجيع لغيره، وعقابه المسيء ردعًا لغيره:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ
الحساب الكامل، الرصيد، الحساب الحقيقي يوم القيامة، لماذا؟ لأنك إن رأيت محسناً قد كافأه الله، فربما رأيت محسناً أَخَّرَ الله له المكافأة إلى وقتٍ آخر، فلئلا تتخذ من الدنيا دار جزاء، لأن الله عزَّ وجل جعلها دار عمل ودار ابتلاء، فقد تجد مسيئاً في أعلى درجات الشأن والغنى والقوة، فلا ينبغي إذا رأيت مسيئاً يزداد علواً في الأرض، ومحسناً مغموراً، لا ينبغي أن تحملك هذه الموازنة على أن تشكَّ في وعد الله ووعيده، فحقيقة الدنيا هي دار ابتلاء، وحقيقة الآخرة هي دار جزاء، وإذا كافأ الله المحسن في الدنيا فهي مكافأةٌ تشجيعيةٌ لبقية المحسنين، وإذا عاقب المسيء في الدنيا فهو عقابٌ ردعيٌ لبقية المسيئين، لكن الجزاء الأوفى، والجزاء الحقيقي، هو في الآخرة، لذلك:
(( ما الدنيا في الآخرة إلا مِثْل ما يجعل أحدكم أُصْبُعَهُ في اليَمِّ، فلينظر بِمَ يَرْجع! ))
5 ـ الدنيا هينة لا قيمة لها:
لِهَوان الدنيا على الله، ولضعف شأنها عنده ما أرادها أن تكون مكافأةً للمؤمن، ولا أن تكون عقاباً للكافر، ربما كانت الدنيا جنة الكافر، وكانت الدنيا سجن المؤمن لهوانها على الله، ما دامت الدنيا ليست جزاء للمؤمن، وليست عقاباً للكافر.
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ. ))
والنبي عليه الصلاة والسلام حينما رأى شاةً ميتةً ماذا قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِسَخْلَةٍ جَرْبَاءَ قَدْ أَخْرَجَهَا أَهْلُهَا فَقَالَ:
(( أَتَرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى أَهْلِهَا ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذِهِ عَلَى أَهْلِهَا. ))
في بعض الروايات ـ أتشترونها بدرهم؟ قالوا: لا، ولا بلا مقابل نشتريها، قال:
لذلك الله سبحانه وتعالى أعطى المال لمن لا يحبه، أعطاه لقارون، قارون:
﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ
فإذا بلغك أن فلاناً معه أموال كثيرة، موزعة في أرجاء العالم، بيته فخم، مركبته فخمة، المال عنده كالتراب، إياك أن يتوارد إليك أن فلاناً له شأنه عند الله، إياك أن تظن أن الله كافأه، أو أن الله أعطاه. الآن أقول لكم هذا الكلام الدقيق: ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿
بمقياس العبد؛ أعطاه المال، والصحة، والشأن، والمكانة، والجمال، والكمال، إلخ ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾ هذا قول الله أم مقولته؟ مقولته.
﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ(16)﴾
هو:
﴿
هذه أداة ردعٍ ونفيٍ، كلا، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، إن عطائي ابتلاء، وحرماني دواء، هل يمكن أن تسمِّي المال نعمةً؟ لا، يصبح نعمةً إذا أنفقته في سبيل الله، المال في الأصل ابتلاء، فإذا أحسنت إنفاقه في سبيل الله انقلب من ابتلاءٍ إلى نعمة، هل تعد الزوجة نعمةً؟ لا، إنما هي ابتلاء، فإذا دللتها على الله، وحملتها على طاعة الله، انقلبت من ابتلاءٍ إلى نعمة، هل تعد المكانة العليّة نعمةً؟ لا، إنها ابتلاء، فإذا سخَّرت هذا الشأن العالي لخدمة أهل الحق، انقلب الجاه الذي كان ابتلاء إلى نعمة.
