- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (034)سورة سبأ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة سبأ:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)﴾
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
1 ـ الناس يستوون في الإقرار بالنعم:
أيها الإخوة الأكارم، ليست القضيَّة في هذه الآية قضية إثبات النِعَمِ أو نفيها، لكن القضيَّة لمن تُنسَب هذه النِعَم؟ لو أن أحداً أخذ بيدك إلى وليمةٍ عالية المستوى، وتذوقت أطيب الطعام، تسأله من حين لآخر: من صاحب الدعوة؟ الأكل نفيس، الإكرام بالغ، ليست القضية هل هذا طعام أو ليس بطعام، هل هذا طعام نفيس أو خسيس؟ لا، ليست هذه القضية، القضية من نشكر؟ من صاحب الدعوة؟ لأن النعم التي أكرم الله بها الإنسان؛ المسلم وغير المسلم، الكافر، والجاحد، نعمة الوجود، نعمة الزوجة، نعمة الحواس، نعمة الكون، نعمة دقائق ما في الكون، هذه نِعَمٌ يَنْعُمُ بها كل الناس، لا شكَّ فيها، ولا خلاف عليها، ولا تردد في تصديقها، لكن المشكلة والقضية ليست في أن هذه نِعَم أو ليست بِنِعَم، أو هذه نِعَم عظيمة أو ليست عظيمة، لا، فقد أجمع بنو البشر على أنهم متمتِّعون، متنعمون بنعمٍ لا تُعدُّ ولا تحصى، بل إنَّ أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان استمتاعاً بهذه النِعَم، كل شيء درسوه، ودقَّقوا فيه، واستفادوا منه، وحَسَّنوه، حتَّى أصبحت الدنيا عند هؤلاء في أعلى درجاتها، وفي أجمل مظاهرها، وفي أعلى زينتها، بل إن الله سبحانه وتعالى أثبت لأهل الكفر أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا.
فالقضية ليست هل هذه نِعَم أو ليست بِنِعَم، هل هذه نِعَم عظيمة أو ليست عظيمة، لا، إنها نِعم عظيمة لا تعد ولا تحصى، يستوي في التنعُّم بهذه النعم كل إنسان؛ عالماً كان أو جاهلاً، غنياً أو فقيراً، بدليل أن الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، فأنت قد تشتري جهازاً بالغ التعقيد، وتستفيد منه بالغ الفائدة، وتنعم به، ولا تفقه شيئاً عن طريقة تشغيله، أو عن آليَّة عمله، أو عن مبدأ عمله، وقد يشتري إنسان يجهل كل شيء أغلى سيَارة، ويركبها وينتفع بها، ولا يدري كيف صُنِعَت، ولا كيف صُمِّمت، ولا كيف رُكِّبَت، ولا على أي مبدأٍ عَمِلَت، لذلك قالوا: الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، قد تشتري جهاز تكييف، وتنتفع بتعديل الجو من دون أن تفقه مبدأ عمله.
إذاً الناس جميعاً؛ في كل زمان وفي كل مكان، من كان منهم عالماً أو جاهلاً، ذكياً أو غبياً، قوياً أو ضعيفاً، متعلِّماً أو جاهلاً، يستوون جميعاً في هذه النِعَمِ، والدليل إذا حدث خللٌ في العين فإن أيّ إنسان يبادر إلى الطبيب، وهو يقلق قلقاً لا حدود له، معنى هذا أن العين نعمةٌ كبيرة، إذا حدث تشويش في السمع تبادر إلى الطبيب، إذا حدث مولود مشوَّه لا تنام الليل، إذاً ما دامت الأمور منتظمة فأنت في نعمٍ لا تُعدُّ ولا تُحصى.
المشكلة ليست أن نقنعك بأن هذه نِعَم، إنها نعمٌ تعرفها بالفطرة، المشكلة ليست أن نقدِّر لك مستوى هذه النِعَم، إنك تعلم علم اليقين أنه لا شيء يعوِّض النعم التي أودعها الله فينا.
فهذا الذي أسنانه الأصليَّة في فمه كالذي يضع أسناناً اصطناعيَّة؟ فرقٌ كبير بينهما، هذا الذي يضع على رأسه شعراً مستعاراً كالذي برأسه شعرٌ كثيف؟ هذا الذي يستخدم جهازاً للتنقُّل كالذي يستخدم رجليه؟ فالشيء الذي أودعه الله فينا لا يُقدَّر بثمن، والدليل أن كل واحدٍ مستعدٌ بكل تأكيد، من دون تردُّد، أو تحفّظ أو دراسة أن يدفع كل ماله من أجل استمرار حياته، أن يدفع كل ماله من أجل استرداد بصره، أن يدفع كل ماله من أجل إصلاح كليته، أن يدفع كل ماله من أجل صمَّامٍ بقلبه.
