- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (034)سورة سبأ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس السابع من سورة سبأ، وبدءاً من الآية الرابعة والعشرين، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ:
﴿
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
1 ـ الرزق والأجل بيد الله وحده:
أخطر شيء في حياة الإنسان وجوده ورزقه، وأخشى ما يخشاه انقضاء أجله وانقطاع رزقه، لذلك لو علم الناس علم اليقين أن آجالهم بيد الله، وأن إنساناً واحداً على وجه الأرض لا يستطيع أن يحدِّدها، وأن أرزاقهم بيد الله، وأن جهةً على وجه الأرض مهما عظمت لا تستطيع أن تمنع، ولا أن ترسل، فإذا أيقنت يقيناً قطعياً أن حياتك بيد الله، وأن الذي منحك الحياة هو وحده يُنْهِي هذه الحياة، وأن الذي خلقك هو الذي تكفَّل برزقك، لو أيقن الإنسان بهاتين الحقيقتين لكانت حاله ذات شأنٍ آخر بعيدٍ كل البعد عن شأنه الحالي.
إن الله سبحانه وتعالى قد منع العباد من أن يتدخلوا في آجال الناس وفي أرزاقهم، لذلك قيل: كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرِّب أجلاً، لا إذا قلتها، ولا إذا سمعتها، اسمعها، فهذا الذي يخشى أن يسمع الحق، يتوهم توهُّمات باطلة، هذا لا يعرف الله عزَّ وجل..
﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ(78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِين(79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ(80)﴾
لو دققت في أسباب أكثر المعاصي لوجدتها من أجل المال، لو أيقنت يقيناً قطعياً أن الله عزَّ وجل بيده الرزق وحده؛ يكثِّره أو يُقلّله، يُضيّقه أو يُوسّعه، يسهّله أو يعسّره، وأنك لن تنال ما عند الله عزَّ وجل إلا بطاعته، وأنك إذا توهَّمت أنك بمعصية الله عزَّ وجل يزداد رزقك ما الذي يحصل؟ قد يأتيك رزقٌ وفير بادئ ذي بدْء، ثم يُمْحَق، ثم يُتلَف، ثم يُهلَك، فهذا الذي نعنيه بقوله تعالى أن الرزق بيد الله، والله سبحانه وتعالى جعل الرزق متغيراً.
2 ـ حركة الرزق متحركة غير ثابتة:
في الحياة ثوابت ومتغيرات؛ حركة الأفلاك ثابتة، الليل والنهار ثابت، دورة الشمس والقمر ثابتة، هذه ثوابت، نظام جسم الإنسان ثابت، نظام التوالد ثابت، خصائص الأشياء ثابتة، خصائص البذور ثابتة، ولكن هناك أشياء متغيرة، فالرزق متغيِّر، وربنا عزَّ وجل جعله متغيراً لحكمةٍ بالغة، ليربطك به، ما دمت تحرص على الرزق حرصاً بالغاً، والرزق بيده، فإذا أردت بحبوحة الرزق فالجأ إليه، طبِّق أمره، تُب إليه، من منا يصدِّق قبل هذا العام أن تأتي أمطار بهذه الغزارة؟ أنا سمعت بأذني من خبراء في البيئة قالوا: نحن في طريق الجفاف، معظم الينابيع جَفَّت، معظم الأنهار جفّت، وكلما تقدَّمت السنوات دخلنا في منطقة الجفاف، فمعدل دمشق كان مئتين وثمانية عشر ميليمتراً، في السنوات الخمس أو الست الأخيرة وصل إلى مئةٍ وستين، وإلى ثمانين ميليمتراً، من منا يصدق أن تأتي هذه الأمطار بهذه الغزارة؟! في أكثر المناطق رجحت النسب عن ألف ملم، في أغلب المناطق، وفي أغلب المناطق رجحت النسب عن المعدلات السنوية في السنوات المطيرة، الله هو الرزاق.