6 ـ يجب تسخير النعم للآخرة:
يجب أن تعلم علم اليقين أيها الأخ الكريم أنه ما من شيءٍ أعطاك الله إياه لا يُسمَّى نعمةً أبداً، يسمى ابتلاءً، فلابد أن يكون مسخَّراً للآخرة، لقوله تعالى:
﴿
هذه آيةٌ واضحةٌ وضوح الشمس، يجب أن تسخر صحتك لطاعات الله عزَّ وجل، قوتك لخدمة الضعيف، ذكاءك لمعرفة الله، علمك لنشر الهدى، وقتك الفارغ لخدمة الخلق، أيُّ شيءٍ آتاك الله إيَّاه ينبغي أن تسخره للدار الآخرة، والدليل قوله تعالى:
7 ـ علّةُ خلق السموات والأرض معرفةُ أمرِه وتطبيقُه:
مرةً ثانية أسماء الله الحسنى كثيرة، لكن كأن هذه الأسماء تتمحور حول وحدات، الله عزَّ وجل موجود، والله واحد، والله كامل، لكن أنا متى أستقيم على أمره؟ أنت متى تنفِّذ تعليمات من هو فوقك، متى؟ إنه سؤال دقيق وسؤال محرج: متى تنفذ التعليمات التي جاءتك ممن هو فوقك؟ في حالتين، لا بدَّ من أن تجتمعا:
دقق في علاقاتك مع الناس؛ لن تأتمر بأمر، ولن تنتهي عن نهيٍ، ولن تنفّذ توجيهاً، إلا إذا أيقنت أن الذي فوقك يعلم إذا خالفت هذا الأمر، وإذا خالفت هذا الأمر فلابدَّ من أن يوقِع بك عذاباً، أو إيلاماً، أو عقوبةً ثابتة، من هنا يقول الله عزَّ وجل: ما دمت تحمد الله على أن له ما في السماوات والأرض فلابدَّ من أن تطيعه، ما معنى هذا الحمد؟ أن تحمده على أنه خلق السماوات والأرض؟ لابدَّ من تحركٍ نحوه، والدليل:
﴿
إنسان يتعرف إلى الله، ويقف في مكانه مكتوف اليدين؟ لا يتحرك نحوه؟ لا يبحث عن أمره؟ لا يتقرب إليه؟ هذا ادِّعاء..
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ذاك لعمري في المقال بديع
لو كان حبـك صادقاً لأطعته إن المحب لـمن يحب يطيع
فمستحيل أن تتعرف إلى الله حق التعرف وأن تعصيه.
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا
1 ـ علمُ الله شامل لكل خارج من الأرض داخل فيها:
أيها الإخوة الأكارم، إذا كان هناك انحراف، أو خروج عن أمر الله، يجب أن تعلم علم اليقين أنك لا تعرفه، أو لا تعرفه المعرفة الكافية، من أجل أن تطيعه يجب أن تعلم أن الله يعلم:
﴿
الآن جاءت لام التعليل.. خلق سبع سماواتٍ، وخلق الأرض، وما فيها من سبع طبقاتٍ:
مثل بسيط جداً: طفلٌ صغير، ولا أبالغ، قد لا تزيد سنه عن سنتين، إذا أراد أن يفعل شيئاً يغضب الأب، أول شيء ينظر إليه أيراقبه؟ فإن كان يراه امتنع، وإن كان غافلاً عنه فعل، وكذا أخاه بشرط أن تكون غافلاً عنه، هذا الطفل الصغير بفطرته لا يُقْدِمُ على مخالفتك إلا إذا علم أنك غافلٌ عنه، فإذا علم أنك تراه يمتنع، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
كل ما يُدفَن في الأرض يعلمه، كل بذورٍ تُدفَن في الأرض، وتُزرَع يعلمها، كل المياه التي تسقي الأرض يعلمها، أيُّ شيءٍ يلج في الأرض، أي شيءٍ من مياه، إلى أموات، إلى بذور.