إذاً: موضوع النعمة لا يختلف فيها اثنان، ليست محل خلاف، فقد كنت مرَّةً أنظر إلى أناسٍ مدعوين من شتَّى المِلَل، والنِّحَل، والاتجاهات، والمذاهب، والمشارب، وكنت أعجب أن كلهم يستمتعون بهذا الطعام، من دون خلاف، لا يختلفون عليه، مع أن لهم منطلقات متباينة، وأفكاراً مختلفة، ومشارب متعدِّدة، وانتماءات متباعدة، ومع ذلك هذه النِعَم اصطلحوا عليها واتفقوا عليها، أثنوا على هذا الطعام.
قد تستمتع بمنظر جميل، وبهواءٍ طلقٍ مُنعش، قد تستمتع بكأس ماءٍ عذبٍ زلال أنت وغيرك، ولا خلاف عليه أبداً، نحن جميعاً بحاجة إلى الأمطار، وها نحن نشكر الله عزَّ وجل على هذه الأمطار الغزيرة، الناس كلٌّهم مرتاحون بهذه الأمطار.
قرأت البارحة خبراً: أن ما نزل من الأمطار في محافظة ريف دمشق ستة أمثال ما نزل في العام الماضي لهذا التاريخ، إذاً: أتمنى عليكم بادئ ذي بدء أن نفهم دقة هذه الآية، وهي في الحقيقة في أول الفاتحة.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)﴾
أولى آيات الفاتحة، القضية ليست قضية تأكيد النعمة ولا إثباتها، لا، القضية أعمق من ذلك.
2 ـ اختلاف الناس في نسبة هذه النعم:
النعم ثابتة، متَّفق عليها، لا خلاف عليها، لا شكَّ فيها، لا تردُّد في قبولها، لكن القضية قضية لمن هذه النعم؟ هنا الافتراق، فالمؤمن يرى المنعم وهو الله سبحانه وتعالى، وغير المؤمن إما أن يرى جهده، أو ذكاءه، أو سعيه، أو فلان أنعم عليه، على كلٍّ من شأن الكفر أن تعزو النعمة إلى غير المنعم، لهذا ورد في الحديث القدسي:
(( إني والجن والإنس في نبأ عظيم: أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي. ))
إذاً: حينما تقرأ قوله تعالى في أول سورة سبأ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ فيجب أن تعلم علم اليقين أنه لا خلاف على النعم، ولا خلاف على ما نحن فيه من نعمٍ لا تعدُّ ولا تحصى، لكن القضيَّة لمن تعزو هذه النعم؟ إن عزوتها إلى صاحبها فأنت على حق، وأنت المؤمن وربِّ الكعبة، وإن عزوتها إلى غير صاحبها فهذا هو الكفر، والجحود، والجهل، جهل مع كفر مع جحود
خيار الإيمان خيار وقتٍ:
قلت لكم مرَّةً في دروسٍ سابقة: قضية الإيمان ليس أن تؤمن أو أن لا تؤمن، لا، قضية الإيمان متى تؤمن؟ لأنه لابدَّ من أن تؤمن عند الموت، لأن أكبر كفَّار الأرض الذي قال:
﴿ فقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾
حينما جاءه الموت قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ
القضية من الإيمان متى يجب أن تؤمن؟ إما أن تؤمن في الوقت المناسب؛ أو في الوقت غير المناسب، إما أن تؤمن قبل فوات الأوان؛ أو بعد فوات الأوان، هذه هي القضيَّة، والآن هذه النعم، القضية في هذه الآية من يجب أن تُعزا له، فأنت في صحَّةٍ جيِّدة، أتعزوها إلى بنيتك القويَّة التي ورثتها عن والديك؟ هذا الكلام كُفر، أتعزوها إلى عنايتك البالغة في طعامك وشرابك؟ هذا الكلام كفر، أتعزوها إلى التدريبات الرياضيَّة القاسية التي تجريها كل يوم؟ هذا الكلام كفر، لا يمنع أن تعتني بصحَّتك، ولا يمنع أن تجعل لكل شيءٍ حظُّه من عنايتك؛ ولكن المشكلة أن تظنَّ أن هذه القوَّة، وهذا النشاط، وهذا التفكير السديد هو من عندك، ماذا قال قارون؟ قال:
﴿
النبي عليه الصلاة والسلام حينما عاتب الأنصار الذين وجدوا عليه في أنفسهم قال:
(( إنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا فَتَحَ حُنَيْنًا قَسَمَ الغَنَائِمَ، فأعْطَى المُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ، فَبَلَغَهُ أنَّ الأنْصَارَ يُحِبُّونَ أَنْ يُصِيبُوا ما أَصَابَ النَّاسُ، فَقَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ،
ما قال فهديتكم؛ لأن صاحب النعمة هو الله.