3 ـ لماذا التملق والنفاق إذا كنت تعلم أن الرزق بيد الله:
هذه النقطة الدقيقة أجلك ورزقك بيد الله وحده، إذاً: لا تنافق، الناس ينافقون إما حفاظاً على حياتهم، أو حفاظاً على أرزاقهم، الناس يتكلَّمون الباطل إما حفاظاً على حياتهم أو على أرزاقهم، أناسٌ كثيرون يتملّقون، أناسٌ كثيرون يعصون الله عزَّ وجل، يفعلون الكبائر حفاظاً على حياتهم، أو حفاظاً على أرزاقهم، وتنقضي حياتهم، وتُقْطَعُ أرزاقهم، ويكسبون الإثم فقط، فإذا رأيت أن الله بيده كل شيء، وأن كل مَن تراه من بني البشر هم بيد الله عزَّ وجل، هذا هو الدين، الدين أن تتعامل مع جهةٍ واحدة، مع الله، الدين أن تُخلص له، الدين أن ترجو ما عنده، الدين أن تخافه، الدين أن تعقد الآمال عليه، الدين أن تستقيم على أمره، ولا تعبأ ببني البشر، ربنا عزَّ وجل يقول: يا محمد سَلْهُم:
فهذا الذي قال مرةً: نحن استغنينا عن رحمة السماء هو قمة في الجهل، نحن بحاجة لحظية إلى رحمة الله عزَّ وجل، والإنسان كما تعلمون بيد من؟ فنقطة دم بالدماغ تتجمد، إما شلل، أو جنون، أو اختلال توازن، أو صمم، أو عمى، نقطة دم لا يزيد حجمها عن رأس دبوس، لو تجمدت في بعض شرايين الدماغ، أي مكانٍ في الدماغ لو أصابه خلل لانعكس آفةً خطيرةً، فأنت بيد الله؛ وجوداً، وسلامةً، وكمالاً، واستمراراً ومَن حولك، ومَن دونك، ومَن فوقك.
وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
1 ـ مِن أدبِ الحوار:
الآن نحن في آيةٍ تعلِّمنا أدب الحوار، فإذا أردت أن تناقش الآخرين، أن تحاورهم، إذا كنت ممن يريد أن يستعلي عليهم، فأنت لست ممن يحبه الله ورسوله، أما إذا أردت أن تنقُلَهُم إلى الحق، وأن تهديهم سواء السبيل، فهذا هو الأسلوب، دققوا في أن الله سبحانه وتعالى يأمر النبي أن يقول للخصوم، للكفار، للمشركين، للفجار، لآكلي المال الحرام، لشاربي الخمر، لعبدة الأصنام، لمن يعبدون الأصنام جِهاراً، قل لهم يا محمد:
2 ـ لفظ الهدى في القرآن مسبوق بـ ( على ) والضلال بـ ( في ):
معنى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
المعنى الأول:
والمعنى الآخر: أن الهدى يرفعك، كلما كنت على حق كلما كنت أعلى في نظر الناس، كلما تألَّقت في سماء المجتمع، كلما كنت على حق، كلما أعجب الناس بك، جعلوك قدوةً، فالهدى يرفع، أما إذا كنت ضالاً ـ لا سمح الله ـ فالضلال يجعلك في مكانٍ سحيق، وفي حفرةٍ سحيقة، وفي هاويةٍ مالها من قرار، ويجعلك مقيداً، كأن "في" تعني القيد، والعلو يعني الإطلاق، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال الله في وصفه:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ(4)﴾
أي أخلاقك طوع بنانك، الإنسان أحياناً يقف موقفاً أخلاقياً بعد جهدٍ جهيد، بعد صراعٍ مع نفسه مرير، بعد أخذ ورد، بعد قيلٍ وقال، بعد إقدام وإحجام، وفي النهاية يستنفذ كل جهوده، وينتصر على نفسه، ويحلُم، ولا ينفجِر، فهذا الإنسان ذو خلقٍ؛ ولكن ليس على خلقٍ عظيم، فهو انتصر على نفسه بصعوبة، أي أنه كاد ينهزم، كاد ينفجر، كاد يغضب، كاد يكون قاسياً، كاد ينتقم، لكنه رجَّح جانب الكمال، وانتصر، فهو ليس على خلقٍ، هو ذو خُلقٍ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لأنه مُتمكّنٌ من أخلاقه، متمكنٌ تماماً، لأن أخلاقه طَوع بنانه، لأنه في أعماق الفضيلة لا على حوافِّها.