إن كنت لا تدري فتـلك مصيبةٌ أو كنت تدري فالمصيبة أعظم.
إذا كنت لا تعلم فهذه مصيبة، وإن كنت تعلم، وبقيت مكتوف اليدين فهذه مصيبةٌ أكبر.
إذاً ربنا عزَّ وجل هو الإله، هو الرب، يعلم كل شيء، قال:
2 ـ علمُ الله شامل لكل ما ينزل من السماء وما يعرج فيها:
الملائكة إذا نزلت بأمر الله، إذا عرجت بأعمال العباد، الأمطار إذا نزلت، نزلت في هذا المكان كذا ميليمتر، في هذا المكان أقلّ من معدلات السنة الماضية، يا رب ما الحكمة في ذلك؟ يعلم ذلك، يعلم أنه أغرق هذه المنطقة وجعل هذه المنطقة تَئِنُّ من الجفاف، يعلم
3 ـ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ
لماذا رحيمٌ غفور؟ هو رحيمٌ لا شك في ذلك، لكنه غفور، فلو أن إنساناً انحرف عن جادة الصواب، لابدَّ من أن يغفر الله له، وكيف يغفر الله له؟ يسوق له بعض الشدائد، يحرمه بعض النعم، حتى يلجأ إلى الله، وحتى يتوب، وحتى يتضرَّع، عندئذٍ يغفر له.
تقريباً ولله المثل الأعلى: أحياناً هناك طبيب، والطبيب يعلم دخائل الجسم، وما يصلح له، وما لا يصلح له، وهناك أب في قلبه رحمةٌ لابنه، أما إذا كان الأب طبيباً، أو الطبيب أباً، أي إذا اجتمعت الرحمة والعلم في شخصٍ واحد، الأب الجاهل يطعم ابنه أطيب الطعام ولو دمّر أمعاءه، هناك أكلاتٌ مَن عنده التهابٌ في الأمعاء، أو مغصٌ مزمن، أو ما إلى ذلك تؤذي الطفل إيذاءً شديداً، لو أن الأب كان طبيباً أو الطبيب كان أباً اجتمع العلم والرحمة في رجل واحد، هذا الرجل قد يمنع ابنه أطيب الأكلات حفاظاً على سلامة صحته، لذلك ورد في الحديث الشريف:
(( إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يحمي عبدَهُ المؤمِنَ من الدُّنيا كما يحمي أحدُكُم مريضَهُ الطَّعامَ والشَّرابَ.))
(( إِنَّ اللهَ تعالى يَحْمِي عبدَهُ المؤمِنَ، كما يَحْمِي الراعِي الشفيقُ غنمَهُ عَنْ مراتِعِ الهلَكَةِ ))
إذاً:
﴿
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
بالمناسبة قلت لكم سابقاً، وأعيد هذا مراراً وتكراراً: لن تستقيم على أمر الله إلا إذا علمت أن الله يعلم، ويقدر، وسيحاسب.