3 ـ شكرُ الناس على معروفهم لا ينافي عزو النعم إلى الله:
إذاً: الكلمة الأولى والأخيرة في هذه الآية: أن النعم كلَّها؛ جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها، عاجلها وآجلها، ما كان منها مادياً، وما كان منها معنوياً، إنَّ كل هذه النعم تُعزا إلى الله وحده، وإذا شكرت إنساناً لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ اللَّهَ. ))
فللأسباب التالية: لأن هذا الإنسان مخيَّر، وهو باختياره أراد أن ينفعك، من الذي سمح له؟ من الذي خلقه؟ من الذي ألهمه؟ من الذي سمح له؟ من الذي وجَّهَهُ نحوك؟ هو الله عزَّ وجل، إذاً إذا أسدى إليكَ إنسان معروفاً فالشكر بالدرجة الأولى لله عزَّ وجل، ثم ـ لا تقل "و" لأنها شرك، أما ثم إيمان ـ ثمَّ لهذا الإنسان الذي سيقت إليكَ النعمة عن طريقه، لذلك الشكر لله أولاً، وعندما نزلت للسيدة عائشة آيات براءتها، توجَّهت إلى الصلاة، ولمَّا دُعيت إلى أن تشكر النبي عليه الصلاة والسلام قالت: "والله لا أشكر إلا الله"، فالنبي لم يتأثَّر.
فلذلك:
﴿
نعمة الإمداد؛ هذا الهواء من الله، نعمة الماء، نعمة الطعام والشراب، نعمة العقل، نعمة الحركة، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة البيان، نعمة الأعضاء، لك بيت، لك مأوى، لك أهل، لك أولاد، نعمة الأم والأب، ترتيب ربنا عزَّ وجل يأخذ بالألباب، هذا الطفل الصغير جعله محبَّباً عند والديه، يعملان من أجله ليلاً ونهاراً:
﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ
أي لولا أني أودعت في قلب أمِّك وأبيك هذا العطف والحنان لما عشت، فإذا رأيت الناس يحبونك فاعلم أن الله أودع فيهم هذا الحب، ولو نزع الله هذا الحب لتخلوا عنك، ولتخلَّى عنك أقرب الناس إليك، فلذلك:
يُنادى له في الكـون أنَّا نحـبُّك فيسمع من في الكون أمر محبِّنا
القضيَّة في هذه الآية لمن نعزو النعمة؟ الله عزَّ وجل يقول:
4 ـ كيف أنت لو فقدتَ النِّعمَ ؟
طلب هارون الرشيد كأس ماء، يا أمير المؤمنين بكم تشتري هذا الكأس لو منِعَ عنك؟ نظر هارون الرشيد إلى سحابة في السماء فقال: اذهبي أينما شئتِ يأتني خراجك، لاتساع ملكه أينما ذهبت هذه السحابة يأتيه خراجها، بلاده مترامية الأطراف، مرة قال بعضهم عن مملكة في العصور قبل الحديثة، كان لها السيطرة على معظم أنحاء العالم، قال: هذه المملكة لا تغيب عن ممتلكاتها الشمس. هارون الرشيد قال: اذهبي أينما شئتِ يأتني خراجك، سأله أحد الوزراء: يا أمير المؤمنين هذا الكأس من الماء بكم تشتريه إذا مُنِعَ عنك؟ قال: بنصف ملكي، قال: فإذا منع إخراجه؟ قال: بنصف ملكي الآخر.
ما الإنسان لو توقَّفت كليتاه؟ الإنسان إذا أفرغ مثانته هل يفكَّر أنه في نعمةٍ لا تقدَّر بثمن؟ لو تعطَّلت كليتاه، أو لو انخفض عمل الكليتين، لو بقي بعض حمض البولة في الدم، وغيّر أخلاقه وأعصابه، وشعر بإرهاق دائم، وشعر بعصبية لا تُحتَمل؛ لأن بعض حمض البولة في الدم ماذا يفعل؟ لو عجز عن الحركة لضعف التروية ماذا يفعل؟ لو ضاقت شرايينه قليلاً، كيف نوسِّعها؟ كم من المال نحتاج كي نوسِّع هذه الشرايين؟ لذلك المؤمن يعزو النعمة إلى الله عزَّ وجل.
في صحَّته، الحمد لله الذي جعلني سليماً معافىً، تحرَّك، الحمد لله الذي أعطاني هذه القوَّة، أخدم نفسي بنفسي، مهما كنت لامعاً، ذكياً، حصيفاً، غنياً، مقتدراً، لو تعطَّلت هذه الحركة، أول يوم الشراشف البيضاء، العناية البالغة، الخدمة بعد أسبوع ينزل مستواها، بعد شهر تنزل، بعد سنوات يتمنى موتك أقربُ الناس إليك، أحبُّهم إليك، أكثرهم لك إخلاصاً يتمنَّى موتك.
إذاً: إذا خدمت نفسك بنفسك، فهذه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن، إذا تحرَّكت على قدميك من دون أن يحملك أحدٌ فهذه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن، فإذا تحرَّكت هل ترى أن هذه النعمة من الله، فجلطة دماغيَّة تسبب شللاً نصفياً، يجب الذهاب إلى فرنسا، شلل نصفي، نقطة دم تجمَّدت في الدماغ، لم يبق هناك حركة، والدعاء النبويُّ الشريف:
(( اللَّهُمَّ مَتِّعْنا بأسْماعنا وأبْصَارِنا وَقُوَّتِنا ما أحْيَيْتَنا. ))
وعقولنا، فإذا أصاب عقلك مسّ أو خلل، أقرب الناس إليك يقابل أكبر إنسان من أجل أن يُسمَح له بالإقامة في مستشفى الأمراض العقليَّة، تحتاج إلى واسطة، لا يحتملك أحد في البيت، بيتك، أنت اشتريته، وأنت رتبته، وأنت زيَّنته، وأنت فعلت وفعلت وفعلت، انتهى.