﴿
علوُّ الهدى وسفول الضلال:
فإذا مشى الإنسان على حرف، بين أن يبقى على هذا السطح، وبين أن يسقط، إذا سار على حرف النهر، بين أن تزلّ قدمه فيسقط، وبين أن يبقى على اليابسة، احتمال الوقوع كبير جداً، لكن إذا كان في الأعماق، في أعماق البر، احتمال أن تزل قدمه، وأن يسقط في الماء احتمال مستحيل، فالإنسان كلما ارتقى إيمانه يدخل في أعماق الكمال، أما الذي إيمانه ضعيف فهو على حرْف، لكن أهل الدنيا الذين يتخلَّقون بأخلاقٍ رَضِيَّةٍ، لانتزاع إعجاب الآخرين، وانتزاع ثنائهم، وترويج بضائعهم، هؤلاء سريعاً ما ينكشفون، لو جاءهم مؤثِّرٌ يصدم مصالحهم، أو يجرح مشاعرهم ينقلبون إلى وحوشٍ كاسرة، كل لباقته ونعومته وذوقه الرفيع تركه جانباً، وتكشَّف عن وحشٍ كاسر.
فلذلك إذا ارتقى إيمانك تدخل في الأعماق، فالهدى يرفعك، يعلي شأنك، يجعلك ظاهراً، بارزاً، متألِّقاً؛ وأما الضلال يجعلك في الظلام، يجعلك في الأقبية، فالمعاصي كلها في الأقبية، أما الطاعات ففي أماكن فسيحة ومكشوفة، والباب مفتوح دائماً، تحت ضوء الشمس، أهل الإيمان يعملون تحت ضوء الشمس في وضَح النار، كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ. ))
"على" فيها وضوح، أنت في مكان عالٍ انظر إلى الجبل، الجبل واضح، إذا أتيت الشام من طريق درعا ترى الجبل، من طريق بيروت ترى الجبل، من طريق حلب ترى الجبل، من طريق التل ومنين ترى الجبل، شيءٌ عالٍ، والهدى كذلك منارة مرتفعة تُرى من كل مكان؛ أما إذا ضللت فالضلال يحتاج إلى أماكن إضاءتها خافتة أليس كذلك؟ وتحت الأرض وفي السر، المعاصي تُرتكَب سراً، والزنا يُرتكَب سراً، بينما الزواج تُطلَق أبواق السيارات حتى تملأ الدنيا ضجيجاً، لأنه زواج، أما الزنا سراً.
أذكر هذه القصة، لي صديقٌ طرق بابه الساعة الرابعة بعد الفجر، فتح الباب فلم يجد أحداً، نظر نحو الأرض فإذا محفظة صغيرة مفتوحة فيها طفل ولِدَ حديثاً، وُلد منذ ساعة تقريباً، وطبعاً هذا لقيط، ابن زنا في أغلب الظن، فأخذه إلى مستشفى، واعتنى به إلخ.
أنا استوقفني هذا المشهد فقلت: لو أن هذا الولد جاء من طريقٍ مشروع، قبل أن يأتي بأشهر أُعِدَّت له الوسائد، والسرير، واللباس الأنيق، والزوج مستبشر، والزوجة فرحة، والأهل ينتظرون هذا المولود، فإذا جاء هذا المولود وزفت البُشرى إلى الأهل، يأتي المهنِّئون ومعهم الهدايا، وتُوزّع الحلوى، إذا جاء المولود بالطريق الذي رسمه الله عزَّ وجل، رسم طريق الزواج شيء؛ وإذا جاء المولود بطريقٍ غير مشروعةٍ فشيءٌ آخر.
الهدى واضح، لا تنعقد صلاة الجمعة في الفقه إلا إذا كان المسجد مفتوحاً لكل الناس، لو فرضنا خطيب متفوِّق، وخطبة رائعة، وحق، وعمق، وتحليل، وأحاديث وآيات، لو أن إنساناً قفل الباب الصلاة كلها باطلة، بالفقه لو أن إنسناً ارتج باب المسجد، والخطيب على المنبر، والخطبة رائعة، وآيات وأحاديث وقصص وسيرة وصحابة، والصلاة متقنة، الصلاة كلها باطلة، لماذا؟ لأن الباب مرتج، يجب أن يكون الباب مفتوحاً، فهذا دين الله عزَّ وجل، وهذا شرع الله، كلمة لا حياء في الدين تخطر في بالي أحياناً، يمكن أن نوجهها توجيهاً آخر، ليس في الدين كله شيءٌ تستحي به، لو فرضنا عابد للبقر من الهند ذهب إلى مجتمع راقٍ، وهو يعتقد أن روث البقر إذا وضعه على جبينه يتبارك به، لو تكلَّم بهذه الفكرة أمام أناس مثقفين ألا يستحي بها؟ يصغُر أمام الناس، فالذين يعبدون البقر والشمس، ويعبدون الشيطان، ويعبدون بوذا يستحيون أمام المثقفين.