قُلْ بَلَى وَرَبِّي
1 ـ تنزيلُ خبر الله منزلة الشيء الواقع المرئيّ:
قال بعض العلماء: حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)﴾
قد يقول قائل ببساطة: والله أنا ما رأيت ذلك، القرآن يخاطب المؤمنين، يخاطب الناس جميعاً
﴿
لكن يا ربِّ هذا الشيء لم يقع بعد، هذا الشيء يوم القيامة، ولم يأتِ بعد هذا اليوم، فكيف يقول الله عزَّ وجل:
الراكب مركبة وهو في أقصى سرعة، وشعر أن المكبح قد انقطع، ماذا يقول؟ هل يقول: بعد قليل سوف نقع، لا، يقول لك: وقعنا، وهو لا يدري يستخدم الفعل الماضي، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
(( عَنِ الْحَارِثِ بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟ قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: انْظُرْ مَا تَقُولُ، فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟ فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا. فَقَالَ: يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ. ثَلاثًا. ))
المعلم، صاحب الخبرة العالية إذا رأى طالباً يتلهَّى في الدرس، كلما كلفه بوظيفة جاء مقصراً فيها، المعلم الذي عَلَّم أربعين سنة يقول: كأنني أراه يبكي بعد حين، فهذا الطالب يسرح ويمرح ويمزح، فإذا جاء الامتحان ورسب، وتلقَّى النتيجة صار يبكي، هذا البكاء رآه المعلم الخبير قبل حين، يؤيِّد هذا قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10)﴾
أي أنتم الآن تمقتون أنفسكم، وتضجون، وتُقَرِّعون أنفسكم، لكن الله عزَّ وجل حينما كان يدعوكم إلى الإيمان فتكفرون، مقتُه لكم وقتها أشد من مقتكم لأنفسكم، هذا كله يأتي من الخبرة، فلذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196 (مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۚ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾
2 ـ البطولة إدراك الشيء قبل الوصول إليه:
إن كنت مؤمناً صادقاً ترى مصيرهم وهم في أَوْجِ نشاطهم، ترى مصيرهم وهم في أعلى درجات قوَّتهم، ترى مصيرهم وهم في أعلى درجات غناهم، ترى مصيرهم المحتوم، المشؤوم الأسود وهم في أعلى درجات تألقهم، البطولة أن ترى الشيء قبل أن تصل إليه، هذه البطولة، أن تصل إلى الشيء بعقلك قبل أن تصل إليه بقدميك، هذه البطولة.
من هو الإنسان؟ أتاه الله قوة تصوّر، فالذي يصل إلى ما سيكون قبل أن يكون هذا التوفيق، وهذا الذكاء، والآن الدول المتقدمة تعيش عام ألفين، يهيئون المشكلات التي سوف تظهر بعد عشرين عاماً، ويخططون لحل مشلاتها.
عَالِمِ الْغَيْبِ
1 ـ يوم القيامة يومٌ عسير:
فلذلك أيها الإخوة الأكارم:
(( تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا ـ كما خلقهم الله عزَّ وجل ـ قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؟!!! فَقَالَ: الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ. ))
لشدة الهول الأمر أفظع من أن يعنيهم ذلك، وحينما سألت السيدة عائشة رسول الله صلى الهَُ عليه وسلم قالت: يا رسول الله:
(( أنَّها ذَكرتِ النَّارَ فبَكت، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ما يبْكيك؟ قالَت: ذَكرتُ النَّارَ فبَكيتُ، فَهل تذْكرونَ أَهليكم يومَ القيامةِ؟ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: أمَّا في ثلاثةِ مواطنَ فلا يذْكرُ أحدٌ أحدًا: عندَ الميزانِ حتَّى يعلمَ أيخفُّ ميزانُهُ أو يثقلُ، وعندَ الْكتابِ حينَ يقالُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيَهْ حتَّى يعلمَ أينَ يقعُ كتابُهُ أفي يمينِهِ أم في شمالِهِ أم من وراءِ ظَهرِهِ، وعندَ الصِّراطِ إذا وضعَ بينَ ظَهري جَهنَّم. ))
هذا يومٌ عصيب..
﴿ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10)﴾
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
2 ـ هيِّئ جوابًا لله عن كل سؤال:
مرة استنصحني رجلٌ له عمل بإمكانه ببساطة أن يوقع الأذى بالناس، وهو مرهوب الجانب، قلت له: يا فلان، افعل ما تشاء، فاستغرب هذا الكلام مني، ولكنك إذا كنت بطلاً تهيِّئ لله عزَّ وجل عن كل فعلٍ تفعله مع الناس جواباً مقنعاً، لماذا فعلت مع فلان هكذا؟ يا رب فعل كذا وكذا، صحيح، لماذا فعلت مع فلان هكذا؟ إذا كنت بطلاً يجب أن تهيّئ جواباً لله عز وجل عن كل شيء تفعله؛ مع نفسك، مع أولادك، مع زوجتك، مع زبائنك، مع شركائك، مع زبائنك، مع جيرانك، مع الحيوانات.