لي صديقٌ له صديقٌ له منصبٌ رفيعٌ جداً في بعض الوزارات، يحمل شهادة من دولة متقدِّمة، دكتوراه، ويحتل منصباً رفيعاً، فقَدَ بصره، في الأسبوع الأول مجاملات، وفي الثاني مجاملات، البريد إلى البيت، ويقرأ له البريد موظف موثوق فيقول له إن كان موافقاً أو لا، بعد شهر أعفي من منصبه، زاره صديقي، فقال له: "والله يا فلان أتمنَّى أن أجلس على الرصيف وأتسوَّل، وأن يردَّ الله لي بصري".
(( الحمد لله الذي أذاقني لذته ـ أي الطعام ـ وأبقى في قوته، وأذهب عني أذاه. ))
الحمد لله، فالمؤمن الصادق بصحَّته، الحمد لله الذي عافاني، الحمد لله الذي أعطاني، الحمد لله الذي زوَّجني، الحمد لله الذي آواني، الذي وفَّقني، الذي أرشدني، الذي هداني، الذي أكرمني، لا ترى إلا الله، لا ترى منعماً إلا الله، لذلك قلبك ممتلئٌ بالحبِّ لله.
هم الأحبَّة إن جاروا وإن عدلوا فليس لي عنهمُ مَعدِلٌ و إن عدلوا
والله وإن فتَّتوا في حـبِّهم كبدي باقٍ على حبِّهم راضٍ بما فعـلوا
قلَّة من الناس مَن يعرف حقيقة النعم:
هذا حال المؤمن، حال حمد، حال امتنان من الله عزَّ وجل، أول هذه النعم نعمة الوجود، وثاني هذه النعم نعمة الإمداد، خلق الهواء، وخلق الرئتين، خلق التفَّاحة، وخلق جهاز الهضم، فتعطُّل البنكرياس في إفراز الأنسولين يسبَّب متاعب كبيرة جداً، يحتاج إلى أنسولين يومياً بشكل حقن، ويحتاج إلى دواء معيَّن، ومراقبة التحليل باستمرار، إذا ارتفعت نسبة السكر أكثر من ثلاثمئة فهناك خطر على حياته، خطر فقدِ بصره، هذه نعمة أن النِسَب في الدم صحيحة، كذلك هذه نعمة لا نعرفها.
قلت لكم مرَّةً: هذه الأرض تدور حول الشمس، لأن دورانها ثابت نحن قد لا نحفل بهذه النعمة، أما لو خرجت عن مسارها، وتاهت في الفضاء الخارجي، لدخلت في الظلام التَّام، ومع الظلام التام الصفر المُطلق، ومعنى الصفر المطلق، أي مائتي وسبعين درجة تحت الصفر، انتهت الحياة من على سطح الأرض، كيف نستعيدها إلى دورانها حول الشمس؟ نحتاج إلى مليون مَليون كبل فولاذي، قطر الكبل خمسة أمتار، في حين أن الفولاذ يتحمَّل قِوى الشد في كل ميليمتر مئتي كيلو، الكبل خمسة أمتار يتحمَّل مليوني طن، نحن بحاجة إلى مليون مَليون كبل، يتحمل قوة شد مقدارها مليونين، إذاً: مليون مَليون ضرب مليونين، هذه قوَّة جذب الشمس للأرض، وهذه القوة تجعل الأرض في مسارها حول الشمس تنحرف ثلاث مليمترات كل ثانية، فتبقى الأرض مع الشمس، هذه نعمة نحن لا نعرفها، نحن في غفلةٍ عنها، نحن نفرح بالأمطار..
﴿
معنى تزول أي تنحرف، أي إذا خرجت هذه الأرض عن مسارها ماذا نفعل؟ ليجتمع بعض أهل الأرض، وليتخذوا قراراً بإعادتها إلى مسارها، كمثل نملة رأت قاطرة خرجت عن سكَّتها ماذا تفعل؟ ماذا عندها من القدرة كي تعيد هذه القاطرة إلى السكَّة؟ لا شيء، فهذه النعم.