حدثني صديق كان باليابان، دخلوا إلى معبد بوذي فإذا أمام هذا الصنم الكبير بوذا فواكه مما لذ وطاب، سأل لمن هذه الفواكه؟ قالوا: هي لهذا الإله يأكلها في الليل، فنظر إليهم نظرةً فاحصةً فتبسَّموا، وقالوا: نحن نأكلها، يعتقدون أن تكريم الإله بوضع الفواكه الطازجة الجيدة، فإذا تكلَّمت بكلام أمام إنسان مثقف يضحك على هذا الدين، ليس في الدين الإسلامي كله شيءٌ تستحي منه، لأنه دين الله عزَّ وجل.
﴿
كلمة
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)﴾
أنت مع الله..
﴿
وأنت مع الله تخاف من مخلوق؟! وأنت مع الله تستحي أن تصلي؟ وأنت مع الله تستحي أن تكون صائماً؟
مرة من المرات حدثني رجل قال لي: كنا في جلسة، وفيها رجل ذو شأن، وهذا الشخص الكبير سأل: احضروا لنا ضيافة، فجاؤوا بالضيافة، وكان هناك شخص صائم، فاستحى وأفطر، لئلا يقال عنه: صائم، رجل آخر قال: إني صائم ـ جيِّد ـ في النهاية الذي أفطر إرضاء لهذا الكبير ركله بقدمه، والذي قال: إني صائم ارتفع في نظره.
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
لا أحد على وجه الأرض ـ وأنا أعني ما أقول ـ عظمه الناس كما عَظموا رسول الله، بعد ألفٍ وخمسمئة عام اذهب إلى حرمه الشريف، وانظر إلى مئات الألوف يمشون أمامه، أمام قبره وهم يبكون، لا رأوه، ولا سمعوا منه، ولا أخذوا منه شيئاً، قبل ألفٍ وخمسمائة عام، هذا معنى:
وأيُّ مؤمنٍ إذا سار على منهج الله تماماً، وأحب الله، وأخلص له، لابدَّ من أن يرفع الله له ذكره، وأن يعلي قدره، وأن يجعله كالنجم المتألق في سماء الناس، هذا معنى: لعلى هدى، أنت على هدى.
هناك معنى آخر، القرآن إعجازه في إيجازه، الإنسان إذا كان على صخرة مشرفة، صعد إلى جبل قاسيون، وألقى نظرة على دمشق يقول لك: هذا حي المزة، أتراه؟ هذا الميدان، هذه برزة، هذا العدوي، هذا الطريق الفلاني، لأن مقامه مرتفع مشرف، فالإنسان إذا اهتدى يملك رؤية ثاقبة، وبعيدة، وخارقة، الأشياء يراها بوضوح، كيف؟
أنت أحياناً ترى صديقاً لك يأكل مالاً حراماً، وهو يظن أنه ذكيٌ بهذا العمل، أنت تراه أحمق، تراه ضعيف التفكير، محدود الأفق، تراه جاهلاً في الدين، لأنك تعلم علم اليقين أن هذا المال الحرام لا يصمد عنده، لابدَ من أن يتلفه، لأنه جاهل، أنت مُشرف، أنت تراه، وهو لا يراه، هو في قبر شهوته، هو غارق في دناءاته، في مصالحه الذاتية، غارق في آفاقه المحدودة، فالهدى يرفعُ من مقامك، وأنت لك نظرةٌ شمولية.
مثلاً: سجادة أمامك، إنسان من أهل الدنيا كانه شعرة في دائرةٍ من هذه السجادة، شعرة حولها مئة شعرة، أما المؤمن فيلقي على هذه السجادة نظرة كُلِّيَة، يرى ألوانها، يرى أشكالها، يرى دقة النقش، يرى أبعادها، طولها عرضها، فالمهتدي له نظرةٌ شمولية، يرى أن المستقيم لابدَّ من أن يكرمه الله عزَّ وجل، وأن المنحرف لابدَّ من أن يقصمه الله عزَّ وجل، ولكن المنحرف واقع في قوقعة الانحراف، في ضلالٍ مبين، والهدى فيه إشراف وفيه علو، وفيه وضوح، وفيه تألُّق.