فهذا العصفور الذي يقتله الصيَّاد للتسلية، عنده هواية الصيد، يقتله لغير مأكلةٍ، ليس جائعاً، ليس على وشك الموت جوعاً، لا، يذهب إلى البادية ليصطاد عشرات المئات من القَطا، ثم يتلفها في الطريق، لأنه لا يستطيع أن يحتفظ بها أياماً ثلاثة، لكنه مارس هواية الصيد، وقد حدثني أحدهم قال: والله ذهبنا بسيَّارتين أو ثلاثة وصدنا من القطا ما يزيد عن ألفي طائر، وكله تلف معنا في الطريق، ورميناه في الطريق، وهذا العصفور يوم القيامة يأتي وله دويٌ كدوي النحل، يقول يا رب سله لم قتلني؟.
هناك من الصيد ما هو مُحرَّم بإجماع العلماء، أقول: بإجماع العلماء، أي أنك إذا اصطدت طائراً لغير مأكلةٍ، للتسلية، لممارسة هواية الصيد فقط، لكن الله شرع الصيد إذا كنت مسافراً، وأنت الإنسان المكرَّم، وأنت الإنسان الذي كرَّمك الله عزَّ وجل، إذا كنت على وشك الموت جوعاً لك أن تصطاد، وأن تأكل؛ أما أن تجعل من الصيد هوايةً وتسليةً، تتلف هذه الأرواح، العلماء قالوا: إنك تعذب هذا الحيوان بلا جدوى، والحيوان مال تتلفه أنت بهذه الطريقة.
فلذلك أيها الإخوة، في عملك، في حرفتك، في مهنتك، في بيتك، لماذا طلَّقت زوجتك؟ هل عندك جوابٌ لله عزَّ وجل؟ لماذا قلت لأمك: كذا وكذا؟ لماذا نصحت هذا الإنسان أن يأتيك بعد أسبوع، وأنت تعلم علم اليقين أنه شُفِي تماماً من مرضه؟ لماذا تأمره أن يأتيك بعد أسبوع للمراجعة؟ لماذا؟ الله وحده يعلم، أيها المحامي لماذا تقول لهذا الموكل: قضيتك رابحة مائة في المائة، وأنت تعلم علم اليقين أنها لن تربح، وأن هناك اجتهاداً واضحاً في محكمة النقض يخالف هذا الذي تقوله؟
أيها الإخوة الأكارم، هذا هو الدين، قلت مرةً لأحد الأشخاص: القضية في الدين ليست في سعة الثقافة، ولا في طول الباع؛ القضية بالورع، قلت له هذا الأعرابي البدوي الذي رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأراد أن يمتحنه، هذا البدوي محدود الثقافة، الذي لم يطّلع لا على كتاب، ولا على شريط، ولا على مُجلّد، ولا عنده دائرة معارف في البيت، ولا عنده مجلات حديثة، هذا البدوي قال له عمر:
هذا البدوي، الأعرابي، هذا الراعي وضع يده على جوهر الدين، أنت في خلوتك، وممكن أن تقع بمخالفة لا يراها أحد في الأرض، وأنت بينك وبين الله تقول: إني أخاف الله رب العالمين، فأنت مؤمنٌ ورب الكعبة، ورب الكعبة أنت مؤمن، في خلوتك لا في جلوتك، وحدك:
يجب أيها الإخوة قبل أن تفعل شيئاً، قبل أن تقول كلمةً، قبل أن تقف هذا الموقف، قبل أن تغضب، قبل أن ترضى، قبل أن تصل، قبل أن تقطع، قبل أن تذهب إلى هذا المكان، قبل أن تسهر هذه السهرة، قبل أن تشترك في هذه النزهة، قبل أن تعقد هذا الاجتماع، قبل أن تزمجر على فلان، قبل أن تلين لفلان، يجب أن تهيئ لله جواباً على سؤاله، يا عبدي لمَ فعلت هذا؟
سؤال كبير جداً، أعطيتك مالاً والناس يموتون جوعاً، ومعظم الناس لا يجدُ ما يأكله، معظم الناس ليس عنده غرفةٌ يتزوَّجُ بها، أحياناً بيت بمصيف ثمنه ثلاثون مليوناً من أجل أن يقضي فيه أسبوعين في الصيف، وفي معظم أشهر الصيف قد لا يتاح له أن يزوره مرةً واحدة،