إذاً الآية الأولى: القضيَّة ليست قضية إثبات نعمة أو عدم إثباتها، النعمة ثابتة عند أهل الأرض كُلِّهِم، ولكن القضيَّة لمن تُعزا هذه النعمة؟
الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
الذي: اسم موصول، في محل جر صفة لله
1 ـ الكون بيد الله:
تقريب للمعنى: لو فرضنا دائرة ذات شأن، والناس تتعلَّق كل مصالحهم بها، وقد تسلَّمها رجل صالح، حازم، تقي، مستقيم، عادل، رحيم، تشعر براحة لا حدود لها، الأمور بيد فلان، وفلان رائع، يعني دائرة لها علاقة مع المواطنين يومية، وبإمكان هذه الدائرة مع موظفيها أن توقع الأذى الكبير بالناس، فلو أن على رأسها رجل صالح، صاحب مروءة، ورِع، يخاف الله عزَّ وجل، لا تأخذه في الله لومة لائم، يحب أن يعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، لا تنفع معه الوسائط، ولا أي شيء آخر، ألا تشعر بالراحة إذا علمت أن هذه المدرسة مديرها فلان، وابنك فيها؟ إذا علمت أن هذه المستشفى مديرها فلان، وفلان تقي، ونقي، وورِع، وصالح، ومستقيم، والأمور منضبطة، وحازم.
﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ۖ
فهذه السماوات والأرض أي الكون، الحمد لله الذي له، لو أنها لغيره؟ والله هذه مشكلة، وما لك طريق له، قرَّب أناساً دون أناس، الله عزَّ وجل عنده ميزان:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ
(( الناس كلهم بنو آدم وآدم خلق من تراب. ))
الناس كلُّهم سواسية كأسنان المشط.
(( أَحَبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعُهم للناسِ. ))
لا أبيض ولا أسود، لا كبير ولا صغير، لا ذكي ولا غبي، لا متعلم ولا جاهل، كلُّنا عند الله سواسية نتفاضل بالتقوى
2 ـ الكون ملكٌ لله خَلقاً وتصرّفاً ومصيراً:
للتوضيح: أحياناً تملك بيتاً، ولست منتفعاً به، تملكه، ولكن لا تستطيع الانتفاع به، والتصرف فيه، فالبيت مُستأجَر، وأحياناً تنتفع بالبيت، ولا تملكه، لأنك مهدَّد بأي قرار يخرجك منه، تملك ولا تنتفع، أو تنتفع ولا تملك، تملك، وليس لك حقُّ التصرُّف، أو تتصرَّف، وليس لك الملك، أحياناً تملك وتتصرَّف، وقرار تنظيم يلغي لك البيت كله، ليس لك المصير، المصير بيد آخرين، جئت بهذا المثال للتوضيح، فأكمل أنواع المُلْكِيَّة؛ الخلق، والتصرُّف، والمصير.
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2)الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3)مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4)﴾
وفي قراءة: مَلِك يوم الدين.
والحقيقة أنّ المالك هو الذي يملك، ولا يحكم، والمَلِك هو الذي يحكم ولا يملك، والمَلك والمالك يملك ويحكم، فلذلك:
3 ـ معرفة أن الكون ملكٌ لله يبعث بالراحة:
إذا كانت علاقتك بمديرية علاقة متينة، ويمكن أن يُوقِع بك موظَّفوها إيذاء كبيراً، ثمَّ بلغك أن هذه الدائرة تسلَّمها فلان، وفلان في أعلى درجات النزاهة، والورع، والاستقامة، والرحمة، ترتاح راحة لا حدود لها، هذا المثل المُقَرِّب للفكرة، فهذا الكون بيد الله عزَّ وجل، هو الذي خلقه، وهو الذي يتصرَّف فيه وإليه مصيره، الخلق، والتصرُّف، والمصير، ثلاث صفات مجتمعة تمثِّل أعلى درجات المُلْكِيَّة..
القوة البلاغية في القرآن الكريم:
هذه الآية فيها احتباك، ظاهرة بلاغيَّة رائعة، هناك في أول قسم شيء محذوف، وفي آخر قسم شيء محذوف، لكن إذا اجتمع القِسمان يكون المعنى كما يلي: الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض في الدنيا، والحمد لله في الآخرة الذي له ما في السماوات وما في الأرض في الآخرة، ففي الدنيا الأمور كلُّها إليه، وفي الآخرة الأمور كلُّها إليه، وله الحمد في الأولى والآخرة، لكن الحمد في الأولى لا يعرفه إلا المؤمن، لأن المؤمن مُتَفَتِّح البصيرة، إيمانه دلَّه على عظمة الله، وعلى أسمائه الحسنى، وعلى صفاته الفضلى، المؤمن يرى في الدنيا أن يدَ الله فوق أيدي الناس، أنه هو المتصرِّف، هو المنعم، هو المانع، هو المُعطي، هو النافع، هو الضار، هو الخافض، هو الرافع، هو المعز، هو المُذل، هو القابض، هو الباسط، هذا يراه في الدنيا.
لا تنقِم على عصا الضاربِ:
لكن غير المؤمن يرى الشركاء، يرى زيداً وعُبيداً، وفلان وعلان، هذه كلها عِصيّ بيد الله عزَّ وجل، المؤمن لا يرى العصا، ولكن يرى من بيده العصا، أما الكافر فيرى العصا.