الهدى فيه تقييد، والباطل فيه إطلاق:
وهناك معنى آخر، الهدى هو التزام، الحقيقة الدين الإسلامي فيه أوامر وفيه نواهٍ، لن تكون مهتدياً إلا إذا ائتمرت بما أمر الله، وانتهيت عما عنه نهى، لا يوجد غير ذلك، فهناك قيود، أنت لست حراً، لست مطلقاً، أنت مقيد بالشرع، الإيمان قيد الفتك، ولا يفتك مؤمن، أنت مقيد، مقيدٌ بالأمر والنهي، كالطبيب، باعتبار الجسم دقيق جداً، وأيّ خلل بالمعالجة فلهذا الخلل مضاعفات خطيرة، ترى أن الطبيب مقيد؛ بالدواء، بكمية الدواء، بأوقات الدواء، بالتحاليل، بكل شيء مقيد، لأن لو صار هناك خلل فالخطأ قد ينتهي إلى وفاة، فالهدى كله قيود، فالمؤمن بإمكانه أن يطلق بصره في الحرام؟ لا يقدر، مقيد، بإمكانه أن يأكل مالاً حراماً؟ لا يقدر، لو أخطأ معك بائع بمبلغ من المال، بإمكانك أن تسكت عنه؟ لا تقدر، تعلم علم اليقين أن الله سبحانه وتعالى يعاقبك عقاباً أليماً سريعاً مضاعفاً، فالهدى إذاً قيود، ومع ذلك يرفعك، رغم القيود يرفعك.
لكن الباطل فيما يبدو تفلت وحرية كما يقول الناس؛ لك أن تنظر، ولك أن تأكل كما تشاء، وأن تمتِّع بصرك بمن تشاء، وأن تلتقي مع من تشاء، وأن تذهب إلى حيث تشاء، فيما يبدو لك الباطل كله حرية، حرية مطلقة، الأصح تفلُّت لا يوجد قيود، لا يوجد مبادئ، لا يوجد عنده دين، لا يوجد عنده حرام وحلال، لا يوجد عنده سنة وواجب ومندوب، وسنة مؤكدة، وسنة غير مؤكدة، وكراهة تحريمية، وكراهة تنزيهية، لا يوجد عنده شيء، يفعل ما يبدو له، يفعل ما يراه مريحاً له، يتكلم بالباطل، يغتاب، يمتِّع نظره بالنساء، يأكل مالاً حراماً، يستعلي على الناس ويتهكَّم، ينام دون أن يصلي، نعس ينام مباشرة، يستيقظ متأخراً، الباطل فيما يبدو فيه حرية، أو فيه تفلّت، لا يوجد انضباط.
مع أن الباطل كله حريات، كله إباحة، كله استرخاء، كله أن تفعل ما تشتهي، ومع ذلك تقع في فخٍ كبير، فإذا أنت بين عشيةٍ أو ضحاها فقدت حريتك، ودخلت في متاهات الخوف، ومتاهات الملاحقة، فالباطل مع الحرية المطلقة التي فيه ينتهي بك إلى أن تُسلَب حريتك، لو فرضنا الإنسان ارتكب الفحشاء، ضُبط يرتكب الفحشاء أودع في السجن، كان حراً ففقد حريته، لو فرضنا أكل مالاً حراماً، وكُشف أمره أُودِع في السجن مباشرة.
فكلمة (في) على الرغم مما يبدو لك أنك حرٌ إذا كنت على باطل، أنك مطلق تفعل ما تشاء، كل شيء مباح لك، هذه الحُرية مزيفة لابدَّ من أن تقودك إلى غياهب السجن أحياناً، فهذه أوروبا ـ لا تبتعدوا ـ أليسوا أحرارا في اقتناص اللذات؟ هل في أوروبا أو أمريكا شيء اسمه حرام؟ تبادل الزوجات، زنا المحارم، الانحراف الشاذ، ألم يوصلهم هذا إلى مرض الإيدز، الذي هو طاعون القرن العشرين، البعبع الكبير الذي يُقضُّ مضاجعهم، حريتهم إلى أين أوردتهم؟ إلى الخوف، إلى الهلع، إلى الذُعر.