إذا لم تراقب الله عزَّ وجل، وتحادثه، وتسأله، وترجوه، وتستغفره، فلست مؤمناً، فـ:
لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ
﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
نواة التمر من أحد أطرافها لها رأس مُؤنَّف لا يُرى بالعين، أما إذا وضعته على لسانك تشعر كأنه دبوس، هذا اسمه "النقير"، ونواة التمرة في الشق الذي على أحد طرفيها خيطٌ رقيق، هذا ماذا يسمى؟ "فتيل"، ولنواة التمرة غشاءٌ رقيقٌ رقيق، هذا يسمى "قطمير"، فأنتم، لا تُظلمون نقيراً، ولا تظلمون فتيلاً، ولا تظلمون من قطمير، لا غشاء النواة، ولا الخيط بين الفَلقتين، ولا في نتوء هذه النواة، لا ظلم اليوم، قال:
وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
رجل كان ببلد غربي، يقود مركبةً في الساعة الثانية ليلاً، بعد أسبوع جاءه إعلام بمخالفة ارتكبها، على عادته في بلده ذهب إلى هناك وقال: أنا لم أخالف، هذا كلامٌ فيه افتراء، فسكتوا، ودخلوا، وخرجوا، وقد أطلعوه على صورة سيارته وهي تخالف، فسكت، ما قول هذا الإنسان لو رأى يوم القيامة شريطاً فيه كل حركاته وسكناته، كل حركةٍ وسكنةٍ.
﴿
سمعت في بعض دوائر الشرطة أن الإنسان إذا ضُبِط بمخالفة يُصوَّر، فلئلا يقول: كنت، ولم أكن، ولئلا يتعبهم في الاعتراف، قبل كل شيء يطلعونه على الشريط المُسَجَّل، بعدئذٍ يسألونه.
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ
فدبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء يعرفها.
يَا مَن يرى مَدَّ البعوض جناحها في ظلمة الليــل البهيم الألْيَلِ
ويـَرى مَنـاطَ عُروقِـها فـي نَحرِهـا والـمخَّ مــن تـلـك العــظـام النُّحَّــلِ
النملة لها جهاز هضمي فيه عصارات، ولها معدة، ولها جهاز ضخ، وجهاز إفراز من يرى هذا كله؟ ثم يقول الله عزَّ وجل:
﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)﴾
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
الذين آمنوا وعملوا الصالحات، عقيدة المؤمن صحيحة، وسلوكه صحيح، أفكاره صحيحة، وعمله طيِّب.
﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ(5)﴾
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ
فهذا الذي يكيد للحق، يريد أن يسفِّه أهل الحق، يريد أن يطفئ نور الله، يريد أن يُظهر الدين على أنه لا يصلح لهذا الزمان، يريد أن يظهر المؤمنين على أنهم أناسٌ ضيِّقو الأفق، هذا الذي يسعى لإظهار الباطل متألقاً، وإظهار الحق متخلفاً، هذا الذي لا يُعنَى بكتاب الله، يراه لا يصلح لهذا الزمان..
﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ(5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ(7) أَافْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ(8)﴾
وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى نقف عند هذه الآيات الكريمة وقفةً متأنية.
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزيّنا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجمّلنا بالعافية، وطهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.