تصوَّر طالباً ضربه معلِّمه، فصبَّ كل نقمته على هذه العصا التي آلمته، أليس هو بهذا الغضب والحِنق ضيِّق الفكر؟ كل نقمته صبَّها على العصا، مع أنها عصا لا تقدِّم ولا تؤخِّر، ولا تنفع ولا تضر، لكنها آلمت هذا الطفل، لأن الأستاذ سخَّرها لإيلام هذا الطفل، الطفل الأذكى لا يتألَّم من العصا، بل يتألَّم من الأستاذ الذي ضربه بها، والأذكى من الاثنين يرى الأستاذ رجلاً رحيماً، ورجلاً عالِماً، لا مصلحة له في إيقاع الأذى به، لابدَّ أنه ارتكب شيئاً يستحقُّ هذا العقاب، إما عقاباً، أو تأديباً، أو وقايةً، أو ردعاً، إذاً ينقم على نفسه.
أول طفل صبَّ غضبه على هذه العصا، أحياناً الطفل الصغير إذا وقع على الأرض وتألَّم، تأتي الأم وتضرب الأرض فتشفيه من غيظه، وتنزل إلى مستواه، فعندما يتألَّم إنسان من إنسان معنى هذا أنه مشرك، لا يوجد إلا الله عزَّ وجل، هو سمح له أن يفعل كذا، هو أطلقه، أطلق لسانه أن يقول عنك كذا وكذا، أطلق يده أن يفعل بك كذا وكذا، فحينما تَصُبُّ نقمتك على إنسان فأنت لا تعرف الله، وحينما ترى أن هذا الإنسان بيد الله عزَّ وجل، هذا مستوى أرقى، أما أرقى من هذا وذاك أن الله عزَّ وجل..
﴿
إذاً أنا الذنب مني.
(( مَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ. ))
انتهى الأمر، لهذا قال سيدنا علي رضي الله عنه في أقواله الجامعة المانعة:
4 ـ الحمد لله على كل شيء:
ما في السماوات وما في الأرض في الدنيا له، ويُحْمَد على كل تصرُّفاته، والآخرة له ويُحمد فيها على كل أفعاله بها، والدليل: قضيَّتك مع الله منذ أن خُلِقت وحتَّى دخول الجنَّة، ملخَّصة بكلمة واحدة، وهي قوله تعالى:
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ
والله يا إخوان، أحياناً أرى بعض الإخوة الأكارم، ويكون مصاباً بمشكلة، والله أقول له هذه الكلمات من أعماق قلبي، أقول له: والله لو كُشِفَ الغطاء عن حكمة هذه المصيبة، وعما فيها من الرحمة، والعدل، واللطف، والإحسان، والعلم، والخبرة، إن لم تذب كالشمعة يوم القيامة حبَّاً لله، وخجلاً منه، وامتناناً على هذه النعمة فهذا الدين باطل، لأنه إله، ولا إله غيره، هو الوحيد في الكون، بيده كل شيء، اللهُ ما عنده غلط، أنت ممكن أن تغلط، أما الله عزَّ وجل فمطلق.
(( ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر. ))
هذا الإيمان، لذلك لكل شيءٍ حقيقة، وما بلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتَّى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، تجد المؤمن من داخله مثل البحر، كل شيء إلى خير.
(( عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، لَيْسَ ذَلِكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، وَكَانَ خَيْرًا، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، وَكَانَ خَيْرًا. ))
يرى يد الله فوق كل يد، يرى نعمته الظاهرة في العطاء، والباطنة في السَلْب، وأكاد أقول: إن تسعين بالمئة من المؤمنين عرفوا الله، وتابوا إليه، واستقاموا على أمره، وسعدوا بقربه، بسبب مصيبةٍ أنزلها بهم، فألجأتهم إلى بابه، وله الحمد في الأولى والآخرة، فكم من رجلٍ شاردٍ تائهٍ عاد إلى الله عزَّ وجل إثر شبح مصيبة، عاد إليه إثر مرضٍ شديد، عاد إليه إثر افتقارٍ مدقع، عاد إليه إثر فقد حريَّةٍ، آلمه فقط، وله الحمد في الأولى والآخرة، حتى إنه قيل: الحمد لله الذي لا يُحْمَد على مكروه سواه.
المؤمن لا مشكلة عنده، لا عقدة نفسيَّة يعاني منها، لا حقد في قلبه، يرى أن كل البشر عصياً بيد الله، الذي أحسن إليه منهم، الله ألهمه وسمح له، وجمعه معهم، والذي أساء إليه منهم، الله سخَّره تأديباً له، حتَّى إن الإمام الشعراني رحمه الله تعالى قال:
القضيَّة قضية أن تعرف المُنعِم، إذا عرفته، وعرفت المُسيِّر، وعرفت الرب، وعرفت الإله، واستسلمت إليه، دخلت فيما يسمى بالسعادة النفسيَّة، دخلت فيما يسمى بالوحدة، لا بالتبعثر، دخلت فيما يسمى بالانسجام، لا في التناقض.
الحياة فيها متناقضات، فيها تبعثُر، فيها تشتُّت، لكن المؤمن مجموع، اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها، من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً.
من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين، عبدي كن لي كما أريد، ولا تعلمني بما يصلحك، أعرف ماذا تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك.. أنت تريد، وأنا أريد، فإذا سلَّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلِّم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.
وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِير
المؤمن دائم الحمد، لعلمه أن الله حكيمٌ خبير:
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ
شعوره أنه على الخط الصحيح، شعوره أن الله راضٍ عنه، شعوره أنه في الاتجاه الصحيح، شعوره أنه في الطريق إلى هدفٍ كبير، هذا شعور مسعد، لذلك:
(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ . ))
قد تجد إنساناً عظيم الهيئة ـ والقصَّة المعروفة لديكم ـ دخل رجل على أحد العلماء، وكان في رجله ألمٌ شديد، فمدَّها، وقد اعتذر من تلامذته، دخل عليه رجل طويل القامة، عريض المنكبين، ذا هيئةٍ حسنة، يرتدي عِمامة على رأسه، وجُبَّة على ظهره، فهذا الرجل العالِم ظنَّه رجلاً عظيماً، فرفع رجليه، واستحيا منه، جلس عنده، فالموضوع كان عن صلاة الفجر، تحدَّث عن الفجر الصادق والكاذب، وأحكام الصلاة، والسُنَّة القبليَّة، وما إلى ذلك، فهذا الرجل الذي دخل المجلس نظر مليَّاً، ثمَّ سأل، قال: "يا سيدي، كيف نصلي الفجر إذا طلعت الشمس قبل الفجرِ؟"، قال له: "عندئذٍ أمدُّ رجلي".
نعمة العقل نعمة كبيرة، المؤمن قد يكون في ضيق مادي، قد يكون عنده مشكلة في البيت، ولد عاق مثلاً، أو عنده زوجة متعبة، في عمله متاعب مثلاً، تجارة بائرة، عنده مشكلات كثيرة، لكن يرى أن الله سبحانه وتعالى خلقه لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، ما دُمْتَ على الطريق الصحيح فلا تخف، ما دمت في رضوان الله فلا تخف، فالعاقبة لك..
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ
الأيام تدور، ولا تستقر إلا على إكرام المؤمن، فتأتي ساعة للمؤمن عند فِراق الدنيا لو جُمِعَت لذّات الحياة كلّها، لو جُمعَت نِعَم الحياة كلّها لا تعدل هذه الساعة، حينما يشعر أنه نجا من عذاب الآخرة، وأنه استحقَّ الجنَّة وما فيها من نعمٍ عظيمة، لذلك:
إن المؤمن إذا قلت له: كيف حالك؟ يقول لك: الحمد لله، والله حدَّثني طبيب، قال لي: جاءنا رجل تبدو عليه ملامح الإيمان، مصاب بمرض خبيث في أمعائه، قال لي: والله يا أستاذ كلَّما دخلنا عليه رأينا وجهه يطفح بالبِشْر، والثقة بالله، والصبر، وكلَّما دخل عليه زائر يقول له: اشهدْ أنني راضٍ عن الله، يا رب لك الحمد، قال لي: ما صرخ، ولا رفع صوته، ولا تأفَّف منه أحد، بل أقسم لي إن أمعاءه فُتِحت لخارج مكانها الطبيعي، أي هناك كيس فيه غائط دائماً، أقسم لي وقال: والله رائحة الغرفة تفوح بالعطر، وإذا قرع الجرس يتهافت عليه الممرِّضون ليخدموه، والأطبَّاء يكثرون زيارته، انجذبوا لهذه الغرفة، شيءٌ عجيب، إنسان مصاب بسرطان بالأمعاء، وآلام السرطان بالأمعاء لا تُحْتَمَل أبداً، طبيب صديق لي في المستشفى نفسه، قال لي: شيء عجيب، لا صياح، لا ألم، هدوء، وبشر، نور بوجهه، رضى بقضاء الله وقدره، قال لي: ما هي إلا أيَّام حتَّى توفَّاه الله عزَّ وجل على أحسن حال.
قال لي: من غرائب الصُدَف، ومن حكم الله عزَّ وجل أنه جاء الغرفة مريضٌ آخر بالمرض نفسه، قال لي: ما ترك نبيَّاً إلا وسبَّه، رائحة الغائط تملأ الغرفة، لا أحد يُلَبِّيه، أمام الممرضين والممرضات رأوا المرض واحد، الآلام واحدة، الخطر واحد، الموت قريب، رأوا من هو المؤمن، ومن هو الكافر، المؤمن راض بقضاء الله، فحينما يأتيك شيءٌ لا يعجبك وتقول: الحمد لله، مئة على مئة نجحت، لأن سيدنا علي يقول:
فالإيمان شيء عظيم، شيء لا يقدَّر بثمن، أنت مؤمن، أي أنك ترى أن الفعل فعل الله عزَّ وجل، وأن الله رحيم، يده رحيمة، يده قويَّة، عادلة، لطيفة، هذا الإيمان.