ذهب أحدهم إلى بلدة أجنبية، نزل في فندق، ويبدو أنه انحرف في هذه الليلة مع امرأة، استيقظ فلم يجدها، لكنها كتبت له على المرآة: مرحباً بك في نادي الإيدز، أصبحتَ عضواً في هذا النادي، فانتحر، هذه الحرية التي مارسها جعلته ينتحر، أو في ضلالٍ، دخل في الضيق النفسي، فإذا كنت على هدى الهدى يرفعك، إذا كنت على هدى فالهدى واضح، إذا كنت على هدى فالهدى مُشْرِف، إذا كنت عل هدى فرؤية المهتدي واسعة جداً؛ أما إذا كنت في ضلال ـ لا سمح الله ـ فالضلال من شأنه أن في ظاهره أنك حر، المؤمن يخاف أن يصافح، ويقول لك: قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِنِّي لا أُصَافِحُ النِّسَاءَ ))
يخاف أن يملأ بصره من الحرام، يقول لك: لا يجوز أن أنظر، قال تعالى:
﴿
يغُضُّ بصره، ويتحرج من درهم حرام، يقول لك: هذا لا يجوز، هذا مال حرام، هذا لا أفعله، هذا المال لا يجوز أن أقبضه، على الرغم من القيود الشديدة التي هو مقيدٌ بها، قيود الشرع، يرتفع، ويرزقه الله ويعطيه الله، ويرفع شأنه، لأنه لعلى هدى؛ أما أهل الضلال، فما من إنسان أكل مالاً حراماً وكُشِف أمره إلا أُودِع السجن، ما من إنسان خانَ صديقه إلا فُضح أمره، إما عدوان على الأعراض أو على الأموال، فكل حريةٍ تتوهمها حرية هي منزلق خطير إلى جهنم، وإلى الخزي في الحياة الدنيا.
إذا قرأت في القرآن الكريم مع الهدى كلمة (على) ومع الضلال كلمة (في) فيجب أن تتذوق أن الهدى واضح، وأن الهدى عالٍ، وأن الهدى مُشْرِف، وأن الهدى مع أنه قيودٌ ترفعك إلى أعلى، وأن الضلال مع أنه في الظاهر فيه حرية، فيه تساهل، لا يوجد فيه قيود، لكن هذا الضلال يورد الإنسان إلى القيود الشديدة، والآية الكريمة:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)﴾
طلقاء:
﴿ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25)﴾
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ
يا الله، أيكون عمل النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عزَّ وجل، وفي توحيده، وفي بيان أوامره، وفي دعوة الناس إلى الأخلاق الحميدة، أيكون عمل النبي جريمةً، أي: يا أيها الكفار، إذا كنتم تتوهمون أن في هذه الدعوة جريمةً في حق المجتمع فنحن وحدنا مسؤولون عنها، وإذا توهَّمتم أن ردَّكم للحق هو عملٌ طيب فأنتم وحدكم تحاسبون عنه، أيضاً تلطفٌ كبيرٌ كبير في محاورة الخصم.
إذا كنت على الحق فلا تبالِ بأحدٍ:
إذا توهَّمتم، هذا يعني أن أيها المؤمن إذا كنت على حق فلا تبالِ بأحدٍ.
﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(116)﴾
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ(36)﴾
﴿ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26)﴾
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ
وعند ربِّك تجتمع الخصومُ:
الخلافات المذهبية، والخلافات بين الناس، وبين معتقداتهم ومشاربهم، خلافاتهم في دينهم وفي دنياهم، هذه الخلافات المستعصية لابدَّ من أن تُحَلّ عند الواحد الديَّان، لابدَّ من أن الله يفصل بين الناس يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فهنيئاً لمن كان على الحق، والويل لمن كان على الباطل، لو أن أهل الدنيا كلهم معك، ولم تكن على الحق لم تستفد شيئاً، لو أن الدنيا كلها معك، ولم تكن على حقٍ، على ما يرضي الله فما حصَّلت شيئاً، ولا كسبت شيئاً، وما حققت ربحاً إطلاقاً، فلهذا:
﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾
يوم القيامة، يوم الدينونة، يوم الجزاء، اليوم الحق، يوم الحساب، يوم يدفع الإنسان ثمن اختياره في الدنيا
﴿
قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ
لا ينفع الشركاء أصحابَها:
مَنْ هؤلاء الذين جعلتموهم شركاء لله عزَّ وجل؟ هذا الصنم؟ وُدٌّ قبيلة عربية صنعت صنماً من التمر، فلما جاعت أكلته، فقالوا: أكلت ودٌ ربَّها، وهذا الصنم الآخر الذي جاءه ثعلبٌ، وبال على رأسه، فرآه من يعبده فقال:
أَرَبٌ يَبولُ الثُعلُبانُ بِرَأسِهِ لَقَد هانَ مَن بالَت عَلَيهِ الثَعالِبُ
أيعقل أن يكون هذا الصنم رباً؟! من هؤلاء الذين ألحقتم بهم شركاء؟ من هؤلاء؟ أحجار؟ أشخاص؟ شخصٌ من بني البشر لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ضراً، تعبده من دون الله؟ من هذا الذي جعلته إلهاً، وتعبده من دون الله؟
﴿ الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني. ﴾
(( الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه. ))
نحن فقراء لله عزَّ وجل.