فالحمد لله، هذا الدرس للتطبيق، يجب أن يكون حالك حال الحمد دائماً، فإن لم تكن كذلك فبينك وبين الإيمان مراحل فسيحة، اجتهد، جدِّد إيمانك، ما دام هناك نقمة، وألم، وعتاب على الله عزَّ وجل، لماذا لم يعطني وأعطى فلاناً؟ ما دمت بهذا الحال فبينك وبين الإيمان المُنجي مراحل طويلة، أما الحد الأدنى لإيمانك فأن تحمد الله على كل شيء، على كل حال، النبي الكريم كان إذا جاءت الأمور كما يشتهي قال:
(( الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحاتُ. ))
وإذا جاءت الأمور على غير ما يريد كان يقول:
(( الحَمْدُ لِلَّهِ على كلّ حال. ))
المؤمن كلمة الحمد لا تفارق فمه، بل إنها أول آية بالفاتحة، الفاتحة تقرؤها في كل ركعة، أكثر من خمسين مرَّة، بين الصبح أربع مرات، والظهر اثنا عشرة مرة، والعصر ثماني مرات مع السنة غير المؤكدة، والمغرب أربع مرات، والعشاء، وإذا كان هناك نوافل، في كل ركعةٍ تقول: الحمد لله رب العالمين، فلذلك الحمد سمة أساسيَّة من سمات المؤمن، على السراء والضراء، والمنشط والمكره، والزواج وعدم الزواج، والغنى والفقر، والإنجاب والعقم، وصلاح الأولاد وفسادهم، وزوجة جيِّدة ووسط وسيئة، والدخل كبير وقليل، والتجارة رابحة وخاسرة، على كل حال، في المنشط والمكره، هذا المؤمن..
﴿ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(23)﴾
فهذه الآية دقيقة جداً، وبعد ذلك ما دام الله بيده ما في السماوات وما في الأرض، الأمور كلها بيده، الناس كلهم بيده، من حولك كلهم بيده، من فوقك كلهم بيده، من دونك كلهم بيده، من هم أقرب الناس إليك كلهم بيده، هكذا، والله يعلم كل شيء، أجمل آية ما قاله سيدنا هود في قوله تعالى:
﴿ مِنْ دُونِهِ
كل ما في الأرض من دواب الله آخذٌ بناصيتها:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
البطل الذكي مَن يحسِّن علاقته مع الله قبل الموت:
وأمرك كله مع واحد، أحسن علاقتك بالله وانتهى الأمر، أول ليلة في القبر، هذه صعبة، من بيت فخمٍ، ثماني غرف وصالون إلى حفرة نصف متر بمترين، لا بلاط، ولا دهان، لا تبريد، ولا تدفئة، الخروج من البيت ليس سهلاً، وخاصة إذا كان مهتماً به كثيراً، إلا إذا كان للجنة، إذا كان للجنَّة فلا شيء إطلاقاً.
أتعلمون من البطل؟ هو الذي يحسن علاقته بالله قبل أن يموت، لأنه عند الموت مع الله إلى الأبد، موظَّف في مديرية، وآخر معه أمامه ـ مثلاً ـ وبينهما علاقات طيِّبة إلى أقصى درجة، وصار وزيره، يدخل بلا إذن، ويكون من ذوي الشأن عنده، ما دامت العلاقات طيِّبة قبل أن يغدو وزيراً.
خاتمة:
وأنت في الدنيا إذا كانت لك علاقة مع الله عزَّ وجل، جاء ملك الموت فأنت مع الله إلى الأبد، وانحسر عنك كل شيء، فأنت في سعادة، اقرؤوا سير الصحابة فإنكم تجدون هذا القاسم المشترك، إنَّ أصحاب رسول الله أسعد لحظات حياتهم حينما يلقون ربَّهم، فبين أن يكون الموت عُرْسَ المؤمن؛ وبين أن يكون الموت نهاية كل شيء، وبداية جحيم لا يحتمل، لذلك الكافر..
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24 (فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾
المؤمن:
﴿ قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ(27)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ(19 (إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
هنيئاً لكم، هذه البطولة:
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
كن من شئت، الكون موجود، والإله موجود، والعقل موجود، والشهوات قِوى دافعة، والاختيار مثمّن، والفطرة ناصحة، والشرع ميزان، ماذا تفعل؟ تعبد الله في عملك بإتقان عملك، وبالنصيحة للمسلمين، تعبد الله في بيتك، في أولادك، في جيرانك، في مَن فوقك، أبداً، فالباب مفتوح.
لكن تصور مؤمناً كامل الإيمان، وعالي الإيمان، ويستحق دخول الجنَّة، وهو في الجنَّة يتحسَّر على ساعة مضت لم يذكر الله فيها، هذه تسريب للدنيا، أحياناً يسرِّبون الأسئلة، فالمؤمن الذي نجا من عذاب النار، والذي استحقَّ دخول الجنان، والذي رضي الله عنه لا يتحسَّر إلا على ساعةٍ مرَّت دون أن يذكر الله فيها ، فانتبهوا.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)﴾
في البيت، وفي العمل، وفي الطريق، وفي خلواتك، وفي جلواتك، ومع أهلك، ومع أولادك لأن الله عزّ وجل هو كل شيء، وما دونه لا شيء.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.