في اليابان كان عندهم رجل اسمه الميكادو، وقد عبدوه من دون الله، فله طبيب، لشدة ما رأى من خلل صحته وضعف قلبه أسلم هذا الطبيب، لماذا أسلم؟ كيف يكون هذا إلهاً؟ وفي قلبه آفات، وفي رئتيه أمراض، وفي أعصابه تلف، وعاش عمراً مديداً، ميكادو كانوا يعبدونه من دون الله، كيف يكون هذا إلهاً؟ شيء مضحك.
كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
﴿
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا
دعوة النبي دعوةٌ عامة، دعوةٌ لكل الأمم ولكل الشعوب، كلُّ نبيٍ أرسله الله لقومٍ محدودين، إلا النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿ ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَن
قال:
﴿
هم يكذبون الآن، الذي يقول لك: هذا الدين لا يصلح لهذا الزمان يكذب، لأن جِبِلَّتَهُ تتوافق مع هذا الدين، الإنسان مصمم تصميماً دقيقاً كي يعرف الله عزَّ وجل، فإذا عرفه ارتاحت نفسه، فإذا بقي تائهاً بقي مضطرباً، الإنسان جِبِلَّتَهُ أن يطيع الله عزَّ وجل، فإذا أطاع الله ارتاحت نفسه، فإذا عصاه وقع في شكٍ واضطرابٍ شديد.
﴿ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(29)﴾
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ
هذا سؤال استهزاء: متى يا سيدنا؟
﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ(30)﴾
والله يا أيها الإخوة، ورد في بعض الأحاديث أنه حينما يأتي ملك الموت، لو أن إنساناً بيده الدنيا كلها، مثلاً شخص عنده محل بشارع مهم يفتخر ويقول لك: هذا ثمن متره 500 ألف ولا أسلمه، إذا معه طابق تاني مكتب، ومعه قبو مستودع، وإذا كان لديه محلان بجانب بعضهما، الشارع كله على الجانبين له، أو أهم شارع بأي عاصمة كله له، أضخم الشركات كلها له، لو أن الدنيا كلها بيد إنسان وجاءه ملك الموت لتخلى عنها مقابل أن يعيش ساعةً واحدة زائدة عن أجله ليصلي بها ركعتين، تقول له: لا فوت، لو أن الدنيا كلها، أضخم الشركات بالعالم، شركات عندها وفرة بأربعة مليارات دولار، شركة لا تجد كيف تستثمرها، شركات ذات إنتاج عالٍ، لو أن كل شركات العالم لك، وكل الأسواق في العالم لك، وكل المزارع لك، وجاء ملك الموت لتمنيت أن تخسرها كلها مقابل أن تعيش ساعةً زيادة على أجلك، لكن:
﴿ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ(30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31)﴾
هذا حوار طويل بين أهل النار وهم في النار، كيف أن كلاً منهم يقذف التهمة إلى الطرف الآخر، والطرف الآخر يردُّها له، أما بالنهاية جميعاً يُعذَّبون في النار على قدمٍ وساق، حوارٌ طويل بين فئات أهل الكفر وهم في جهنم، كيف يتهم كلٌ منهم الآخر بأنه سبب هذا البلاء الكبير، ولكن إن شاء الله في درسٍ قادم نعود إلى هذه الآيات ونتابعها.
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أغننا بالعلم، وزيّنا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجمّلنا بالعافية، وطهّر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء، وألسنتنا من الكذب، وأعيننا من الخيانة، فإنك تعلم خائنة الأعين وماتخفي الصدور، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.